الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} الآية:41 إلى قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الآية:61
تاريخ النشر: ٢٨ / شوّال / ١٤٢٧
التحميل: 3644
مرات الإستماع: 20719

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ [سورة الرحمن:41] أي: بعلامات تظهر عليهم.

وقال الحسن وقتادة: يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون.

قلت: وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء.

وقوله: فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ أي: تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه، ويلقونه في النار كذلك.

وقال الأعمش عن ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدميه، فيكسر كما يكسر الحطب في التنور.

وقوله: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ أي: هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عيانًا، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا.

وقوله: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ أي: تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب، يقطّع الأمعاء والأحشاء، وهذه كقوله تعالى: إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ۝ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [سورة غافر:71، 72].

وقوله: آنٍ أي: حار وقد بلغ الغاية في الحرارة، لا يستطاع من شدة ذلك.

قال ابن عباس في قوله: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قد انتهى غلْيه، واشتد حرّه، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن، والثوري، والسدي.

وقال قتادة: قد أنَى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض، وقال محمد بن كعب القرظي: يؤخذ العبد فيحرّكُ بناصيته في ذلك الحميم، حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس، وهي كالتي يقول الله تعالى: فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ، والحميم الآن: يعني الحار.

وعن القرظي رواية أخرى: حَمِيمٍ آنٍ أي: حاضر، وهو قول ابن زيد أيضا، والحاضر لا ينافي ما روي عن القرظي أولا أنه الحار، كقوله تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [سورة الغاشية:5] أي حارة شديدة الحر لا تستطاع. وكقوله: غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [سورة الأحزاب:53] يعني: استواءه ونضجه.

فقوله: حَمِيمٍ آنٍأي: حميم حار جداً، ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك، قال ممتنا بذلك على بريته: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ نقل عن الحسن وقتادة: أي: بسواد الوجوه وزرقة العيون، فهذا مما يعرفون به، وهناك بعض الأوصاف الأخرى التي ذكرها الله ، من صفاتهم في البعث والمحشر ما يرهقهم من الذل، والله يقول: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [سورة يونس:27] من شدة الذل، وأخبر عن ذلك أيضاً بخشوعهم وسكون جوارحهم وخشوع أبصارهم كل هذا من العلامات التي يعرفون بها خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [سورة الشورى:45]، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران:106]، فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ.

وقوله هنا: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [سورة الرحمن:44]، كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في الجمع بين القولين: آنٍ أي متناهٍ في الحرارة، والقول الآخر: أي قد نضج، غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [سورة الأحزاب:53] أي: نضجه، من الآداب التي أدب الله بها المؤمنين أن لا يطيلوا المكث عند رسول الله ﷺ فيأتوا قبل تهيئته للقياهم وقبل نضج الطعام الذي جاءوا من أجله ودعوا إليه، أو أن يجلسوا بعد ذلك يستأنسون بالحديث، فجمع بين القولين غير ناظرين إناه قال هنا: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ أي حاضر وحار متناهٍ في الحرارة.

فهذا من أحسن ما يكون في التفسير، وهذه هي الطريقة الصحيحة؛ وذلك لأن الآية إذا احتملت معنيين فأكثر وكل معنى منها يشهد له القرآن أو السنة أو أن ذلك صحيح في كلام العرب ولا يوجد ما يمنع من حملها على الجميع فإن هذه المعاني تجمع، وهذا يوجد كثيراً في مثل هذا الكتاب، وأيضا في مثل تفسير ابن جرير وكلام الحافظ ابن القيم، وكلام شيخ الإسلام وفي مثل: "أضواء البيان" فهذه من أجلّ كتب التفسير.

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۝ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۝ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۝ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:46-53].

يقول تعالى: ولمن خاف مقام ربه بين يدي الله ، يوم القيامة، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [سورة النازعات:40]، ولم يطغ، ولا آثر الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض الله، واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان.

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ هذه الجملة تحتمل معنيين احتمالا قريباً، المعنى الأول وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ أي: خاف مقامه بين يدي ربه، وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ۝ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا [سورة الأنعام:27-30]، فهم يقفون على النار، ويقفون بين يدي الله للحساب.

خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ أي: خاف مقامه بين يديه هذا معنى تحتمله الآية، وهو اختيار ابن القيم -رحمه الله، والمعنى الثاني خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ أي: في اطلاعه عليه، قيام الرب -تبارك وتعالى- على العبد، الحي القيوم فمن معاني القيوم القائم بنفسه، المقيم غيره، القائم على خلقه في أرزاقهم وأقواتهم وآجالهم وأعمارهم كل هذا داخل تحت القيوم، خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ يعني قيام ربه "المَقام" اسم مصدر أي قيام ربه عليه وإشرافه، واطلاعه على أحواله وأعماله كلها فراقبه، وخافه، وحاسب نفسه كقوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الرعد:33]. 

وهذه الآية كقوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [سورة إبراهيم:14]، خَافَ مَقَامِي [سورة إبراهيم:14] يعني قيامي عليه واطلاعي عليه.

وتحتمل المعنى الآخر أيضا "مقامي" أي قيامه بين يديّ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [سورة النازعات: 40] ويمكن أن تحمل الآية على المعنيين خاف مقامه بين يدي الله ، وخاف أيضا مقام ربه أي قيام ربه عليه، واطلاعه على أحواله كلها، والشيخ محمد الأمين -رحمه الله- في الأضواء جمع بين المعنيين، فسر الآية بالمعنيين.

كما روى البخاري -رحمه الله- عن عبد الله بن قيس ؛ أن رسول الله ﷺ قال: جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن [1]، وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود، من حديث عبد العزيز، به.

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ خاف الله خاف قيامه بين يدي الله، خاف من ربه؛ لأنه مطلع عليه، جَنَّتَانِ له جنتان، قال بعض أهل العلم: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ جنة للخائف من الإنس، وجنة للخائف من الجن! وهذا فيه بُعد.

ومنهم من يقول: له جنتان جنة عدن، وجنة النعيم، هذه جنات للخائفين، وهذا اجتهاد من قائله.

ومنهم من يقول: الجنة هي البستان كما هو معروف في كلام العرب فله جنتان الجنة الأولى يعني كل إنسان له مقعد في الجنة، ومقعد في النار، فإذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ توارثوا مقاعد أهل النار في الجنة، وإذا دخل أهل النارِ النارَ توارثوا مقاعد أهل الجنة في النار، كما جاء في الحديث عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة[2]، يعني آمنتَ وعملت صالحاً.

وهكذا يقال للمؤمنين: هذا مقعدك من النار...، فيتوارث أهل الجنة مقاعد أهل النار، وأهل النار يتوارثون مقاعد أهل الجنة، وهذا من أعظم التغابن الذي أشار إليه قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [سورة التغابن:9] هؤلاء يتوارثون مقاعدهم في الحميم والغسّاق، وهؤلاء يتوارثون مقاعدهم بالنعيم واللذة والحبور، فهذا من التغابن.

فالحاصل أن الله يقول: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ هذا قول، والقول الأول يجري باعتبار أن الجنتين لهذا الخائف، يعني لكل خائف جنتان وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ يكون له ذلك، والآية تحتمل معنى آخر، وهذا تفسير من فسرها -والله أعلم، بجنة عدن مثلاً، وجنة النعيم أي للخائفين جنتان بحسب خوفهم وأعمالهم، فمنهم من يكون في جنة تكون أعظم نعيماً، ومنهم من يكون في جنة أخرى دونها كما سيأتي في وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [سورة الرحمن:62].

لكن قد يكون القول الأول أولى منه لأنك إذا تأملت الآيات وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، ثم قال بعد ذلك في صفتهما: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ۝ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۝ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ثم ذكر في صفتهما أيضا فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، ثم ذكر حالهم مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ۝ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:54، 55]، ثم قال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [سورة الرحمن:56] إلى أن قال: وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ، فالمرتبتين: الأولى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ثم ذكر أوصافها، والثانية: التي دونها وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ثم ذكر أوصاف الجنة الثانية -أوصاف الجنتين الثانيتن، يعني في المرتبة الثانية.

وسيأتي في المقارنة بين هذه وهذه أن الأولى أرفع وأكمل في النعيم في كل شيء من الثانية، ومعروف أن أهل الجنة يتفاوتون، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث: جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب..، فجنان الذهب أكمل من جنان الفضة، فهذا هو الذي حمل بعض أهل العلم إلى القول بأن التثنية هنا غير مرادة، وإنما على طريقة العرب حيث يعبرون بالمثنى عن المفرد أحيانا أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [سورة ق:24].

وبعضهم قال: هذا ليس خطاب التثنية، الخطاب لواحد، وهذا يحتاج إلى مناقشة أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ، يقولون كما تقول العرب: "افعلا ذلك" ويقصدون به الواحد، والخطاب للمثنى "اضربا عنقه" يعني اضرب عنقه، فالحاصل أن هذا لا يظهر هنا إطلاقاً، يعني وإن كان الاحتمال له وجه من النظر في سورة ق إلا أنه يستبعد هنا؛ لأن كل الأوصاف بالتثنية ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، لما قال: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، وقال: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ، فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فهذا يدل -والله تعالى أعلم- على أنهما جنتان حقيقة، وهذا في الدرجة العليا جنتان من فضة هذه مرتبة، وأعلى منها جنتان من ذهب، قال: جنتان من ذهب، والله تعالى أعلم.

وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وكثير من المفسرين يتحدثون عن هذه القضية في هذا الموضع، والسبب أنه يوجد من أهل العلم من قال: إن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة ولا ينعمون، وإنما ينجون من النار فقط، والكفار منهم يدخلون النار، والذي استدلوا به على أن الجن لا يدخلون الجنة آية من القرآن هي وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأحقاف:31]، ولم يقل: يدخلكم الجنة لكن الآيات لا تفهم بمفردها، وإنما في مقامٍ ناسب أن يقول: وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.

وهنا ذكر وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ والآيات التي بعدها تدل على أن الجن الصالحين منهم من يدخلون الجنة، ولم يصح أبداً عن الني ﷺ دليل واحد على أنهم لا يدخلون الجنة، ورد عن بعض السلف في هذا المعنى بعض الآثار، ولكن العبرة بقال الله، قال رسوله.

ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.

ثم نعت هاتين الجنتين فقال: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي: أغصان نَضِرَة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، هكذا قال عطاء الخرساني وجماعة: إن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضُها بعضا.

ذَوَاتَا أَفْنَانٍ قال: أي أغصان، والأفنان بهذا الاعتبار تكون جمع فنَنَ وهو الغصن، والأفنان هي الأغصان واحدها فنن، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي ذواتا أغصان، ويمكن أن يكون أفنان جمع "فن" بمعنى النوع والصنف، يعني تكون ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي ألوان لها أشكال، وصنوف من الثمار، فهذه الآية تحتمل هذا وهذا.

وبعضهم فسرها بمعنى ثالث ذَوَاتَا أَفْنَانٍ قال: فضل وسعة يتبين به فضلها عما سواها، وبعضهم فسر الأفنان بظل الأغصان لكن المشهور هو الأول الذي عليه عامة أهل العلم ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي أغصان جمع فنن وهو الغصن.

والقول الثاني اختاره ابن جرير ذَوَاتَا أَفْنَانٍ يعني الصنوف والأنواع جمع فن، تقول: فنون الكلام يعني ضروب الكلام، أنواع الكلام فنون الكتابة فنون الثمار، فنون يعني الصنوف والأنواع، وبعض العلماء يقول: الفنن هو الغصن المستقيم، ولذلك انظر الجنة التي بعدها -وسيأتي في المقارنة بينهما- قال: وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [سورة الرحمن:62] وذكر أنهما مُدْهَامَّتَانِ [سورة الرحمن:64]، قال: فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [سورة الرحمن:66]، وسيأتي في الكلام فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [سورة الرحمن:68]، فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [سورة الرحمن:70]، حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [سورة الرحمن:72] إلى آخره.

فالحاصل أن الأغصان هنا ذكرها ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، قال بعضهم: أي أن أغصانها ممتدة، وتلك وصفها بشدة الخضرة مُدْهَامَّتَانِ تضرب إلى السواد من شدة الارتواء.

وقوله: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي: أغصان نضرة حسنة تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة الجملة هذه قصد بها الجمع بين معنيين، وهذا مما تميز به تفسير ابن كثير -رحمه الله.

فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ أي: تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِقال الحسن البصري: إحداهما يقال لها: "تسنيم"، والأخرى "السلسبيل".

وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين.

الحسن -رحمه الله- أخذ التسمية من وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ۝ عَيْنًا [سورة المطففين:27، 28]، يعني التسنيم هذه هي عين فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ قال: إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل، لكن قد يكون هذا وقد لا يكون هو المراد، ولهذا اختلفوا فيه، انظر قول عطية بعده وهو بعيد قال: إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين.

ورد عليه بكل بساطة أن هذه أنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وأنهار من لبن، فقال: مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ [سورة محمد:15] والله أخبر أنه نهر من أنهار الجنة، وهنا عيون والعيون غير الأنهار.

ولهذا قال بعد هذا: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ أي: من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخيرٌ مما يعلمون، ومما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.

هذه الجملة فيها من كل فاكهة فيها صنفان، ومن أهل العلم من يقول: اليابس والرطب، وهذا لا دليل عليه، فالله أعلم به، لكن مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ: من كل فاكهة صنفان.

قال إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظلة.

الله -عز وجل- لم يقل: من كل ثمرة زوجان حتى يذكر الحنظل، وإنما قال: فاكهة والحنظل ليس من الفاكهة، ولا للحيوانات.

وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، يعني: أن بين ذلك بَونًا عظيما، وفرقًا بيّنا في التفاضل.

مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۝ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۝ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۝ هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:54-61].

يقول تعالى: مُتَّكِئِينَ يعني: أهل الجنة، والمراد بالاتكاء هاهنا: الاضطجاع، ويقال: الجلوس على صفة التربّع.

الاتكاء هو الاعتماد فالإنسان حينما يكون مستريحاً في جلوسه يتكئ أو إذا أراد أن يستريح في جلوسه اتكأ فهنا يذكر نعيمهم، ويصور حالهم في جلوسهم، والاتكاء هو الاعتماد.

مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ هنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر الاضطجاع هنا فسره بالاضطجاع باعتبار أنه ما ذكر شيئاً يُرتفَق به ويتكَأ عليه، لم يقل: على وسائد مثلاً، وإنما قال: على فرش فإذا كان الإنسان على الفراش مباشرة يعتمد فمعنى ذلك أنه مضطجع، من هذا الباب فسره بالاضطجاع، والله أعلم.

عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وهو: ما غلظ من الديباج، قاله عكرمة، والضحاك وقتادة.

الديباج وهو الإستبرق: الحرير الغليظ، يعني يصور الله -تبارك وتعالى- لنا نعيم أهل الجنة فالفرش بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ يعني العادة عندنا أن الجهة الداخلية أو السفلية للفراش تكون من أردأ أنواع القماش، ولو جئت لأفخم أريكة أو كنبة أو فراش أو نحو ذلك لوجدت أن الأسفل أرذل نوع يوجد عندهم في القماش يضعونه فيه لأنه لا يُرى مستور عن الأعين لاتمسه الأجساد فما الحاجة أن يوضع فيه شيء جيد؟ فهنا ما ذكر الله -تبارك وتعالى- الظواهر، الظواهر هذه لا تخطر في البال، لكن البطائن فقط البطانة من إستبرق، من الحرير الغليظ فما بال الظواهر؟!

هكذا حينما ذكر الله الجنة، وذكر النبي ﷺ أن ترابها المسك، إذا كان هذا التراب هو المسك فغير التراب أشياء لا يمكن أن يتخيلها الإنسان، فعن أنس بن مالك ، عن النبي ﷺ قال: لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها، ولَقَاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد -يعني سوطه- خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل النار لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها[3]، أشياء لا تخطر على البال، ركعتان في جوف الليل أو صيام يوم في سبيل الله أو كف النفس عن الأهواء والشهوات، والغفلة غلّابة.

وقال أبو عِمْران الجَوْني: هو الديباج المُغَرّي بالذهب، فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة، وهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى.

قال أبو إسحاق، عن هُبَيْرة بن يَرِيم، عن عبد الله بن مسعود قال: هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر؟

وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ أي: ثمرها قريب إليهم، متى شاءوا تناولوه على أي صفة كانوا، كما قال: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [سورة الحاقة:23]، وقال: وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا [سورة الإنسان:14] أي: لا تُمنع ممن تناولها، بل تنحط إليه من أغصانها، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الرحمن، برقم (4597)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ، برقم (180)، وابن ماجه، كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فيما أنكرت الجهيمة، برقم (186)، وأحمد في المسند، برقم (19682)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط البخاري.
  2. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه بالغداة والعشي، برقم (1313)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم (2866).
  3. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحور العين، وصفتهن يحار فيها الطرف، شديدة سواد العين شديدة بياض العين، برقم (2643).

مواد ذات صلة