الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا "باب النهي عن القزع"، وهو حلق بعض الرأس دون بعض، وإباحة حلقه كله للرجل دون المرأة، القزع مأخوذ من قزع السحاب، وذلك أنه يكون على تفاريق قطع قطعة هنا، يقال لها: قزعة، فإذا حلق بعض الرأس وترك البعض فهذا يقال له: قزع، بأي طريقة كان؛ كأن يحلق مثلاً: مقدم الرأس ويترك المؤخر، أو يحلق نصفه الأيمن مثلاً ويترك الأيسر، أو أن يحلق مؤخره ويترك مقدمه، أو أن يحلق جوانبه ويترك الوسط، أو أن يحلق الوسط ويترك الجوانب، أو أن يحلق الشعر كله ويبقي منه ناصيته، أو نحو ذلك، يبقي شيئًا يسيرًا، فهذا كله داخل في القزع.
ويقول: وإباحة حلقه كله للرجل دون المرأة، إباحة الحلق؛ لأن النبي ﷺ كما سيأتي قال: احلقوه كله، أو اتركوه كله[1]، فيجوز حلق الشعر جميعًا، وتركه جميعًا، بصرف النظر عن الأفضل فيهما، فمن أهل العلم من يرى أن حلق الرأس جميعًا مباح وأن تركه أفضل؛ لأن النبي ﷺ والعرب كانوا يتركونه، وكان ذلك في عادتهم، ولما ذكر النبي ﷺ الخوارج ذكر من صفتهم التحليق[2]، أنهم يحلقون رؤوسهم، لكن هذه كانت علامة فارقة لهم في ذلك الوقت، ثم تغيرت الحال تغيرت عادات الناس، وتغير الزمان، منذ أمد بعيد، فصار ترك الشعر يطول أمرًا غير معهود، بل قال الحافظ ابن عبد البر وهو من علماء القرن الخامس الهجري توفى سنة: 463 للهجرة، حافظ المغرب، إمام الدنيا في زمانه -رحمه الله- قال عن تطويل الشعر في ذلك الوقت قال: "إنما يفعله اليوم الفساق"[3]، فماذا عسى أن يقال اليوم في وقتنا هذا؟
فترك الشعر يطول كانت من عادات العرب فجاء النبي ﷺ وكان الناس يطيلون شعورهم ويضفرونها، كان الرجل قوي لا يظهر عليه أي أثر للتأنث، والشعر لا يزيده إلا خشونة ورجولة، ثم بعد ذلك تغير الحال فصار الناس بعد هذا التنعم إذا ترك الواحد شعره وخالف معهود الناس صار ذلك من زي الشهرة، أو من مظاهر الشهرة، ثم إن ذلك يورث في الغالب تأنثًا بل تشبهًا بالنساء، فلربما ربطه كما تربط المرأة شعرها، ولربما رأيته قد حلق لحيته، وأطال شعره، وإذا كلم عن الشعر قال: هذه سنة النبي ﷺ، فيترك هديه ﷺ في الأمور التعبدية بل في الواجبة، ثم يتعلل بمثل هذا.
فالشعر المقصود أنه إما أن يترك وإما أن يحلق وإما أن يقصر يعني الحلق هو أخذ الشعر من منابت الرأس، يعني بالموس.
والتقصير فيما دون ذلك مما يكون بالمكينة رقم واحد فما فوق هذا يسمى تقصير، وفي قوله ﷺ: اللهم اغفر للمحلقين ثلاثًا[4]، المقصود أخذ الشعر من منابته، يعني بالموس، فإذا حلق بالمكينة رقم واحد، أو أكثر من هذا فإنه يكون من قبيل التقصير، الإنسان له أن يقصر شعره من غير أن يتشبه بالكفار، أو الفساق، أو الحيوانات، الحيوانات مثل الذي يسمونه قصة الأسد، وفي أشياء ليس لكما سبق، فالتشبه بالحيوانات يتنزه الإنسان عن هذا، التشبه بالكفار، التشبه بالفساق، التشبه بالنساء، إن سلم من هذا فلا إشكال.
ذكر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "نهى رسول الله ﷺ عن القزع"[5]، متفق عليه.
وعنه قال: "رأى رسول الله ﷺ صبيًا قد حلق بعض شعر رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك، وقال: احلقوه كله، أو اتركوه كله[6]، رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
والعلة في هذا -والله تعالى أعلم- في النهي عن القزع بعض أهل العلم يقول: لأنه تشبه باليهود، يحلقون ويتركون للصبي ذؤابة.
وبعضهم يقول: لأنها علامة الأشرار في ذلك الوقت، يعني ما يسمى اليوم بالبلطجية، علامة فارقة لهم يحلق بعض الشعر ويترك بعض الشعر، فهؤلاء الأشرار أصحاب التمرد والعتو والبغي على الناس، وما إلى ذلك لهم علامة يتميزون بها، فبعض أهل العلم قال: لأنه تشبه بهم وهؤلاء لا يتشبه بهم.
وبعض أهل العلم قال: لأن ذلك مُثلة، ولعل هذا هو الأقرب، والله أعلم، بمعنى أنه تشويه للخلقة، وهذا التشوية للخلقة كما قال الشيطان: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119]، فهذا التغيير لخلق الله يقع على صور كثيرة يشوه فيها الخلق، وتغير فيها الفطرة ظاهرًا وباطنًا، والظاهر يؤثر في الباطن، فإذا فسدت أذواق الناس وفطرهم وتصوراتهم وانطمست بصائرهم استحسنوا القبيح، ولذلك تجد في بلاد الغرب منذ زمن طويل لكن أولئك؛ لأنهم حيرى لا يعرفون الحق، ولم يهتدوا بهذا الوحي فيتخبطون، فتجد الواحد منهم يحلق الرأس كاملاً ويترك شعرات قليلة، يتركها واقفة ثم يضع لها مادة تكون فيها متصلبة، ثم يلونها باللون الذهبي، والفضي، أو بلون السماء، أو نحو ذلك، تبقى شعرات قليلة واقفة هكذا في وسط الرأس.
وبعضهم يحلقه جميعًا ثم يترك خطًا في الوسط فقط، هذا الخط الذي في الوسط يلونه بألوان، فهذا عندهم تقليعة، هو عند نفسه يلبس تلك الفنيلة التي ليس لها أكمام مفتول العضلات، يمشي يظن أنه يلمس الثريا، أنه فوق البشر، أنه يلمس الثريا بيديه، ما علم أن الناس ينظرون إليه بازدراء واحتقار، هو حينما يرى الناس ينظرون إليه يظن أنه قد أحدث شيئًا هائلاً سبب نظر هؤلاء الناس، وأنهم انتبهوا إليه، والتفتوا لهذه العظمة بمظاهرها وأجلى صورها حينما حلق رأسه وشوه نفسه وصورته، وفطرته، ودنس خلقته وغير في خلق الله وصار ذلك مثلة بهذه الصورة.
وترى من هذا أشياء كثيرة جدًا في هذه المخلوقات، نسأل الله الهداية للجميع، ترى أشياء لا تعرف لها تفسيرًا، وأحيانًا الإنسان يود أن يسأل هؤلاء سؤالاً ولكن البعد أحيانًا هو العافية، ترى صور وأشكال لأناس في المطارات يلبس -أعزكم الله- أحذية الحمّام، ويلبس لباسًا متبذلاً والمنشفة فوق رأسه، أو القبعة التي يلبسها الطفل الصغير في المهد يضعها فوق رأسه قبعة طفل في المهاد، يضعها فوق رأسه وترحمه، تقول: هذا فقير مشحوط، وإلا أن هذه موضة منشفة فوق الرأس في المطار، في الطائرة إلى الآن أنا لا أستطيع أن أفهم هذا شيء وأنظر إلى خلق الله ، وأحمد الله على العافية، تفضيله لباس سراويل رياضة قصيرة فوق الركبة في الطائرة في المطار أنا الذي أعرف الناس إذا سافروا لبسوا أحسن اللباس وتهيؤا للسفر، ثم يلبس نعال حمام -الله يعزكم- والمنشفة فوق رأسه، وسروال قصير فوق الركبة، لا أدري هل هذه الموضة؟ هل هذا جميل؟ هل هذا شيء ملفت للنظر مظاهر ما شاء الله الجميلة الجذابة؟ أو أن الناس انتكست الفطر عندهم إلى هذا الحد؟ هل الكفار الآن يفعلون هذا ويتشبه بهم حتى في هذه الأشياء التي هي في غاية القبح؟.
وقبل قليل أسمع رجل جاء من دولة مجاورة قريبة أهلها من المسلمين -أعزكم الله- تباع القمل ست حبات في علبة يضعها النساء في رؤوسهن وتلف على رأسها لفافة؛ لئلا تسقط، ويعتقدون أن هذا يكون أنجع للشعر وللرأس، وأفضل إلى آخره، هذا شيء لا يكاد يصدق وهو موجود في بعض المحلات عندنا، بعضهم يبيع الواحدة بخمسة، وبعضهم يبيع الواحدة بعشرة، شيء لا يصدق، تنتكس الفطر وتصل حال الناس إلى هذا المستوى، فإذا جاء الدجال كم سيكون أتباعه من هؤلاء؟!
سيجد بشر أعداد هائلة هذا يقول للسماء: أمطري فتمطر، ويقول للأرض الممحلة: أنبتي فتنبت، ويقول: للخربة أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها فتتبعه كياعسيب النحل، ويأتي على القوم الممحلين فيدعوهم، ثم بعد ذلك إذا استجابوا له غدت لهم دوابهم وبهائم ممتدة الخواصر، مليئة الضروع[7]، وإذا لم يستجيبوا صارت بحال من الضعف، فكيف هؤلاء حينما يأتي الدجال ويدعوهم ماذا سيصنعون؟!
ثم ذكر حديث عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما-، "أن النبي ﷺ أمهل آل جعفر ثلاثًا يعني بعدما استشهد جعفر بن أبي طالب في مؤتة تركهم ثلاثًا ما أتاهم..."، تحديد العزاء بثلاث لا أصل له، ولكن كأن الناس أخذوه من كون الحزن يبقى المصيبة حية ثلاثة أيام في الغالب، ولهذا رخص في الهجر ثلاثة أيام وبعدها يذهب وحر الصدر.
فهنا أمهل ثلاثًا يعني ما أتاهم فهم لا زالوا في شدة المصيبة، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ادعوا لي بني أخي، يقول: فجيء بنا -هذا عبد الله بن جعفر- جيء بنا كأننا أفرخ يعني من الضعف والنحافة والهزال كأنهم فراخ الطائر أو لشدة حزنهم فقال: ادعوا لي الحلاق، فأمره فحلق رؤوسنا"[8]، رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
حلق رؤوسنا ربما يعني كما يقول بعض أهل العلم لعله من باب الفأل تغير الحال ليجدد لهم حياة أخرى، وربما لما رآهم في هذه الحال أشفق عليهم وأراد أن يحسن من حالهم فحلق رؤوسهم.
ثم ذكر حديث علي قال: "نهى رسول الله ﷺ أن تحلق المرأة رأسها"[9]، رواه النسائي.
هذا الحديث ضعيف، لكن حلق المرأة لرأسها فيه تشبه بالرجال، وليس للمرأة أن تحلق رأسها من غير علة، لكن لو كان لمرض فهي معذورة.
أما حلق بعض الرأس للرجل إن كان لعلة كالحجامة فهذا لا إشكال فيه إن شاء الله، يعني إذا حلق هذا الموضع وهذا الموضع مثلاً: للحجامة فلا يجب عليه أن يحلق باقي الرأس، ويقال له: هذا من القزع، فيكون ذلك رخصة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الترجل، باب في الذؤابة، برقم (4195)، والنسائي، كتاب الزينة، الرخصة في حلق الرأس، برقم (5047)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (212).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق، وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم، برقم (7562).
- لم أقف عليه.
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم (1728)، ومسلم، كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم (1302).
- أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب القزع، برقم (5921)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب كراهة القزع، برقم (2120).
- سبق تخريجه، الحاشية رقم (1).
- مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، برقم (2937).
- أخرجه أبو داود، كتاب الترجل، باب في حلق الرأس، برقم (4192)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (4463).
- أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء، برقم (914)، والنسائي، كتاب الزينة، النهي عن حلق المرأة رأسها، برقم (5049)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (5998).