الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث ««لقاب قوس في الجنة..» إلى «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي بيان ما أعد الله للمؤمنين في الجنة، أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لقابُ قوس أحدكم في الجنة، خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب[1] متفق عليه.

قوله: لقاب قوس قاب القوس هو ما يكون بين المقبض، والقوس معروف، هو الذي يرمى به، فهو ما بين المقبض وأحد الطرفين، والقوس- كما هو معلوم- له طرفان منحنيان، يُربط بهما الوتر، وهذا الطرف يقال له: السيه، فما بين المقبض والسيه فقط، يعني نصف هذه الآلة التي يُرمى بها، كم يبلغ طولها؟ متر؟ قريب من المتر؟ أكثر بقليل؟ فنصفها نصف متر تقريبًا، وإن كانت تتفاوت في أطوال هذه الأقواس، هذا القوس الذي يُرمى به السهام (النبل) فنصفه فقط مقدار سوط تقريبًا في الجنة خير من الدنيا وما فيها، هنا قال: خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب هذا يُعبر به عن جميع ما على وجه الأرض.

يقول: خير مما تطلع عليه الشمس انتشر هذا الأمر انتشار الشمس، أي: سار مسير الشمس، لا يقصدون أن بعض الأماكن لا تأتي إليها الشمس كالقطبين مثلاً، ليس هذا واردًا، وإنما يقصدون أن ذلك يشمل جميع ما على وجه الأرض في مشارقها ومغاربها، هذا الموضع اليسير من الجنة خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب إذًا الموضع الكبير مثل هذه اللؤلؤة التي مضى الكلام عليها في قوله ﷺ: إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضًا[2]، قلنا: جاء في رواية: عرضها ستون ميلاً[3]، يعني: الستين ميلاً في بعض القياسات، وبعض الحسابات يصل إلى مائة وثمانين كيلو متر، هذا الارتفاع، والعرض كذلك، والطول إن لم يكن كذلك فهو أكثر، وفي أقل تقدير أن الستين ميل ستة وتسعين كيلو ونصف، يعني: أبعد مما هنا والأحساء في بعض التقديرات، بمائة وثمانين كيلو، يعني وخذ الارتفاع في مثله، هذه لؤلؤة واحدة، إذا كان موضع السوط أو قاب القوس يعني نصف القوس هذا خير مما طلعت عليه الشمس، إذًا اللؤلؤة هذي كم تساوي؟ وكم تبلغ؟ وكم تقدر؟ أكبر تاجر ولو تضامن التجار على وجه الكرة الأرضية قاب قوس خير مما طلعت عليه الشمس، هل يستطيعون أن يبذلوا ثمنًا لقاب قوس؟ أبدًا، هل يستطيعون بذل ثمن لهذه اللؤلؤة المجوفة من لؤلؤ؟ أحيانًا فقط يكون إيجار المخيم الضخم لمناسبة كبيرة واحتفال كبير لربما يصل ملايين، وهذا يعرفه أهل الشام، وهنا لؤلؤة واحدة مجوفة ارتفاعها ما يقرب من مائة وثمانين كيلو، والعرض كذلك، والحديث ليس من الأحاديث الضعيفة، بل هو في الصحيحين، وذكر النبي ﷺ فيه الأميال، وهنا قاب القوس، والحديث أيضًا متفق عليه، إذا كان قاب القوس هكذا إذًا هذه اللؤلؤة لو قدمت الأرض بكم تكون بما فيها من كنوز وجواهر، الذي استخرج والذي ما استخرج وبترول وكنوز في الأماكن المجهولة والخربة ومعادن والثروات والأموال الذي بأيدي الناس والمزارع والعمائر والعقارات وكل شيء قدم لا يساوي هذا الموضع من الجنة، وهو قاب قوس، فكيف بهذه اللؤلؤة مثلاً أو القصر في الجنة أو الحورية من حور الجنة؟! فحري بمن أيقن بذلك أن يجعل الآخرة نُصب عينيه، والله ذكر هؤلاء الأنبياء الكبار إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ۝ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:45-46] أي: جعل لهم هذه الخاصة والصفة أن الآخرة هي الغاية، يعملون من أجل الآخرة، وليس العمل من أجل الدنيا، ويدخل في الدنيا ليس فقط الدرهم والدينار الذي يحصله الإنسان، ويتكالب الناس عليه، فيه شيء أعظم، ويدفع من أجله الدرهم والدينار، وهي حظوظ النفس، يترفع الإنسان يكون له سيادة ورئاسة، وأن يكون له جاه، وتتضخم كلمة (نحن) و(أنا) فهذه أعظم من الدرهم والدينار، وتدفع من أجلها الملايين، طلبًا للمنزلة والمحمدة والسيادة والرئاسة، وتجدون هذا أحيانًا في أمور بسيطة وانتخابات بسيطة، وانتخابات بلدية، وأشياء ما لها ذاك الأثر، ومع ذلك قد تجد هذا يفتح مخيم، ويطعم الطعام، وينفق ويبذل ويتبرع صدقات وأشياء، وهذا من أجل شيء يسير، يظن أنه يحصل له به مطلوبه أو لا يحصل، فيبذل الملايين في حملته الانتخابية، فأقول: هذه الأشياء التي تطلبها النفوس أنواع، ولا يتوجه الذهن دائمًا حينما نقول: والله من أجل الدنيا، والعمل للدنيا، إنه من أجل الدرهم والدينار، هذا جزء، لكن في شيء أخطر من الدرهم والدينار، وقد لا يكون عنده درهم ودينار، لكن هناك أشياء تعشش في قلبه، يوالي ويعادي عليها، وقلبه معلق بها، لا يمس هذه الجوانب أحد، هذا الجناب المحترم، هو يرى أنه ينبغي أن لا  يضحي أو أن يضع شيئًا من رأيه، ولا من قناعاته، من أجل أن يلتئم مع إخوانه.

ثم ذكر حديث أنس أن رسول الله ﷺ قال: إن في الجنة سوقًا يأتونها كل جمعة[4]، السوق يعني: مجتمع، يجتمعون فيه، كما يجتمع الناس في الدنيا في أسواقها.

يأتونها كل جمعة قال بعض العلماء: مقدار الجمعة؛ لأنه ما في شمس، وإنما مقدار جمعة، يعني: مقدار أسبوع، وحينما يقول قائل: كل شيء في الجنة مبذول، يقال: هناك لذات، ومتع أخرى، فالجنة فيها جميع أنواع هذه المتع، فمجامع الناس -هذه والأسواق- وما إلى ذلك، هي نوع من المتعة، فيجدون ذلك في الجنة، لكن بصورة أخرى تمامًا، فيذهبون كل جمعة.

فتهب ريح الشِّمال لاحظ هنا عبَّر بالريح، وتسمعون أحيانًا أن كل ريح في القرآن فهي عذاب، وليس هذا على الإطلاق، الغالب في القرآن أن الريح تكون للعذاب، والرياح للرحمة، وليس دائمًا، حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ [يونس:22] وهنا في الحديث: فتهب ريح الشمال هذه في الجنة وليست بعذاب قطعًا ريح الشمال كما قال زهير:

شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ من ماء مَحْنِيَةٍ صافٍ بأَبْطَحَ أضْحَى وهو مشمولُ[5]

في قصيدته التي يعتذر بها للنبي ﷺ، فيصف هذا الماء الذي تهب عليه رياح الشمال، ورياح الشمال عند العرب لها معنى آخر، بمعنى أنها هي التي تأتي بالمطر، فالتي تأتي من قبل الشام هي المبعثرة التي تبعثر الأرض والتراب والغبار بين يدي المطر، تلاحظون أحيانًا تهب الريح، ثم بعد ذلك يتصاعد التراب من الأرض ويتحرك بقوة، ثم بعد ذلك ينزل المطر، فهذه ريح الشمال إذا جاءت استبشر العرب بالمطر؛ لأنه يأتي من قبل الشام، يعني السحاب.

فتحثو في وجوههم وثيابهم ماذا تحثو في الجنة؟ غبار؟ لا يوجد في الجنة غبار، وليس فيها تراب، إنما تحثو الطيب، فالجنة ترابها المسك، فتحثو في وجوههم وثيابهم الطيب.

فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم، وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً هم في المرتبة العالية في الجمال، ومع ذلك الكمال مراتب، فهذا الكمال يتجدد ويزداد حينًا بعد حين، بقاء بلا انقضاء، وجمال يزداد كل جمعة، هذا النعيم -أيها الأحبة- والمآل والمصير والمستقبل الحقيقي الذي ينبغي أن نفكر فيه، وأن نخطط له، والإنسان يخطط ويخطط ويخطط، وعنده آمال، وما علم أن الموت أحيانًا ينتظره من ليلته، أو من غده، ثم ما يريد أن يفعل، يريد أن يعمل، يريد أن يؤسس، يريد أن يبني، ثم بعد ذلك تخترمه المنية، وحتى لو حصل هذه الأشياء كأنها أحلام تمضي، وإذا سكن أحسن الدور والقصور حتى المناظر واللوحات التي تستهوي الناظرين، وإذا دخل إنسان جديد ينبهر وينظر في هذه الثريات، والمناظر واللوحات والجماليات، لكن صاحبه يألفه، فما عادت هذه الأشياء تُؤثر فيه إطلاقًا، وليس لها طعم، وهكذا توارد النعم في الدنيا؛ ولذلك تجد الناس الذين يرفهون، يعني عندهم في البيت أنواع الفواكه والمطاعم والتمور الجيدة والحلوى الجيدة، يجبرون إجبارًا أحيانًا على الأكل، وما يأكلون يجبرهم أهلهم، ولا يأكلون؛ لماذا؟ لأنهم ملوا هذا وسئموه، لكن لو جئت بإنسان ما رآه فقير لتهافت عليه، وأنا رأيتُ رجلاً فقيرًا جلس في مجلس كهذا، يأكل بطريقة غير عادية، وينظر إلى الآخرين  بطريقة غير عادية، يعني: كأنه في غاية الجوع، يخشى أن يسبق على هذه الأشياء، يفطر في رمضان مع أناس وضعوا أشياء لربما ما رآها قط، جلس يأكل بطريقة لربما من نظر إليه يحرج وهو يرى هذا المشهد، لكن أولئك الذين تربوا في أحضان نعمة، وحياة مخملية -كما يقال- لا يريدون الأكل، ولا يجدون له طعمًا، فهكذا -أيها الأحبة- سائر هذه النعم، الآن تركب السيارة، ولا تجد في بالك، لكن الذي لم يركبها قط، وما رآها، يتمنى فقط أن ينظر إليها، أليس كذلك، والذي ما ركب الطيارة، كالسابقين، ماذا كانوا يقولون في أسفارهم؟ يتمنى لو أنه يطير حتى يصل إلى المكان الفلاني، والآن الناس جالسين فوق السحاب، والسحاب تحتهم، وهو يحتسي كوبًا من القهوة، كما يقال، ويقرأ جريدة، ولا يحرك هذا فيه قليلاً ولا كثيرًا؛ لماذا؟ لأنه ألفه، لكن لو جئنا بأحد الأشخاص قبل ثلاثمائة سنة، وأريناه الطيارة من بعيد، وهي تطير، وأريناه وهي في الأرض لا يصدق، قلنا: أركب، ورفعناه فوق السحاب، لربما طار صوابه، وفقد عقله، أليس كذلك؟ فهذه يذهب الشعور بها.

فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازدتم بعدنا حسنًا وجمالاً رواه مسلم.

لاحظ حتى في الجنة أن الأهلين لا يذهبن معهم إلى الأسواق، طيب هل تفقد هذا الحسن والجمال؟ لا، حور مقصورات في الخيام، بعدين الجنة ما فيها ريبة، لكن جمال المرأة في ماذا؟ في بقائها في خدرها مصونة جوهرة محفوظة، أما الخراجة الولاجة فيذهب بهاؤها ورونقها؛ ولهذا قال الله : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] قرن: بالكسر على القراءة المتواترة[6]، التي فسرت بأن ذلك من الوقار، والقرار مرتبط بالوقار، وعلى قدر قرارها يكون وقارها، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فهنا في الجنة الرجال هم الذين يذهبون إلى السوق، فإذًا من كمال المرأة أن يقل خروجها من دارها.

ثم ذكر حديث سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ قال: إن أهل الجنة ليتراؤون الغرف في الجنة، كما تتراؤون الكوكب في السماء[7]، وقد مضى الكلام على هذا في الحديث الآخر حديث أبي سعيد الخدري ولفظه: ليتراؤون أهل الغرف[8]، وهنا يتراؤون الغرف وبين الغرف وساكنيها ملازمة، كما لا يخفى، فهناك قال: أهل الغرف وهنا قال: الغرف وقلنا: الغرفة لا تقال عند العرب إلا للتي تكون في الأعلى، فوق.

كما تتراؤون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب[9]، وهنا قال: ليتراؤون الغرف في الجنة كما تتراؤون الكوكب في السماء يعني: أن أهل الجنة أيضًا في غاية التفاوت في النعيم والمنازل، كما يتفاوت أهل الإيمان في الدنيا بأعمالهم وإخلاصهم وتقواهم، فيحصل بيهم ذلك التفاوت في الآخرة، والجزاء من جنس العمل، فيكون عليهم من التخفيف عند الموت، وفي القبر، وفي المحشر، وعلى الصراط، وفي الجنة بحسب ما عندهم من الإيمان والتقوى.

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الغدوة والروحة في سبيل الله، وقاب قوس أحدكم من الجنة برقم (2793) ومسلم في الإمارة، باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله برقم (1882).
  2. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم (3243) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين برقم (2838).
  3. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ} [الرحمن: 72] برقم (4879) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين برقم (2838).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال برقم (2833).
  5. ديوان كعب بن زهير (ص:46).
  6. هي قراءة ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي، كما في السبعة في القراءات (ص: 522).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار برقم (6555) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف... برقم (2830).
  8. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم (3256) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف برقم (2831).
  9. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم (3256) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف برقم (2831).

مواد ذات صلة