بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فهذه أولاً خلاصة مختصرة عن الكتاب الذي بين أيدينا والمسمى بـ(المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير)، وفي ترجمة مؤلفه، فالكتاب هو المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير، وأصل كتاب المصباح المنير هو تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير -رحمه الله–ومؤلفه مشهور معروف وإمامٌ من أئمة الدين، كانت له الإمامة في عصره في الفقه والحديث والتفسير وفي جملة العلوم.
اسمه:
هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البُصروي -نسبةً إلى بُصرى- ثم الدمشقي؛ لأنه انتقل إليها بعد ذلك في صغره.
مولده ونشأته:
ولد بمِجدل، وهي قريةٌ من أعمال بصرى، وذلك سنة إحدى وسبعمائة للهجرة، وكان أبوه خطيب قريةٍ، مات وهو في الرابعة من عمره، فرباه أخوه الشيخ عبد الوهاب، وعلمه في مبدأ أمره، ثم انتقل إلى دمشق الشام سنة ستٍ وسبعمائة في الخامسة من عمره.
شيوخه:
من أشهر شيوخه: الحافظ المزي، وشيخ الإٍسلام ابن تيمية -رحمه الله، والحافظ الذهبي، وكان شديد الالتصاق بالحافظ المزي -رحمه الله، ثم تزوج ابنته.
مؤلفاته:
مؤلفات ابن كثير كثيرة ومشهورة من أجلِّها هذا التفسير، وله كتاب كبير معروف في التاريخ، وهو المسمى بكتاب: "البداية والنهاية".
وفاته رحمه الله:
كانت وفاته -رحمه الله- بعد ما عمي بصره بدمشق سنة أربعٍ وسبعين وسبعمائة.
حول كتاب المصباح المنير:
الذين اختصروا هذا التفسير هم جمع، والذي أشرف عليه هو الشيخ صفي الدين، أو صفي الرحمن المباركفوري، وهو من مشايخ أهل الحديث من أهل الهند، وهو موجودٌ في المدينة النبوية في الجامعة الإسلامية [1]، ولديَّ منه إسناد من طريق الشوكاني بكل ما رواه الشوكاني من كتب التفسير والحديث وغيره.
أما ما يتعلق بطريقة هذا المختصر، فهي طريقةٌ وصفوها في أوله، ومشوا عليها، وطبقوها إلى حدٍ كبير، ويعرف ذلك بالمقارنة، فإذا قارنت بين هذا التفسير، وبين تفسير ابن كثير -رحمه الله- الأصل- عرفت ذلك، فهذا يمكن أن نقول بأنه من أجل مختصرات هذا التفسير ومن أحسنها ومن أنفعها، ونستطيع أن نقول بكل اطمئنان: إن من قرأ هذا الكتاب فقد قرأ ابن كثير، وإنما حذفوا منه الروايات الضعيفة، وبعض ما لا حاجة له أيضاً كالروايات الإسرائيلية -وهي قليلة أصلاً- وأما عبارة ابن كثير فقد أبقوها كما هي تقريباً.
ومن مختصراته أيضاً عمدة التفسير وهو قريب الشبه جداً بهذا المختصر، حتى إنك لا تكاد تجد فرقاً بين الكتابين من حيث الجملة، وإن وجدت بعض الفروق فهي قليلة غير مؤثرة.
وممن اختصر تفسير ابن كثير الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- وهو أهلٌ لاختصار هذا الكتاب إلا أن المصباح المنير يتميز عن مختصر أحمد شاكر بأمرين:
الأمر الأول: هو أنهم هنا جعلوا الآيات والأحاديث مضبوطةً مشكولة.
والأمر الثاني: أنهم استغنوا عن الروايات الصحيحة المكررة في المعنى الواحد، فلم يبقوا إلا الرواية التي يُحتاج إليها كأن تكون تفيد معنى جديداً.
وعلى كل حال هذا المختصر مع مختصر أحمد شاكر هما أفضل هذه المختصرات جميعاً، بل إن بعض تلك المختصرات الأخرى لا يصلح أن تقتنى إطلاقاً، وليعلم طالب العلم وغيره أن الاختصار فنٌّ وليس مجرد شطبٍٍ بالقلم.
منهج ابن كثير في التفسير:
إن ما يتعلق بمنهج الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في التفسير يمكن أن نذكره على سبيل الإجمال فنقول: إن تفسير الحافظ ابن كثير يعد من كتب التفسير بالمأثور من حيث الجملة، ويوجد فيه قدر صالح من التوجيه والتعليل والترجيح، وبيان المعاني مما يتعلق بالاجتهاد والنظر والرأي، ولهذا لو قال قائل: إن تفسير الحافظ ابن كثير يجمع بين الدراية والرواية، وبين التفسير بالمأثور والتفسير بالنظر والاجتهاد والرأي، لما كان ذلك بعيداً عن مطابقة الواقع، فهذا التفسير هو كذلك.
كانت التفاسير التي تذكر الروايات قديماً كتفسير ابن أبي حاتم، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني، وأمثال هذه التفاسير -وعلى طريقتها سار السيوطي في الدر المنثور- كانت تورد الروايات فقط، تسردها سرداً من غير ترجيح، ولا بيان وجه روايةٍ ولا معنى.
إلى أن جاء كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- فصار يرجح ويعلل، ويبين من المعاني ما يتعلق بالتصريف واللغة وما إلى ذلك، فصار تفسيره جامعاً بين هذا وهذا.
وجاء الحافظ ابن كثير -رحمه الله- واستفاد من هذه الطريقة، فجمع بين هذا وهذا، لكن ينبغي أن يُعلم أن كتاب التفسير لابن كثير تفسيرٌ مستقل وليس مولداً من تفسير ابن جرير الطبري -رحمه الله، وليس بتهذيب ولا مختصرٍ له، بل أنشأه الحافظ ابن كثير –رحمه الله- وقصد تأليفه من غير ارتباط بكتابٍ آخر يكون أصلاً له، خلافاً لما يظنه بعض الناس من أن هذا التفسير يعتبر تهذيباً، أو اختصاراً لتفسير ابن جرير، فهذا غير صحيح إطلاقاً، ولا يقول هذا من عرف الكتابين.
"الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، قال الشيخ الإمام الأوحد البارع الحافظ المتقي عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن أبي الخطيب أبي حفص عمر بن كثيرٍ الشافعي -رحمه الله تعالى ورضي عنه: "الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ1-3 سورة الفاتحة، وافتتح خلقه بالحمد فقال تعالى: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ1 سورة الأنعام، واختتمه بالحمد فقال بعد ما ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ75 سورة الزمر".
ليس من شأننا الاشتغال بشرح المقدمة، لكن يُعلَّق على ما يحتاج إلى تعليق، وهكذا الأمر في التفسير، لكن هنا في قوله: "الذي افتتح كتابه بالحمد فقال: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هذا بناءً على القول بأن ترتيب السور أمرٌ توقيفي، وهذا القول لا شك أنه مرجوح.
وعلى كل حال إذا قلنا: إنه ليس توقيفياً فمعنى ذلك أن القرآن لم يفتتح بالحمد، ولكنه شيءٌ ارتضاه الصحابة -، فسورة الحمد ليست هي أول ما نزل قطعاً، بل أول ما نزل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 سورة العلق، وليست سورة الحمد أيضاً هي أول ما افتتح به القرآن من حيث الترتيب الذي جاء من عند الله ، وإنما الترتيب الذي رتبه الله -تبارك وتعالى- إنما هو ترتيب الآيات في السورة الواحدة، كما قال زيد بن ثابت: كنا عند رسول الله ﷺ نؤلف القرآن من الرقاع [2]: يعني ترتيب الآيات.
وأما ترتيب السور فأحسن ما قيل فيه -والله أعلم- هو قول الإمام مالك -رحمه الله: إن الصحابة راعوا فيه ما رأوا من غالب حال النبي ﷺ في قراءته.
"ولهذا قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ70 سورة القصص، فله الحمد في الأولى والآخرة، أي: في جميع ما خلق وما هو خالق، هو المحمود في ذلك كله، كما يقول المصلي: اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد. والحمد لله الذي أرسل رسله مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ165 سورة النساء، وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي، الهادي لأوضح السبل، أرسله إلى جميع خلقه من الإنس والجن من لدن بعثته إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ158 سورة الأعراف، وقال تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ19 سورة الأنعام، فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم وأسود وأحمر وإنس وجان، فهو نذير له، ولهذا قال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ17 سورة هود، فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا فالنار موعده بنص الله تعالى، كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ44 سورة القلم، وقال رسول الله ﷺ: بعثت إلى الأحمر والأسود [3]، قال مجاهد: يعني الإنس والجن.
فهو -صلوات الله وسلامه عليه- رسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، مبلغاً لهم عن الله تعالى ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز، الذيلَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ42 سورة فصلت.
وقد أعلمهم فيه عن الله تعالى أنه ندبهم إلى فهمه، فقال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا82 سورة النساء، وقال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ29 سورة ص، وقال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا24 سورة محمد.
فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله وتفسير ذلك، وطلبه من مظانه، وتعلّم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ187 سورة آل عمران، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ77 سورة آل عمران.
فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله المنزل إليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها، واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله.
فعلينا أيها المسلمون أن ننتهي عما ذمهم الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به من تعلم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه وتفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ16-17 سورة الحديد، ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك يلين القلوب بالإيمان والهدى بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله المؤمل والمسئول أن يفعل بنا هذا إنه جواد كريم".
إن الركنين اللذين يقوم عليهما الاتعاظ بمواعظ القرآن والتأثر به هما: فهم معاني القرآن، وتجلية القلب.
وهنا في قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، ثم قال بعده: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا: فيه إشارةٌ إلى هذا المعنى، بمعنى أن تدبر القرآن وفهم معانيه يحصل به المقصود من التأثر والاتعاظ، وحياة القلب، وما أشبه ذلك مما هو مقصودٌ للمسلم حينما يقرأ كتاب الله ، فإنه يقرأ هذا القرآن من أجل العمل بما فيه، وفهم معانيه، ومن أجل أن يؤجر وأيضاً من أجل أن يتعظ بمواعظه، وللأسف نحن نقرأ من أجل البركة ومن أجل أن نؤجر.
هذا الكلام الذي سيذكره فيما يتعلق بطرق التفسير، وما يتصل بأصول التفسير في هذه المقدمة عامته من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التي تسمى: "مقدمة في أصول التفسير".
يعني أصح طرق التفسير تفسير القرآن بالقرآن، فيفسر القرآن بالقرآن يعني من حيث جنس الطريقة، لا من حيث الآحاد والأفراد؛ فإن ذلك يدخله الاجتهاد، بحيث إن المفسر ربما ربط بين آيتين وليس بينهما ارتباط، ولكن وقع ذلك في ذهنهفأخطأ، ومن هنا نقول: إن تفسير القرآن بالقرآن هو أفضل طرق التفسير من حيث الجنس، ولا يعني هذا أن كل من فسر القرآن بالقرآن في المثال المعين أنه مصيب، وأن تفسيره يجب أن يوقف عنده,إطلاقاً، وإنما هنا وقع اجتهادمنالمفسر، فقد يصيب وقد يخطئ، فينبغي أن نفرق في هذا.
ولهذا فإن تفسير القرآن بالقرآن منه ما هو ظاهر واضح كتفسير: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ6 - 7 سورة الفاتحة، مع قوله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا69 سورة النساء.
ومنه ما يكون بعيداً غاية البعد، ومنه ما يكون بين ذلك، يعني فيه احتمال ولكنه لا يقطع به، فليس تفسير القرآن بالقرآن على مرتبةٍ واحدة من حيث الأفراد والتطبيقات.
"فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا105 سورة النساء، وقال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ64 سورة النحل، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ44 سورة النحل.
ولهذا قال رسول الله ﷺ: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه [4]، يعني السنة، والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن"
وهكذا يقال في تفسير القرآن بالسنة، فهو على قسمين من هذه الحيثية، بمعنى أن من تفسير القرآن بالسنة ما يدخل فيه اجتهاد المفسر، وذلك أن يربط بين الآية وبين حديثٍ لرسول الله ﷺ لم يقصد به النبي ﷺ تفسير الآية، ولم يذكرها أصلاً، فمثل هذا قد يخطئ فيه المفسر وقد يصيب، وهو أيضاً على هذه المراتب الثلاثة التي ذكرتها.
ومن هذا النوع: ما يكون النبي ﷺ تعرض للآية، إما ذكرها، وإما أنه سئل عنها، وإما أن أصحابه اختلفوا فيها، فبين لهم المعنى، أو غير ذلك، فهذا إذا صح إسناده فإنه لا يطلب غيره ولا يجوز تعديه، فالنبي ﷺ أعلم الناس بكتاب الله كما قال تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى3 - 4 سورة النجم.
"والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، وإذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك؛ لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد الله بن مسعود -.
روى الإمام أبو جعفر بن جرير عن عبد الله -يعني ابن مسعود- قال: "والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته" [5]. ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عمِّ رسول الله ﷺ وترجمان القرآن؛ ببركة دعاء رسول الله ﷺ له، حيث قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل [6].
وروى ابن جرير عن عبد الله -يعني ابن مسعود- قال: "نِعم ترجمان القرآن ابن عباس" وهذا إسناده صحيح.
وقد مات ابن مسعود في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعمِّر بعده عبد الله بن عباس ستاً وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود.
وقال الأعمش عن أبي وائل: "استخلف عليٌّعبدَالله بن عباس على الموسم، فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة -وفي رواية: سورة النور- ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا."
على كل حال تفاسير الصحابة لا نقول: إنها حجة بإطلاق، ولا نقول: إنها ليست بحجة هكذا بإطلاق، وإنما يقال: تفاسير الصحابة على أنواع، فهذه التفاسير المنقولة عن الصحابة إذا صح إسنادها تارةً تكون حجة، وذلك في أحوالٍ متعددة، منها: إذا أجمع الصحابة على أمرٍ فإن هذا الإجماع لا يجوز الخروج عنه أو مخالفته.
ومنها: إذا كان تفسير هذا الصحابي مما لا يتصل بالرأي، ولا يتعلق بالاجتهاد، ولا مدخل لذلك فيه بحالٍ من الأحوال، ولم يعرف بالأخذ عن بني إسرائيل، فمثل هذا يكون حجة، وذلك مثل الكلام في أسباب النزول؛ فإنها لا تقال من جهة الرأي، كذلك الإخبار عن الأمور الغيبية، فهذا يكون له حكم الرفع، وكذلك فيما إذا قال قولاً ولم يُعلم له مخالف من الصحابة فإنه في هذه الحالة لا تجوز مخالفته.
هذه ثلاث حالات يوقف فيها عند تفسير الصحابي ولا يخالف، سواء كان مستنده في ذلك اللغة، أو ما فهمه من بعض الأدلة فإنه لا يتعدى.
الحالة الأخرى: وهي أن يختلف الصحابة في تفسير الآية، فبهذه الحال لا يكون قول الواحد منهم حجة على الآخر، ففي هذه الحالة نتخير من أقوالهم ما يُعتقد رجحانه، يعني يرجح بينها بالأدلة.
إذن: إذا سئلت هل تفسير الصحابي حجة أو غير حجة؟ فلا تقل: حجة مطلقاً، ولا تقل: غير حجة، وإنما فيه التفصيل المذكور.
طبعاً للأسف إن عامة المرويات عن ابن عباس لا تصح، لا يصح من هذا الكم الهائل المنتشر في كتب التفسير الذي لا تكاد تفتح صفحة من كتب التفسير بالمأثور إلا وتجد فيها مرويات عن ابن عباس لا يصح منه إلا القليل جداً.
فعلى كل حال الإمام أحمد –رحمه الله- قال: إن ثلاثة كتب لا أصل لها، وذكر منها التفسير، وبغض النظر عن توجيه هذه الكلمة له –رحمه الله- لكن لا شك أن الرواية في التفسير دخلها الكثير، ولم يُعتنَ بها العناية التي حظي بها الحديث، ولذلك إذا أردت أن تطبق شروط المحدثين على جميع المرويات التي في التفسير فإنك في النهاية لن تخرج إلا بالقليل بالنسبة لهذا الكمّ الموجود من الروايات الكثيرة عن النبي ﷺ والصحابة وعن التابعين.
نعم، تذكر للاستئناس بها فقط لا للاعتضاد، بمعنى أنه لا يعتمد عليها، ولا يفسر بها القرآن، فنحن لا نفسر القرآن بالأحاديث الضعيفة، فكيف نفسرهبهذه الروايات التي لا يعرف لها إسناد أصلاً، ولا يمكن الوقوف على صحتها؟ إلا ما ذكره النبي ﷺ فحسب، وأما هذه التي في كتبهم، والتي تنقل عنهم عن كعب الأحبار، أو غيره، فإن هذه لا يمكن أن يعرف أنها صحيحة أو غير صحيحة بمجرد روايتها عنهم، ولكن ما وافق ما عندنا في الكتاب والسنة فإنه يعلم صحته بهذا الاعتبار فقط، أما من جهة الأسانيد، ودراسة الروايات فليس عندهم هذه الأسانيد أصلاً، وبالتالي فإنه على كل الأحوال هذه الروايات الإسرائيلية لا يفسر بها القرآن، والصحابة حينما أوردوها لم يكن ذلك اعتماداً لها في بيان معاني كلام الله ، وإنما من باب الاستئناس فيما لا يخالف ما في الكتاب والسنة.
ولم أر أحداً تكلم على هذه المسألة مثل الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في مقدمته في اختصاره لهذا التفسير في كتابه (عمدة التفسير)، فهو تكلم على هذه الروايات الإسرائيلية من هذه الحيثية بأنه لا يجوز الاحتجاج بها، وأنه لا يجوز أن يفسر بها القرآن.
ولا شك أن الأكمل والأفضل أنها لا تورد في التفسير أصلاً، ولذلك فإن من مميزات التفسير التي تذكر عادةً، بل إن ذلك ما عمِدإليه كثيرٌ من المفسرين وذكروه في أول كتبهم أنهم أرادوا أن يجردوه من الروايات الإسرائيلية، ولكن عامة من ذكر ذلك لم يستطع التخلص من إيراد شيءٍ منها، لكنهم بين مقلٍ ومكثر، فمنهم من أورد كثيراً من هذه الروايات، ومنهم من أورد قليلاً منها.
وابن كثير -رحمه الله- وقع في هذا في تفسيره، حيث له بعض الروايات القليلة، ولكنه عالمٌ نقاد ينتقد، وقد بين حال الروايات الإسرائيلية في أكثر من موضع من هذا التفسير، فهو تكلم عليها وأنه لا يحتج بها، وردَّ على هؤلاء الذين يكذبون ويفترون على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
هذا حكم الروايات الإسرائيلية وهو أن الروايات الإسرائيلية لا تخلو من ثلاثة أحوال:
إما أن توافق ما عندنا فتقبل، وإما أن تخالف ما عندنا -أي: تناقضه- فترد؛ لأنها كذب، وإما أنها لم يرد في الكتاب والسنة ما يوافقها ولا ما يخالفها فنتوقف فيها، لا نصدقها ولا نكذبها، وهذا الكلام ذكره الحافظ ابن حجر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، فهو معروف عند العلماء بطريق الاستقراء
هذه تفصيلات تركها الله ؛ لأنه لا فائدة في ذكرها، إنما القضية تتعلق بالمعنى، كإحياء الموتى، وأن الله نجَّى أهل الإيمان بالسفينة مع نوح ﷺ...الخ، ويبقى الجدل ما عدد أدوار هذه السفينة؟ وما نوع الخشب الذي صنعت منه؟ وأين السفينة الآن؟ وماذا بقي منها؟ ومن أول من ركب؟ ومن آخر من ركب؟ وكيف كانوا في أدوار هذه السفينة؟ وتفاصيل أخرى ليس لها حاجة ولا فائدة.
"وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم.
فصـل:
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر، فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال: "عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها".
وروى ابن جرير عن ابن أبي مليكة قال: "رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب حتى سأله عن التفسير كله"، ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية، فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافاً، فيحكيها أقوالاً وليس كذلك؛ فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء، بعينه والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك والله الهادي"
.يعني هذا فيه إشارة إلى الاختلاف الواقع في عبارات المفسرين من التابعين، وهذا الاختلاف الواقع عامته هو من اختلاف التنوع، وذلك أن هذا الاختلاف إنما هو اختلافٌ صوري وليس باختلاف حقيقي، فهو اختلاف في العبارة واللفظ، فتارةً هذا يفسر بالمثال وهذا يفسر باللازم، وهذا يفسر بعبارةٍ قريبة من عبارة الآخر، وما إلى ذلك مما هو معروف، فتقع الاختلافات في العبارات، لكن المعنى والمآل واحد، ومثل هذا لا يصح أن يعد من الخلاف فيقال: القول الأول والثاني والثالث والرابع..، ثم نحاول أن نجمع بين هذه الأقوال.
وأما الاختلاف الحقيقي -الذي يسمى اختلاف التضاد- فهو قليل فيما نقل من تفسير الصحابة مقارنةً بتفسير التابعين، والواقع في تفسير التابعين من الاختلاف الحقيقي قليل بالنسبة إلى من جاء بعدهم؛ وذلك أن الناس كلما بعُد العهد كلما ازدادت العجمة، واحتاج الناس إلى بيانٍ وتفصيل، وكلما ازداد التكلف عندهم أيضاً، فصاروا ينقّرون عن أمورٍ لم يكن من سبقهم ينقّر عنها، وكذلك أيضاً تقع من المستجدات والحوادث وما إلى ذلك مما يحتاجون معه إلى استنباط معاني ذلك وأحكامه من القرآن، فيقع بينهم الاختلاف بطبيعة الحال، وهذا أمرٌ لا بد منه، والله المستعان.
هو الآن تكلم عن التفسير بالمأثور، تفسير القرآن بالقرآن، وبأقوال الصحابة، وبأقوال التابعين، وبين أحكام ذلك، وهذا هو الذي يسمى التفسير بالمأثور، فكل ذلك هو من قبيل التفسير بالمأثور؛ لأنه مما يؤثر أن ينقل، وليس معنى ذلك أنه حجة، فليس هناك ملازمة إطلاقاً بين الحجية وبين التفسير بالمأثور، وبالتالي لسنا بحاجة إلى أن نشتط فنقول: إن التفسير بالمأثور هو ما نقل عن النبي ﷺ أو عن الصحابة مما يكون حجةً، فالتعريف بهذه الطريقة غير صحيح، وإنما التفسير بالمأثور هو كل ما يمكن أن يؤثر، فيدخل في ذلك أقوال الصحابة والتابعين.
ولو قلت: التفسير بالمنقول -بعيداً عن الاصطلاح لكلمة المأثور- فيمكن أن تُدخِل في التفسير بالنقل التفسيرَ بالقرآن وبأقوال الصحابة وبأقوال التابعين وبالإسرائيليات -مع أن هذا غير مرضي أصلاً- وبالسنة، وباللغة، فأنت حينما تنقل عن فلان من أئمة اللغة فهذا تفسيرٌ بالمنقول، لكنه لم يصطلح الناس على تسميته تفسيرًابالمأثور، وأقصد بهذا الكلام أن نجعل القضية ثنائية تفسير بالمنقول يدخل فيه هذا كله بحيث إن المفسر لا يكون له كد ولا جهد ولا اجتهاد في مثل هذا، وإنما هو يعزو فقط.
القسم الثاني الذي يقابله: هو التفسير بالاجتهاد، وهو الذي يسمونه التفسير بالرأي، فمثل هذا التفسير بالرأي، قال عنه: "وأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام",فقوله: "بمجرد الرأي" يقصد الرأي المجرد الذي لم يستند على أصل، فهذا هو المقصود، لا أن التفسير بالرأي حرام.
ولذلك تجد ابن جرير الطبري -رحمه الله- في مقدمته لتفسيره ذكر الآثار التي تدل على النهي عن تفسير القرآن والقول فيه بالرأي والتشديد في ذلك، ثم بعد ذلك ذكر جملةً من الآثار الدالة على تسويغ ذلك، يعني في الوقت الذي يتحرج فيه من تحرج، أو يرِد النهي فيه عن جماعة من الصحابة أو ورد فيه بعض الآثار المرفوعة تجد في هذا الوقتنفسهما يدل على تسويغ ذلك أيضاً، فيحمل النهي والتشديد والامتناع الذي حصل من الصحابة على لونٍ من التفسير بالرأي هو ما كان بالرأي المجرد من غير أن يستند إلى ما يجب أن يستند إليه التفسير من معرفة القرآن والسنة وأقوال السلف، ومواضع الإجماع، وقواعد الفن، وما أشبه هذا.
فمثلاً: إذا أردنا أن نفسر آية من الآيات,كقوله تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ1-3 سورة البقرة.
الم: هذه الحروف المقطعة هي من حروف المباني التي تبنى منها الألفاظ والكلمات، ليس لها معنى في أصلها، وإنما تشير إلى معنى وهو التحدي بهذا القرآن والإعجاز.
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ: ذَلِكَ: قد تستعمل للبعيد، ويدل على شرف القرآن ورفعته ومنزلته العالية.
الْكِتَابُ: أصله المكتوب، وأصل الكلمة من الضم والجمع، والمقصود به هذا القرآن وهو أحد أسمائه المشهورة.
لاَ رَيْبَ فِيهِ: نفى عنه الريب، وهذا يدل على اشتماله على اليقين الكامل..الخ..
هذا تفسير بالرأي، فهل هذا حرام؟ هل هذا الذي سمعتموه الآن يعتبر تفسيراً باطلاً؟
لا ليس باطلاً، بل هذا الكلام صحيح لا إشكال فيه، وليس هذا هو المعنيّ بالذم، لكن من قال في القرآن برأيه بمعنى أنه يتخرص ويتقول على الله ، ولا يبني ذلك التفسير على أصلٍ صحيح فهذا هو التفسير بالرأي الذي يُذم صاحبه ويُذم تفسيره، ويقال عمّن يفسر بهذه الطريقة: أخطأ وإن أصاب، بمعنى أن وقوعه على الصواب إنما كان ذلك مصادفةً، ولم يكن ذلك من باب أنه أتاه من وجهٍ صحيح، فهو ما بناه على مقدمات وأصول صحيحة، وإنما وقع على الصواب مصادفة، فهذا لا يجوز لا في التفسير ولا في غيره من الكلام في الأحكام، وبهذا نعرف المراد حينما يذم التفسير بالرأي ويشدد فيه، وإلا فإن تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- هو لا شك أنه من التفسير بالرأي.
"فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام؛ لما روى محمد بن جرير -رحمه الله تعالى- عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار [8]، وهكذا أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى ابن جرير عن أبي معمر قال: قال أبو بكر الصديق -: أي أرضٍ تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم! [9].
وروى أيضاً أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا31 سورة عبس، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر [10].
وهذا محمول على أنه إنما أراد استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يجهل، كقوله تعالى: فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا27- 28 سورة عبس، الآية".
يقصد أن معرفة نوع هذا النبات بالتحديد هو التكلف، يعني يكفي أن يعرف أن هذهنباتات امتن الله بإخراجها لهم مما يأكلون منه ومن ثمره، وكذلك تأكل منه دوابهم وأنعامهم، فيكفي أن يعرف هذا القدر، أما الاشتغال بتحديده بعينه فهذا الذي قصده بأنه من قبيل التكلف؛ لأن الله لم يكلفنا ذلك.
وروى ابن جرير عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها، إسناده صحيح [11].
وروى أيضاً عن ابن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عنيَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍَ؟5 سورة السجدة، فقال له ابن عباس: فمايَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ؟4 سورة المعارج، فقال له الرجل: إنما سألتك لتحدثني، فقال ابن عباس: "هما يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما"، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم" [12]ترك الجواب تورعاً
وإلا فإن ابن عباس يوجد عنه من الروايات الصحيحة ما جمع فيه بين مثل هذه الآيات التي ربما يفهم منها من لا يعرف وجه ذلك التعارض، فابن عباس تكلم في مثل هذه الأشياء وبيّنها، لكنهم قد يتركون الكلام من باب التورع.
"وقال الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: إنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن [13]، وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين: سألت عبيدة -يعني السلماني- عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيمَ أنزل القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد [14].
وروى الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن الصحابة وأئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ187 سورة آل عمران، ولما جاء في الحديث الذي روي من طرق: من سئل عن علمٍ فكتمه ألجم يوم القيامة بلجامٍ من نار [15]
ومما يدل على أنهم تكلموا كثيراً بما فهموا هذه الروايات المنقولة عنهم، وكذلك ما وقع بينهم من الاختلاف -اختلاف التضاد- فلو كان ذلك جميعاً مما أخذوه عن رسول الله ﷺ لما وقع بينهم مثل هذا الاختلاف.
فعلى كل حال من نظر في الروايات المنقولة عن الصحابة وعن التابعين، وجد في ذلك الكثير مما يقطع بأنهم قالوه باجتهادهم، ومنه ما رجعوا فيه إلى لغة العرب كما يظهر ذلك في أمثلةٍ واضحة، ومن أراد أن يقف على طرفٍ من آثار السلف التي تدل على تورعهم من التفسير وتحرجهم من الكلام على الله بغير علم فلينظر في مثل: مقدمة الدارمي، وكذلك في كتاب: جامع بيان العلم، للحافظ ابن عبد البر، وجمع شيئاً من ذلك الشاطبي في كتابه: الموافقات، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين...
- توفي المباركفوري –رحمه الله- في الهند يوم الجمعة العاشر من شهر ذي القعدة سنة 1427هـ.
- أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب – باب: في فضل الشام واليمن (3954) (ج 5 / ص 734)، وأحمد (21647) (ج 5 / ص 184)، وابن حبان (114) (ج 1 / ص 320)، والحاكم (2900) (ج 2 / ص 249)، والطبراني في الكبير (4933) (ج 5 / ص 158)، وابن أبي شيبة (19448) (ج 4 / ص 218)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3099).
- أخرجه أحمد (14303) (ج 3 / ص 304)، والدارمي (2467) (ج 2 / ص 295)، وابن حبان (6462) (ج 14 / ص 375)، والطبراني في الأوسط (7439) (ج 7 / ص 257)، وابن أبي شيبة في مصنفه (31643) (ج 6 / ص 303)، وإسناده صحيح كما قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج 1 / ص 317).
- أخرجه أبو داود في كتاب: السنة – باب: في لزوم السنة (4604) (ج 2 / ص 610)، بلفظ: ((الكتاب)) بدل: ((القرآن))، وأحمد (17213) (ج 4 / ص 130)، واللفظ له، وصححه الألباني في المشكاة برقم (163).
- أخرجه الطبراني في الكبير (8429) (ج 9 / ص 73)، والبزار في المسند (1969) (ج 5 / ص 343)
- أخرجه أحمد (2397) (ج 1 / ص 266)، وابن حبان (7055) (ج 15 / ص 531)، والطبراني في الكبير (10614) (ج 10 / ص 263)، وفي الأوسط (1422) (ج 2 / ص 112)، وابن أبي شيبة (32223) (ج 6 / ص 383)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2589).
- أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء – باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3274) (ج 3 / ص 1275).
- أخرجه الترمذي في كتاب: التفسير – باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (2951) (ج 5 / ص 199)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (114).
- أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (30103) (ج 6 / ص 136)، والبيهقي في شعب الإيمان (2278) (ج 2 / ص 424)
- أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (30105) (ج 6 / ص 136).
- تفسير الطبري (ج 1 / ص 62).
- أخرجه الحاكم في المستدرك (8803) (ج 4 / ص 652).
- تفسير الطبري (ج 1 / ص 62).
- تفسير الطبري (ج 1 / ص 62)، ومصنف ابن أبي شيبة (30099) (ج 6 / ص 135).
- أخرجه أبو داود في كتاب: العلم – باب: كراهية منع العلم (3658) (ج 2 / ص 345)، والترمذي في كتاب: العلم – باب: ما جاء في كتمان العلم (2649) (ج 5 / ص 29)، وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم – باب: من سئل عن علم فكتمه (264) (ج 1 / ص 97)، وأحمد (7561) (ج 2 / ص 263)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2714).