الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكما هو المعتاد -أيها الأحبة- أنه عند ختم الباب من أبواب رياض الصالحين، نورد بعض الآثار المنقولة عن السلف في هذا الباب.
فمن ذلك: أنه اجتمع في الحجر -حجر الكعبة-: مصعب بن الزبير، وعبد الله بن الزبير، وعروة بن الزبير، وابن عمر. فقالوا: "تمنوا".
فقال عبد الله: "أما أنا فأتمنى الخلافة" يعني: القائل هو: عبد الله بن الزبير .
وقال عروة: "أن يؤخذ عني العلم".
وقال مصعب: "أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين".
وأما ابن عمر، فقال: "أتمنى المغفرة، فنالَوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له"[1] هذا كلام الذهبي -رحمه الله-.
وفي بعض الروايات: أنَّ معهم مروان عبد الملك بن مروان، فقال: "أما أنا فأتمنى الخلافة" فحصلت له الخلافة.
يقول رياح القيسي: "لي نيف وأربعون ذنبًا، قد استغفرت الله لكل ذنب مائة ألف مرة"[2] يعني: هو عارف عدد الذنوب، "لي نيف وأربعون ذنبًا" هو يعرفها، بخلاف حالنا فلكثرة ذنوبنا لا نحصي ذلك، وتأتينا المصائب والبلايا التي هي من جملة أثار ذنوبنا ومعاصينا، ولا نعرف من أين أوتينا؟ لا يعرف الإنسان لكثرة ذنوبه ومعاصيه من أين يؤتى؟ هل هو بسبب هذا الذنب؟ أو بسبب ذاك؟ هؤلاء أحصوا ذنوبهم، وعرفوا كيف يقدمون على الله -تبارك وتعالى-؟ وبأي بضاعة يقدمون؟ فهم يعالجون هذه الذنوب، ويتوبون، فهذا يستغفر من هذه الذنوب المعدودة، يستغفر لكل ذنب مائة ألف مرة، مائة ألف مرة لكل ذنب، فما مقدار ما نستغفر؟!
أصاب أهل الأندلس قحط، فجاء رسول من الخليفة، أو السلطان إلى القاضي آنذاك، وهو المنذر البلوطي، يدعوه فيه للخروج، يعني: أن الملك الناصر لدين الله يدعوه لأن يخرج معهم للاستسقاء في هذا الجدب، فلبس الملك في هذا الجدب ثوبًا خشنًا، وبكى واستغفر، وتذلل لربه، وقال: "ناصيتي بيدك لا تعذب الرعية بي، لن يفوتك مني شيء" يناجي ربه، ويقول: "لا تعذب الرعية بي" بسببي، فبلغ هذا الكلام إلى القاضي المنذر البلوطي، فتهلل وجهه، وقال: "إذا خشع جبار الأرض يرحم جبار السماء" فاستسقوا، ورحموا[3].
يعني: أغيثوا، نزل عليهم المطر.
وهذا هو اللائق أن يتحلل الناس من المظالم والذنوب والآثام بالتوبة، وكثرة الاستغفار، وأن يخرجوا في حال من الخشوع والخضوع، والإخبات، والتواضع، والتذلل لربهم ومليكهم ، وأن يظهروا المسكنة والفقر؛ ولهذا ذكر بعض أهل العلم: أنهم يخرجون الصغار الأطفال حتى أن بعضهم يخرج بهائمه، علّ الله أن يرحمهم، ويكثرون من الدعاء والإلحاح على الله ، ويقدمون بين يدي ذلك بالصدقة، فمثل هؤلاء حري أن يغاثوا، وأن يمطروا، أما أن يخرج الناس على حال تشبه الاستغناء، وكأنها تحلة قسم، ولا يخرج منهم إلا النزر اليسير، ثم يصلون صلاة قصيرة، بدعاء قصير، يستحي الإنسان أن يخاطب به ربه -تبارك وتعالى-، وأن يتوجه به إليه، ثم بعد ذلك ينتظر الإنسان أن يغيثه ربه -تبارك وتعالى-.
ولهذا في كثير من هذه الاستغاثات التي نستغيثها، يأتي ضد ما يرجيه الناس، يأتيهم الغبار بعدها، في سنين مضت، أو قد ينزل المطر، ولكنه لا يخرج النبات، كما نشاهد في هذا العام، نزلت أمطار كثيرة جدًا، ولم يخرج شيء من النبات يذكر إطلاقًا، كأن الأرض لم تمطر، ففرق بين المطر والغيث، فالناس إذا استغاثوا يقولون: اللهم أغثنا، ما يقول: أمطرنا، يقولون: اللهم غيثًا، ولا يقولون: اللهم مطرًا، فليست العبرة بنزول المطر، وإنما العبرة بما يغيث الله به البلاد والعباد، فتخرج الأرض بركتها.
فنسأل الله ألا يجعلنا من المحرومين.
وأختم هذا الباب، بسؤال وجه إلى ابن الجوزي -رحمه الله-، قيل له: أيهما أفضل أسبح أو أستغفر؟
فقال: "الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور"[4].
يعني: إن كان الإنسان صاحب ذنوب، ومعاصي وتقصير، وتفريط فهو بحاجة أكثر إلى الاستغفار، وإذا كان الإنسان في حالة من الصيانة، ومراقبة الله ، وحفظ حدوده، فهو لا يترك الاستغفار، ولكنه أيضًا يسبح معه فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3].
يعني: يستغفر متلبسًا بحمده، ويسبح متلبسًا بحمده، فيجمع بين هذا وهذا، فكان هذا الجواب، هذا يقول: أفعل هذا أو هذا؟ أسبح أو أستغفر؟
قال: "الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور" يعني: الاستغفار هو بمنزلة الصابون، حتى ينظف هذا الثوب، ينظف هذه المعاصي والذنوب، والبخور هذا التسبيح هو يطلب به الزيادة.
فالاستغفار يطلب به التنظيف والإزالة للذنوب وآثارها، وأما التسبيح فهو يطلب به رفعة الدرجات، وتحصيل الحسنات والأجور، وما شابه ذلك.
هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/141).
- جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (2/415) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/174).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (15/563).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (21/371).