بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ [سورة آل عمران:12-13].
يقول تعالى: قل يا محمد للكافرين ستغلبون أي في الدنيا، وتحشرون أي يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد.
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار عن عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله ﷺ لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ظاهره العموم، فهو عام للكفار من المشركين واليهود وغيرهم، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا مما يذكره أهل السير والأخبار، كما روى محمد بن إسحاق هنا: أن النبي ﷺ جمع اليهود بعد غزوة بدر في بني قينقاع وقال لهم ما قال -عليه الصلاة والسلام- حيث ذكّرهم بالله وخوفهم بأسه بعدما هزم الله المشركين، وأهلك رءوسهم.
فالحاصل أن مثل هذه الرواية حملت بعض أهل العلم إلى القول بأن هذا الخطاب موجه لليهود، أي قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ عام مراد به الخصوص، وهو نوع من الكفار وهم اليهود باعتبار ما وقع.
وهذه الروايات هي مما يذكره أهل الأخبار والسير، ولا تثبت ثبوتاً يرتضيه أهل الحديث بطريقتهم بإثبات المرويات، وعلى كلٍّ فهذه الرواية هي السبب الذي حمل بعض أهل العلم على القول بأن المراد بذلك نوع من الكفار، والأَوْلى -والله تعالى أعلم- هو أن تبقى الآية على عمومها وظاهرها.
وعلى كل حال فهؤلاء يقولون: إن المشركين قد غُلبوا فما بقي إلا اليهود ممن كان يجاور النبي ﷺ، والواقع أنه بقي طوائف كثيرة من المشركين، لم تقع عليهم الغلبة بعد، وإنما كان الصراع مع قريش في أول الأمر، فالخلاصة أنه يمكن أن يكون ذلك عاماً كما هو ظاهر الآية، وهذا هو الأصل إلا لدليل يجب الرجوع إليه، والله أعلم.
يلاحظ أن ابن كثير حمل قوله تعالى: قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ على الكفار، وابن جرير حمله على اليهود، وقوله تعالى هنا قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ يلاحظ أن ابن كثير -رحمه الله- يقول: إن المراد بذلك هم اليهود، فصار كلامه متفاوتاً، بينما صار كلام ابن جرير -رحمه الله- مطَّرداً، يعني أن ابن جرير يقول: إن الآيتين الأولى والثانية في اليهود، والسياق واحد قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وقَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ.
وإذا قلنا: إن الخطاب في قوله: قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ عام لجميع طوائف الكفار بما فيهم اليهود، ثم يكون الخطاب الآخر قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ موجهاً للجميع أيضاً فهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم، ومن أهل العلم من يقول: إن الخطاب الثاني: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ موجه للمسلمين، فهو خاطب الكفار بقوله: قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ، ثم قال للمسلمين: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ أي فيما حصل في غزوة بدر من هزيمتكم للمشركين مع كثرة عددهم وقلَّتكم.
تمام الرواية التي ذكرها ابن كثير هي أنه لما جمع النبي ﷺ اليهود في سوق بني قينقاع، وقال لهم ما قال ردَّ عليه بعضهم فقال: لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً لا عهد لهم بالحرب، والله لو لقيتنا لعرفتنا، وكذا وكذا، فهم لم يعتبروا بما حصل يوم بدر، فقال لهم: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فهذا الكلام فيما إذا حملت الآية على اليهود، لكن هذه الرواية هي أصلاً من طريق ابن إسحاق كما ذكرنا.
قوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا المراد بذلك في يوم بدر، وهذا القول يشبه الإجماع، وعلى كل حال هذه السورة -سورة آل عمران- تكلمت كثيراً عن غزوة أحد، في أكثر من ستين آية، كما سيأتي -إن شاء الله- وسورة الأنفال هي السورة التي تحدثت عن غزوة بدر، إلا أن هذا الموضع من سورة آل عمران يتحدث عن غزوة بدر.
في قوله: يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ الضمير في يرونهم يرجع على هذا القول إلى المشركين حيث قال: "أي يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم" يعني أن الله قد كثّر المسلمين في أعين المشركين فرأوا أنهم كثير.
والقول الآخر -وهو قول كثير من أهل العلم، بل إن بعضهم يضيفه إلى الجماهير من أهل العلم: أن ذلك يرجع إلى المسلمين، أي أن المسلمين يرون المشركين مثليهم رأي العين، ويدل على هذا القول القراءة الأخرى –قراءة نافع- (ترونهم) بالتاء، وهي قراءة متواترة، فعلى كل حال الضمير هنا يحتمل.
وقوله: يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ يحتمل أن المثلين كان في عدد المسلمين ويحتمل أن يكون في عدد المشركين، فإن قلنا بقول الأكثر وهو أن الرائي هم المسلمون فمعناه أنهم رأوا المشركين مثليهم، لكن يبقى إشكال وهو هل كان عدد المشركين في أعين المسلمين مثلي عدد المشركين أم مثلي عدد المسلمين أنفسهم، بمعنى هل رأى المسلمون المشركين ألفين –ضعف عدد المشركين- أم رأوا عددهم ستمائة وثلاثين، يعني مثلي عدد المسلمين؟
لا شك أنه يحتمل هذا ويحتمل ذاك، والخلاصة أن في هذه الآية يوجد احتمالان في موضعين: الأول من هو الرائي؟، والثاني: هل المثلية ترجع إلى المسلمين أم إلى المشركين؟
كما أنه يحتمل في الآية معنى آخر وهو أن المسلمين يرون أنفسهم أكثر من المشركين، بمعنى أنهم رأوا أنفسهم مثلي عدد المشركين، فهذه كلها احتمالات في الآية، وسبب هذه الاحتمالات أن اللفظ يحتمل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الله قال: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ [سورة الأنفال:43]، وفي الآية الأخرى قال: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [سورة الأنفال:44].
فالآية الأولى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً هي في المنام وليست في اليقظة، وهي في المشركين قطعاً، والآية الثانية في اليقظة وهي واقعة من الطرفين، إذ كل طرف يرى الفريق الآخر قلة.
وفي هذه الآية قال: يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ، سواء كان ذلك يرجع إلى المسلمين بمعنى أنهم يرون أنفسهم ضعفي عدد المشركين أو العكس، فالمقصود أنه حصل التكثير، والآية الأخرى دلت على أن التقليل حصل من الجانبين فكل فريق يرى قلة الفريق الآخر.
وعلى كل حال فرؤيا المنام واضحة، فالنبي ﷺ رآهم في المنام قلة، وبشر أصحابه، وحصل التقليل والتكثير في بعض الأوقات بين يدي المعركة، سواء قلنا: إن ذلك قبل بدء الالتحام أو حينما التقى الصفان، فمن أهل العلم من يقول: إن المسلمين رأوا الكفار أكثر من عددهم الحقيقي؛ ليحصل التمحيص للمسلمين، ثم بعد ذلك رأوهم قلة؛ من أجل أن يُقْدموا عليهم.
ولقد كان ابن مسعود يسأل صاحبه فيقول: أتراهم يبلغون المائة؟! فكل ذلك إنما كان من أجل أن يغري كل طرف بالآخر لأنه حينما يرى أنهم حفنة قليلة جداً فإنه يقدم عليهم، فالله كان يسوقهم إلى الالتحام مع أنهم إنما خرجوا في أول الأمر من أجل العير وهم قلة وليس معهم سلاح وعتاد يكفي لمواجهة عسكرية، وبعد ذلك قضى الله وقدر أمراً آخر، ولهذا صور الله حالهم بقوله: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [سورة الأنفال:6]، وهكذا حصل بعد ذلك مثل هذا التقليل من أجل أن يغري كل طرف بالآخر فيقدم عليه ولا يتردد، والله يقضي ويقدر ما يشاء لحكمة عظيمة يعلمها هو سبحانه.
وقيل: إن المعنى في قوله تعالى: يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ أي ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم، أي ضعفيهم في العدد ومع هذا نصرهم الله عليهم.
قال عبد الله بن مسعود -: وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً، وذلك قوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ الآية [سورة الأنفال:44].
يعني أنهم كانوا يرونهم مثليهم في بعض المراحل، وفي وقت آخر أغرى الله كل طائفة بالأخرى فرأوهم قلة، قال تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [سورة الأنفال:44] من أجل أن يغري كل طائفة بالأخرى، والله أعلم.
وقال أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: لقد قُللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، قال: فأسرنا رجلاً منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً، فعندما عاين كل من الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم أي أكثر منهم بالضعف؛ ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم ، ورأى المشركون المؤمنين كذلك؛ ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع.
ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء؛ ليقدم كل منهما على الآخر؛ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [سورة الأنفال:44] أي ليفرق بين الحق والباطل، فيُظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [سورة آل عمران:123].
وقال هاهنا: وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ [سورة آل عمران:13]: أي إن في ذلك لمعتبراً لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكمة الله وأفعاله وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [سورة آل عمران:14-15] يخبر تعالى عما زُيِّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء؛ لأن الفتنة بهن أشد.
في قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ يمكن أن يكون المراد بالمزيِّن هو الله ؛ لقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا [سورة الكهف:7]، ولما جاء عن عمر في صحيح البخاري ما يدل على هذا المعنى.
ويمكن أن يقال: إن المزيِّن لهم الشهوات هو الشيطان، والمعنى الأول أقرب؛ لأن الله لما خلق النفوس ركب فيها الغرائز والشهوات.
والشهوات هنا أطلقت على المشتهيات وإن كان أصل الشهوات جمع شهوة، والمقصود بها ما تنزع إليه النفس مما تستلذه وتميل إليه وتهواه فأطلقت هنا على الأمور التي تشتهيها النفوس من النساء والبنين والقناطير.. الخ.
وهذا لا يعارض أنها زينت في نفوس الناس وصارت نفوسهم مجبولة على الميل إليها.
وقوله ﷺ: الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله[2]، وقوله في الحديث الآخر: حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة[3]
وقالت عائشة -ا: "لم يكن شيء أحب إلى رسول الله ﷺ من النساء إلا الخيل"، وفي رواية: "من الخيل إلا النساء".
وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة، فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد ﷺ ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح كما ثبت في الحديث: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة[4].
يلاحظ أنه ذكر هنا البنين ولم يذكر البنات، فلم يقل: الأولاد ليشمل البنات والبنين، وإنما اقتصر على ذكر البنين؛ لأن الناس إنما يتزينون بهم في مجالسهم، والرجل يتقوى بهم ويفتخر ويعتضد بهم، فهو ذكرهم دون البنات لهذا السبب، والله أعلم.
المراد بالقنطار أي المال الكثير ولا يحد، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- وكان قد ساق أقوالاً كثيرة جداً في تحديد القنطار، ويلاحظ أن بين هذه الأقوال فرقاً شاسعاً، فمنهم من يقول مثلاً: إن القنطار يبلغ ألفاً، ومنهم من يقول: سبعين ألفاً، ومنهم من يقول أكثر من هذا، فعلى كل حال القنطار هو المال الكثير، وأما المال القليل فلا يقال له قنطار.
ومعنى المقنطرة أي المضعفة، تقول: قناطير مقنطرة، كما تقول: ألوف مؤلفة، فهو المال المضعف الذي بعضه على بعض بمعنى أنه كثير جداً.
ومن أهل العلم من يقول: إن القناطير جمع قنطار، والمقنطرة جمع الجمع، فإذا قلنا: إن أقل الجمع ثلاثة -كما هو المشهور- فيكون القناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة، وهذا قال به جماعة، وقال به ابن جرير الطبري -رحمه الله.
وعلى كل حال القناطير المقنطرة أي المضعفة كما نقول: ألوف مؤلفة، فهو مال كثير بعضه على بعض والله أعلم.
نحن قد لا ندرك حقيقة المعنى هنا؛ لأن الناس لم يعودوا يشتغلون في الغالب بهذه الخيل، لكن الذين يعرفونها ويشتغلون بها -لا سيما الخيل العربية- الواحدة عندهم ربما تفوق أهله، ولذلك جاء في الحديث: كما يربي أحدكم فلوه[5] فما كانوا يكِلون ذلك إلى أحد، لا الرقيق ولا الخدم وإنما كان الواحد منهم يقوم عليها بنفسه، من تربيتها وتعليمها وتدريبها وغسلها ونحو ذلك، فلا يكِل ذلك إلى أحد غيره؛ لشدة شغفه بها وعنايته بها.
يعني من السوم، كما تقول: السائمة، في سائمة الغنم، فهي التي ترعى في المراعي، وقيل: السارحة وهو بمعنى قريب منه.
وبعضهم يقول: المعدة للجهاد، لكن الخيل المسومة كيف تكون معدة للجهاد والله إنما يتحدث هنا عما زين للناس من الشهوات وما تحبه أنفسهم وتميل إليه، فهذا مركوز في نفوس المسلمين وغير المسلمين، وذلك تعلق بهذه الأمور التي هي من قبيل الحطام، لذلك فإن تخصيص ذلك بأنها معدة للجهاد فيه بعد، والله تعالى أعلم.
وبعضهم كأنه أرجع المسومة إلى السمة وهي العلامة، أي لها علامة تميزها، سواء كان ذلك من فعل صاحبها أو كانت معلمة بِشِيَةٍ تكون حسْناً فيها، كالغُّرة والتحجيل الذي يكون من الأمور المستحسنة في الخيل، وبعضهم -مثل ابن فارس صاحب كتاب المقاييس في اللغة- يقول: الخيل المسومة هي المرسلة التي عليها ركبانها.
وعلى كل حال يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم لا سيما وأن هذا ما دل عليه السياق والتركيب: إن الخيل المسومة هي التي فيها علامة وشِيَة تميزها وتزيدها جمالاً وحسناً، وتتميز بألوانها وهيئاتها وما أشبه ذلك، مما تسترعي الانتباه وتنجذب إليها النفوس وتستهويها لحسنها وجمالها وهيئاتها، وهذا هو اختيار ابن جرير -رحمه الله- في تفسير هذه الجملة.
وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن عبد الله بن أبزى والسدي والربيع بن أنس وأبي سنان وغيرهم، وقال مكحول: المسومة الغرة والتحجيل، وقيل غير ذلك.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللهم إنك خولتني من بني آدم فاجلعني من أحب ماله وأهله إليه، أو أحب أهله وماله إليه[6].
وقوله تعالى: وَالأَنْعَامِ [سورة آل عمران:14] يعني الإبل والبقر والغنم، وَالْحَرْثِ [سورة آل عمران:14] يعني الأرض المتخذة للغراس والزراعة.
الأنعام هي ما ذكر الله في آية سورة الأنعام: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [سورة الأنعام:143] فهي الأنعام، وربما أطلقت النَّعَم على الإبل خاصة، وهنا تشمل الجميع، وإن كانت الإبل هي الأفضل وهي أنفس أموال العرب.
ثم قال تعالى: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة، وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [سورة آل عمران:14] أي: حسن المرجع والثواب، ولهذا قال تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ [سورة آل عمران:15] أي: قل يا محمد للناس أؤُخبركم بخير ما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة.
ثم أخبر عن ذلك فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة آل عمران:15] أي: تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة، من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
خَالِدِينَ فِيهَا أي ماكثين فيها أبد الآباد، لا يبغون عنها حولا.
وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أي: يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبدا، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة: وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ [سورة التوبة: 72] أي أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم.
ثم قال تعالى: وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ أي: يعطي كلاًّ بحسب ما يستحقه من العطاء.
- أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب ما يتقى من شؤم المرأة (4808) (ج 5 / ص 1959) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء (2740) (ج 4 / ص 2097).
- أخرجه مسلم في كتاب الرضاع - باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة (1467) (ج 2 / ص 1090).
- أخرجه النسائي في كتاب – عشرة النساء - باب حب النساء (3940) (ج 7 / ص 61) وأحمد (14069) (ج 3 / ص 285) وحسنه الألباني في المشكاة برقم (5261).
- أخرجه أبو داود في كتاب النكاح - باب النهى عن تزويج من لم يلد من النساء (2052) (ج 2 / ص 175) والحاكم (2685) (ج 2 / ص 176) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2940).
- أخرجه البخاري في كتاب الزكاة - باب لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب (1344) (ج 2 / ص 511) ومسلم في كتاب الزكاة - باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1014) (ج 2 / ص 702).
- أخرجه أحمد (21535) (ج 5 / ص 170) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2414).