الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
فهذا "باب تحريم امتناع المرأة من فراش زوجها إذا دعاها، ولم يكن عذر شرعي".
الفراش يكنى به عن الوقاع والجماع، يعني: إذا دعاها إلى فراشه، يعني: دعاها للجماع، وهذا كثير في كلام الله، وكلام رسوله ﷺ، وفي كلام السلف ، فيكنون بمثل هذه الألفاظ عن غيرها مما علم المراد منه الولد للفراش[1]... إلى آخر الحديث.
والمقصود هنا "امتناع المرأة من فراش زوجها إذا دعاها" يعني: دعاها للجماع، وليس المقصود أنه دعاها للنوم فقط، يعني: لو أنه أمرها أن تنام يجب عليها أن تطيعه، لكن ليس هذا هو المقصود هنا.
قال: "ولم يكن لها عذر شرعي" مثل لو كانت مريضة، فهذا عذر شرعي، ومثل لو كانت معافاة البدن، ولكنها في حالة نفسية لربما تكون بمنزلة مريض البدن، أو ما يربو على ذلك.
والشريعة ما جاءت بالمشقة على المكلفين، وحملهم على أمور تثقل عليهم جدًا، فالشارع يراعي مثل هذه الأمور، يعني: لو كانت في حال من البؤس والحزن، ودعاها زوجها إلى الفراش، فلها أن تتلطف بالاعتذار، ولا يلزمها ذلك.
أو عندها مصيبة ومشكلة، مات أبوها، أو مات أحد أقاربها، أو عندها بلاء نازل بها، فتعيش في حالة نفسية صعبة من الكآبة، ونحو هذا، فلها أن تعتذر، فهذا عذر لا يقل عن عذر المرض في البدن.
وكذلك أيضًا لو كان لها عذر مثل لو كانت صائمة، تصوم فرضًا كرمضان، أو قضاء رمضان، أو النذر، فدعاها إلى الفراش، فإنها تمتنع من ذلك، وكذلك لو أن هذا الرجل كان فاجرًا، وتتخوف على نفسها من الأمراض أن ينقل إليها الأمراض، ففي هذه الحال الشريعة ما جعلت المرأة في حال من الضياع، ولم تهدر حقوقها، فلها أن تمتنع حتى يسلك هذا الرجال الجادة، ويأتي بما يثبت سلامته من الأمراض، يعني: يذهب ويسافر ويتجول ويفجر ويتحدث، ويعترف أنه يفجر بمختلف النساء، فما الذي يؤمن معه أن يكون هذا الرجل قد أصيب بمرض، ثم ينقل هذا المرض لزوجته، كما يحصل أحيانًا، فلها أن تمتنع، وتقول: لم يجعلني الله بمحل لمضيعة، فأولاً هذا الرجل الفاجر لها أن تطلب الفراق منه، وتطلب الطلاق، والله يقول: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] ومن الأقوال التي قيلت فيها ما قاله شيخ الإسلام: أن المرأة إذا كان زوجها فاجرًا يزني، فليس لها أن تبقى معه، ما لم يتب؛ لأن هذه معاشرة، والزوج يقال له: العشير، وهذا من أعظم العشرة، والله قال عن أهل المنكر: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140] وقال: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140] فيقول: هذه إذا رضيت بالبقاء معه، فإنها تكون بعد ذلك في حكمه[2]، ويذكر أمورًا أخرى، وعلل ليس هذا موضعها، ولعلي ذكرتُ بعض هذا في بعض المناسبات، وفي الكلام على سورة النور.
ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ-: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح[3]، متفق عليه.
إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت، فبات غضبان عليها لو أنه لم يغضب عليها، كان الرجل متسامحًا، واسع الصدر، كثير الحلم، فإنه لا ينطبق عليه هذا اللعن، أعني: وإن كان لا يجوز لها أن تمتنع من غير عذر، فبات غضبان عليها فذكْر هذه اللفظة هنا (بات) الأصل أن المبيت يكون بالليل بات غضبان طيب لو دعاها في النهار إلى فراشه، فأبت، فإذا أخذنا بهذه اللفظة، فإنه يفهم منها: أن ذلك إذا دعاها ليلاً إلى فراشه، ولكن يمكن أن يقال: إن ذلك باعتبار الغالب، فغالب ما يكون من ذلك إنما هو في الليل، ولا ينفي ذلك الحكم عن النهار، ويدل عليه الرواية الأخرى، وهو قوله ﷺ بدلاً من حتى تصبح: حتى ترجع[4].
فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة أي الملائكة؟ يحتمل: أن يكون الحفظة، ويحتمل أن يوجد صنف من الملائكة موكل بهذا مثلاً، فالله أعلم.
وفي رواية: ملائكة السماء[5]، بمعنى: هل كل الملائكة يلعنونها، أو يلعنها صنف من الملائكة؟ لعنتها الملائكة حتى تصبح (أل) في كلمة (الملائكة) هل هي للجنس؟ فتشمل جميع الملائكة، وأعدادهم لا يحصيها إلا الله، وكما في الحديث: أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله[6].
لعنتها الملائكة حتى تصبح والرواية الأخرى: حتى ترجع فهم منها بعض أهل العلم أن قوله: حتى تصبح ليس المقصود حتى تدخل في الصباح، وإنما حتى تصبح يعني حتى تفيء، وترجع إليه، والله تعالى أعلم.
على كل حال هذا فيه تعظيم حق الزوج على المرأة، فلو كانت مثلاً صائمة صيام تطوع، أو كانت غير صائمة ودعاها، أو نحو ذلك، فإنه لا يجوز لها أن تمتنع من غير عذر.
ثم ذكر بابًا بعده وهو "باب تحريم صوم المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه" يعني: أنه غير مسافر إلا بإذنه، فلو كان مسافرًا مثلاً، أو غائبًا في مكان آخر، أو نحو ذلك، فلها أن تصوم إذا كان لا يأتي يخرج من قبل الفجر، ولا يأتي إلا بعد غروب الشمس، فلا معنى للاستئذان؛ لأن المقصود هو توفير حق الزوج، وحظه من هذه المرأة مدة الصوم؛ لئلا تتعطل مصالحه، فإذا كان غير موجود هو يخرج من قبل الفجر، ولا يأتي إلا العشاء هنا لا معنى للاستئذان في الصوم.
وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه[7]، متفق عليه.
لا تأذن يعني: لأحد من الزوار في بيته أن يدخل بيته، إلا بإذنه، فإذا قال لها: أحد من الناس من جيرانها، أو من غيرهم، أو من قراباتها: سنزورك، تستأذن الزوج أولاً؛ لأنه هو السيد وهو بيته.
وهنا لا تصوم وزوجها شاهد المقصود بالصوم صوم رمضان، فرضه سابق على حق الزوج، هذا لا يحتاج إلى استئذان صوم رمضان، صوم التطوع لا بدّ فيه من الإذن، صوم النذر إن كان مطلقًا، فإنها تستأذن إذا كان موسعًا يعني: تصوم يومًا في سبيل الله، فلا يشترط أن يكون اليوم أو في الغد، لكن لو علمت أنه لا يأذن مطلقًا، فإنها تصوم، لكن إذا كان يأذن، لكن يقول: هذه الأيام، هذا الأسبوع، هذا الشهر، لا تصومين، فلا إشكال، أو كان يسافر مثلاً، فصامت وهو مسافر، فلا إشكال، أو قال: لا تصومي وأنا حاضر، وأنا في البلد، إذا سافرت صومي، فلا إشكال.
وأما النذر المعين لو نذرت أن تصوم يومًا معينًا، فإذا جاء هذا اليوم المعين وجب عليها أن تصوم، ولا تستأذن، أما قضاء رمضان، فمثل هذا إن كان القضاء قد تضايق وقته، يعني: قرب رمضان الآخر، وعليها مثلاً سبعة أيام، وباقي على رمضان سبعة أيام، أو نحو ذلك، فهنا تصوم، ولا تستأذن، أما إذا كان الوقت موسعًا عندها فرصة فإنها تستأذن، ثم بعد ذلك تتمهل حتى يأذن لها، ما لم يتضايق الوقت، والله تعالى أعلم.
وإذا كان هذا في هذه العبادات في الصوم لا تصوم حتى تستأذن، فكيف بغيره مما تتعلل به المرأة؟ فتعطل بذلك مصالح الزوج، هذه الخراجة الولاجة التي كلما بحث عنها زوجها، أو اتصل بالبيت، وإذا هي خرجت للسوق، أو خرجت لجيرانها، أو خرجت لصديقاتها، أو غير ذلك من غير استئذان، فهذا أشد من الصيام.
وكذلك لو أن هذه المرأة كانت تريد الصوم، وهي تحب الصوم، ولكن زوجها يمنعها من التطوع، فإنه يكتب لها ما نوت؛ يكتب كأنها صامت، أو كان من عادتها صوم الاثنين والخميس، فتزوجت رجلاً، فمنعها من ذلك، وقال: حقي أولى، وهي تتلهف على هذا الصيام، فإنه يكتب لها ما كانت تصوم، كأنها صامت.
وكذلك لو قال لها: أنا أعينك على هذا، وأفرح وهو يحثها على الصيام والعبادة، فما تحتاج في كل مرة أن تستأذن إذا أعطاها إذنًا مطلقًا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
- أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات برقم (2053) ومسلم في كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقي الشبهات برقم (1457).
- الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/151).
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء... برقم (3237) ومسلم في كتاب النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها برقم (1436).
- أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها برقم (5194) ومسلم في كتاب النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها برقم (1436).
- لم نجد هذه الرواية.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الزهد، باب في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً)) برقم (2312) وحسنه الألباني.
- أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه برقم (5195) ومسلم في كتاب الزكاة، باب ما أنفق العبد من مال مولاه برقم (1026).