الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} الآية:9 إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} الآية:22
تاريخ النشر: ٢١ / شوّال / ١٤٢٧
التحميل: 3579
مرات الإستماع: 5683

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ۝ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ۝ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ۝ وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ۝ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ۝ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ۝ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ۝ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ۝ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:9-17].

يقول تعالى: كَذَّبَتْ قبل قومك يا محمد قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا أي: صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون، وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ قال مجاهد: وَازْدُجِرَ أي: استطير جنونا. وقيل: وَازْدُجِرَ أي: انتهروه وزجروه وأوعدوه:لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [سورة الشعراء:116]، قاله ابن زيد، وهذا متوجه حسن.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- عن قول هؤلاء المكذبين لنوح ﷺ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- القولين:

فالقول الأول: قول مجاهد: وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ أي: استطير جنوناً.

القول الثاني الذي ذكره هنا وَازْدُجِرَ "أي: انتهروه وزجروه" فيكون هذا من كلام الله ، ومن نظائر هذا قوله -تبارك وتعالى- في سوره يوسف: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] فالكلام الذي قبله من كلام امرأة العزيز، فيحتمل أن يكون هذا من بقيه كلامها، تقول: "ذلك أني لم أخنه"، لم أخن يوسف، أو لم تخن زوجها، ويحتمل أن يكون هذا من كلام يوسف ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ من كلام يوسف -عليه الصلاة والسلام، والأول من كلام امرأة العزيز.

وفي سوره الأنعام الله ذكر المناظرة التي جرت بين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وبين قومه فقال لهم إبراهيم ﷺ: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ... [سورة الأنعام:81]، ثم بعد ذلك قال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82].

فهل هذا من بقيه كلام إبراهيم ﷺ؟ أو من كلام الله حكم بين الفريقين؟ وقوله: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [سورة النمل:34]، هل هو بقيه كلام ملكه سبأ؟ أو هذا من كلام الله يُقر ما قالت؟ فهنا قالوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ يحتمل أن يكون وَازْدُجِرَ: من كلامهم، ويحتمل أنهم زجروه أي انتهروه، يعني: كما قال الله قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [سورة الشعراء:116].

فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي: إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فَانْتَصِرْ أنت لدينك، قال الله تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، قال السدي: هو الكثير.

الشيء الذي ينزل أو يخرج بكثرة يقال له: مُنْهَمِرٍ دمه المنهمر، والسيل المنهمر.

وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا أي: نبعت جميعُ أرجاء الأرض، حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيونا.

هذا على أحد الأقوال المشهورة في تفسير قوله تعالى: وَفَارَ التَّنُّورُ [سورة هود:40]، فقد قال بعض المفسرين: التنور هو الذي يخبز به فجعله علامة لبداية الطوفان، حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ جعله علامة له، وَفَارَ التَّنُّورُ فهنا يقول حتى التنانير، فالله قال: وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا هل كل الأرض تفجرت وصارت عيونا؟

أو أن التقدير "وفجرنا عيون الأرض"، ولكن لكثرة هذا كأن الأرض تحولت إلى عيون؟ وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا وهذا من بلاغة القرآن، والمطر ينزل من السماء، ولهذا قال هنا: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ ولهذا قال جماعة من أهل العلم: إن هذا لم يضف إلى السحاب، وإنما إلى السماء وقد تطلق السماء ويراد بها العلو، ويراد بها السحاب كما هو معروف، ولكن هنا قال: أَبْوَابَ السَّمَاءِ فهل يقال ذلك في السحاب؟

ولهذا قال بعضهم: إن هذا الذي نزل عليهم نزل عليهم من السماء وليس من السحاب، فتحت أبواب السماء بالمياه، وتحولت الأرض إلى شيء آخر وصارت عيونها جارية.

فَالْتَقَى الْمَاءُ أي: من السماء ومن الأرض عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي: أمر مقدر.

قوله: عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ هذا هو المشهور، وهو الذي عليه عامة المحققين، وبهذا فسره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وجماعة من المتأخرين كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- ومن أهل العلم كابن قتيبة من قال: إن المراد عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي: أنه في حال من التساوي الذي نزل من السماء، والذي نزل من الأرض هذا يساوي هذا لا يزيد أحدهما على الآخر، والقول الأول أوضح وأقرب عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي: مقدر.

قال ابن جُرَيْج: عن ابن عباس: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ كثير، لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده، ولا من السحاب؛ فتحت أبواب السماء بالماء -من غير سحاب- ذلك اليوم، فالتقى الماءان على أمر قد قدر.

قدره الله -تبارك وتعالى- وقوله: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ في قراءة متواترة قراءة ابن عامر بالتشديد (ففتَّحنا أبواب السماء)، ومعلوم أن مثل هذا التشديد يدل على التكثير.

وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والقرظي، وقتادة، وابن زيد: هي المسامير، واختاره ابن جرير، قال: وواحدها دسار، ويقال: دَسير، كما يقال: حَبيك وحِباك، والجمع حُبُك.

يقال: دُسَير بضم الدال تصغير دُسُر الجمع، ودَسير للواحد، وهي المسامير كما فسرها أكثر أهل العلم، وهذا هو -والله أعلم- المعنى المتبادر، وبعضهم يفسره بما هو أعم من هذا فيدخل فيه المسامير، يقال: كل شيء أدخل في شيء ليشده فهو دسر، ويكون من ذلك المسامير، ومن ذلك الخيوط التي تشد بها ألواح السفينة يقال لها: دسر، وبعضهم فسره بظهر السفينة التي يضربها الموج، المقدمة التي يضربها ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، وإنما من قال بذلك؛ لأنه جاء في كلام العرب فالمعنى المشهور للدسر هي المسامير.

وقوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا أي: بأمرنا، بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا.

بأمرنا، بمرأى منا، وتحت حفظنا وكلاءتنا بِأَعْيُنِنَا وفيه إثبات صفة العين لله على ما يليق بجلاله وعظمته، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة.

جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ أي: جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصارًا لنوح .

هذا انتصار لنوح ﷺ فكذبوه فأهلكهم الله -تبارك وتعالى- لتكذيبهم لنبي كريم من أنبيائه جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وهو نوح ﷺ وبعضهم يقول: الله -تبارك وتعالى، كفروا بالله، وبين القولين ملازمة، جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ نوح ﷺ والذين كذبوا نوحاً هم كافرون بالله، الذي كفر بنوح كافر بالله .

وقوله: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة، والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن.

يعني: هذا القول الأول وبه قال ابن جرير، وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً يعني: سفينة نوح -عليه الصلاة والسلام، والقول الثاني: أنه جنس السفن وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ آية تُذكّر بتلك التي حَمل عليها نوحاً -عليه الصلاة والسلام- ومن معه، وهي آية أيضا من آيات الله حيث تجري على الماء، وتحمل فيها الأحمال الثقال من الناس وألوان التجارات وما إلى ذلك، وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً قال: المراد جنس السفن، وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۝ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [سورة يس:41، 42]، فما المراد بهذا الفلك المشحون؟

سفينة نوح -عليه الصلاة والسلام، هذا هو المشهور، لكن قال حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ والمخاطب بذلك ليس من عاصر النبي ﷺ لأن هذا القول أنها سفينة نوح، ولفظ الذرية يطلق على الأجداد على الآباء، ويطلق على الأبناء فهو من الأضداد وذُرِّيَّتَهُمْ أي: الآباء، ومن أهل العلم من قال: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ليس المقصود الفلك الذي حَمل به نوحاً ﷺ ومن معه، وإنما جنس السفن فتكون الذرية بمعنى الأبناء.

وقال: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ۝ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [سورة الحاقة:11، 12].

الله يقول: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ [سورة العنكبوت:15]، إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ۝ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [سورة الحاقة:11، 12].

والمقصود بقوله: لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً يحتمل أن يكون المراد به هذه الفعلة إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ۝ لِنَجْعَلَهَا يحتمل أن تكون هذه، فعلنا ذلك؛ لتكون آية، وتذكرة من أجل الاتعاظ والاعتبار كما قال الله عن قوم نوح: أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً [سورة الفرقان:37] فالآية هي ما وقع لهم من الغرق، ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ۝ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [سورة الشعراء:120، 121]، ويحتمل أن تكون الآية هي التذكرة هي السفينة.

ولهذا قال هاهنا: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: فهل من يتذكر ويتعظ؟

روى الإمام أحمد عن ابن مسعود ، قال: أقرأني رسول الله ﷺ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن، مُدَّكر أو مُذَّكر؟ قال: أقرأني رسول الله ﷺ: مُدَّكِرٍ.

وهكذا رواه البخاري عن عبد الله قال: قرأت على النبي ﷺ: فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ فقال النبي ﷺ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.

وقوله: فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ أي: كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ولم يتعظ بما جاءت به نُذُري، وكيف انتصرت لهم، وأخذت لهم بالثأر؟

هنا في قوله: فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ أي ونُذُري، ويحتمل أن يكون النُذُر مصدراً بمعنى الإنذار، فكيف كان عذابي وإنذاري؟

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه لمن أراده، ليتذكر الناس. كما قال: كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ [سورة ص:29]، وقال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا  [سورة مريم:97].

وقوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يَسَّر الله حفظه ومعناه؟

وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي؟

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ۝ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ۝ تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ۝ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ۝ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:18-22].

يقول تعالى مخبرا عن عادٍ قوم هود: إنهم كذبوا رسولهم أيضا، كما صنع قوم نوح، وإنه تعالى أرسل عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا، وهي الباردة الشديدة البرد.

رِيحًا صَرْصَرًا، فُسرت بشدة البرد، وبعضهم يقول: لها صوت، ومن أهل العلم من يجمع بين المعنيين، فكل هذا صحيح في لغة العرب، يقول: وريح باردة شديدة لها صوت.

فِي يَوْمِ نَحْسٍ أي: عليهم، قاله الضحاك، وقتادة، والسّدّي، مُسْتَمِرٍّ عليهم نحسه ودماره؛ لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي.

هذا لعله أحسن ما يفسر به -والله أعلم- وهو أنه من الدوام، فأهلكهم هذا العذاب واستأصلهم، ثم بعد ذلك صاروا إلى عذاب آخر برزخ، مستمر لم ينقطع عنهم حتى هلكوا، وبعضهم فسره بغير هذا بمعنى أنه من المرارة، وبعضهم فسره بالقويّ، وما ذكره ابن كثير -رحمه الله- هنا أقرب، والله تعالى أعلم.

وقوله: تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار، ثم تنكسه على أم رأسه، فيسقط إلى الأرض، فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس؛ ولهذا قال: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ۝ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ۝ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.

قوله: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ العَجزُ: عَجُز الشيء هو مؤخره، أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ والمنقعر بمعنى المنقلع المنقطع من أصله، فالله صور هؤلاء الهلكى الذين قد تساقطوا وتناثروا وهم أصحاب أجسام ممتدة ضخمة، وإذا أردت أن تتصور هذا، لك أن تتصور ما حصل في الطوفان في شرق آسيا، وإذا رأيته تذكرت هذه الآية كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ لكن مع الفارق في الأجسام، لكن الناس تجد المُنكب على وجهه كأنه عجز نخلة انقلع، فهو في أصله في مؤخرته يبدو غليظا، ثم بعد ذلك يكون أدق، فهم متساقطون متهاوون هكذا.

وهكذا قوله: فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [سورة القمر:31]، فإذا نظرت إلى بيوت أولائك، وكل ما عندهم من أثاث ونحو ذلك صار حطاماً هكذا كالهشيم، حصيد محصود.

مواد ذات صلة