الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ} الآية 8 إلى قوله تعالى: {وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} الآية 22
تاريخ النشر: ١١ / محرّم / ١٤٣٠
التحميل: 3711
مرات الإستماع: 4286

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [سورة المؤمنون:8] أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله ﷺ: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان[1].

الأمانات تشمل كل ما اؤتمنتَ عليه من حقوق الله وحقوق الخلق، فابتداءً من النفس فهي أمانة لا يجوز للإنسان أن يضيعها، أو أن يعرضها إلى التهلكة، وهو لا يملكها، ومن ثم فليس له أن يتبرع أو يتنازل عن شيء من أبعاضه، كذلك ما يتعلق بحقوق الله -تبارك وتعالى- من الفرائض، وما يتعلق بحقوق الخلق من أموال ائتمنوك عليها أو غير ذلك، فهذا كله من الأمانات.

وبعض أهل العلم يفرق بين أحكام هذه الشريعة ويقسمها إلى أمانات وشعائر كما مر في الكلام على قوله تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحـج:32]، فذكرت هناك أن من أهل العلم من يجعل الشعائر هي الأمور الظاهرة مثل: الأذان وصلاة الجماعة، وما شابه ذلك، والأمانات هي الأمور الخفية مثل الطهارة، لو صلى من غير طهارة وما يعلم به أحد، والصيام وما أشبهه.

وعلى كل حال المعنى في قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ يشمل كل حق لله وكل حق للمخلوق، ومن ذلك النفس فهي ملك لله ، وإذاً كل ما أمرك الله بحفظه فهو من الأمانات، وكذلك العهود تحمل على المعنى الأعم وهو كل ما أخذ الله - تبارك وتعالى- عليك العهد بحفظه من حقوق الله وحقوق الناس فهو داخل في هذا، وكل ما أخذ عليك العهد به من قبل المخلوقين فالأيمان داخلة في هذا، والوعد داخل فيه، وقد قال- تبارك وتعالى: وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [سورة النحل:91]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1].

فالتعاقدات التي تكون مع المخلوقين والمعاهدات، وما يقطعه الإنسان على نفسه كالنذر كل هذه الأشياء داخلة في العهد، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [سورة المؤمنون:8] والراعي على الشيء أو للشيء هو القائم عليه بالحفظ والرعاية والاحتياط، والصيانة، والإصلاح مثلما يقال: راعي الغنم، وهو الذي يحفظها ويقوم على شئونها بما فيه صلاحها ونفعها وهكذا أيضاً الراعي يقال للأمير وما في معناه باعتبار أنه يقوم على مصالح هؤلاء وشئونهم بما فيه مصلحتهم، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن الولايات إنما المقصود بها إقامة الدين والدنيا.

فنصب الأئمة والولاة والحكام إنما من أجل أن يقيموا للناس دينهم ودنياهم بما فيه مصلحتهم، ويدفعون عنهم كل ما يعرض لهذه الضرورات من الآفات التي تبطلها أو تنقصها أو تؤثر عليها بوجه من الوجوه، يرفضونها من جهة الوجود، ومن جهة العدم.

وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [سورة المؤمنون:9]،

هكذا قراءة الجمهور، وقراءة حمزة، والكسائي بالإفراد صلاتهم فهي قراءة متواترة.

وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [سورة المؤمنون:9]، أي: يواظبون عليها في مواقيتها، كما قال ابن مسعود: سألت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله[2]. أخرجاه في الصحيحين، وقال قتادة: على مواقيتها وركوعها وسجودها.

وهذا أعم بلا شك من الذي قبله، فالمحافظة على الصلاة لا تختص بالوقت، وإنما تشمل الوقت وتشمل غيره مما يجب المحافظة عليه كالطمأنينة، وما يكون في هذه الصلاة من شروط وواجبات وأركان، وما أشبه ذلك، فيأتون بها على الوجه المشروع.

وإن كان الذي يتوجه إلى الذهن أن المحافظة المقصود بها المحافظة على الأوقات، ولكن ذلك لا يختص بالوقت، فيحمل على أعم من ذلك، كما قال قتادة وهو الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- وفي مقابل هذا يقول الله : فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [سورة الماعون:4، 5]، فبعض أهل العلم يقول: هو الذي يتركها حتى يخرج الوقت، وبعضهم يقول: حتى إذا قارب الوقت للخروج صلاها يعني يتركها إلى آخر الوقت، وهذا وإن قال به جماعة من السلف إلا أن المعنى أعمالَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [سورة الماعون:5].

وقد أخرج بعض السلف من هذه الآية معنى السهو في الصلاة؛ لأن الله –تبارك وتعالى- قال: عَن صَلَاتِهِمْ ولم يقل في صلاتهم، فحروف الجر تتناوب، فيدخل فيه تضييع الأوقات، وتضييع الشروط والأركان والواجبات، ويدخل فيه السهو في الصلاة الذي يكون بسبب الإهمال، والتفريط، والغفلة، والتضييع، فبعض الناس يدخل في صلاته، ويخرج منها ولا يدري ماذا قرأ الإمام، ولا يدري كم صلى من الركعات، فهذا داخل في قوله -تبارك وتعالى:  الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [سورة الماعون:5].

قال: وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال رسول الله ﷺ: استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن[3].

هذه من اللطائف، واللفتات الجميلة في هذا الكتاب، وذلك أن الله لما ذكر صفات أهل الإيمان افتتحها بالصلاة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [سورة المؤمنون:1، 2] واختتمها أيضاً بالصلاة، فدل على منزلة الصلاة فمن لم يكن كذلك -يعني من أهل الخشوع فيها والمحافظة عليها- فليس من أهل الفلاح.

ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة المؤمنون:10، 11]، وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن[4].

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ[5].

وقال ابن جريج عن ليث عن مجاهد أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترك أولائك ما أمروا به مما خلقوا له، أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم بل أبلغ من هذا أيضاً، وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه عن النبي ﷺ قال: يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى[6]، وفي لفظ له: قال رسول الله ﷺ: إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقال: هذا فكاكك من النار[7] فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله ﷺ بذلك قال: فحلف له، قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [سورة مريم:63]، وكقوله: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الزخرف:72].

ذكر المصنف -رحمه الله– الأحاديث السابقة من باب الاستطراد والزيادة في تقرير المعنى السابق، فلما ذكر أن لكل واحد منزلين، قال: وأبلغ من ذلك لمّا قال: إن أهل الجنة يرثون منازل أهل النار في الجنة والعكس، قال: وأبلغ من هذا أنه يدفع إليهم يقال هذا فكاكك من النار، فلا يكون فقط وارثاً لمنزله، لكن المعنى الذي يختص بنا هو ما ذكر فيه النبي ﷺ التوارث في المنازل، فهذا الحديث السابق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات، فدخل النار، ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، صحيح ثابت، وهو من قبيل التفسير النبوي الذي نص فيه النبي ﷺ على الآية بعينها.

وهناك نوع من التفسير النبوي لا يتعرض النبي ﷺ للآية لكنه يذكر معنى، فالمفسر يربط بين الآية وبين المعنى، كقوله –تبارك وتعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [سورة الفجر:23]، فيأتي المفسر ويفسر الآية بقول النبي ﷺ: يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها[8]، فلم يتعرض النبي ﷺ للآية.

وقد يكون الارتباط غير واضح فقد يخطئ المفسر، وقد يصيب، ولهذا يقال: إن تفسير القرآن بالسنة يدخله الاجتهاد، و خير ما يفسر به القرآن هو كلام رسول الله ﷺ.

قال ابن القيم –رحمه الله: "والفردوس اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها، كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات، وأصل الفردوس البستان والفراديس البساتين، قال كعب: هو البستان الذي فيه الأعناب، وقال الليث: الفردوس جنة ذات كروم يقال: كرم مفردس أي معرش، وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة بالأشجار وهو اختيار المبرد وقال: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب وجمعه الفراديس ..."[9].

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ۝ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۝ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ۝ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [سورة المؤمنون:12- 16].

يقول تعالى مخبراً عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم خلقه الله من صلصال من حمإ مسنون.

قال ابن جرير: إنما سمي آدم طيناً لأنه مخلوق منه، وقال قتادة: استل آدم من الطين، وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق، فإن آدم خلق من طين لازب، وهو الصلصال من الحمإ المسنون، وذلك مخلوق من التراب كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ [سورة الروم:20].

قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍالسلالة فُعالة من السَّل، والسل هو استخراج الشيء من الشيء، يقال له السل تقول: سل الشعرة من العجين، استخرج الشيء من الشيء.

وقول ابن كثير –رحمه الله: "وهو آدم خلقه الله من صلصال من حمإ مسنون" يحتمل أن يكون المحدث عنه في قوله  -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ هو آدم -عليه الصلاة والسلام- بخصوصه فهو أصل الآدميين، وهم خلقوا بعد ذلك من صلبه، من نطفة من ماء مهين.

ويحتمل أن يكون المقصود بالإنسان جنس الإنسان، وأنه في أصل خلقته يرجع إلى الطين.

 يقول: "قال ابن جرير: إنما سمي آدم طيناً لأنه مخلوق منه" النقل هنا في عبارة ابن جرير ليس بدقيق، فعبارة ابن جرير -رحمه الله: "ولقد خلقنا ابن آدم من سلالة آدم وهي صفة مائه، وآدم هو الطين؛ لأنه خُلق منه"[10].

والكلام هنا يختلف عن كلام ابن جرير، فابن جرير يقول: إن الإنسان ليس هو آدم، إنما المقصود به الذرية خلقوا من سلالة أبيهم الذي هو الطين.

وابن كثير يقول: "يقول تعالى مخبراً عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم خلقه الله من صلصال من حمإ مسنون" فكلامه محتمل عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، ابتداء خلق الإنسان، فمعنى ذلك أنه يقصد ابتداء خلق آدم أنه من سلالة من طين، وكلام ابن جرير أن الإنسان هو الذرية وليس آدم، وأن الطين هو آدم والسلالة منه، هي ماؤه.

والتنوين في قوله: سُلالَةٍ تنوين عوض، عوض عن آدم ﷺ.

قال: "وقال قتادة: استل آدم من الطين" هذا كلام يفسر كلام ابن كثير -رحمه الله- بمعنى أن آدم خلق من سلالة من طين، استل من الطين.

قال: "وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق" يعني: هو رجح قول قتادة، ووجه الترجيح أنه ما عهدت تسمية آدم بالطين، ثم إن الذرية لم تخلق من الطين، وقد جرت العادة في القرآن حينما يذكر الله خلْق آدم أنه يذكر أنه خلقه من تراب من صلصال من حمإ مسنون، فحينما يقال: خلقنا الإنسان من سلالة من طين، معنى ذلك أنه استل من الطين في هذه الأطوار التي مر بها وهو تراب فلما خلط بالماء صار طيناً فترك فتغير فصار حمأً مسنوناً متغيراً ثم جف هذا الطين، وصار كالفخار، فهذا الجمع بين الألفاظ الواردة في القرآن في خلق آدم من تراب، ومن طين، ومن صلصال، فهي أطوار مر بها خلق آدم ﷺ.

وروى الإمام أحمد عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك[11] وقد رواه أبو داود والترمذي نحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً [سورة المؤمنون:13] هذا الضمير عائد على جنس الإنسان كما قال في الآية الأخرى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ [سورة السجدة:7، 8]، أي: ضعيف، كما قال: أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ ۝ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ [سورة المرسلات:20، 21] يعني: الرحم مُعد لذلك، مهيأ له.

هذا الحديث: إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك يمكن أن يقال فيه بما يقوله أصحاب التفسير العلمي، أو الإعجاز العلمي -على سبيل الاحتمال- بأن العلم الحديث يقول: إن عناصر التربة جميعاً موجودة في الإنسان.

قوله: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةًفهذه قرينة تدل على أن الأول المراد به آدم ﷺ فليس كل الناس خلق من الطين، ثم صار نطفة، إنما خلق آدم ﷺ من الطين ثم كانت الذرية من النطفة، والمقصود بالنطفة الشيء اليسير من السائل أو من الماء أو نحو ذلك.

وقد قال الله –تبارك وتعالى– في وصف النطفة: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ [سورة السجدة:8] أي: ضعيف، والمهين ليس فقط الضعيف، بل هو الشيء الذي ليس له شأن ولا قيمة، ونحو ذلك، يقال: المهين غير العزيز، فالنطفة هي من الأشياء المستقذرة، ولهذا فإن الراجح الذي عليه عامة أهل العلم أن المني طاهر، وأما حك النبي ﷺ له من ثوبه إن كان يابسًا، فهذا من باب التنزه، ولا يدل على أنه نجس، فمثله مثل البصاق والمخاط، فهو مستقذر وليس بنجس.

وقوله: إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ۝ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [سورة المرسلات:22، 23]، أي: مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنقل من حال إلى حال وصفة إلى صفة، ولهذا قال ههنا: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [سورة المؤمنون:14]، أي: ثم صيرنا النطفة، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره، وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة، فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة.

قال بعض أهل العلم: إن خروج الماء من بين الصلب والترائب راجع إلى الرجل فحسب، يعني: صلب الرجل وترائب الرجل، وهذا قال به جماعة من أهل العلم من المتقدمين من السلف.

وقوله: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ [سورة المؤمنون:13] المقصود بالقرار المكين هو الرحم فهو في موضع يحصل به حفظ وصيانة هذا الجنين، ولذلك يمكن أن يذكر هنا ما يذكره أصحاب التفسير العلمي في هذا المقام فهو لا يعارض ظاهر الآية، ولا يعارض أقوال السلف حينما يصفون عظام الحوض بأنها أقوى العظام وموضع الرحم فيها، ثم ما يذكرون من أربطة، وما يذكرون من أن الجنين لا تأتيه أمور تؤثر عليه.

وقوله: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً قيل لها علقة؛ لأنها تعلق بجدار الرحم، وقوله: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا، مضى الكلام على هذا في عدد من المناسبات بأن الفاء للتعقيب المباشر، وعبر بها هنا مع أن ما بين كل مرحلة ومرحلة أو طور وطور أربعون يوماً؛ لأن المباشرة في كل شيء بحسبه، وهذا سبق قريباً عند قوله -تبارك وتعالى: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً  [سورة الحـج:63].

قال عكرمة: وهي دم فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط.

يعني: بقدر ما يمضغ، لحمة صغيرة، هذه هي المضغة، بقدر ما يمضغ، ولا حاجة للتكلف في هذا أن يقال: إنها بصورة المضغة، وكأنها قد مضغت، وفيها صورة أسنان كما يذكر أصحاب التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي، ليس هذا المراد بكلام العرب حينما يقال: هذا بقدر مضغة أو مضغة من الطعام أو نحو ذلك.

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا، يعني: شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.

هذه قراءة الجمهور قراءة ابن عامر ورواية عن عاصم، ورواية شعبة عظماً ذات يدين، ورجلين، بعظامها، وعصبها، وعرقها، ويمكن أن يذكر كلامهم في أن البداية أنه يكون العظام على صورة كالغضاريف، ثم بعد ذلك تُكسى اللحم.

فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [سورة المؤمنون:14]، أي: وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ، أي: ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقاً آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب.

هذا تفسير الخلق الآخر، فكان قبل ذلك لا حياة فيه، ثم بعد ذلك نفخ فيه الروح فصار كائناً حياً، وبعضهم يقول: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ بعدما كان بهذا الضعف مضغة، ثم صار عظاماً، ثم كُسي لحماً وأنشأناه خلقاً آخر بتكميل قواه، حتى صار بصورة أخرى، وحال أخرى، وعلى كل حال الأقرب -والله تعالى أعلم- أن قوله: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ أنه بنفخ الروح والحركة صار خلقا آخر، إذ سمعَ وبصرَ، وتحرك واضطرب، وقبل ذلك كان جمادا لا حياة فيه، فصار إنسانا سويا.

وقال العوفي عن ابن عباس ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ يعني: ننقله من حال إلى حال إلى أن خرج طفلاً ثم نشأ صغيراً، ثم احتلم ثم صار شاباً، ثم كهلاً ثم شيخاً ثم هرماً.

هذه الرواية لا تصح عن ابن عباس –ا- فالله –تبارك وتعالى– ذكر أنه بعد النطفة، والمضغة والعظام التي كساها لحماً أنه أنشأ خلقاً آخر، وليس معنى ذلك أنه يكون شاباً ثم شيخاً، وإنما تحول إلى شيء آخر، فالذي يحصل بعد أن تُكسى العظام لحما أن يصور هذا بصورة إنسان، ثم تنفخ فيه الروح فيتحول إلى إنسان، ولا يقال له إنسان قبل نفخ الروح، فالإنسان هو مجموع الروح والجسد.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وهل هو شقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها[12] أخرجاه.

وقوله: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [سورة المؤمنون:14]، يعني حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال وشكل إلى شكل حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق، قال: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.

هل المراد بالخلق التصوير، ويكون المعنى: أحسن المصورين والمشكلين، أو المقصود به أحسن المقدرين، أو المقصود به أحسن الصانعين؟ فالخلق يأتي أحياناً بمعنى الصنع، ويأتي بمعنى الإيجاد والإنشاء، ويأتي بمعنى التقدير، ويأتي بمعنى التصوير كقوله -تبارك وتعالى: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [سورة الحشر:24] فمن أهل العلم كابن جرير –رحمه الله– وسبقه إلى هذا القول مجاهد، فقال: أحسن الخالقين أي أحسن الصانعين، بينما بعض أهل العلم يقول: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ يعني: أحسن المقدرين، ففسر الخلق بمعنى التقدير، وهذا الذي ذهب إليه العلامة الشنقيطي -رحمه الله.

ومن المعلوم أنه لا يمتنع أن يوصف المخلوق بأنه يخلق، فيقال: إن كان المقصود به الإيجاد من العدم هذا لا يكون إلا لله .

وإن كان المقصود بالخلق التقدير، فقد يوصف بهذا، ومنه قول الشاعر:

فلأنتَ تفرِي ما خلقتَ وبعضُ القومِ يخلقُ ثم لا يفرِي

فقوله: تفري ما خلقتَ، يعني: أنك تقدّر ما خلقت، أي: ما قدرت، فأطلق الخلق على التقدير.

ويطلق الخلق على التصوير والتشكيل، ومنه قوله –تبارك وتعالى: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [سورة آل عمران:49]، وقوله: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [سورة المائدة:110]، فوصفه بهذا.

وبعض الناس يستوحش من هذه العبارة إذا استعملها الإنسان، مثلاً إذا قال: دعونا نخلق أفكاراً أو نخلق فكرة، أو نحو ذلك، وهذا لا إشكال فيه شرعا إذا قصد به التقدير أو قصد به التصوير والتشكيل.

فالمعنى في قوله: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ يحتمل، وكل ذلك يصدق على الله أنه هو المقدر، والصانع الموجد من العدم، لكن الإشكال الذي حمل بعض أهل العلم على تفسيره بالمقدرين لربما يكون هو أن أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ معناها أن الخالق والمخلوق اشتركا في صفة، فكيف يقال للمخلوق بأنه يخلق؟ ففسر بالتقدير، لكن لو فسر بالمصور والصانع فلا إشكال.

 وقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ [سورة المؤمنون:15]، يعني: بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ يعني النشأة الآخرة ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [سورة العنكبوت:20] يعني: يوم المعاد، وقيام الأرواح إلى الأجساد، فيحاسب الخلائق، ويوفى كل عامل عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [سورة المؤمنون:17]، لما ذكر تعالى خلق الإنسان، عطف بذكر خلق السموات السبع، وكثيراً ما يذكر تعالى خلق السموات والأرض مع خلق الإنسان كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [سورة غافر:57]، وهكذا في أول المالسجدة التي كان رسول الله ﷺ يقرأ بها صبيحة يوم الجمعة، في أولها خلق السموات والأرض، ثم بيان خلق الإنسان من سلالة من طين، وفيها أمر المعاد والجزاء وغير ذلك من المقاصد.

وقوله: سَبْعَ طَرَائِقَ [سورة المؤمنون:17]، قال مجاهد: يعني السموات السبع، وهذه كقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [سورة الإسراء:44]، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا [سورة نوح:15]، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [سورة الطلاق:12] وهكذا قال ههنا وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ  [سورة المؤمنون:17].

المقصود بالطرائق أي الطباق، وقيل لها طرائق؛ لأنه قد طورق بعضها على بعض، فكانت طبقاً بعد طبقاً، كما نعبر الآن فنقول: طراقة من الثياب، ولهذا العرب تعبر بهذا في أشياء كثيرة فيقال: مطارقة النعل، أي طبقات من الجلد طبقة فوق طبقة.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [سورة المؤمنون:17]،أي: ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير.

قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَالخلق هنا مصدر، والمصدر قد يطلق ويراد به المفعول، ويكون المعنى وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِأي: عن المخلوق، أي لم نتركه هملا أو نغفل عنه، فلو أن الله ترك المخلوقات هملا لضاعت، وحصل لها الفساد، وهلك الخلق فإن الله لو تخلى عنهم طرفة عين لما كان لهم بقاء، وقد قال –تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [سورة فاطر:41] فهو يحفظ السموات والأرض من الاضطراب والاختلال، ويحفظ من فيهما.

وهو سبحانه لا يَحجب عنه سماءٌ سماءً ولا أرضٌ أرضاً، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره.

العلامة ابن كثير –رحمه الله– يتكلم عن العلم، والإحاطة، والمعنى لا يختص بالعلم، فالله –تبارك وتعالى- يقوم على خلقه أيضا بالحفظ، وهذا من معاني ربوبيته .

ولا بحر إلا يعلم ما في قعره، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال والبحار والقفار والأشجار وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سورة الأنعام:59].

وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ۝ فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ۝ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ۝ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ۝ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [سورة المؤمنون:18-22].

يذكر تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر، أي بحسب الحاجة لا كثيراً فيفسد الأرض والعمران، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيراً لزرعها ولا تحتمل دِمْنتها إنزال المطر عليها، يسوق إليها الماء من بلاد أخرى كما في أرض مصر ويقال لها الأرض الجرز، يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها، فيأتي الماء يحمل طيناً أحمر فيسقي أرض مصر ويَقرّ الطين على أرضهم ليزرعوا فيه، لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال، فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور.

هذا من اللطائف في المعاني، وفي خلق الله وبديع صنعه الأرض التي تكون من قبيل السباخ أو التي لا تمسك الماء أو نحو ذلك، فيهيئ الله لها من الأسباب ما يحصل به صلاحها، فأرض مصر يقولون: لا تنتـفع بنزول المطر عليها فيأتيها الماء من أماكن أخرى يسوقه الله إليها بما يحمله من طين يصلح للزراعة وتستقيم أحوالهم بهذا.

 وقوله: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ، أي: جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض، وجعلنا في الأرض قابلية له تشربه، ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى، وقوله: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ، أي: لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري والقفار لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه أجاجاً لا ينتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض بل ينجر على وجهها لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا، ولكن بلطفه ورحمته يُنزل عليكم الماء من السحاب عذباً فراتاً زلالاً، فيُسكنه في الأرض ويسلكه ينابيع في الأرض، فيُفتح العيون والأنهار ويَسقِي به الزروع والثمار، وتشربون منه ودوابكم وأنعامكم، وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون، فله الحمد والمنة.

الماء في باطن الأرض يجري، وفي مجارٍ محددة وعروق يعرفها أهل هذا العلم، وهو على مراتب أيضاً وطبقات، وهو أنواع في مرارته وعذوبته وغير ذلك، فهذا كله من آيات الله -تبارك وتعالى، أسكن هذا الماء في الأرض فهو يجري فيها كما تجري الجداول والأنهار، بل منها ما يجري في البحر، وجعل في البحار عيوناً عذبة، يعرفها أهل البحار حتى إنهم ينزلون ويتزودون منها، وهم في البحر يملئون منها القِرب يعرفون أماكنها منذ أزمنة متطاولة، فسبحان الله.

وقوله: فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [سورة المؤمنون:19] يعني: فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين وحدائق ذَاتَ بَهْجَةٍ [سورة النمل:60] أي: ذات منظر حسن، وقوله: مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ  أي: فيها نخيل وأعناب، وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ولا فرق بين الشيء وبين نظيره.

العلماء مختلفون في تحديدها وضبطها، فبعضهم يقول: ما لا يكون قوتاً فهو من الفواكه، مثل التفاح، والبرتقال، وما أشبه ذلك يقال له فواكه، فهو ليس بقوت، ولا إدام، ومع ذلك تجد أهل العلم يختلفون في ثمرات النخيل، هل يقال لها فاكهة أو لا؟

فبعضهم يقول: إن ما تنتجه النخيل يقال له فاكهة أيضاً، وبعضهم يخرجه من هذا، وهذا يفيد في حالة لو حلف إنسان ألا يأكل فاكهة، فما الذي يصدق عليه هذا الحلف ؟

وقوله: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [سورة المؤمنون:19] كأنه معطوف على شيء مقدر، تقديره تنظرون إلى حسنه ونضجه ومنه تأكلون، وقوله: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء [سورة المؤمنون:20]، يعني: الزيتونة.

قوله: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءالواو حرف عطف، والشجرة معطوفة على الجنات.

والطور هو الجبل، وقال بعضهم: إنما يسمى طوراً إذا كان فيه شجر، فإن عري عنها سمي جبلاً لا طوراً، والله أعلم، وطور سيناء هو طور سينين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران ، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون.

وبعضهم يقول هو جبل ببيت المقدس، وبعضهم يقول: إن سيناء هذه صفة تعني الحسن، فمعنى ذلك أنه لا يختص بجبل بعينه، فإذا قيل: الجبل الذي عليه الشجرة يقال عليه طور، فيكون وصفاً بذلك مثلاً لحسنه، وقال بعض السلف: سيناء أي المبارك، وعلى كل حال عامة أهل العلم الجمهور يقولون: هو اسم للجبل، وهذا هو المتبادر وهو الأقرب، والله أعلم.

وقوله: تَنبُتُ بِالدُّهْنِ [سورة المؤمنون:20]، قال بعضهم: الباء زائدة، وتقديره تُنبت الدهنَ كما في قول العرب: ألقى فلان بيدِه، أي يدَه، وأما على قول من يضمّن الفعل، فتقديره تخرج بالدهن أو تأتي بالدهن، ولهذا قال: وَصِبْغٍ أي: أُدْم، قاله قتادة.

لِّلْآكِلِينَ [سورة المؤمنون:20] أي: فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ، وروى عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن عمر أن رسول الله ﷺ قال: ائتدموا بالزيت وادّهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة[13]، ورواه الترمذي وابن ماجه.

قوله: تَنبُتُ بِالدُّهْنِ قال بعضهم: الباء زائدة، وتقديره: تُنبت الدهنَ، وقال ابن جرير –رحمه الله: تَنبُتُ بِالدُّهْنِ، أي: بثمر الدهن.

وقد قرأ الجمهورتَنبُتُ بِالدّهْنِ، وهناك قراءة أخرى متواترة، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو بكسر الباء، وضم التاء تُنبِت بِالدّهْنِ، وعلى قراءة الجمهور يحتمل أن يكون المعنى: تنبت في نفسها متلبسة بالدهن، وعلى القراءة الثانية تُنبِت بِالدّهْنِ تكون الباء بمعنى مع، يعني مع الدهن.

وقوله: وَصِبْغٍ أي: أُدْم، يعني الناس يأتدمون به ويصبغون به، فمن الممكن أن يؤكل الخبز بهذا الزيت.

وقوله: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ۝ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [سورة المؤمنون:21، 22] يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم، ويأكلون من حملانها ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ويركبون ظهورها، ويُحمّلونها الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم، كما قال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة النحل:7]، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ۝ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ۝ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [سورة يس:71-73].
  1. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق (1/ 16)، برقم: (33)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (1/ 78)، برقم: (59).
  2. رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها (1/ 112)، برقم: (527)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (1/ 89)، برقم: (85).
  3. رواه ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب المحافظة على الوضوء (1/ 101)، برقم: (277)، وأحمد (37/ 60)، برقم: (22378)، وصححه الألباني.
  4. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير باب درجات المجاهدين في سبيل الله، يقال: هذه سبيلي وهذا سبيلي ( 4/ 16)، برقم: (2790).
  5. رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب صفة الجنة، (2/ 1453)، برقم: (4341)، وصححه الألباني.
  6. رواه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (4/ 2120)، برقم: (2767).
  7. رواه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (4/ 2119)، برقم: (2767).
  8. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين (4/ 2184)، برقم: (2842).
  9. التفسير القيم لابن القيم (2/ 50).
  10. تفسير الطبري (19/ 15).
  11. رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر (4/ 222)، برقم: (4693)، وصححه الألباني.
  12. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (4/ 111)، برقم: (3208)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2036)، برقم: (2643).
  13. رواه الترمذي، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل الزيت (4/ 285)، برقم: (1851)، وابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب الزيت (2/ 1103) برقم: (3319)، واللفظ له، وحسنه الألباني.

مواد ذات صلة