الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد كان حديثنا في "باب النهي عن التكلف؛ وهو فعل وقول ما لا مصلحة فيه بمشقة"، والتكلف الذي يكون بمعنى حمل النفس على ما فيه مشقة ينقسم إلى قسمين، وأن المشقة العارضة في التكليف يزيد معها الأجر، وأما قصد المشقة فإن ذلك ليس بمطلوب للشارع، وقد مضى الأدلة على ذلك.
ثم ذكر في صدر هذا الباب قول الله -تبارك وتعالى-: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ يعني على البلاغ والدعوة، مِنْ أَجْرٍ فما نافية، وأجر نكرة في سياق النفي، وذلك للعموم، وقد دخلت عليه "من" التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي: أجر، وهذا الأجر سواء كان من العطاء المادي كالمال، أو كان ذلك من المنافع فقد نفى ذلك جميعًا مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وقد جاء ذلك في كتاب الله من قول الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في مواضع، حيث نفوا أن يكونوا يسألون على دعوتهم، يسألونهم أقوامًا مالا أو أجرًا وكانوا يقولون: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [هود:29]، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109]، فهم يطلبون الثواب من الله -تبارك وتعالى- هذا في جميع المواضع.
وأما قوله -تبارك وتعالى-: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23]، فإن الاستثناء هنا منقطع، يعني لكن تودون في قرابتي، وليس ذلك من الأجر الذي يكون بالمعنى المنفي، فالدعوة كما سبق في بعض المناسبات مجانًا؛ لا يؤخذ عليها مقابل، سواء كان ذلك بمال؛ يقول: أنا أقدم المحاضرة، أو أقدم هذه الدعوة، أو هذه الموعظة بمال، أو كان ذلك بطريقة أخرى كأن يقدم ذلك من غير مال لكنه يبيع هذه المادة التي نتجت عن هذا البذل والدعوة فيبيع مثلاً هذه المادة المرئية، أو المادة الصوتية بقليل أو كثير، لربما تباع بمئات الألوف، فهذا تكسب، وتتحول معه الدعوة إلى تجارة.
وكذلك أيضًا إذا كان ذلك بمنافع، يعني أحيانًا قد لا يأخذ الإنسان على ذلك شيئًا لكن يمكن أن يذهب ليقدم دعوة، أو يقدم محاضرة، أو نحو ذلك، ثم يذهب هو مع من معه من أهل كثروا أو قلوا كل ذلك بالتذاكر، والسكنى في أحسن الفنادق لربما لمدة أربعة أيام خمسة أيام كل ذلك من أجل هذه المحاضرة، أو من أجل هذه الدورة، فإن كان ولابدّ فأنت، والبقية لا، فالواقع أن هذا أخذ مقابل، ومقابل كبير.
فينبغي للإنسان أن يراجع نفسه وأن ينظر في عمله وما يبذله وما يبتغي به وجه الله -تبارك وتعالى- فقد يقول: أنا أفعل ذلك مجانًا أنا محتسب، والواقع أنه ليس بمحتسب تكاليف هذه البرامج التي يقدمها لربما كانت بأموال طائلة، لو ذهب مع أهله مثلاً إلى مكة وسكن في نفس هذا الفندق لربما لا يقل عن عشرة آلاف، أو اثنا عشر ألف في هذه المدة التي بقيها لاسيما في المواسم، ولكنه يذهب قد لا يشترط، وقد يشترط أن يسكن في هذا المكان، وأن يذهب بطائرة ولربما بالدرجة الأولى فهذا مقابل، فهذا يضيع أجر الإنسان، فتتحول الدعوة إلى لون من التكسب أو التجارة، فذلك يذهب بركة هذه الدعوة، ويذهب أثرها، ويبطله بالكلية، فلا يبقى لها أدنى أثر، -نسأل الله العافية-، تمحق بركة هذه الدعوة، وتنطفئ الكلمات قبل أن تخرج وتغادر الأفواه، قبل أن تفارقها ينطفئ نور الكلمة، ولا يكون لهذا الكلام أثر، ولا يصل إلى القلوب، وما الفائدة من الكلام الكثير إذا كان لا أثر له، ولا قبول في قلوب الخلق، فالدعوة إلى الله تكون مجانًا يراد بها وجه الله ، ومتى تحولت إلى شيء آخر فإن ذلك يعني المحق، وانطفاء نور الكلمة، لأي عذر كان، تحت أي فلسفة كانت، يعني هذه قد يقول: إنسان نحن نريد أن نعمل عملا ًمؤسسيًّا، نريد أن نكون كذا، أريد أن أعمل جوالاً يرسل رسائل بمقابل، أو نحو ذلك؛ ليدر على هذا العمل الذي أريد أن يتحول إلى عمل نقول: لا عمل مؤسسي، ولا غيره، جهادك في هذه الكلمات التي تقولها، ودع العمل المؤسسي لأهل العمل المؤسسي، أنت تحسن الوعظ دعك في هذا لا تدخل في العمل المؤسسي والفلسفات التي تضيع عليك عملك ودعوتك، تحسن التدريس خلك في هذا وإلا فإن الإنسان إذا تأول فإن ذلك يفسد عليه كثيرًا كثيرًا.
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، وهذا هو الشاهد، فالتكلف "ما أنا من" هذا أبلغ من قوله مثلاً لو قال: وما أنا بمتكلف، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ وهذا التكلف هنا في هذا السياق في الآية، وما أنا من المتكلفين لست أتجر بهذه الدعوة وأسأل عليها المال، ولست أيضًا بمتكلف لشيء لم يوح إلي فأعزو ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-، وأقول أوحي إليّ ولم يوح إليّ، لست بمتقول على الله ، فآتي من عند نفسي بأشياء وأنسبها إلى الله، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] ويدخل في العموم وما أنا من المتكلفين سائر ألوان التكلف.
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ يفهم منه أن الإنسان كما سبق لا يتكلم فيما ليس له به علم لا يجيب في مسألة لم يضبطها، لا يعلم فنًا لا يحسنه، وقد جاء عن ابن مسعود مثل هذا النوع من الاحتجاج بالآية حينما ذكر له بعضهم أمرًا في ريحٍ قد هبت وثار غبار وخاف الناس الساعة وما إلى ذلك فذكر ابن مسعود الحديث.
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] ينكر على من تكلم بغير علم وتكلف شيئًا لا يحسنه، فالآية يؤخذ من معناها الأعم.
وكذلك التكلف في السؤال يعني بعض الناس يسأل عن أشياء لا يترتب عليها عمل يقول هل كان في حيوانات مثلاً قبل آدم وقبل خلق الأرض نقول له: هذا سؤال متكلف، ما حاجتك لهذا أصلاً وماذا تستفيد؟ ماذا تستفيد من هذا؟
أين كانت الأرض قبل أن يخلق كذا؟ فهذه أسئلة ما الحاجة إليها؟ لا فائدة منها، وكثير من الناس يسألون عن أمور لا يترتب عليها عمل، من الأفضل: الملائكة أم الرسل مثلاً؟ ما الأفضل: الموضع الذي دفن فيه النبي ﷺ أم الكعبة؟ فيترك من سُئل في حال من التحير فهذا من المسائل التي لا يترتب عليها عمل أو المسائل النادرة التي يسمونها صعاب المسائل والأغاليط، وما أشبه ذلك هذا الذي ورد النهي عنه، وهو داخل في عموم قوله: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، كهذا الذي جاء وسأل عمر عن رجل قد وطأت ناقته على دجاجة ميتة، فخرجت منها بيضة، ففقست البيضة عنده فرخًا هل هذا الفرخ يعتبر ميتة أو غير ميتة؟ قال له عمر: من أين أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: فعل الله بأهل العراق"[1] يعني هذا سؤال متكلف، وطئت ناقته على دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة ففقست البيضة هل البيضة الفرخ طاهر أم نجس؟
هذه من الأسئلة المتكلفة، مسائل نادرة الوقوع، أو المسائل التي لا تقع أصلاً يسمونه المسائل الصعاب، أغاليط المسائل التي يبحث فيها عن تعجيز الناس، فمثل هذا حتى في الأشياء التي لربما تكون وقعت وتكلف صاحبها هذا الذي يقول: إنه طلق امرأته مثلاً مائة طلقة، كان ابن مسعود وأمثال ابن مسعود مثل هذا يقولون: "والله لا تلبسون على أنفسكم، ثم نكون نحن الذين نخرجكم من ذلك"، فهذا كله من التكلف.
التكلف في الطلاق، التكلف أحيانًا بعض الناس يسأل يقول شيئًا عجيبًا يقول قال: لامرأته أنت طالق وحرام عليّ، وكظهر أمي، ودخل مسألة طلاق في ظهار وتسأله ماذا كنت تقصد في كذا؟ وهل كنت تقصد في كذا؟
يقول: ما أعرف، حسنا إذا عرفت تعال إليّ حتى أجيبك، أما تلبسون على أنفسكم بهذه الطريقة ثم تقول لي أين المخرج، يدخل طلاق وظهار وعبارات محتملة أحيانًا لا تدري هل يقصد بها ظهار أو يقصد بها تحريم أو يقصد بها طلاق أو يقصد بها يمين، لا تعرف، وإذا سألته قال: لا أعرف، فإذا عرفت تعال حتى انظر هل أعرف الجواب أم لا أعرف الجواب؟
فهذا كله من التكلف، ومن التكلف كالذي يقول لامرأته: إن صعدتي السلم -وهي على السلم- إن صعدتي فأنتِ طالق، وإن نزلت فأنتِ طالق، وآخر يقول لامرأته واللقمة في فمها: إن ابتلعتِ هذه اللقمة فأنتِ طالق، وإن أخرجتيها فأنتِ طالق، فهل هذا آدمي؟!
قال: وعن عمر قال: "نهينا عن التكلف"[2]، رواه البخاري.
نهينا مثل هذا السياق إذا قاله الصحابي نهينا فإن الذي نهاهم هو النبي ﷺ، فهذا له حكم الرفع إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
وعن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود فقال: "يا أيها الناس من علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم"، يعني هذا في قوله -تبارك وتعالى-: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10]، قال: "فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم الله أعلم، قال الله تعالى لنبيه ﷺ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]"[3]، رواه البخاري.
هذا استشهاد من ابن مسعود بعموم الآية، وإن كان سياقها في قضية معينة أمر الله نبيه ﷺ أن يقول ذلك، ومن ثم نخرج من هذا أن التكلف مذموم في كل شيء؛ التكلف في المناسبات، التكلف في الكلام والتقعر فيه، والتفاصح بعبارات لا تفهم، التكلف في الكتابة، التكلف في تقحم موضوعات لا يحسنها ويكتب فيها، فكل هذا من التكلف، وغير هذا كثير.
فالإنسان ينأى بنفسه عن هذا، والله أعلم.
- انظر: انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/191)، وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (5/235).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7293).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، برقم (4809).