الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
فهذا "باب كراهة قوله: خَبُثت نفسي".
وهذه العبارة يُعبر بها الإنسان عن حال من أحوال النفس، حينما تثقل، وتنجذب إلى أسفل وتضعف، فلا يتسع الخلق، ولا يكون فيه بسطة، ولا ينفسح الأمل، ولا تشرق النفس؛ وذلك تارة يكون لسبب مدرك، كأن يحصل للإنسان ما يعكر عليه صفو عيشه، من أمور عارضة، تقلقه وتزعجه، ومن خبر يسمعه، أو مرأى أمور يكرهها إذا شاهدها، أو كان ذلك بسبب هم أو قلق يلاحقه، فتضعف هذه النفس، وأحيانًا يكون هذا بسبب غير مدرك، وهو نوعان:
نوع يكون بسبب وحشة العبد التي يجلبها ذنوبه وتقصيره في حق ربه -تبارك وتعالى-، فيحصل لها هذا الانقباض، ومن الناس من يدرك السبب، هذا من قلت ذنوبه، ومنهم من لا يدرك؛ لكثرة تقصيره وذنوبه، فيأتيه أشياء كثيرة من أمور كثيرة لا يعرف من أي جهة أصابه ذلك، فالنفس يحصل لها وحشة، إذا قل ذكر الله وكثرت الذنوب، كما قال بعض السلف: " إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي، وامرأتي"[1]، فيأتي ويجد ما يكدر عليه في بيته، ويلقى امرأته فتكدر عليه، ويلقى ولده فكذلك، ويركب دابته فتتعطل، ويذهب إلى مصلحة من مصالحه، فيجد أن ذلك قد فاته، وهكذا.
فالحاصل: أن هذه الأمور تؤثر، وأحيانًا يكون لسبب آخر، فالنفس لها ارتقاء وهبوط، كما أن البدن يحصل له تعب، وضعف، فالنفس كذلك مثل الرسم البياني، يحصل لها صعود وهبوط، فتجد الإنسان أحيانًا اليوم في غاية النشاط، وإشراق النفس، والإقبال، والسرور، والراحة، وما إلى ذلك، وربما في اليوم الآخر بدون أي سبب، ولا معصية، ولا غفلة عن ذكر الله، نفس الوتيرة في العمل، وتجد أن هذا الإنسان به شيء من الانقباض، وقد يكون هذا في أمور عادية، يعني: هذا طبيعي يحصل للإنسان؛ ولذلك ينبغي أن تراعى أحوال الناس، فليس بالضرورة أن ألقى الناس دائمًا، ويلقونني بكل تألق، وبشر، وسرور، وانشراح، كما عهدتم، فالنفس أحيانًا يحصل لها شيء من الانقباض، وأحيانًا يكون ذلك بسبب علل وأمراض، مثل الأمراض النفسية، والأمراض المعنوية، من السحر والعين، وما إلى ذلك، أحيانًا تورث مثل هذا، وأحيانًا أمراض بدنية، يعني: إفرازات غدد وأشياء معينة في جسم الإنسان أحيانًا إذا اختلت اختلت بعض الموزونات في الجسم، فيحصل للإنسان أحيانًا ضيق شديد، وتتغير أخلاقه، وما إلى ذلك، فهذا أمر معروف يعرفه الأطباء.
فلذلك أقول: بأن الإنسان إذا حصل له هذا لأي سبب كان، فإنه ينبغي ألا يعبر بهذا التعبير "يقول: خبثت نفسي" لماذا؟ لما في هذه اللفظة من ثقل على الأسماع، فهي لفظة غير مستساغة؛ ولذلك تجد الخطيب أحيانًا، أو المحاضر، أو الواعظ، أو غير ذلك، قد يرددها على أسماع الناس، فتكون ثقيلة جدًا، يعني: قد تجد الخطيب أحيانًا يخاطب الناس عن تربية الأولاد، وقد حصل هذا تسمع أحيانًا بعض الخطباء يقول: "فإذا كان ولدك" وهكذا بأسلوب الخطاب للسامعين "خبيثًا" وأنا أعتذر يثقل عليّ النطق بهذه الكلمة، لكن أصور ما يحصل لي عند سماعها من بعض الناس، فتجد الخطيب يوجه الخطاب للحاضرين، والمفروض أنه يقول: نحن إذا كنا، ولا يقول: أنتم، وخاصة فيما يكره، فيقول أحيانًا في تربية الأولاد: إذا كان ولدك خبيثًا، وكلمات من هذا القبيل تردد في الخطبة الواحدة حوالي ست مرات، يواجه بها المصلين، من غير أن يشعر هذا الخطيب أنها ثقيلة، وكلمة صعبة، وصعب أن توجه هذا في وصف أحد، تقول: فلان كذا، فكيف أن يخاطب الناس بها مباشرة؟ وكيف أن ينسب ذلك إلى نفسه؟ ويقول هذه الكلمة، فهذا هو المقصود.
والشارع علم الناس كل ما يحتاجون إليه، حتى الأدب في الألفاظ، فهذا منها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة:104] كلمة رَاعِنَا تحتمل معنيين: معنى سيء، ومعنى عادي، واليهود كانوا يستعملونها في مخاطبة النبي ﷺ للمعنى السيء من الرعونة، فالله علم المؤمنين لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وأعطاهم كلمة أخرى، تؤدي المعنى، وليس فيها احتمال للسوء، وَقُولُوا انْظُرْنَا وقل مثل ذلك في الآداب القرآنية، وانظروا إلى أدب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فإبراهيم قال: وَإِذَا مَرِضْتُ[الشعراء:80] ولما ذكر الإطعام والإسقاء يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:79] فأضاف هذا إلى الله، ولما جاء إلى المرض، قال: وَإِذَا مَرِضْتُ أضاف هذا إلى نفسه، وما قال: والذي يمرضني، فالمرض أضافه إلى نفسه، مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] فأضاف الشفاء إليه ، فهذا من أدب الأنبياء.
والخضر لما علم موسى عن علل تلك الأعمال التي عملها، قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] فأضاف العيب إلى نفسه، وما قال: فأراد الله، وأما في بناء الجدار، فقال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82] فلما ذكر العيب أضافه إلى نفسه.
وانظر إلى التعبير القرآني في حق النبي ﷺ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى:1-3] كلمة قلاك ثقيلة، فقال: وَمَا قَلَى [الضحى:3] ما أضافها إليه، فما قال: وما قلاك، بينما جميع الجمل فيها خطاب موجه للنبي ﷺ أَلَمْ يَجِدْكَ[الضحى:6]، رَبُّكَ في كل بكاف الخطاب.
فهذا كله من أدب الألفاظ: وهو أن يتخير الإنسان الألفاظ المناسبة، والألفاظ التي ما تحتمل معنى سيئ، والألفاظ التي لا تثقل على الأسماع، مع أنها صحيحة، فكيف بالألفاظ التي هي من قبيل السب والشتم والقذف، وما إلى ذلك، يتفوه بها الإنسان.
ولا شك أن هذا ينبئ عن تربية غير مهذبة، فيصدر ذلك من الإنسان بحسب تربيته، بحسب ما يحمل من التربية، فالنفوس المهذبة التي تربت تربية كاملة صحيحة لا يصدر منها ما يؤذي الأسماع، وإذا ضعفت تربية النفوس ظهر على اللسان كل قول مكروه قبيح، يثقل على السامعين، ويكون وقعه عليهم شديدًا.
فهنا ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ قال: لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي[2]، متفق عليه.
لقست لفظة تؤدي نفس المعنى، لكن لقست لفظة مقبولة ليست ثقيلة في السمع بينما الثانية ثقيلة، ولاحظ هنا يخاطب الأمة بما فيهم الصحابة، فهذا أمر يحصل لهم، بل النبي ﷺ ذكر بعض أصحابه أنه أصبح ذات يوم وهو طيب النفس -عليه الصلاة والسلام-، حتى أن الصحابي استشف أن النبي ﷺ قد أتى أهله تلك الليلة؛ فسأل النبي ﷺ أصبحت طيب النفس، فالنبي ﷺ أقر بذلك، وحمد الله عليه.
فهذا يدل على أن الإنسان لا يكون على حال سواء من جهة الانشراح، في كل الحالات مهما كانت مرتبته، لكن لا يكون هذا بالنسبة للنبي ﷺ بسبب الإعراض عن ذكر الله، حاشا وكلا، فهو أكمل الناس ذكرًا، لكن هذا من النوع الآخر الذي ذكرت آنفًا الذي يكون من الأمور الطبيعية، في نفس الإنسان مثل البدن يتعب، والبدن يمرض، ولذلك ذكر العلماء مثلاً في قوله: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[الروم:21] في الأزواج، فذكروا أن من الأمور الجالبة للمودة، وصفاء النفس: المعاشرة بين الزوجين، ذكر هذا ابن عاشور، وغيره، فهذا يسأل سؤالاً تقريرًا للنبي ﷺ كأنه استشف هذا، فيسأل النبي ﷺ يقول: أصبحت طيب النفس -عليه الصلاة والسلام-، وهذا من خلقه -عليه الصلاة والسلام-، ولا يستغرب، لكن الصحابي أراد أن يشير إلى أمر معين.
فالمقصود: أن الإنسان حينما تعرض له هذه الحالة، وهو أن النفس يكون فيها شيء من الثقل، فينبغي ألا يعبر عنها بمثل هذه العبارة الشديدة، فيقول: خبثت نفسي بينما يقول: لقست نفسي قال العلماء: معنى خبثت: غثت، وهو معنى لقست، لكنه كره لفظ الخبث، هكذا قال النووي -رحمه الله-[3].
ثم ذكر بابًا آخر يتعلق بالأدب في الألفاظ، وهو "كراهية تسمية العنب كرمًا".
الكرم يقال: لشجر العنب، والعرب كانوا يعصرون العنب خمرًا، وكانوا يتمدحون بشربها، ويقولون: بأنها تورث الشجاعة للجبان، والكرم للبخيل، فكانوا يسمون العنب بالكرم، باعتبار أنهم يعصرونها خمرًا، فتؤدي إلى البذل، وهذا الذي قال الله في الخمر: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس [البقرة:219] من المنافع: أن الإنسان يبسط يده يبذل، ويكون شجاعًا إذا كان جبانًا، لكن المضار أكبر وأكثر، والعلة فيما غلب.
فهنا ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تسموا العنب الكرم، فإن الكرم المسلم[4]، متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية: فإنما الكرم قلب المؤمن[5]، وفي رواية للبخاري ومسلم يقولون: الكرم إنما الكرم قلب المؤمن[6].
وكل ذلك لا إشكال فيه؛ لأن هذه الأوصاف التي تحصل للإنسان وتتحقق فيه، إنما مصدرها القلب، فإذا كان القلب عنده من اليقين والثقة بالله ، والتوكل عليه، وما إلى ذلك، حصلت له الشجاعة، وحصل له الإقدام، وحصل له البذل للمال، وهي نوع من الشجاعة، أما البخيل فإنه يجبن إذا أراد أن يخرج شيئًا، فإنه يتردد، ويضعف، ويتقهقر.
فالكرم قلب المؤمن فإذا قيل: قلب المؤمن أو الرجل المؤمن فالمعنى واحد، باعتبار أن الذي يحركه ويقوده، ويحمله على الأخلاق الكريمة الفاضلة، هو القلب، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[7]، فالجسد هذا عبارة عن قالب، والقلب هو القائد المحرك الموجه، فهؤلاء الذين يحصل لهم قوة وشجاعة، أو جبن، أو يحصل لهم كرم أو بخل، أو غير ذلك من الأوصاف هو باعتبار هذا القلب، قد تجد الرجل في الطول والعرض ومفتول العضلات، إلا أنه جبان، ما السبب؟ السبب هو القلب، وقد تجد الرجل نحيلاً ضعيفًا ضئيلاً، وهو في غاية الشجاعة، والسبب هو القلب، فالشجاعة شجاعة القلب التي يتأثر عنها شجاعة البدن.
فالمؤمن أحق بهذا الوصف من العنب، أو ما يعصر منها، وهو الخمر، كما يزعمون، فيلقبونها بهذا الكرم المؤمن أولى، فهؤلاء الذين تشجع قلوبهم الخمر، فتصير هذه الأوصاف فيهم من الكرم، أو الشجاعة، قلب المؤمن ينطوي على الصفات المحبوبة لله الكاملة، فهو أولى بهذا الوصف، وليس صاحبه بحاجة إلى أن يشرب هذا الشراب المحرم، من أجل أن يحصل هذه الأوصاف، وتكون عارية فيه، ثم تتلاشى ويتندم كيف أنه بذل هذا المال؟ وكيف أنه أطعم هؤلاء الضيفان؟ وكيف أنه ذبح لهم وأكرمهم؟
ثم ذكر حديث وائل بن حجر عن النبي ﷺ قال: لا تقولوا: الكرم، ولكن قولوا: العنب، والحبلة[8]، رواه مسلم.
أعطاهم البديل قولوا: العنب، والحبلة الحبلة: تقال لشجرة العنب، ويمكن أن يقال ذلك للثمر، يقال: الحبل، والحبلة، فتسمى بهذا الاسم، والحبل يقال ذلك فيه أيضًا، ولكنه استعمال قليل، والغالب الحبل والحبلة.
على كل حال فهذا تعليم من النبي ﷺ للأدب في استعمال هذه الألفاظ، وما هو أولى بها مثل ما قال النبي ﷺ: لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يعتمون بالإبل[9]، يعني: الأعراب يعتمون بالإبل، فيسمونها العتمة، يعني: العشاء، بينما هي العشاء، وغير ذلك من الأسماء التي علم النبي ﷺ أمته، وأصحابه الألفاظ التي يتأدبون بها، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء (ص: 54).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب لا يقل: خبثت نفسي برقم (6179) ومسلم في كتاب الألفاظ من الأدب، باب كراهة قول الإنسان خبثت نفسي برقم (2250).
- شرح النووي على مسلم (15/8).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب: لا تسبوا الدهر برقم (6182) ومسلم في كتاب الألفاظ من الأدب، باب كراهة تسمية العنب كرما برقم (2247).
- أخرجه مسلم في كتاب الألفاظ من الأدب، باب كراهة تسمية العنب كرما برقم (2247).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الكرم قلب المؤمن» برقم (6183) ومسلم في كتاب الألفاظ من الأدب، باب كراهة تسمية العنب كرما برقم (2247).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه برقم (52) ومسلم في المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599).
- أخرجه مسلم في كتاب الألفاظ من الأدب، باب كراهة تسمية العنب كرما برقم (2248).
- أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من كره أن يقال للمغرب: العشاء برقم (563) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها برقم (644).