الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر عن رسول الله ﷺ قال: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها[1] حديث حسن، رواه الدارقطني، وغيره.
أبو ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر، هكذا ذكر المصنف -رحمه الله- اسمه، وقد اختلف في اسمه، واسم أبيه اختلافًا كبيرًا، كما اختلفوا أيضًا في وفاته اختلافًا كثيرًا، أبو ثعلبة الخشني جرثوم، وبعضهم قال: إن اسمه جرثومة، وقيل غير ذلك، لكن جرثوم أصل هذه المادة ليس كما يتبادر إلى الأذهان في هذا العصر، حيث صار عرف الاستعمال أن الجرثوم، والجرثومة يطلق على تلك الكائنات الدقيقة كالبكتيريا، ونحو ذلك، مما لا يرى بالعين مما يكون سببًا لنقل الأمراض، ونحو ذلك، هذا هو المتبادر، ولكن في لغة العرب يقال ذلك للأصل، ويقال: تجرثم الرجل إذا انقبض، وانكفأ على نفسه، ويقال: تجرثم القوم، يعني: تجمعوا، وتكتلوا على بعضهم، وانقبضوا إلى بعضهم، فهذه من معاني هذه اللفظة، ولذلك تجدونها في أشعار العرب حتى في الجاهلية، الجرثومة، جرثومة كذا يقصدون بها هذه المعاني، لا يقصدون بها المعنى الذي صار الناس يستعملونه في عصرنا هذا، يقولون: تعقيم مثلاً اليد، أو تعقيم الجسم، أو تعقيم هذا الموضع من الجراثيم، ونحو ذلك، هم لا يقصدون هذا المعنى، وإنما هذا عرف خاص.
جرثوم بن ناشر عن النبي ﷺ قال: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، فرض فرائض فلا تضيعوها يعني كالصلاة، والصيام، والحج، وما إلى ذلك فلا تضيع ينبغي أن تحفظ، وحفظها بالإتيان بها بإقامتها مستوفية لشروطها، وأركانها، وواجباتها، أن يكون ذلك على الوجه الشرعي في أوقاتها التي وقتها الله لها.
وحد حدودًا فلا تعتدوها يعني حدوده -تبارك وتعالى- الآن الحدود لا تتعدى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229] فهذه الحدود لا تتعدى، بعض أهل العلم خص ذلك في المأمورات بحيث لا يتعداها الإنسان، فمثلاً في الصيام يصوم على الوجه الشرعي، وقد نهينا عن الوصال، في الوضوء: يغسل هذه الجوارح التي حدها الشارع، دون أن يزيد عليها على سبيل التكلف والتعبد، يعني إذا غسل يديه يغسل إلى المرفقين، لا يغسل إلى المنكبين مثلاً، إذا غسل قدميه يغسل إلى الكعبين، ولا يغسل إلى الركبتين مثلاً، إذا مسح رأسه لا يحتاج أن يمسح الرقبة، فلا يتعدى هذه الحدود، يصوم رمضان إذا رأى الهلال، وإذا غم عليه يكمل عدة شعبان ثلاثين، دون أن يزيد في الشهر قبله بيوم، أو بيومين، وبعده بيوم؛ من أجل أن يحتاط، فهذا في المأمورات.
وفي المنهيات: فَلَا تَقْرَبُوهَا بمعنى أن النهي عن قربها، عن مقاربتها أبلغ عن النهي عن مواقعتها، وذلك أنه إذا نهى عن مقاربتها، فهو نهي عن مواقعتها، وزيادة، يعني هو نهي عن كل سبب يتوصل به إليها، فإذا نهى عن الزنا ألا نقربه وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ [الأنعام:151] فهذا نهي عن الفواحش، ومقارفتها، كما أنه نهي عن الأسباب الموصلة إليها من النظر، والتبرج، وخضوع بالقول، والاختلاط، وما إلى ذلك، وبعض أهل العلم يقول: فَلَا تَعْتَدُوهَا فَلَا تَقْرَبُوهَا كل ذلك يكون في الأوامر والنواهي، وقد مضى الكلام على هذا في الكلام على الأمثال في القرآن.
فهنا قال: فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها حد حدودًا وحرم أشياء فلا تنتهكوها هنا بمنزلة فلا تقربوها، فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها يعني ما سكت عنه فهو عفو.
فهذا الحديث حسنه المصنف -رحمه الله- أعني النووي[2]، وحسنه الحافظ ابن حجر[3]، وحسنه العراقي، وجماعة، وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في بعض كتبه[4]، وضعفه في بعضها[5].
وعلى كل حال، عند من صحح هذا الحديث، يكون المعنى المحافظة على الواجبات، والمباعدة عن المحرمات، وأما ما سكت عنه الشارع، فلا ينبغي البحث عنه وقت نزول الوحي.
وقد مضى الحديث عن هذا في بعض المناسبات، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- سكت عن أشياء رحمة من غير نسيان، فإذا جاء من يسأل عنها، فقد تفرض على الأمة، أو يسأل عن شيء لم يحرم، فيحرم بسبب مسألته، ولهذا لما قال النبي ﷺ: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا قال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ -هذا السؤال في غير موضعه، ورود هذا السؤال خطأ- فسكت النبي ﷺ ثم قال لهم: ذروني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبياءهم وذكر لهم ﷺ أنه لو قال: نعم، لوجبت، ولما استطعتم[6].
ففي وقت نزول الوحي لا يسأل عن شيء سكت عنه الشارع، فيكتب على الناس إن لم يكن واجبًا، أو يحرم إن كان على الأصل الإباحة الأصلية، ولهذا صح عن النبي ﷺ: إن أعظم الناس في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته[7].
بعد نزول الوحي بعد اكتمال الوحي، بعد قبض النبي ﷺ بعد انقطاع الوحي هنا يمكن للإنسان أن يسأل، لكن مع ملاحظة ألا يكون ذلك على سبيل التكلف، ألا يسأل عن الأشياء النادرة، أو التي لا تقع، أو يبعد وقوعها جدًا، أو صعاب المسائل التي يسمونها بالأغاليط، فهذا كله السؤال عنه مذموم.
وقد ذكرت أمثلة لبعض ذلك في بعض المناسبات، هذا بعد النبي ﷺ إلى يومنا هذا، لا يشتغل الإنسان في البحث عن أمور لا يترتب عليها عمل، كثير من الناس يطرح أسئلة ما يترتب عنها عمل، هل كان النبي ﷺ يتثاءب أم لا؟ وما شأنك أنت؟ وما الذي يترتب على هذا؟ هو مخبي، وراه سؤال، إذا قلت له: نعم هو بشر، قال لك طيب النبي ﷺ لم يكن للشيطان عليه سبيل، وإنما قال النبي ﷺ: التثاؤب من الشيطان[8] طيب، وما شأنك؟ هل كان يتثاءب أم لا؟
بعضهم يسأل هل يرد عن النبي ﷺ الاحتلام أم لا؟ ما شأنك بهذا؟ ما الذي يترتب عليه من الناحية العملية بالنسبة إليك؟ فهذه الأسئلة التي لا يترتب عليها عمل، أو يسأل عن الأغاليط، وصعاب المسائل، أو المسائل النادرة المتكلفة، فكل هذا لا يحسن، ولا يطلب أيضًا من المسؤول أن يجيب عليه، ولا يكون ذلك من قبيل كتمان العلم، فهنا هذا الحديث تضمن هذه المعاني.
ثم ذكر حديث بعده، وحديث عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما- قال: غزونا مع رسول الله ﷺ سبع غزوات نأكل الجراد[9] وفي رواية: نأكل معه الجراد[10] متفق عليه.
نأكل الجراد هذه اللفظة تحتمل: أنهم يأكلون الجراد، والنبي ﷺ لم يكن يشاركهم في ذلك، ولكنه أقرهم على هذا لكونهم معه، فتكون سنة تقريرية، لكن اللفظ الآخر: نأكل معه إذًا هذا من فعله ﷺ فصار أكل الجراد ليس كأكل الضب، الضب أُكل على مائدته، ولكنه لم يأكل، وأقرهم على أكله، فلا بأس بأكله، فهو مباح بالسنة التقريرية لا بالإباحة الأصلية، الإباحة الأصلية، يعني: ما بقي عليه الناس لم يتعرض له الشارع.
أكل الجراد هو سنة فعلية -إباحة؛ أقصد بالسنة، يعني ورد فيها سنة، ورد فيه نص لا أقصد أنه مشروع، الذي هو المستحب ما طلبه الشارع كما يقول الفقهاء لا، وإنما أقصد بذلك أنه مباح إباحة شرعية-.
والجراد معروف، وله أسماء كثيرة أكثر من ستين اسمًا، وهذه الأسماء في الواقع هي مقسمة، وموزعة على الأطوار؛ لأن الجراد معروف أن يمر بأطوار، ومراحل حتى ينمو، ويكبر، فكل طور من أطوار الجراد له أسماء، حينما يكون في طور يفقس من البيض، حينما يكون بعد ذلك المرحلة الثانية، الثالثة إلى أن يكتمل الذكر، الأنثى كله يقال له: جراد، فبعضهم يقول: هذا اسم جنس جمعي، واحده جرادة، ويطلق على الذكر والأنثى، وهذا الجراد كما قال النبي ﷺ: أحلت لنا ميتتان، ودمان فلما فسر الميتتين قال: الحوت يعني السمك والجراد[11] فالجراد ما يحتاج إلى ذبح، وإنما مباشرة يؤكل، أو يوضع في الإناء، ولو صاده غير مسلم، وهل يحتاج صيده إلى تسمية كبقية الصيد؟
الجواب لا؛ لأنه يجمع من الشجر، والأرض؛ لأنه يأتي بكميات كبيرة جدًا، فيجمع ليلاً، فيملئ منه أكياس بأعداد هائلة ضخمة، وهذا الجراد كما هو معلوم يرسله الله أحيانًا عذابًا على بعض الأمم، كما قال الله عن قوم فرعون: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ [الأعراف:133].
فالجراد إذا نزل في ليلة، هو يأتي يطير، يهاجر، فإذا جاء يطير يحجب الشمس من كثرته، وهذا معروف يطير كالسحب، وإذا نزل في بلد، أو في قرية، أو في أرض إذا كانت فيها شجر ومزارع، ونحو ذلك ينزل ليلاً فإذا أصبح وجدوا الأغصان من غير أوراق، ووجدوا النخل عسيبًا من غير خوص، لا يبقي ولا يذر، يأكل طول الوقت، حتى إنه يمثل لمن يأكل بلا توقف، على ضآلة جسمه بالجرادة؛ لأنها لا تتوقف من الأكل، دون أن يظهر ذلك فيها السمن، أو ضخامة الجسم، فهو يأكل دائمًا، حتى قال بعضهم: إن لعابه سم بالنسبة لورق الشجر، يحرقها، ويأتي عليها، ويقضي عليه الجراد.
فعلى كل حال هذا مباح، ولو صاده غير مسلم، ولا يحتاج إلى تسمية، لا عند صيده، ولا عند وضعه في الإناء، وهل يوضع مباشرة في الإناء بالماء الحار مثلاً يغلى، وهو حي، أو يوضع على المقلاة، أو نحو ذلك؟ هل يكون هذا من قبيل التعذيب في النار؟
الذي يظهر أنه ليس كذلك؛ لأنها جرت عادة الناس منذ عهد النبي ﷺ أنهم لا يذكون الجراد، ولم يأمرا أن يغرقوه بالماء مثلاً، أو يكتموا أنفاسه حتى يموت، ثم يضعونه في آنيتهم، ما أمرهم الشارع بهذا، والأصل أن ذلك مباح، وقد يؤخذ منه: أن مثل هذه الأشياء من الفراش، ونحوه، من الذي لا نفس لها سائلة، قد يؤخذ منه أنه يجوز أن تقتل بطريق الصعق الكهربائي، الذي هو بمنزلة النار، يعني أثره الإحراق، التي توضع في البيوت، والمساجد، والمستشفيات، معروفة التي تقتل الحشرات، فما لا نفس له سائلة، هل يكون هذا من قبيل التعذيب بالنار؟ لا يعذب بالنار إلا رب النار أم لا؟
قد يستدل على أن ذلك لا يمنع منه، بأن الجراد يوضع في القدر، والمقلاة، ولا حرج في ذلك، فهذه لما جاز ذلك فيها من أجل أكلها لا لتعذيبها، جاز في تلك من أجل التخلص من أذاها، على كل حال أنا أقول: هذا ملحظ، ووجه يمكن أن يلحظ في هذه المسألة، وإن كان الإنسان يتحرج من وضعها في المسجد، أو وضعها في البيت، أو نحو ذلك؛ لأنها تؤثر هذا الإحراق، وتظهر رائحة الحرق فيها، لكن هذه الأشياء التي لا نفس لها سائلة، هل يقال له ذلك، أم لا؟ قد يفهم من هذا مسألة الجراد هذا المعنى، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه الدارقطني في سننه، برقم (4396) وحسنه الألباني في الإيمان (ص: 44).
- انظر: رياض الصالحين، للنووي (511).
- انظر: المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر (12/416).
- انظر الإيمان، للألباني (ص:44).
- انظر: مشكاة المصابيح، للألباني، برقم (197).
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7289).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3289) ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس، وكراهة التثاؤب، برقم (2994).
- أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة الجراد، برقم (1952).
- أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب أكل الجراد، برقم (5495).
- أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال، برقم (3314) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (207).