الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[5] من قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} الآية:57 إلى قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الآية:74
تاريخ النشر: ٠٧ / ذو القعدة / ١٤٢٧
التحميل: 3245
مرات الإستماع: 5551

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ۝ أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ [سورة الواقعة:47، 48]؟ يعني: أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ۝ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [سورة الواقعة:49، 50] أي: أخبرهم يا محمد أن الأولين والآخرين من بني آدم سيجمعون إلى عَرَصات القيامة، لا نغادر منهم أحدًا، كما قال:ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ۝ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ ۝ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [سورة هود:103-105]، ولهذا قال هاهنا: لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي: هو موقت بوقت مُحَدَّد، لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص.

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ۝ لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ ۝ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [سورة الواقعة:51-53]: وذلك أنهم يقبضون ويُسجرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم، حتى يملئوا منها بطونهم، فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ۝ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [سورة الواقعة:54، 55]، وهي الإبل العطاش، واحدها أهيم، والأنثى هيماء، ويقال: هائم وهائمة.

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وعكرمة: الهِيم: الإبل العِطاش الظِّماء.

وعن عكرمة أنه قال: الهيم: الإبل المِراض، تَمص الماء مَصًّا ولا تَرْوَى.

وقال السدي: الهيم: داء يأخذ الإبل فلا تَرْوَى أبدًا حتى تموت، فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبدًا.

ثم قال تعالى: هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ أي: هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم، كما قال في حق المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [سورة الكهف:107] أي: ضيافة وكرامة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ قال: "هي الإبل العطاش" هذا هو المشهور الذي عليه عامة المفسرين سلفاً وخلفاً، ومنهم من فسره بغير ذلك، ومنهم من فسره بالرمْل فالأرض الرملية مهما صببت فيها من الماء فإنها تبتلعه ولا تكتفي به كما هو معلوم، وصاحب الصحاح أعني الجوهري يقول: إن "الهُيام" بضم الهاء، يعني: يبدو أن الكلمة في لغة العرب تطلق على أمور متعددة، فالهُيام هو أشد العطش.

ومنه يقال: الإبل الِِِِِِِِِهيم، يعني: العطشى، شديدة العطش، وهكذا أيضاً يطلق على العشق الشديد الذي يذهب بعقل صاحبه، يقال: فلان يهيم بفلانة، هام بها كأنه أصابه شيء في عقله، والداء الذي يصيب الإبل فلا ترتوي يقال له: الهُيام، والواحدة يقال لها: هَيْماء وهكذا المفازة التي ليس فيها ماء يقال لها ذلك، ويقال: "الهَيَام بفتح "الهاء" هو الرمل وارتباطه بالمعنى ظاهر مهما صببت فيه من الماء فإنه لا يبقى فيه شيء، وكذلك أيضاً في صفته الرمل المتهايل الذي لا يتماسك يقال له: هَيَام بالفتح، يتهَايل كَثِيبًا مَّهِيلًا [سورة المزمل:14] يقال له: هَيامَ، والهِيَام بكسر "الهاء" أيضاً يقال للإبل العطشى، والله أعلم.

قال: هَذَا نزلُهُمْ الأصل أن النزل هو ما يعد للضيف، أول ما يتحف به الضيف ليأكله يقال له: نُزُل، وهنا عبر به عن العذاب والمفسرون يقولون: هذا من باب التهكم بهم، كما يقال في التحية إذا استُعملت في غير معناها:

  تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيعُ

ونحو ذلك، فأول ما يقدم لهم في النار هو هذا، نسأل الله العافية.

قال تعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ۝ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ۝ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ۝ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ۝ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ۝ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ [سورة الواقعة:58-62].

يقول تعالى مُقررًا للمعاد، ورادًّا على المكذبين به من أهل الزيغ والإلحاد، من الذين قالوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [سورة الصافات:16]، وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد، فقال تعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ أي: نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟!؛ فلهذا قال: فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي: فهلا تصدقون بالبعث!

فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ فـ"لولا" هذه للتحضيض، فإذا كانت لأمر قد فات ولا يمكن استدراكه فهي للتبكيت، فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [سورة هود:116]، هذه للتبكيت فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الأنعام:43] انتهوا هلكوا فهي للتبكيت، وأما إذا كانت لأمر مستقبل أو ما يمكن استدراكه فإنها تكون للتحضيض كما هنا فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ "هلا تصدقون بالبعث"، الآية تحتمل أن يكون المراد فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ يعني أنا خلقناكم لكن هنا قال: "هلا تصدقون بالبعث" الذي جعله يقول بهذا أمران:

الأمر الأول: أنهم لا ينكرون أن الله هو الذي خلقهم وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان:25].

الأمر الآخر: أنه جرت عادة القرآن أن يستدل بالنشأة الأولى على النشأة الثانية، ويقول: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ نحن الذين ابتدأنا خلقكم وأوجدناكم فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ "أي: فهلا تصدقون بالبعث" أنا نعيدكم مرة أخرى كما ابتدأنا خلقكم، ولم نعجز عن ذلك، فهذا أقرب من قول من قال: إن المراد: فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أنا خلقناكم، مع أن البعث لم يجرِ له ذكر هنا، لكن هذا يفهم من هذه القرائن، والله تعالى أعلم.

ثم قال مستدلا عليهم بقوله: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ۝ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ أي: أنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه فيها، أم الله الخالق لذلك؟

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ "تُمنون" بالضم من أمنى الرباعي وهو بمعنى صب المني في الرحم، يعني الإنزال من جماع يقال فيه: أمنى، ويكون بالضم تُمنون، ومن أهل العلم من فرق بينه وبين خروج المني من غير جماع، فقالوا: بغير جماع يكون بالفتح تَمنون، يقول: مَنى الرجل يعني خرج منه المنيّ من غير جماع كالاحتلام مَنى، ومن أهل العلم من يقول: إن المعنى واحد تَمنون، وتُمْنُونَ وهما قراءتان لكن قراءة الفتح غير متواترة.

ثم قال: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي: صرفناه بينكم.

وقال الضحاك: ساوى فيه بين أهل السماء والأرض.

قوله: "صرفناه بينكم" ساوى فيه بين هذين المعنيين، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وفي قراءة ابن كثير بالتخفيف نَحْنُ قَدَرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وهي قراءة متواترة كما هو معلوم، يقول "أي: صرفناه بينكم". 

وكثير من أهل العلم يقولون: إن قراءة التخفيف والتشديد بمعنى واحد "قَدَرنا"، و"قدّرنا" إلا أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فـ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قال: "صرفناه بينكم"، يعني: قسمناه ووقّتناه بينكم لكل فرد من أفرادكم، هذا يموت في الشباب، وهذا يموت طفلاً، وهذا يموت شيخاً، هذا معنى.

والمعنى الثاني الذي ذكره هنا قال: "ساوى فيه بين أهل السماء والأرض" وهذا معنى قول من قال: إن معناه قضينا وكتبنا يعني: كتبنا وقضينا الموت، وهذا كله يرجع إلى شيء واحد، يعني: قضينا الموت على الجميع الكل يموتون، فهذان معنيان والآية مترابطة وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ۝ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ.

وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي: وما نحن بعاجزين.

يعني: بمغلوبين، يحتمل: على ما قدرنا من آجالكم، على المعنى الأول على ما قدرنا من آجالكم وأعماركم ما نحن بمغلوبين على ذلك، ولا يمكن لأحد أن يغير ما قررناه في حقه، يقدم هذا أو يؤخر هذا أو يخلص هذا، فكل إنسان كتب أجله فلا يتبدل ولا يتغير لا يمكن لأحد أن يخلصه من هذا الأجل المحتوم في الوقت المحتوم في المكان المحتوم، وما نحن بمغلوبين هذا معنى "مسبوقين" "أي: وما نحن بعاجزين".

عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ أي: نغير خلقكم يوم القيامة، وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ أي: من الصفات والأحوال.

يحتمل أن يكون المراد بـعَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ أي: أن نأتي بخلف منكم يخلفونكم، بخلق جديد، أي آخرين، ويحتمل أن يكون المراد عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ أي: نعيد خلقكم مرة أخرى، يحتمل هذا ويحتمل هذا، وابن جرير -رحمه الله- يقول: على أن نبدل منكم أمثالكم بعد مهلككم فنجيء بآخرين من جنسكم، ونبدلكم عما تعلمون من أنفسكم في مالا تعلمون منها من الصور.

وبعض السلف يعبر ويقول: يعني عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ نأتي بخلق، ممكن خنازير، نريدكم في صورة أخرى، كما نشاء من الصور والأشكال والهيئات، فعبارات السلف في هذا متنوعة، وابن القيم -رحمه الله- يقول: فإنكم علمتم النشأة الأولى في بطون أمهاتكم، ومبدؤها ما تمنون، بداية هذه النشأة، هذا البداية البسيطة ولم نغلب على أن ننشئكم نشأة ثانية فيما لا تعلمون، يعني: إن أخبرناكم عن نشأتكم وأنتم تعرفون أنها من نطفة، فنحن قادرون على أن نعيد إنشائكم مرة ثانية فيما لا تعلمون فإذا أنتم أمثال ما كنتم في الدنيا في صوركم وهيئاتكم.

يقول: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ۝ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ۝ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ وهذه الجمل مترابطة ويمكن أن نلخص هذه القضية، والمعنى على كل احتمال على المعنيين اللذيْن ذكرناهما أولاً: فيقال: إن قوله -تبارك وتعالى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ المعنى الأول الجمل التي بعده بناءً عليه، ويمكن أن نقول هكذا نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي: قدرنا لموتكم آجالاً مختلفة وأعماراً متفاوتة، فمنكم من يموت صغيراً ومنكم من يموت كبيراً كما قال الله : وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [سورة الحج:5].

وكذلك: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى [سورة غافر:67]، وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [سورة فاطر:11]، فالله فاوت بينهم قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ، وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي: بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددنا من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدّم أجلاً أخرناه، ولا يؤخر أجلاً قدمناه كما قال الله فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف:34]، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [سورة الأنعام:134]، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً [سورة آل عمران:145] فهو شيء مكتوب ومحدد ومقدر بوقت عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ.

فعلى هذا المعنى عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ تكون هذه الجملة متعلقة بـ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي: نبدل من الذين ماتوا آخرين أمثالاً لهم نوجدهم، يعني من ذراريهم إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [سورة الأنعام:133]، على هذا التناسق أو على هذا المعنى بهذا الترابط بهذه الطريقة، وهذا هو خلاصة اختيار ابن جرير المشار إليه آنفاً.

المعنى الثاني: قَدَّرْنَا بمعنى قضينا وكتبنا إلى آخر العبارات التي تدور في هذا الفلك، وهنا قال: "سوينا بينكم في الموت" يعني: بمعنى كتبناه على جميع الخلق، ما في فلان يموت وفلان لا يموت، أو بعض الناس يموت وبعضهم لا يموت، الموت على الجميع حتماً ، كما قال الله كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص:88]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [سورة الأنبياء:35]، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [سورة الفرقان:58]، لا يبقى إلا الله هذا هو المعنى الثاني، فتكون عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ متعلقة بِمَسْبُوقِينَ وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم، أي: ما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا، فنحن قادرون على إهلاككم ولا يوجد ما يمنعنا ويغلبنا من خلق أمثالكم بدلاً منكم، كما قال الله : إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [سورة النساء:133]، إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [سورة فاطر:16] وهذان معنيان في الآية، وكل معنى من هذه المعاني يوجد ما يشهد له في القرآن - والله تعالى أعلم.

ثم قال: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي: قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة -وهي البَداءة- قادر على النشأة الأخرى، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى، وكما قال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27].

وقال: أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [سورة مريم:67]، وقال: أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ۝ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ۝ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [سورة يس:77-79]، وقال تعالى: أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ۝ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ۝ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ۝ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ۝ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ [سورة القيامة:36-40].

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ۝ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ۝ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ۝ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ۝ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ۝ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ۝ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ ۝ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ۝ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ۝ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ۝ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ۝ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [سورة الواقعة:63-74].

يقول: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ؟ وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أي: تنبتونه في الأرض أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي: بل نحن الذين نُقِرُّه قراره وننبته في الأرض.

روى ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تقولن: زرعتُ، ولكن قل: حرثتُ، قال أبو هريرة: ألم تسمع إلى قوله: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ۝ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ[1].

هذا الحديث يدل على أدب في الألفاظ، يعني ليس ذلك على سبيل التحريم -والله تعالى أعلم، يقول الإنسان زرعتُ وحصدتُ ونحو هذا لكن من باب كمال الأدب في التعبير، كما نهي الإنسان أن يقول: عبدي وأمتي، وإنما يقول: فتاي وفتاتي[2]، من باب الأدب، مع أنه يجوز للإنسان أن يقول: عبدي وأمتي، وكذلك لا يقول: سيدي، وإنما يقول: مولاي، فهذا من هذا -والله تعالى أعلم، لا يقول: زرعتُ، ولكن يقول: حرثتُ يعني هو الذي حرث والله هو الذي أنبته.

وقوله: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا أي: نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا، وأبقيناه لكم رحمة بكم، بل لو نشاء لجعلناه حطامًا، أي: لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، ثم فسر ذلك بقوله: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ۝ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: لو جعلناه حطاما لظَلْتُم تفكهون في المقالة، تنوعون كلامكم، فتقولون تارة: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي: لَمُلْقَون.

وقال مجاهد، وعكرمة: إنا لموقع بنا، وقال قتادة: معذبون.

قوله: "لمُوقع بنا"، يعني: نزلت بنا جائحة، وضبطت في تفسير ابن جرير "لَمُولع بنا" ويكون وجه هذا ما ذكره بعضهم في المعنى "لمُولَع بنا" قال: بل نحن مغرمون، مثلما تقول: فلان مغرم بفلان، أو فلان مغرم بالشيء الفلاني، أو مغرم بفلانة، فهنا من شدة الحب يكون قد تولّع به، مولع، تقول: فلان مولع بفلان، ومغرم بفلان، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بهذا الاعتبار، مُولَع بنا.

وتارة تقولون: بل نحن محرومون.

وقال عكرمة: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ تلاومون، وقال الحسن، وقتادة، والسدي: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ تندمون، ومعناه: إما على ما أنفقتم، أو على ما أسلفتم من الذنوب.

قال الكسائي: تَفكّه من الأضداد، تقول العرب: تفكهتُ بمعنى تنعمت، وتفكهت بمعنى حزنت.

قوله -تبارك وتعالى: لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [سورة الواقعة:65] الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذه المعاني المذكورة في قوله: تَفَكَّهُونَ ترجع إلى شيء واحد، وأنها لا تحتاج إلى ترجيح بينها، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، فتفكهون أصله تطرحون الفُكاهة عنكم، فإذا طرحوا الفكاهة عنهم يكون حالهم ومصيرهم الندم والحزن، فمن طرح الفكاهة عنه فإنه صار إلى حال الحزن الندم والتأسي على ما فاته والتأسف.

وهكذا قول من قال: تتعجبون وهو اختيار ابن جرير أن معنى تتفكهون تتعجبون، يتعجبون مما وقع بهم وحل بهم وصار أمرهم إليه فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ۝ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ يعني تقولون: إنا لمغرمون، والمُغرَم هو الذي ذهب ماله بغير عوض، وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً فهو يعطي ليدفع التهمة عن نفسه، لكنه لا ينتظر العائدة، يعتبر أن هذا مال تالف، وهو مقطوع من قلبه، لا يحتسب الأجر، وفي المقابل وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ [سورة التوبة:99].

فهنا إِنَّا لَمُغْرَمُونَ يعني: عبارات السلف التي قالوا فيها، قال: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ۝ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [سورة الواقعة:66، 67] العبارات يقول: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ لملقون للشر، ذهب مالنا وهكذا من قال بـ معذبون يعني ذهب بذهاب مالنا، معاقبون بهذا، وكذلك أيضاً المعاني الأخرى التي يذكرها المفسرون.

وهكذا القول الذي نقله هنا في معنى تَفَكَّهُونَ تندمون على ما أنفقتم فيها "تلاومون" كل هذا -والله أعلم- يرجع إلى شيء واحد فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ من فسره بهذه المعاني فقد فسره بلازمه، يعني: أصل المعنى تَفَكَّهُونَ أي: تطرحون الفكاهة عنكم، هذا إذا أردنا أن نفسره تفسيراً حرفياً، فمن طرح الفكاهة عنه فإن ذلك يلزم أن يكون قد ندم وتأسى وحزن، وهكذا قول من قال: "تلاومون"، فهم يتلاومون؛ لأجل أساهم، كما في أصحاب الجنة في سورة القلم[3]، والله أعلم.

  1. تفسير الطبري (23/ 139)، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (11532)، وابن حبان في صحيحه، برقم (5723)، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2801). 
  2. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب لا يقول المملوك ربي و ربتي، برقم (4975)، وأحمد في المسند، برقم (8197)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (7766).
  3. إشارة إلى قوله تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ [سورة القلم:30].

مواد ذات صلة