الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
‏[2] من قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية:12 إلى قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية:23‏
تاريخ النشر: ٠٢ / جمادى الأولى / ١٤٣٢
التحميل: 10857
مرات الإستماع: 8822

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاماً على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين وللمستمعين.

قال المصنف -رحمنا الله وإياه- في تفسير قوله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [سورة العنكبوت:12، 13].

يقول تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا لِمَنْ آمن منهم واتبع الهدى: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا، واتبعوا سبيلنا، وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ أي: وآثامكم -إن كانت لكم آثام في ذلك- علينا وفي رقابنا، كما يقول القائل: "افعل هذا وخطيئتك في رقبتي"، قال الله تكذيبا لهم: وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أي: فيما قالوه إنهم يحملون عن أولائك خطاياهم، فإنه لا يحمل أحد وزر أحد، قال الله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [سورة فاطر:18]، وقال تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. يُبَصَّرُونَهُمْ [سورة المعارج:10، 11].

وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ: إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة أنهم يوم القيامة يحملون أوزار أنفسهم، وأوزارًا أُخَر بسبب مَنْ أضلوا مِنَ الناس، من غير أن ينقص من أوزار أولائك شيئاً، كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية [سورة النحل:25].

وفي الصحيح: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، وَمَنْ دعا إلى ضلالة كان عليه مِنَ الإثم مثل آثام مَنِ اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً[1]، وفي الصحيح: ما قُتلت نفسٌ ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سَنّ القتل[2].

وقوله: وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ أي: يكذبون ويختلقون من البهتان.

وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثاً عن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ بلغ ما أرسل به، ثم قال: إياكم والظلم، فإن الله يعزم يوم القيامة فيقول: وعزتي لا يجوزني اليوم ظلم، ثم ينادي منادٍ فيقول: أين فلان ابن فلان؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال، فيُشخِص الناس إليها أبصارهم حتى يقوم بين يدي الله الرحمن ، ثم يأمر المنادي فينادي من كانت له تِبَاعة -أو ظُلامة- عند فلان ابن فلان فهلمّ، فيقبلون حتى يجتمعوا قياما بين يدي الرحمن، فيقول الرحمن: اقضوا عن عبدي، فيقولون: كيف نقضي عنه؟ فيقول لهم: خذوا لهم من حسناته، فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى له حسنة، وقد بقي من أصحاب الظلامات، فيقول: اقضوا عن عبدي، فيقولون: لم يبق له حسنة، فيقول: خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه[3]، ثم نزع النبي ﷺ بهذه الآية الكريمة: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ.

وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبقَ له حسنة أُخِذ من سيئاتهم فطرح عليه[4].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ، هذا أمر، وهو في معنى الشرط والجزاء، بمعنى إذا اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم، إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى أن قال: يَغْفِرْ لَكُمْ [سورة الصف:10-12]، يعني: إن آمنتم، فذاك خبر مضمن معنى الشرط، وهذا أمر في معنى الشرط والجزاء، والمعنى ما ذُكر: إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، والأصل أنه لا أحد يحمل وزر أحد وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [سورة فاطر:18]، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [سورة المدثر:38]، والآيات في هذا كثيرة ومعروفة.

وهنا ذكر الله أنهم يحملون أثقالهم وأحمالاً مع أثقالهم، وهذه الأثقال المقصود بها الأوزار فإنها تثقل كواهلهم، وذلك من عملهم؛ لأنهم الذين دعوا إلى هذا، وضللوا الناس، وصرفوهم عن الحق، وأغووهم فكان ذلك من جملة عملهم، ومن ثم فإنهم يحملون هذه الأوزار، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا في المظالم وأنه يطرح عليه، يؤخذ من حسناته ثم بعد ذلك..، هذا هو الشاهد، إذا فَنِيتْ هذه الحسنات طرح عليه من سيئاتهم، وهنا حمل أوزاراً لغيره في هذه الحالة، فهذا ليس من تأويل الآية، وإنما هو من جملة ما يذكر في هذا الباب مما هو خارج عن الأصل، يعني الأصل أنه لا يحمل أحد وزر أحد، لكن من تسبب في إضلال غيره فإنه يحمل وزراً كوزره؛ لأن ذلك من عمله.

ومما يحصُل به حملُ الأوزار ما جاء في الحديث من حال أولائك الذين يظلمون الناس فتؤخذ حسناتهم، فإذا فنيت وبقي من المظالم فإنه يؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليهم، فيكون بهذا يحمل من أوزارهم أيضاً، لكن هذا ليس المقصود، يعني الحافظ ما أورده على أنه تفسير للآية؛ لأن هذه الآية قالوا لهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ [سورة العنكبوت:12]، فهي في نوع خاص مما يحصل به حمل الأوزار، والله تعالى أعلم.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ۝ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [سورة العنكبوت:14، 15].

هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه، يخبره عن نوح أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، وسرا، وجهارًا، ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فرارا عن الحق، وإعراضا عنه وتكذيباً له، وما آمن معه منهم إلا قليل؛ ولهذا قال: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ أي: بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار، فأنت -يا محمد- لا تأسف على مَنْ كفر بك من قومك، ولا تحزن عليهم؛ فإن الله يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء، وبيده الأمر وإليه ترجع الأمور، إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ الآية [سورة يونس:96، 97]، واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك، ويذل عدوّك، ويكبتهم ويجعلهم أسفل السافلين.

وعن ابن عباس قال: بُعث نوح وهو لأربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعاش بعد الطوفان ستين عاما، حتى كثر الناس وفشوا.

وقوله: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ أي: الذين آمنوا بنوح ، وقد تقدَّم ذكر ذلك مفصلاً في سورة هود، وتقدَّم تفسيره بما أغنى عن إعادته.

وقوله: وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ أي: وجعلنا تلك السفينة باقية، إما عينها كما قال قتادة: إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي، أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق، كيف نجاهم من الطوفان، كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۝ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ إلى قوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ۝ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [سورة الحاقة:11، 12]، وقال هاهنا: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ، وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس، كقوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [سورة الملك:5].

أي: وجعلنا نوعها رجوماً، فإن التي يرمى بها ليست هي التي زينة للسماء، وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [سورة المؤمنون:12، 13]، ولهذا نظائر كثيرة.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ لما ذكر الله -تبارك وتعالى- في أول هذه السورة أمر الامتحان والابتلاء والفتنة أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [سورة العنكبوت:2، 3] ذكر مصداق ذلك ما وقع لهؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وما جرى لأقوامهم، فهذا نوح ﷺ أول الرسل بقي في قومه هذه المدة الطويلة مع إصرارهم على التكذيب، بقي ألف سنة إلا خمسين عاماً، وذلك تسلية لرسول الله ﷺ، فقد كان يلقى من قومه أذىً كثيراً، وكانت المدة التي بقيها النبي ﷺ لا تذكر بالنسبة لتلك المدة الطويلة التي بقيها نوح -عليه الصلاة والسلام، فهذه سنته -تبارك وتعالى- الجارية في خلقه تجري على أشرف الخلق وأفضلهم وأكرمهم على الله -تبارك وتعالى، وتجري على غيرهم، فيُفتن الناس بالرسل ويُبتلى الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بالناس وبتكذيبهم وأذاهم وما إلى ذلك.

وهكذا يفتن ويبتلى الغني بالفقير، والفقير بالغني، والصحيح بالمريض، والمريض بالصحيح، والعالم بالجاهل، والجاهل بالعالم، وما إلى ذلك، فهذه سنة الله -تبارك وتعالى- في هذا الخلق.

فهنا قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ما قال: لبث فيهم مثلاً تسعمائة وخمسين عاماً، وذلك -والله تعالى أعلم- أنّ ذِكرَ ذلك بطريق الاستثناء كما في هذا الموضع أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا أقوى في تحقيق العدد من غير زيادة ولا نقصان، يعني لربما يُذكر العدد ويكون فيه شيء من جبر الكسر ونحو ذلك كما هو معروف، لكن إذا جاء بطريق الاستثناء فإن ذلك يعني تحقيق العدد كما ذكر من غير زيادة ولا نقص أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وهذا جواب عن سؤال لربما يرد على ذهن طالب العلم، لماذا لم يقل الله : فلبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة؟

وقوله -تبارك وتعالى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ هذا يدل على النتيجة بعد هذه المدة الطويلة أنهم كذبوا وكفروا فكان ذلك العقاب، والطوفان يقال لكل شيء يطوف بالناس من مطر أو خروج البحر -أو النهر- الذي يسمونه بالفيضان، أو اليوم ما يسمى بتسونامي أو نحو ذلك، فهذا كله مما يطيف بالناس هذه الإطافة فيحصل به الغرق والهلاك بالماء فإنه يقال له: طوفان.

وبعضهم وسع المعنى فيه وقال: ذلك يشمل ما كان بموت، يعني الأوبئة والأمراض السارية التي تنتقل فيها العدوى بإذن الله -تبارك وتعالى- بين الناس فيموتون بسبب ذلك، فمثل هذا بعض أهل العلم يدخله في جملة الطوفان.

وهكذا أيضاً ما يحصل من الموت العام بالقتل، يعني أنهم اعتبروا كل موت عام إما بمباشرة القتل، أو الوباء، أو كان ذلك بالماء النازل من السماء، أو كان ذلك بالماء الخارج من الأرض، ونحوه، فهذا كله يقال له: الطوفان، مع أنه في عرف الاستعمال يطلق على ما كان بالغرق إما بكثرة المطر أو بما كان من غيره، كما يحصل في فيضان الأنهار حينما تذوب الثلوج في وقت معين ثم بعد ذلك يكثر الماء في هذه الأنهار فتخرج على الناس.

وهكذا حينما يحصل ذلك من البحر كما نشاهد في هذه الأيام، فهذا يقال له: طوفان، وهكذا حينما يخرج ذلك من باطن الأرض كالعيون التي تتفجر مثلاً، وهذا يحصل أيضاً بسبب الزلازل أحياناً، يحصل زلزال فتخرج عيون جديدة تتفجر وتجري أشياء وأنهار لم تكن موجودة من قبل، وقد يجتمع عليهم ذلك، والله -تبارك وتعالى- أخبر عن قوم نوح هؤلاء أن السماء أمطرت مطراً منهمراً، وأن الله -تبارك وتعالى- فجر الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، اجتمع هذا الماء، وهذا الماء فحصل بسبب ذلك الغرق، والله المستعان.

ولهذا بعضهم فسر الطوفان بالغرق، وهو تفسير له بما يشبه النتيجة والأثر، وبعضهم قال: هو المطر، أخذه من الطوفان، وكأنه تفسير له ببعض صوره، يعني بالمثال، ببعض صوره، ويكون ذلك بالماء الذي يغمرهم سواء كان بالمطر أو بغيره، الماء الكثير الذي يغمر يقال له: طوفان، أخذهم الطوفان، والله -تبارك وتعالى- أخبر عن فرعون وقومه أنه أرسل عليهم الطوفان أيضاً، والمقصود به فيضان النيل، -والله أعلم، فيهلك زروعهم وأراضيهم، ويحصل لهم بسبب ذلك ما لا يخفى، وإن لم يحصل لجميعهم بذلك الغرق كما هو مشاهد في الطوفان الذي يحصل في أي وقت من الأوقات، لكن ذلك يكون عذاباً مرسلاً على هؤلاء المكذبين.

ولهذا تجد الذين يقع لهم هذا سواء بفيضان الأنهار أو كان بغيره أنه يقع لهم بسببه من الأذى والعذاب ما لا يُقادَر قدره، تهلك بسبب ذلك زروعهم ومواشيهم، بل إن ما يعانونه بعده أشد مما يلاقونه منه حال المباشرة، يعني هم حينما يبدأ الطوفان يزول ويتقشع عنهم الماء تبقى الآثار المدمرة بعد ذلك، تخرج أشياء من الحشرات ومن الأمور المؤذية، والروائح المنتنة، ويحصل أيضاً بسبب ذلك آثار في دورهم وأثاثهم، ونحو ذلك إذا دخل بيوتهم بحيث إنها لا تصلح للاستعمال، بل تبقى عبئاً كبيراً يثقل كواهلهم، يحتارون كيف يتخلصون منه ويعيدون الأشياء، بل حتى في السيول التي تقع كما حصل في جدة والذي حدث فيها فهذا نوع طوفان، وانظروا إلى حال بيوتهم كيف أصبح الوحل يغمرها ويلوث أثاثهم، وما لديهم من ممتلكات ونحو ذلك، وانظروا حال السيارات وكيف تبقى كأنها أكداس لا تصلح للانتفاع، ثم بعد ذلك ما يحصل عادة في الطوفان من اختلاط المياه الصالحة للشرب بالمجاري ويفيض ذلك جميعاً، وتنتشر الأوبئة، تنتشر الأمراض، وهذا معروف في البلاد التي يكثر فيها مثل هذا، ويغمرهم بحيث إنه يرتفع جداً في البلد، وإن لم يغرق كل الناس، لكن معاناة الناس بعده أكثر مما يعانون أثناء الطوفان، -والله المستعان.

وما عادت هذه الأمور تؤثر اليوم في الناس من جهة وقعها والنظر في أسبابها وما ينبغي أن يكون التصرف إزاءها، وصارت تفسر بتفسيرات كتغيرات مناخية ونحو هذا من الأمور، ويُغفل مع ذلك السبب الحقيقي وهو الذنوب والمعاصي، والله المستعان.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: أي وجعلنا تلك السفينة باقية، وَجَعَلْنَاهَا، الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، أَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا يعني جعلنا السفينة، وبعض أهل العلم قال: وَجَعَلْنَاهَا أي: الواقعة، والحادثة، جعلنا تلك الواقعة آية للعالمين، كيف فعل الله بهؤلاء المكذبين!

 وبعضهم يقول: وَجَعَلْنَاهَا يعني: التنجية، النجاة لنوح ﷺ ومن معه من المؤمنين، وكانوا قلة، حتى قيل: إنه لم يؤمن به إلا بعض ولده وبعض أزواج بناته، قلة قليلة، والبقية كفروا بالله -تبارك وتعالى.

وبعضهم يقول: وَجَعَلْنَاهَا أي: الغرق -هذه العقوبة، وهذا قريب من قول من قال: أي تلك الواقعة، وهو أيضاً قريب من قول قال: النجاة، جَعَلْنَاهَا أي: النجاة؛ لأن بين ذلك ملازمة، فهذا الذي وقع من هذا الطوفان حصل فيه تنجية نوح ﷺ وحصل فيه إغراق هؤلاء المكذبين، فكانت نجاة نوح ﷺ آية دالة على صدقه، وغرق هؤلاء آية أيضاً تدل على صدق ما جاء به، وكذلك أيضاً تلك الحادثة والواقعة أو العقوبة كل ذلك آية.

ولكن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن يحمل على السفينة، وَجَعَلْنَاهَا؛ لأن الضمير يعود على أقرب مذكور، ولكن هل يعني هذا تخطئة قول من قال: إن ذلك يعود إلى الواقعة أو الحادثة أو التنجية لنوح ﷺ؟ أو العقوبة التي وقعت لهم؟ -هكذا عبارات السلف -رضي الله تعالى عنهم، أقول: ذلك ليس بلازم، يعني حينما يقال: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو السفينة، فهذه السفينة هل هي مجرد سفينة، أم لها حال وملابسة خاصة؟ وذلك أن الله حمل عليها نوحاً ﷺ وأنجاه من الغرق وأغرق هؤلاء، فكانت تجري بنوح -عليه الصلاة والسلام- ومن فيها في موج كالجبال، ولم يكن للناس عهد قبل ذلك بالسفن، ويقال: إن جبريل -عليه الصلاة والسلام- هو الذي علم نوحاً ﷺ ذلك.

ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن هذه الصنائع صنائع شريفة زاولها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فنوح ﷺ اشتغل بالنجارة، وعمل السفينة، وكان معلمه في ذلك جبريل -عليه الصلاة والسلام، وداود ﷺ اشتغل بالحدادة فكان يصنع الدروع ويأكل من عمل يده، وبيّن النبي ﷺ أن ذلك أفضل الكسب، فصار الناس أو صار بعضهم بعد ذلك مَن ينتسب إلى شيء من الشرف في نسبه أو نحو ذلك لربما يتنزهون عن هذه الصنائع، ويرون أنها من المدنسات، ولذلك ملابسات عندهم لا حاجة لذكرها الآن، ولكن ذلك في الواقع غير صحيح، بمعنى أن الناس كانوا يزاولون التجارة والزراعة وما أشبه ذلك، وكان الذين يرِدون عليهم، أو المماليك أو نحو ذلك هم الذين يقومون بهذه الصنائع والمهن دونهم فعُرفوا بها، فصار الناس بعد ذلك يتنزهون عنها، وهذه أعراف فاسدة لا قيمة لها، ويكفي أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قاموا بذلك.

وحينما يقال: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو السفينة فهذا مرجح لهذا الأصل وهذه القاعدة، وهذا هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، واختاره جماعة من المحققين، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، ولكن هذا لا ينفي ما ذُكر؛ لأن هذه السفينة كان لها ملابسة، فحينما يقال: الغرق والنجاة والواقعة والحادثة إلى آخره كل هذا مرتبط بهذه السفينة.

لكن الذين قالوا: إنها الحادثة أو الواقعة كأن الذي حملهم على ذلك هو أن السفينة لا وجود لها، فكيف قال الله: إنه جعلها آية، جعل السفينة آية؟ أين هي؟ فقالوا: الواقعة، الحادثة، العقوبة، ولهذا الذين قالوا: إن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور افترقوا إلى فريقين، طائفة قالوا: هي السفينة بعينها، ولهذا ذكر هنا قول قتادة: إنها بقيت إلى أول الإسلام وإنها على جبل يقال له: الجودي، فهذا الكلام لا يعرف له أصل، أعني أنها بقيت إلى أول الإسلام، ولو أنها بقيت من تلك المدة من نوح ﷺ إلى أول الإسلام فإنه يمكن أن تبقى إلى الآن؛ لأن المدة ما بيننا أو ما بين قتادة وأول الإسلام هي مدة يسيرة جداً، فكيف بقيت تلك المدة آية ثم بعد ذلك ذهبت بمدة يسيرة أقل من قرن من الزمان؟!، يعني انتهت في القرن الأول الهجري، كيف يكون هذا؟!

فإذا كان المقصود السفينة بعينها، سفينة نوح ﷺ وأنها هي المقصودة بالآية فمعنى ذلك أنها آية عبر الزمن، وأنها باقية على مدى القرون وإن تطاول العهد، فكيف يقال: بقيت إلى أول الإسلام؟ كيف يحال الناس إلى شيء كهذا؟ فهذا الكلام غير صحيح، أنها بقيت، أنتم تقرءون هنا وهناك وتسمعون عن بعثات يذهبون ويبحثون في جبل يقولون ويزعمون في تركيا وأنهم يبحثون عن آثار هذه السفينة، وهذه السفينة لا أثر لها، وكل ما يذكر حول هذا فهو غير صحيح، ولا حاجة لمثل ذلك، وكان الحري بهم أن يتعظوا بما وقع لقوم نوح -عليه الصلاة والسلام- وأن ينيبوا إلى الله -تبارك وتعالى، وأن يعملوا بطاعته بدلاً من أن يبحثوا عن آثار لهذه السفينة، وهذا هو الذي جعل الفريق الآخر يقول: المقصود الجنس، ليست هي السفينة نفسها، وإنما السفن التي نشاهدها تذكرنا بتلك السفينة التي حصلت بها النجاة.

ولهذا الله -تبارك وتعالى- قال: وَجَعَلْنَاهَا آيَةً، وكما في الآية الأخرى وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [سورة يس:41]، المخاطب بهذا الذين عاصروا النبي ﷺ حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ يعني: الأجداد، الآباء في زمن نوح -عليه الصلاة والسلام؛ لأن نوحاً ﷺ يقال له: آدم الثاني، آدم الصغير؛ لأن جميع الناس الذين جاءوا من بعده كانوا من ذريته، كما قال الله : ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [سورة الإسراء:3]، فهو آدم الصغير كما يقول بعض أهل العلم.

فهنا وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي: حملنا الآباء، وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، فهذه آية أيضاً، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة البقرة:164]، فجعل ذلك من جملة الآية، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [سورة الشورى:32]، كالجبال، لاحظْ: في ذلك الزمان، يعني ما حجم السفن؟ بينما السفن اليوم شيء هائل لا يقادر قدره، تعرفون السفن اليوم الضخمة تدخل فيها التريلات كأنها جراد، التريلة كأنها جرادة تدخل داخل السفينة وتُحمل وتصعد، وتحمل الناس وسيارات الناس، والبضائع وغير ذلك.

وهنا وَجَعَلْنَاهَا آيَةً يقال فيه ما سبق -والله تعالى أعلم، ولهذا قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً، وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس، فقوله: فَأَنجَيْنَاهُ أي: نوح ﷺ، وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ التي كانت معه، وَجَعَلْنَاهَا آيَةً، لاحظ ابن كثير دقيق، وَجَعَلْنَاهَا أي: السفينة، طيب أين هي؟ ابن كثير يريد أن يقول: السفن هذه التي نراها تذكرنا بتلك السفينة، فهذا تدريج من النوع إلى الجنس، ما هو النوع؟ السفينة التي حُملوا عليها فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ التي عملها نوح ﷺ، وَجَعَلْنَاهَا.

ابن كثير يقول: ليست تلك السفينة كما احتاج قتادة إلى أن يقول: كانت موجودة، إذا جعلناها فقط إلى أول الإسلام، يعني كأن قتادة يريد أن يقول -رحمه الله- وهذا توجيه للأقوال: إنه لما بقيت إلى أول الإسلام بلغت آخر الأمم، فإذا شاهدها بعض الأمة تكون قد بقيت حتى وقف عليها أول هذه الأمة التي هي آخر الأمم وبعدها تقوم الساعة، وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ، ولا يلزم من ذلك أن يشاهدها كل أحد في كل زمان حتى في القرون الماضية، إنما يشاهدها خاصةٌ مع انعدام تقريباً في وسائل الإعلام في الأزمنة الغابرة، كم عدد الذين يشاهدونها لو فرض أنها موجودة؟ مع أننا نقول: إن الضمير لا يرجع إلى تلك السفينة بعينها أي أنها يلزم أن تكون موجودة، وإنما قلنا: إنه يرجع إلى تلك السفينة بعينها وَجَعَلْنَاهَا آيَةً يعني ما وقع من التنجية فيها وغرق أولائك إلى آخره، وابن كثير يقول: تدريج من الشخص -سفينة نوح -عليه الصلاة والسلام- إلى الجنس وهو السفن عموماً، فهذه آية، كما جعل الله النار هذه تذكرنا بنار الآخرة، وجعلها تذكرة.

وهنا قال: هذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس كقوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ [سورة الملك:5]، يقصد أن السماء زينت بمصابيح وليست هذه المصابيح هي التي تنزل على الشياطين ولكن نوعها كما يقول ابن كثير -رحمه الله، وهي التي تخرج شهب منها، قطع منها، والله تعالى أعلم.

يعني كأن ابن كثير يرى أن النجوم تسقط لكن ليست هي التي وضعت زينة؛ لأن تلك لذلك الغرض وهو الزينة، أي منها ما يكون زينة، ومنها ما يكون رجوماً للشياطين، ولكن الظاهر -والله أعلم- أن الذي يسقط هو أجزاء من هذه النجوم فجُعلت هذه النجوم لهذه الأغراض: زينة، ويهتدي بها الناس، يعرفون بها الجهات في أسفارهم ونحو ذلك، وجعلها رجوماً للشياطين فتخرج منها تلك الشهب ويُرجموا بها، لا أن المقصود -والله أعلم- أن النجم يسقط على الشيطان، النجم ضخم كبير، والله أعلم.

وظاهر كلام ابن جرير الذي ذكره اختياراً أنها السفينة، وَجَعَلْنَاهَا باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، هذه الإضافة مفيدة، لكن قد يفهم منها أن هذا هو اختيار ابن جرير -رحمه الله، ففرق بين أن يكون الشيء له وجه من النظر، وبين أن يكون اختاره، وابن جرير كثيراً ما يذكر هذا، يقول: لو قيل كذا فهذا وجه، فهذا حسن، هذا قريب، هذا احتمال وجيه، إلى آخره، لكن لا يعني أنه اختاره في قوله: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ.

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى: "ثم ذكر سبحانه ابتلاء نوح بقومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وابتلاء قومه بطاعته، فكذبوه، فابتلاهم بالغرق ثم بعده بالحرق"[5].

إي يعني بالنار، يعني أن الله ابتلاهم بالغرق ثم بعد ذلك بالنار، أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [سورة نوح:25] الفاء للتعقيب المباشر، واستدل بها على عذاب القبر، البرزخ.

وقال -رحمه الله: "ثم ذكر ابتلاء إبراهيم بقومه وما ردوا عليه، وابتلاهم بطاعته ومتابعته، ثم ذكر ابتلاء لوط بقومه وابتلاءهم به وما صار إليه أمره وأمرهم، ثم ذكر ابتلاء شعيب بقومه وابتلاءهم به وما انتهت إليه حالهم وحاله، ثم ذكر ما ابتلى به عاداً وثموداً وقارون وفرعون وهامان وجنودهم من الإيمان به وعبادته وحده ثم ما ابتلاهم به من أنواع العقوبات، ثم ذكر ابتلاء رسوله محمد ﷺ بأنواع الكفار من المشركين وأهل الكتاب، وأمره أن يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن، ثم أمر عباده المبتلين بأعدائه أن يهاجروا من أرضهم إلى أرضه الواسعة فيعبدونه فيها، ثم نبههم بالنقلة الكبرى من دار الدنيا إلى دار الآخرة على نقلتهم الصغرى من أرض إلى أرض وأخبرهم أن مرجعهم إليه فلا قرار لهم في هذه الدار دون لقائه، ثم بين لهم حال الصابرين على الابتلاء فيه بأنه يبوئهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، فسلاهم عن أرضهم ودارهم التي تركوها لأجله وكانت مَبَاء لهم بأن بوأهم داراً أحسن منها وأجمع لكل خير ولذة ونعيم مع خلود الأبد، وأن ذلك بصبرهم على الابتلاء وتوكلهم على ربهم، ثم أخبرهم بأنه ضامن لرزقهم في غير أرضهم كما كان يرزقهم في أرضهم، فلا يهتموا بحمل الرزق، فكم من دابة سافرت من مكان إلى مكان لا تحمل رزقها، ثم أخبرهم أن مدة الابتلاء والامتحان في هذه الدار قصيرة جدا بالنسبة إلى دار الحيوان والبقاء، ثم ذكر سبحانه عاقبة أهل الابتلاء ممن لم يؤمن به وأن مقامهم في هذه الدار تمتُّع وسوف يعلمون عند النقلة منها"[6].

هذا جيد، هذا مفيد جداً فيما يتعلق بربط أجزاء السورة بأولها، يعني كأن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: هذه السورة هي سورة الابتلاء، الموضوع الرئيس فيها هو موضوع الابتلاء، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، ثم بعد ذلك ذكر نماذج لهذا الابتلاء مما وقع لنوح ﷺ ومَن بعده من الأنبياء إلى نبينا ﷺ، وما وقع لأولائك المكذبين وهكذا، بهذه الطريقة في الربط، فهذا له وجه جيد من النظر واضح ظاهر كما ترون في ربط أجزاء السورة بموضوع متحد، فهو حسن جيد ما لم يكن تكلفاً.

وأحياناً يحصل تكلف في جمع أجزاء السورة ذات الموضوعات التي قد لا يكون هناك ترابط بينها إلا في موضوع كبير لا يخرج منه شيء في القرآن كأن تقول مثلاً: موضوع هذه السورة التقوى، كل موضوع سور القرآن التقوى، وإذا أعياك شيء قل التقوى، فالمأمورات والمنهيات كل ذلك داخل تحت التقوى، فمثل هذا فيه تكلف، ولا حاجة إليه، وموضوعات سور القرآن منها ما يرجع إلى موضوع واحد، ومنها ما يرجع إلى موضوعين، ومنها ما يرجع إلى ثلاثة، نزلت في أوقات مختلفة في قضايا متنوعة، فلا حاجة إلى التكلف، يعني الله علمنا، علم نبيه ﷺ، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [سورة ص:86]، التكلف في كل شيء غير جيد لا يصلح، لا في العلم، ولا في العمل، فإن كان الربط بهذه الطريقة فهذا مقبول، وإن كان على وجه من التكلف فهذا مذموم، ويُخشى أن يكون من القول على الله بلا علم؛ لأن ذلك داخل في جملة التفسير، والله تعالى أعلم.

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ[سورة العنكبوت:16-18].

يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء: أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في التقوى، وطلب الرزق منه وحده لا شريك له، وتوحيده في الشكر، فإنه المشكور على النعم، لا مُسْدٍ لها غيره، فقال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ أي: أخلصوا له العبادة والخوف، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، واندفع عنكم الشر في الدنيا والآخرة.

ثم أخبرهم أن الأصنام التي يعبدونها والأوثان لا تضر ولا تنفع، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء، سميتموها آلهة، وإنما هي مخلوقة مثلكم، هكذا روى العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والسدي.

وروى الوالبي عن ابن عباس -رضي الله عنهما: وتصنعون إفكا أي: تنحتونها أصناما.

يعني الآن في قوله: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا من أهل العلم من فرق بين الوثن، والصنم باعتبار المادة التي يصنع منها هذا وهذا، وبعضهم يقول: الصنم ما كان من المعادن من الذهب أو الفضة أو نحو ذلك، كالنحاس، والوثن ما كان من الآجر أو الخشب أو الطين والجص ونحو ذلك، هذا الوثن، وبعضهم يقول: إن الصنم ما كان على هيئة مصور بصورة إنسان أو صورة حيوان كأبي الهول ونحوه، والوثن ما كان من غيره كأن يكون شجرة العزى مثلاً، وقد يكون بيتاً يعبد ويطاف به كما يطاف بالكعبة، وقد يكون قبراً، وقد يكون خِرَقاً يتبرك الناس بها أو حجراً يتبركون به، أو نحو ذلك، فهذا الوثن، إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا.

وروى الوالبي عن ابن عباس -رضي الله عنهما: وتصنعون إفكا، أي: تنحتونها أصناماً وهي لا تملك لكم رزقاً.

يعني الآن إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، هنا قال: وتصنعون إفكاً أي: تنحتونها أصناماً، إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ، الخلق هنا بمعنى التصوير والتشكيل، فهم الذين يعملونها بأيديهم فيجعلونها على صورة إنسان أو صورة طائر، أو صورة أسد أو نحو ذلك، وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، فهذه التي ينحتونها ويجعلونها بهذه الصفة ويقولون: هذه آلهة، هم يخلقون إفكاً، يعني حينما يصورونها ويصنعونها ويدّعون لها هذه الدعوى، وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا

فهو يريد أن يقول: تنحتونها أصناماً، يعني تصنعون إفكاً، تنحتونها أصناماً، فهذه المصنوعات هي إفك، تصنعها أيديكم وتعبدونها من دون الله، فهذه إفك مصنوع تعملونه بأيديكم، أنتم تعبدون أصناماً، يقول لهم: وتخلقون إفكاً، تصنعونها بأيديكم، وهذه المصنوعات هي إفك حيث جُعل لها من الخصائص والأوصاف ما لا يصلح إلا لله -تبارك وتعالى، يعني تعبدون أوثاناً وأنتم تصنعونها.

وقريب من هذا قول من قال: إنكم تصنعونها وتعملونها للإفك، يعني: لهذه الدعوى الكبيرة العريضة أنها تقربكم إلى الله زلفى، أو أن لها تدبيراً وتأثيراً، ويتقربون إليها بألوان العبادات وهذا أمر في غاية العجب، ولكنها القلوب إذا زاغت عن الحق، والبصائر إذا عميت، والضلالة إذا حلت حصلت مثل هذه الأمور التي لا يكاد يصدقها الإنسان بعقله، وإذا سافرت إلى بلاد شاسعة واسعة رأيت العجب العجاب، وصارت هذه الآيات كأنها تنزل الآن، كيف وصلت العقول إلى هذا المستوى؟! 

اذهب إلى بلاد الهند مثلاً، شيء هائل، أنواع المعبودات التي تعد بالملايين تعبد من دون الله ، وينحتونها، وتوجد أسواق ومحال وجهات مخصوصة، هذه لآلهة الفقراء تصنع من الخشب والأشياء الرخيصة من المعادن التي يقال لها: المعادن الخسيسة كالحديد ونحوه، وهناك آلهة تصنع للطبقة والفئة العليا للأغنياء والأثرياء والكبراء فهذه تصنع صناعة خاصة، وبمواصفات خاصة وبمعادن نفيسة وتباع بغالي الأثمان، ويأتون يشترون هذه الآلهة ويعبدونها، وإذا نظرت إلى تلك الآلهة تجد عجائب، هذا من خشب ومنحوت وبطريقة معينة وكأنه شايب، وهذا كأنه شاب، وهذا إله للتناسل، وهذا إله لكذا، وهذه كبار جداً، وهذه صغار، شيء صغير ينقله بالأسفار معه، يخف حمله...، وبيوت للفئران تعبد من دون الله ، ويوضع لها الحليب وكذا، ويأتي الناس ويعبدونها، وبيوت لكل ما هب ودب ودرج، كل ذلك يعبد من دون الله -تبارك وتعالى.

ويكفيك العرب كيف كانوا! الواحد يصنع صنماً من تمر أو لربما حلب الشاة على التراب وجعل منه صنماً ثم عبده حينما ينزل في محل لا يجد فيه ما يعبده، -نسأل الله العافية، فهذا كله واقع، فهذا إفك، -والله المستعان، والدعاء لهذه الآلهة التي يصنعونها بأيديهم ثم يعبدونها، ولا عجب أن ترى هؤلاء في غاية الفقر ويأتي الواحد ببقرته التي لا يملك غيرها، وقد نذرها لهذا الحجر أو الصنم أو القبر الذي يعبد من دون الله -تبارك وتعالى- فهذا وثن.

وأحياناً هذا القبر لا حقيقة له أصلاً، لا يوجد فيه ميت، وأحياناً يوجد فيه نصراني كما وُجد وعرف هذا كثيراً، ووجد في الجزائر، حُفرت بعض هذه القبور فوجدت فيها الصلبان، واكتُشف أنها قبور نصارى كان يدعى أنها قبور أولياء، وكم يدعى من قبور للحسين -عليه الصلاة والسلام- في القاهرة وبلاد الشام وغير ذلك، وقبور يقولون: إنها عبارة عن مقامات أو مشاهد للرؤيا، بمعنى أنه رأى واحد أنه يوضع هنا مشهد، فجاء وبنى مشهداً والمكان لا يوجد فيه قبر، وبعض هؤلاء كذاب دجال ادُّعيت له الولاية، كان قاطع طريق وسارقاً ثم تظاهر لما اكتُشف بشيء من الجنون، وقيد بالسلاسل، ثم بعد ذلك ادعيت له الولاية وظهرت يعني بعض الدعايات ونحو ذلك فصدق من صدق.

وهكذا أيضاً هناك أحجار حتى إنه جاءهم بعض أهل العلم وجلسوا عندهم ما يقرب من أربعة أشهر، وبعض الذين جاءوا علماء وجلسوا عندهم، فكان الرد أن قالوا له: يا مطوع جلستم أو ما جلستم ما نحن بتاركين دينَنا، حجر يضعون عليه السمن والعسل ويذبحون عنده، حجر -صخرة- في بعض النواحي في البادية قبل سنين، وذهب لهم علماء معروفون لو سميت لكم أسماءهم الآن، جلسوا أربعة أشهر تقريباً يعلمونهم، في الأخير قالوا لهم هذا الرد: يا مطوع ما نحن بتاركي دينِنا، "روحوا وراكم" يعني اذهبوا انصرفوا وهذا هنا في جزيرة العرب.

فإذا ابتعد الناس عن دين الله وانكمشت الدعوة ظهر السحر وظهرت مثل هذه الضلالات وكثرت، وانظر في مصر وفي غيرها من البلاد، أمام الأزهر، فمشهد الحسين قدام الأزهر يعبد من دون الله ، مثل هذا كيف يقع؟! أنا ما رأيته لكن لا أتصور هذا، لا أتخيل المشهد، يعبد من دون الله كيف؟! ولا أتصور هؤلاء الذين يدخلون صباح مساء عبر القرون المتطاولة، أكثر من ألف سنة، علماء كل يوم يدخلون ويخرجون وهم يرونه أمامهم، فهو ما له هذه المدة لكن عبر القرون على الأقل، وانظروا إلى الضجة التي اليوم تُثار في تلك البلاد حول هذه الأوثان، وكلام ذلك المفتي البائس أن هذا من صحيح الإسلام، لاحظ تقديم كلمة صحيح على الإسلام، صحيح الإسلام، على سبيل المبالغة، أنه من صحيح الإسلام، الوثنية هذه من صحيح الإسلام، ويهدد ويتوعد الموحدين الذين يبينون للناس هذه الضلالات، نسأل الله العافية، الذي يقول هذا: المفتي.

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وهذا أبلغ في الحصر، كقوله: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [سورة التحريم:11].

يعني ابتغوا، ما قال: ابتغوا الرزق عند الله، لو قال هذا يمكن أن يفهم ابتغوا الرزق عند الله وعند غيره، لكن فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ تقديم الجار والمجرور يفيد هذا الحصر، ابتغوا عنده لا عند غيره، وهؤلاء الذين يعبدون هذه الأوثان والأصنام يُضلَّلون، تضللهم الشياطين، ولهذا لما تقرءون في أخبار الأصنام عند العرب مثلاً في كتاب "أصنام" لابن الكلبي، وكذلك بعض الكتب مثل "تاريخ جزيرة العرب"، أو "الجزيرة العربية" لعلي جواد، وأمثال هذه الكتب تجدون أن بعض هذه الأصنام -بعض هذه المعبودات- كان ينطق فيها شيطان، يسمعون من يرد عليهم، ويكلمهم، فيُفتنون بسبب هذا، وتعرفون في قصة العزى لما أرسل لها النبي ﷺ خالد بن الوليد فقطع السَّمُرات ورجع للنبي ﷺ فأخبره أنه ما فعل شيئاً، ثم رجع ثانية فوجد امرأة سوداء ناشرة شعرها تولول وتدعو بالويل فعلاها بالسيف، فقال النبي ﷺ: تلك العزى[7]، يعني هذه شيطانة تضلل الناس، فيفتن الناس حينما يسمعون مثل هذا، والشياطين لا تفتأ بهذا التضليل، ولا تترك سبيلاً تضلل به الناس إلا فعلته.

ولهذا قال: فَابْتَغُوا أي: فاطلبوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أي: لا عند غيره، فإن غيره لا يملك شيئا، وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ أي: كلوا من رزقه واعبدوه وحده، واشكروا له على ما أنعم به عليكم، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي: يوم القيامة، فيجازي كل عامل بعمله.

وقوله تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني: إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة، والله يضل مَنْ يشاء ويهدي مَنْ يشاء، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء.

وقال قتادة في قوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ قال: يُعزي نبيه ﷺ، وهذا من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام الأول، واعترض بهذا إلى قوله: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ، وهكذا نص على ذلك ابن جرير أيضاً.

يعني بهذا الاعتبار وَإِنْ تُكَذِّبُوا أن هذا موجه لأمة محمد ﷺ، وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ فيكون هذا من الموصول لفظاً المفصول معنى، يعني الكلام السابق في الكلام على ما جرى من إبراهيم ﷺ مع قومه حينما قال لهم: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ، فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ يعني: أن ذلك موجه لهذه الأمة، فصل الكلام عما قبله، ليس أنه من كلام إبراهيم، وإنما هو من كلام الله يخاطب الناس بهذا، اعْبُدُوا اللَّهَ، وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ يعني عفواً: إبراهيم ﷺ قال لهم: اعبدوا الله واشكروه وابتغوا عنده الرزق.

وقوله: وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ يحتمل أن يكون هذا من بقية كلام إبراهيم ﷺ، والسياق في ذكر إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فيكون من جملة خطابه لهم، ويحتمل أن يكون هذا من كلام الله وجّهه للمشركين، فهنا يقول: وقال قتادة: وَإِنْ تُكَذِّبُوا قال: يعزي نبيه ﷺ، يعني أنه انقطع الكلام، قال: وهكذا نص على ذلك ابن جرير -رحمه الله.

والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل يحتج عليهم لإثبات المعاد لقوله بعد هذا كله: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلى آخره، فهذا ظاهر السياق، أنه من بقية كلام إبراهيم ﷺ، والأصل في الكلام الاتصال أو الانفصال؟ الاتصال، ولا يوجد مانع يمنع من ذلك، وهذا له نظائر ذكرتها في مناسبات متعددة، مثل قول امرأة العزيز: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] باعتبار أنه من كلامها، ويحتمل أنه من كلام يوسف ﷺ، وفي ملكة اليمن بلقيس لما قالت: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [سورة النمل:34] قال: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، يحتمل أنه من كلامها، أو أنه من كلام الله يصدق كلامها، إلى غير ذلك من الأمثلة، هذا الذي يقال له: الموصول لفظاً المفصول معنى، والأصل في الكلام الاتصال، أنه من كلام متكلم واحد.

وهكذا في قوله تعالى لما ذكر المناظرة بين إبراهيم ﷺ وقومه، ماذا قال لهم؟ قال: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ [سورة الأنعام:81]، ثم قال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، هل هذا من كلام إبراهيم ﷺ من بقيته أو هو من كلام الله حكَمَ بين الطائفتين بين الفريقين؟ يحتمل، وقد يكون هذا في آية مستقلة، وقد يكون بجزء من آية كخاتمتها وقد يكون هذا بأكثر من ذلك، بمقطع أحياناً، ومضى الكلام على شيء من هذا في سورة البقرة، وما ذكره ابن جرير -رحمه الله- حيث يرى بأن ذلك موجه إلى بني إسرائيل، حتى قصة آدم مع إبليس وإخراجه من الجنة...إلخ، وقصة خلق آدم وما إلى ذلك، أن هذا كله خطاب لبني إسرائيل.

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۝ قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ۝ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[سورة العنكبوت:19-23].

يقول تعالى مخبرًا عن الخليل أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكوراً، ثم وُجدوا وصاروا أناسا سامعين مبصرين، فالذي بدأ هذا قادر على إعادته؛ فإنه سهل عليه يسير لديه.

ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق الله الأشياء: السموات وما فيها من الكواكب النيرة الثوابت، والسيارات، والأرضين وما فيها من مهاد وجبال وأودية وبَرارٍ وقفار، وأشجار وأنهار، وثمار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار، الذي يقول للشيء: كن، فيكون؛ ولهذا قال: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27].

ثم قال تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ أي: يوم القيامة، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: يقول تعالى مخبراً عن الخليل أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد، هذا بناءً على ما سبق، يعني الآية التي مضت في قوله -تبارك وتعالى: وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، يعني هل هذا من جملة كلام إبراهيم ﷺ أو هو من كلام الله -تبارك وتعالى- يُوجَّه إلى الذين خوطبوا بهذا القرآن؟

وإذا كان الأول يعني هذه الآية من جملة كلام إبراهيم ﷺ فقوله تعالى: أَوَلَمْ تَرَوْا فيكون هذا واضحاً أنه من كلام إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مع أنه ليس بقاطع، يعني إذا قلنا: إن قوله مثلاً: وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ موجه لأمة محمد ﷺ مثلاً، فكذلك يكون أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ

وإذا قلنا: الأصل في الكلام الاتصال وأنه من كلام إبراهيم ﷺ، وأن خبره لم ينقضِ بعد؛ لأن الله قال بعد ذلك: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [سورة العنكبوت:24]، يعني: بعدما قال لهم ووعظهم وذكّرهم وأمرهم ونهاهم، وذكر لهم دلائل التوحيد، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا كذا وكذا، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- أنه من جملة كلام إبراهيم ﷺ، ولهذا قال ابن كثير -رحمه الله: يقول تعالى مخبراً عن الخليل أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم...إلى آخره. 

وعلى قراءة أَوَلَمْ يَرَوْا لا إشكال أن يكون من كلام إبراهيم ﷺ فيكون ذلك من قبيل الالتفات فهو تنويع في الخطاب، وهذا معروف وله نظائر، يعني يلتفت من المخاطب إلى الغائب، الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ۝ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:1-5] فهنا التفت من الغائب إلى المخاطب، وكما في قوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم [سورة يونس:22] هذا التفات من المخاطب إلى الغائب، وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ.

ثم إن قوله هنا: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- أن المقصود بقوله: يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي: يبتدئ ذلك وينشئه أول مرة، ثم يعيده بعد ذلك بالبعث، فالنشأة الأولى دليل على البعث، وهذا يحتج الله به في القرآن كثيراً على المشركين، وهو أحد دلائل البعث، الاحتجاج عليهم بالنشأة الأولى، وذلك أهون عليه أي: هيّن عليه، كما قال -تبارك وتعالى، أو باعتبار المخاطبين: أن ما كان مبتدأً أصعب مما كان مُعاداً، فهنا يقول ابن كثير -رحمه الله: أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، يعني الإيجاد، فهنا يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يوجده ثم الذي أوجد قادر على الإعادة، أوجدهم من العدم، فهذا النبات أرض قاحلة ما فيها شيء، يوجد فيها نبات أخضر من أين جاء؟ هذا الإنسان لم يكن موجوداً ثم ولد ووجد، وهو سميع بصير حي.

ومن أهل العلم من يحمل هذا على معنى آخر، كابن جرير -رحمه الله- فهو يرى أن قوله: يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يعني: يستأنف الله خلق الأشياء، فيبدأ الإنسان طفلاً صغيراً، ثم بعد ذلك ينمو، ويشب، يصير غلاماً يافعاً ثم رجلاً مجتمعاً، ثم كهلاً، يُبدئ الله الخلق، يبدأ صغيراً حتى يكتمل، ثم يرجع ثم يعيده، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [سورة التين:5] على بعض الوجوه في تفسيره.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [سورة الحج:5] يرد إلى أرذل العمر، يبدأ صغيراً حتى يكتمل ثم بعد ذلك يبدأ بالتلاشي والضعف حتى يصير إلى تلك الحال، إلى ضعف وشيبة، هكذا قال ابن جرير -رحمه الله، يُبدئ الله الخلق ثم يعيده.

والأقرب -والله تعالى أعلم- هو ما ذكره ابن كثير، أن المقصود الإيجاد فهو دليل وبرهان على البعث، والإعادة ثانية بعدما تفرقت أجزاؤهم في التراب واضمحلت، وهذا كثير في القرآن، فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا [سورة الإسراء:51]، المقصود البعث والنشور، وتارة يحتج عليهم بخلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلقهم، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ [سورة الإسراء:99]، فهذا كله من دلائل البعث، والله تعالى أعلم.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، هذا أيضاً يؤكد المعنى السابق لمّا قال لهم: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، قال: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بحيث ينظرون كيف بدأ الله الخلق، كيف أوجد الأشياء وخلقها ونحو ذلك، وهذا السير إنما هو لمن يحتاج إليه، هذا يحتج به بعض الناس على زيارة الآثار وأماكن المعذبين ونحو ذلك.

والجواب: أن هذا إنما يُؤمر به في القرآن حيث ورد عند من يحتاج إلى ذلك، يعني عنده شك فيقال له: اذهب انظر إلى أماكن بقايا هؤلاء، يعني سِرْ في الأرض فترى خلق الله، ودلائل قدرته، ونحو ذلك، وإلا فما كان الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يذهبون ويزورون هذه الأماكن، ويتعنّون لها، ما كانوا يفعلون هذا، ولا أرشدهم النبي ﷺ إلى هذا، ولما ورد النبي ﷺ على أرض المعذبين في الحِجر أسرع ﷺ، ونهى عن دخولها -الدخول عليهم، مع أنهم جاءوا من تبوك يعني ما قصدوهم، قال: إلا أن تكونوا باكين أو متباكين[8]، يعني: خشية أن يصيبكم ما أصابهم، لكن من يحتاج إلى ذلك يرى.

وأما من وقع له ذلك عرضاً فإنه يرى من دلائل القدرة ما ينشّط بذلك مثل هذه المعاني في قلبه ويحييها من جديد؛ لأن الإلف يذهب معه الأثر، يعني الآن رؤية الشمس وهي تطلع كل صباح وتغيب، والليل حينما يغشى بظلامه، والنهار حينما تسطع أنواره كل هذا يذهب ويتلاشى أثره مع الإلف، ولهذا بعضهم يقول: لو أن أحداً منذ ولد وهو في قبو ما رأى السماء ولا الأرض ولا الشمس ولا القمر ولا النجوم ولا البحار ولا رأى شيئاً، ثم بعد ذلك بعدما صار يدرك ويميز ويعرف ويفهم -وصل إلى سن يربط فيها بين الأشياء- ويفقه ويعرف المعاني والحقائق أُخرِج ووضع، فبدأ في الصباح ورأى الشمس تبدأ تطلع فإنه يراقبها إلى أن تغيب، فإذا رأى الشفق لم ينقضِ عجبه فهاله ذلك المشهد وخاف، كأن ناراً مضطرمة تملأ الأفق، فإذا رأى النجوم تظهر في الليل فإن رأسه لا ينزل وهو يتأملها ويرقبها وينظر إليها فيتعجب من هذا المشهد في السماء، وهكذا حينما ينظر إلى الجبال، ينظر إلى البحر لا ينقضي عجبه منه، لكن الذي ألف هذه الأشياء لا يهتم.

ولهذا حينما تسافر وتذهب إلى بعض الأماكن غير المألوفة بالنسبة إليك تشاهدها أول مرة وترى بعض الجبال في بعض المناطق بصور غريبة عجيبة، في طريقة قيامها وصخورها وتكورها في بعض المواضع واستطالتها في بعض المواضع بصور غير عادية، فحينما يشاهدها الإنسان ينبهر ويُحيي ذلك بقلبه من معاني القدرة ودلائلها الشيء الكثير، لكن الإلف هو الذي يُذهب هذا، فتجد من نشأ في تلك الناحية لا يحرك ذلك فيه ساكناً، ولهذا فإن الآيات المتلوة أيضاً قد يحصل ذلك معها أحياناً، فما يتدبر الإنسان ولا يقف عندها، فإذا وقعت الواقعة صارت هذه المعاني كأنما يسمعها أول مرة، ومصداق ذلك ما حصل لعمر ولأصحاب النبي ﷺ لما توفي رسول الله ﷺ وقرأ أبو بكر عليهم قوله -تبارك وتعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [سورة الزمر:30]، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [سورة آل عمران:144]، فعمر كأنها تنزل الآن، كأنه لم يقرأها من قبل.

فالحاصل أن مثل هذا قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ هذا يحتمل أيضاً أنه من كلام إبراهيم ﷺ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ويحتمل أنه لهذه الأمة، أو أمرٌ للنبي ﷺ وهو أمر لأمته، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، وذلك بناءً على ما سبق من قوله: وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ فيكون الكلام الذي بعده موجهاً لهذه الأمة، وعلى طريقة ابن كثير التي مشى عليها أن هذا كله من كلام إبراهيم -عليه الصلاة والسلام.

وقوله: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ أي: هو الحاكم المتصرف، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، فله الخلق والأمر، مهما فعل فَعَدْلٌ؛ لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن: إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم[9]، ولهذا قال تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي: ترجعون يوم القيامة.

وقوله تعالى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ أي: لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه، بل هو القاهر فوق عباده، وكل شيء خائف منه، فقير إليه، وهو الغني عما سواه.

وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أي: جحدوها وكفروا بالمعاد، أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي: لا نصيب لهم فيها، وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: موجع في الدنيا والآخرة.

قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ابن كثير -رحمه الله- قال: أي لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه، وهذا تفسير جيد، فالخطاب لمجموع الخلق، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ، لا يعجزه شيء -تبارك وتعالى- لا أهل السماوات ولا أهل الأرض، يعني: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يعني: في الأرض، ولا أهل السماء بمعجزين فيها، كما يقول الفرَّاء.

وبعضهم يقول: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ لو كنتم فيها، يعني أنتم لا تعجزون الله -تبارك وتعالى- في أي مكان كنتم، في الأرض أو في السماء -لو كنتم في السماء، والأول هو اختيار ابن جرير -رحمه الله، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ، ولا أهل السماء بمعجزين فيها، وهذا مثل كلام ابن كثير -رحمه الله: لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه، إلا أن عبارة ابن كثير أبسط وأقصر.

قال: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ، الآيات هذه تحتمل أن تكون الآيات التنزيلية، وتحتمل أن تكون الآيات التكوينية، يعني الآيات التنزيلية هذا القرآن، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، كفروا بهذا القرآن، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ [سورة فصلت:41]، ويحتمل أن تكون هذه الآيات التكوينية -الآيات الكونية، مثل كفرهم بآيات الله التي تأتي على يد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مثل ناقة صالح ﷺ، والآيات التي جاء بها موسى -عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك، وما يشاهد أيضاً من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وما أشبه ذلك، فهذا كله داخل فيه كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، ويحتمل أن يكون المقصود مجموع الأمرين، يكون مجموع الأمرين، كفروا بهذا أو هذا فهم متوعَّدون، ووصفهم الله بما وصفهم به أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي أي: لا نصيب لهم فيها، تحتمل الرحمة هنا أن يراد بها الجنة، يعني أنهم يئسوا منها مثلاً في الدنيا، وتحتمل أنهم يئسوا منها في الآخرة لمّا عاينوا وشاهدوا وعرفوا مصيرهم، عاينوا العذاب، يئسوا منها في الآخرة كما يقول ابن جرير -رحمه الله.

فالحاصل أن الرحمة يحتمل أن يكون المراد بها الجنة أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء[10]، ويحتمل أن يكون المراد بها ما هو أعم من ذلك -والله المستعان، كما قال الله -تبارك وتعالى: لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [سورة الممتحنة:13]، يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ المعنى: يعني يئسوا إما من رحمة الله وثوابه في الآخرة لمّا عاينوا الحقائق كما يئس الكفار من رحمة الله، عفواً: يئسوا من الآخرة: من رحمة الله فيها، يعني هؤلاء اليهود كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، يئس الكفار الموتى لما عاينوا الحقائق يئسوا من ثواب الله في الآخرة، يعني اليأس هنا متحد، هؤلاء اليهود يئسوا وهم أحياء من ثواب الله في الآخرة وجزائه الجنة كيأس الموتى من الكفار من ثواب الله في الآخرة لما عاينوا الحقائق، وإن كان هناك يحتمل معنى آخر أيضاً، يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الأحياء من موتاهم أن يرجعوا إليهم، كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ يئسوا من إخوانهم من موتاهم أن يرجعوا إليهم ثانية، قالوا: الذي يموت خلاص ما يرجع ولا يبعث، ولا تُجمع أجزاؤه وما تفرق منها في الأرض، والله أعلم.

  1. رواه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674).
  2. رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم -صلوات الله عليه- وذريته، برقم (3335)، ومسلم، كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، برقم (1677).
  3. رواه ابن أبي حاتم في التفسير (9/ 3039)، برقم (17186).
  4. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2581).
  5. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر، لابن القيم (247).
  6. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر، لابن القيم (247).
  7. رواه النسائي في السنن الكبرى، برقم (11547)، وأبو يعلى في مسنده، برقم (902).
  8. رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، برقم (433)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، برقم (2980).
  9. رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، برقم (4699)، وابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب في القدر، برقم (77)، وأحمد في المسند، برقم (21589)، وقال محققوه: "إسناده قوي، سعيد بن سنان صدوق لا بأس به، وباقي رجاله ثقات، وهو موقوف من حديث أُبيّ بن كعب وابن مسعود وحذيفة بن اليمان، ومرفوع من حديث زيد بن ثابت، سفيان: هو الثوري، وابن الديلمي: هو عبد الله بن فيروز"، وصححه الألباني في تحقيق شرح العقيدة الطحاوية (ص: 509).
  10. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [سورة ق:30]، برقم (4850)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2846).

مواد ذات صلة