بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المفسر-رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة:7].
يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظِرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثُقفوا، فقال تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ وأمان ويُتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله، إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني يوم الحديبية، كما قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ الآية [سورة الفتح:25].
فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي: مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وقد فعل رسول الله ﷺ ذلك والمسلمون، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست، إلى أن نقضت قريش العهد ومالئوا حلفاءهم بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله ﷺ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا، فعند ذلك غزاهم رسول الله ﷺ في رمضان سنة ثمان، ففتح الله عليه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم، ولله الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم، فسموا الطلقاء، وكانوا قريبا من ألفين، ومن استمر على كفره وفر من رسول الله ﷺ بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر، يذهب حيث شاء: منهم صفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله : كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، والمقصود بمن عوهدوا عند المسجد الحرام يعني في صلح الحديبية، وهذا معلوم لا إشكال فيه، والمراد بهؤلاء الذين عاهدهم النبي ﷺ عند المسجد الحرام في صلح الحديبية هم قريش، ومن دخل في هذا العهد، وذلك -كما هو معلوم في السيرة والتاريخ- أن بعض القبائل اختارت الدخول مع قريش في هذا العهد، وبعض القبائل اختارت أن تدخل مع رسول الله ﷺ، يعني تحالفوا مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام، فقريش نقضت العهد، وذلك بأنهم أعانوا حلفاءهم من بني بكر على حلفاء رسول الله ﷺ من خزاعة، أعانوهم بالسلاح كما في القصيدة المعروفة التي جاءت خزاعة تستنهض بها رسول الله ﷺ وفيها:
إن قريشاً أخلفوك الموعدا |
ونقضوا ميثاقك المؤكَّدا |
وجعلوا لي في كداء رصدا |
إلى أن قال:
وقتلونا ركّعاً وسجداً |
فالشاهد أنهم بهذا يكونون قد نقضوا العهد، وعليه لا يكون المراد هنا: إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ليس المراد به قريش؛ لأن قريشاً نقضت ولقيت جزاءها، يعني حينما نزلت هذه الآيات كانت مكة قد فتحت، وإنما سيّر لهم النبي ﷺ الجيش في السنة الثامنة بناء على نقضهم العهد، فليست هي المرادة بقوله: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ
ولهذا اختلف المفسرون في المراد بذلك، ولا شك أن المراد به بعض من دخل في هذا العقد، والعهد والصلح، وابن جرير -رحمه الله- يقول: المقصود بهم قوم من جذيمة ابن الدُّئل، فهؤلاء دخلوا في هذا الصلح، أو أن ابن جرير ذكر هذا على أنه أحد الأقوال، وذلك لا يبعد، لكن البعيد أن يكون المراد به قريش، وبعضهم قال: إن المراد بهذا هم قوم من خزاعة، وخزاعة اختلف فيهم العلماء من أهل السير وغيرهم، هل كانوا مسلمين أو لم يكونوا مسلمين؟ فمن قالوا: إنهم كانوا على الإسلام احتجوا بقوله:
وقتلونا ركعاً وسجداً |
قالوا: كانوا مسلمين، وبعضهم يقول: لم يكونوا مسلمين ولكن كانوا حلفاء لرسول الله ﷺ، والذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- أنهم بعض بني بكر من كنانة ممن أقام على العهد ولم ينقض، فقريش نقضت وهؤلاء لم ينقضوا، فقريش أعانوا حلفاءهم -على قول ابن جرير- من بني الدُّئل على حلفاء النبي ﷺ من كنانة، هذا اختيار ابن جرير، ذكر الأقوال و اختار هذا.
على كل حال تحديد هؤلاء بالاسم أمر لا يترتب عليه بالنسبة إلينا كبير فائدة، لكن معنى الآية أن الله يذكر أهل الإشراك كيف يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله، كيف يكون لهم عهد وهم بهذه المثابة؟ جعلوا لله ندًّا وعبدوا غيره إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فالإسلام يأمر بالوفاء بالعهود، فهؤلاء الذين عاهدوا عند المسجد الحرام، منهم من نكث كقريش، فقاتلهم النبي ﷺ، ومنهم من بقي على عهده، فالذين بقوا على عهدهم الله تعالى يأمر بالوفاء بهذا العهد فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ هذا هو المراد، والله تعالى أعلم.
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [سورة التوبة:8].
يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداة المشركين والتبري منهم، ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد؛ لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسول الله ﷺ ولو أنهم إذ ظهروا على المسلمين وأدِيلوا عليهم، لم يُبقوا ولم يذروا، ولا راقبوا فيهم إلًّا ولا ذمة.
قال علي بن أبي طلحة، وعِكْرِمة، والعوفي عن ابن عباس -ا: "الإلّ": القرابة، "والذمة": العهد، وكذا قال الضحاك والسدي.
كان المفروض أن يذكر قول ابن كثير -اختيار ابن كثير- فهذا خلل في الاختصار، ما يعرف به قول ابن كثير، وابن كثير ما يترك مثل هذه دون أن يرجح، فالشاهد إن "الإل" يطلق على القرابة
وأَشْهَدُ أَنَّ إِلَّكَ من قُرَيْشٍ | كإِلِّ السَّقْبِ من وَلَدِ النَّعَامِ |
كما في بعض روايات البيت، فالشاهد أن الإل يطلق على القرابة، يعني لا يقرّبون فيكم قرابة، لا يراعون القرابة التي بينكم وبينهم، إذا ظفروا بطشوا بكم، قتلوكم ونكلوا بكم كما وقع في يوم أحد، مثلوا بهم، وتشفوا منهم غاية التشفي، ويطلق الإل على العهد، ويطلق على الله -تبارك وتعالى، ولهذا يذكر في قول أبي بكر حينما جاءه بعض من يمثل مسيلمة الكذاب في أيام حروب الردة في خلافة أبي بكر فقال أبو بكر: أسمعني شيئا مما يقول صاحبكم، فقرأ عليه بعض الخزعبلات، فقال أبو بكر : أشهد أن هذا لم يخرج من "إل" يعني من رب، وبعضهم يقول: إن جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وما أشبه ذلك أسماء معبدة لله ، وهذه أسماء أعجمية، فالإل يطلق على الرب يعني لا يراقبون فيكم الله، وعلى الآخر لا يراعون القرابة، وعلى المعنى الآخر لا يراعون العهد، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [سورة التكوير:17]، أقبل وأدبر، قيل: أقسم الله بالليل في حالة إقباله وفي حالة إدباره، وهنا لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ هذه معانٍ ليست متضادة لكنها متخالفة، فيقال: لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ يعني عهدا ولا قرابة ولا يراقبون فيكم الله وهذا كله صحيح؛ ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله: إنها تحمل على ذلك كله، والله أعلم.
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة التوبة:9-11].
يقول تعالى ذما للمشركين وحثا للمؤمنين على قتالهم: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا يعني: أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي: منعوا المؤمنين من اتباع الحق، إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً تقدم تفسيره، وكذا الآية التي بعدها: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إلى آخرها، تقدمت.
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا يعني كما قال ابن كثير -رحمه الله: اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا، فأطلق ذلك على الاستعاضة، والاختيار والإيثار، آثروا ملاذ الدنيا وشهواتها على اتباع ما جاء به الرسول ﷺ من ربه، وهذا يقال له: اشتراء، ويقال له: استبدال، واستحبوا العمى على الهدى اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16] كل هذا يدور ويرجع إلى هذا المعنى كما قال الشاعر:
بدّلت بالجُّمة رأسا أزعرا |
وبالثنايا الواضحات الدردرا |
كما اشترى المسلم إذ تنصرا |
يعني اختار، فـ"اشتروا" هنا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا يعني بما استعاضوا به من اتباع أهواء النفوس والشهوات، وهذا لا إشكال فيه، خلافاً لمن حمل ذلك على اليهود باعتبار أن اليهود هم الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلاً بما كانوا يأخذونه من الرشى فيحرفون الكلم عن مواضعه؛ ولهذا قال بعض أهل العلم كالنحاس: إن هذه الآية في اليهود لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يقول: هذه في اليهود ما فيه تكرار، والآية التي قبلها: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً في المشركين، هذا الفرق على قول النحاس، ولكن هذا فيه نظر -والله تعالى أعلم، فهذه الآيات في الكفار، ويدخل فيها أيضا اليهود، فكل الكفار اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، كلهم اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [سورة البقرة:175]، والمعاوضة تكون بأن يدفع شيئا ويأخذ شيئا مكانه، وهذا ليس بالضرورة من أثر الضلالة على الهدى، فإنه يكون قد استعاض واشترى كما قال الشاعر:
كما اشترى المسلم إذ تنصرا |
فلا يلزم أن تكون القضية مقايضة مثل أن يأخذ الرشوة ويحرف الكلم عن مواضعه في مقابل هذا مثلا، أو يكتم الحق أو نحو هذا لا يلزم أن تكون هذه الصورة فقط من أثر الضلال والكفر على الهوى، ويمكن أن يطلق عليه ويقال: اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فهذه الآية في الكفار عموما، وإذا كانت في الكفار فيكون قوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ للتأكيد، وليس من قبيل التكرار.
وسبق الكلام في مناسبات متعددة على أن التكرار المحض غير موجود، وأن كل آية محمولة على معنى فتؤسس معنى جديداً، فهنا لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً لاحظ الفرق هناك: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً، وهنا لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً فمن أهل العلم من قال: إن هذه الآية: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ هي في عموم المؤمنين، وهناك في طائفة من المؤمنين، وهذا توجيه، وقد يقال غير هذا، كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً، وهنا لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً والآية الثانية لا شك أن العموم فيها أظهر.
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ نكرة في سياق النفي، اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ فلفظة "صدّ" تأتي لازمة، وتأتي متعدية، فإذا كانت لازمة فهي بمعنى أنهم صدوا يعني في أنفسهم بإعراضهم عن قبول الحق واتباعه، وإذا كانت متعدية فتعني أنهم صدوا غيرهم عنه، صدوا الناس عن الدخول في الإسلام، كما قال الله عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16]، صدوا في أنفسهم لما رأوا أن الأيمان تدفع عنهم في الدنيا التهم والعقوبات فاستمرءوا ذلك فبقوا على ضلالهم فَصَدُّوا أي في أنفسهم، والمعنى الآخر فَصَدُّوا أي صدوا الناس عن الدخول في الإسلام، إذا جاء واحد يدخل في الإسلام قالوا: انتبه، إذا ارتددت تقطع رقبتك، وإذا سرقت تقطع يدك، وإذا زنيت ترجم فأحسن لك كن بعيداً!!
وصدوا المسلمين أيضا عن الجهاد مع النبي ﷺ بالأموال، والأنفس كما قال الله : وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ [سورة النساء:72]، وقال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18]، وصدوا أيضا المؤمنين عن إقامة حكم الله فيهم بسبب هذه الأيمان، وكل هذه المعاني داخلة في هذا، فالشاهد هنا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أي صدوا في أنفسهم وصدوا غيرهم عن اتباع الحق، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً والذمة هي العهد، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يقول: سبق الكلام عليها.وهنا قال: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وهناك قال: فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [سورة التوبة:5]، والفرق واضح بين الآيتين، فليس هذا من التكرار، فهناك يُتركون إذا تابوا من كفرهم يعني بدخولهم للإسلام، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فذلك يكون سببا لتخليتهم والإعراض عن قتالهم، وهنا أثبت لهم الأخوة في الدين.
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ[سورة التوبة:12].
يقول تعالى: وإن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم، أي: عهودهم ومواثيقهم، وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أي: عابوه وانتقصوه، ومن هاهنا أُخذ قتل من سب الرسول -صلوات الله وسلامه عليه، أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بتنقص؛ ولهذا قال: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي: يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال.
وقد قال قتادة وغيره: أئمة الكفر كأبي جهل، وعتبة، وشيبة، وأمية بن خلف، وعدد رجالا.
وقال الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة أنه قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
وروى عن علي بن أبي طالب ، مثله.
والصحيح أن الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم.
وقال الوليد بن مسلم: حدثنا صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبَير بن نفير: أنه كان في عهد أبي بكر ، إلى الناس حين وجههم إلى الشام، قال: إنكم ستجدون قوماً مجوفة رءوسهم، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف، فوالله لأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم، وذلك بأن الله يقول: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ رواه ابن أبي حاتم.
المجوفة يعني المحلوقة من الوسط يحلقونه ويتركون الباقي، الهَبَل قديم!! وليس هذا في هذا الوقت فقط، فهنا يقول: وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ذكر قضيتين: نكث العهد، والطعن في الدين وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ، هل المقاتلة فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ هنا يقال: إنها مرتبة على شرطين لا تحصل إلا باستجماعهما بمعنى لو طعنوا في الدين، وما نكثوا العهد -هكذا افتراضنا- لا نقاتلهم؟ أو نقضوا العهد وما طعنوا في الدين؟ هكذا فهم أبو حنيفة -رحمه الله، قال: لو أنهم طعنوا في الدين، وما نكثوا العهد فإن ذلك لا يوجب أن نقاتلهم؛ لأن الله ذكر أمرين إن فعلوا كذا وكذا فقاتلوا، وليس ذلك معنى الآية أبداً، قطعا ليس هذا معنى الآية والعلم عند الله .
ولهذا قال الجمهور منهم مالك والشافعي قالوا: وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ إن نكث العهد يكفي لمقاتلتهم كما فعل النبي ﷺ مع قريش حينما أعانوا حلفاءهم على حلفاء رسول الله ﷺ، ولا يشترط أنهم يطعنون في الدين، وإذا طعنوا في الدين يكون عهدهم قد انتقض، وقد يجمعون بين الأمرين، وقد يوجد واحد منهم، وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فالذمي إذا طعن في الدين فإنه يقتل، ومن سب الرسول ﷺ يقتل، يكون قد انتقض عهده هكذا فهم الجمهور، وهنا قال: ومن هنا أُخذ قتل من سب النبي ﷺ باعتبار أنه يكون قد نقض العهد مع أن الآية في المقاتلة وفرق بين المقاتلة والقتل، ولهذا يقول الله : قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ [سورة التوبة:29] إلى آخره، ويقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله[1].
والفقهاء يقولون مثلا: إن الطائفة التي تنتسب للإسلام إذا امتنعت عن شيء من شرائع الدين فإنها تقاتل، وكذلك في قوله: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [سورة الحجرات:9]، قاتلوا، ما قال فاقتلوا التي تبغي! فالمقاتلة غير القتل، فهنا قال: فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِيقاتلون، وإن كان الذي فعل ذلك من أهل الذمة فمثل هذا يكون نقضا للعهد، وإذا نقض العهد استحق القتل، وهنا قال: فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ هنا ذكر بعضهم كقتادة: أن أئمة الكفر كأبي جهل وعقبة وشيبة وأمية بن خلف إلى آخره، وهذه الآية نزلت متأخرة يعني كما عرفنا بعد فتح مكة نزلت سورة براءة وأئمة الكفر هؤلاء الذين سماهم قتادة قد ذهبوا وولوا قتل أكثرهم في غزوة بدر، فقاتلوا أئمة الكفر وهم لا شك أنهم أئمة الكفر، لكن هل هم من أراد الله بهذه الآية: فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إن نكثوا عهدهم؟
أئمة الكفر: الإمام هو المقدم في الناس الذي يتبعه غيره، أو يقتدي به غيره، فهؤلاء الذين يعقدون العهود، وينوبون عن قومهم في المعاهدات وما أشبه هذا، ويقودون الجيوش، هؤلاء كلهم أئمة لقومهم فإذا نكثوا العهد قوتلوا، وليس هؤلاء الذين يقاتَلون فقط، بل يقاتَلون ومَن وراءهم: فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فالآية عامة فيدخل فيها أئمة الكفر من المشركين، ويدخل فيها أيضا أئمة الكفر من سائر الطوائف، وذكر أئمة الكفر؛ لأن كسرهم يكون سبيلا لظهور الإسلام وبلوغ كلمة الحق للعالمين، لأن هؤلاء هم الذين يقفون دون ذلك.
أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[سورة التوبة:13-15].
وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين لأيمانهم، الذين هموا بإخراج الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- من مكة.
أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا هذا الاستفهام استفهام توبيخي وهو يتضمن التحضيض والتحريض.
كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة الأنفال:30].
وقال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ الآية [سورة الممتحنة:1]، وقال تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا [سورة الإسراء:76]، وقوله: وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قيل: المراد بذلك يوم بدر، حين خرجوا لنصر عيرهم فلما نجت وعلموا بذلك استمروا على وجوههم طلبا للقتال، بغيا وتكبرا، كما تقدم بسط ذلك.
وقيل: المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله ﷺ، حتى سار إليهم رسول الله ﷺ عام الفتح، وكان ما كان، ولله الحمد.
يعني المراد بالبدء أول مرة هل المقصود به يوم بدر هم جاءوا وأرادوا القتال؟ أو في النقض هم الذين بدءوا بالنقض؟ وهذه الآية: أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ والذين هموا بإخراج الرسول ﷺ هم قريش، فهذه الآية إذا كانت نزلت متأخرة بعد فتح مكة فيبقى فيها إشكال وهو أن هؤلاء قد قاتلهم النبي ﷺ وأصحابه وفتح مكة، وأظهر الله رسوله ﷺ عليهم فكيف جاء التحريض هنا أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْأَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ؟
إن المراد به عموم الكفار؛ لأنه قال: نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ فالذين هموا بإخراج الرسول ﷺ هم كفار مكة، وهذا الهم معروف قبل الهجرة حينما تواطئوا وتمالئوا وآذوه فتسببوا في إخراجه، هموا بإخراج الرسول مع أنهم في نهاية الأمر أرادوا ألا يخرج، ولكن تضييقهم عليه كان سبباً في إخراجه، وكانت إحدى الأفكار التي يتداولونها بينهم أن يخرجوا النبي ﷺ من بين أظهرهم فيستريحوا منه، ثم بعد ذلك تراجعوا عن هذا، والله قال: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [سورة الممتحنة:1] وهم كانوا لا يريدونه أن يخرج، ولكن لما ضيقوا عليه كانوا متسببين في إخراجه، وإخراج المؤمنين فنسب ذلك إليهم قال: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ، فمن أهل العلم من لاحظ هذا المعنى وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وهم كانوا لا يريدونه أن يخرج، كانوا يريدون قتله -عليه الصلاة والسلام، فبعضهم قال: هذا كان حينما جاء النبي ﷺ ليعتمر بعد صلح الحديبية، وأن خزاعة امتنعت ولم تواطئهم على هذا، وكان ذلك سببا لحصول خلاف مقصودهم، والله تعالى أعلم.
هذا الاستفهام هنا أَتَخْشَوْنَهُمْ استفهام للتوبيخ والتقريع.
فبيدي الأمر، وما شئت كان، وما لم أشأ لم يكن.
ثم قال تعالى عزيمة على المؤمنين، وبيانا لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد مع قدرته على إهلاك الأعداء بأمر من عنده: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وهذا عام في المؤمنين كلهم.
وقال مجاهد، وعِكْرِمة، والسدي في هذه الآية: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ يعني: خزاعة.
وأعاد الضمير في قوله: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ عليهم أيضا.
قيل: خزاعة باعتبار أنهم قد كُلموا، وهذا السياق كله على هذا التفسير تكون الآيات نازلة قبل فتح مكة، وعامة سورة براءة نزلت بعد ذلك، وكثير منها نزل في غزوة تبوك، وبعد غزوة تبوك، فعلى هذا التفسير -أنهم خزاعة- يكون الكلام كله على أن هذه الآية أو الآيات نازلة قبل فتح مكة، ولذلك فإن الكثيرين من المفسرين لا يتكلمون عن هذا، بل ما رأيت أحدا يتعرض لهذا، ولم أستقصِ، باعتبار أن الآية تتحدث عن شيء كان، لا يصرحون بهذا، لكن عندهم الآية تتحدث عن شيء قبل فتح مكة، وممن قال بأنها في خزاعة مجاهد وعكرمة والسدي، ومما يدل على هذا هنا: أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قيل: خزاعة باعتبار أن خزاعة كانوا على الإسلام، وهذا فيه خلاف بين أهل السير، وأنهم قد كُلموا وقتلوا:
وقتلونا ركّعاً سجداً |
فكانوا في غاية الحنق وجاءوا إلى رسول الله ﷺ وقال قائلهم القصيدة المشهورة المعروفة، وقال الله: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، ولو قيل: إنها لا تختص بخزاعة، إن كانت خزاعة على الإسلام فهم من جملة المؤمنين الذين يحصل لهم الشفاء،
تَعلَّم شفاءَ النفسِ قهرَ عدوها |
فيحصل التشفي بقهر الأعداء؛ ولهذا قال الله : وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ بالفتح وانتكاسة العدو وهزيمته، وقتل الكفار فيحصل به التشفي، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ لا حاجة أن يقال: لخزاعة فقط بل خزاعة وغير خزاعة من أهل الإيمان، يذهب الحنق الذي في النفوس يذهب بالانتصار على الأعداء، وقهرهم ودحرهم وقتلهم، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وهذا يحصل بالنصر عليهم، وقتلهم.
والعلماء -رحمهم الله- منهم من تكلم على الفرق بين الأمرين: شفاء الصدور وذهاب غيظ القلوب، فبعضهم قال: هذا للتأكيد، هذا بمعنى هذا، وهناك فرق بين شفاء الصدر وبين ذهاب الغيظ، فشفاء الصدر أبلغ من ذهاب الغيظ، وبعضهم قال: شفاء الصدور يكون بالنصر وظهور الإسلام، وذهاب الغيظ بقتلهم، من انتقم من عدوه فإنه بذلك يكون قد ذهب ما فيه من الحنق والكمد والغيظ على هذا العدو، وهذه أمور يبدو أنها متلازمة.
قال: وأعاد الضمير في قوله: وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء أي من عباده، فالأول والذي قبله مجزوم، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ باعتبار أنه جواب للشرط إذا قاتلتموهم عذبهم الله، يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ الأشياء التي ذكرها هنا نتيجة القتال: تعذيب الله لهم بأيديكم، وإخزاؤهم، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، هذه خمسة أشياء وكلها مجزومة هي نتيجة لمقاتلتهم، ثم جاء ما بعده مرفوعا، قال: وَيَتُوبُ اللّهُ فـ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء ليست نتيجة لمقاتلتهم، فالخمسة الأولى هي نتيجة للمقاتلة، وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء يعني هذا يذكر الله فيه ما سيكون في المستقبل في علم الغيب من دخول بعضهم في الإسلام، كما دخل أبو سفيان، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو العامري، والحارث بن هشام، وعكرمة، وأمثال هؤلاء كلهم قد أسلموا كما قال الله : عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً [سورة الممتحنة:7]، وكما جاء عن ابن عباس وغيره أن "عسى" من الله واجبة، يعني لابد أن يتحقق، فأسلم من أسلم من هؤلاء ومنهم أبو سفيان ، فهنا قوله: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ يعني بدخولهم في الإسلام كما قال ابن جرير وغيره.
- رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [سورة التوبة:5]، برقم (25)، ومسلم، كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة...، برقم (20).