بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [سورة آل عمران:23-25].
يقول تعالى منكراً على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيْهم اللذين بأيديهم وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد ﷺ تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم، والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ هذا الاستفهام يفيد معنى التعجب؛ وذلك أن هؤلاء الذين أعطاهم الله كتاباً، كان الحري بهم أن يقبلوا التحاكم إليه.
قوله: أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ أي أُنزل عليهم كتاب من الله -تبارك وتعالى، وهؤلاء لم يبيّن الله طائفة مخصوصة من أهل الكتاب، فحمله كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- على اليهود، وذكر فيه واقعة معينة.
وعلى كل حال هذه الآية ليس فيها ما يدل على تخصيص اليهود، أو أن المراد بذلك هم اليهود والنصارى معاً، فالآية تحتمل هذا وهذا، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- حملها على الطائفتين وإن كان لا يصح في سبب نزولها سبب معين في أنها نزلت في بعض اليهود حينما طالبهم النبي ﷺ بالرجوع إلى التوراة للتحاكم إليها في قضية من القضايا، أو أن ذلك في النصارى الذين وفدوا على النبي ﷺ من نجران فطالبهم النبي ﷺ أن يتحاكم معهم إلى كتابهم، حيث ذكر فيه وصف النبي ﷺ.
فالمقصود أنه إذا لم يصح فيها شيء محدد لا من هذا ولا من هذا، فيقال: أخبر الله عن هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ويحتمل أن يكون طائفة من أهل الكتاب وهم اليهود ويحتمل أن يكون المراد اليهود والنصارى، ويحتمل أن يكون المراد النصارى، فالمقصود أن ظاهر الآية يحتمل هذا جميعاً، وتخصيص طائفة من هؤلاء يحتاج إلى دليل.
والمقصود: أن الله يعجب نبيه ﷺ من صنيع هؤلاء الذين ناقضوا أنفسهم، فهم يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ، والكتاب هنا هو الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة، وذلك أن هؤلاء لا يؤمنون بالقرآن أصلاً، وإنما يؤمنون بكتابهم ويعتقدون أنه من عند الله -تبارك وتعالى- ومع ذلك إذا دعوا إلى التحاكم إليه في أمر لا يوافق أهواءهم فإنهم يعرضون ويأبون ذلك، والله أعلم.
أو أنهم يعذبون بقدر عبادتهم للعجل كما جاء في بعض المرويات، وعلى كل حال هذا الذي غرهم في دينهم فقالوا: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ.
ثم قال تعالى: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة آل عمران:24] أي: ثبتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياماً معدودات، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم وافتعلوه، ولم ينزّل الله به سلطاناً، قال الله تعالى متهدداً لهم ومتوعداً: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ [سورة آل عمران:25]
أي كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله، وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والله تعالى سائلهم عن ذلك كله ومحاسبهم عليه ومجازيهم به ولهذا قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ أي لا شك في وقوعه وكونه وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [سورة آل عمران:25].
يعني أن كل نفس تجازى على عملها جزاءً وافياً غير منقوص، فما عملت من خير وشر تجد جزاءه عند الله وافياً، ففي السيئات كما قال الله : وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49]، وكذلك أيضاً في الحسنات: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272] فكل ذلك يرجع إلى الإنسان ويجده وافياً عند الله .
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة آل عمران:26-27].
يقول -تبارك وتعالى: قل يا محمد معظماً لربك وشاكراً له ومفوضاً إليه ومتوكلاً عليه: اللهم مالك الملك.
اللَّهُمَّ في هذه الآية وفي قول الداعي: اللهم، من أهل العلم من يقول: إن هذه الميم جاءت عوضاً عن ياء النداء، فأصله: يا الله، فحذفت ياء النداء، فعوض عنها بالميم.
ومن أهل العلم من يقول: إنها جاءت عوضاً عن كلام محذوف، وأصل الكلام: يا الله أُمَّنا بخير، يعني: اقصدنا بخير، فحذف حرف النداء، والضمير مِن أُمَّنا، والجار والمجرور بخير، ثم حذفت الهمزة التي قبلها لكثرة الاستعمال فصارت اللهم، وهذا القول فيه بعد؛ لأن الإنسان قد يقول هذه الكلمة في الدعاء على غيره، اللهم عاقب فلاناً، فكيف يكون التقدير هنا أُمَّنا بخير؟ وقد يقوله الإنسان في غير الدعاء كما في هذه الآية التي فيها ثناء على الله -تبارك وتعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء إلى آخر ما ذكر، فهذا في باب الثناء والتمجيد والتعظيم لله ، وليس فيه دعاء، فعلى كل حال هذا القول هو أضعف هذه الأقوال، والله تعالى أعلم.
وقد يكون أحسن من هذا ما ذكره بعض أهل العلم ومنهم الحافظ ابن القيم -رحمه الله: أن هذه الميم تدل على التفخيم والتعظيم والجمع.
ومسألة كيف تدل على التفخيم والتعظيم والجمع؟ نجد أن عبارات أهل العلم في تفسير هذه الجملة متفاوتة، لكن يمكن أن يقال: إنها تدل على التفخيم والتعظيم والجمع وذلك أن الميم في كثير من مواردها في الاستعمال إذا ركبت مع غيرها تدل على معنى الجمع، وحتى في حال النطق بها مجردة مفردة فإن ذلك يكون بضم الشفتين.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- أطال في الكلام ونقل كلاماً طويلاً عن ابن جني في كتاب الخصائص، تحدث فيه بكلام لطيف يتعلق بخصائص اللغة العربية وفقهها في العلاقة بين الحروف وبين المعاني، وهو فصل لطيف يستحق أن يراجع، فأحياناً قد لا تعرف تفسير الكلمة أو لم تراجعها لكنها تشعرك بمعنىً معين، فمثلاً: حبتر هو الرجل القصير المجتمع الخلق، لكنها لا تشعرك بأنه إنسان طويل، وأنت بمجرد ما تسمع حروف كلمة "صلد" من ماذا ركبت فإنك قد تكون ما راجعت معناها لكنك تفهم منها الصلابة، وكذلك كلمة "سلخ" تجد مباشرة أن الحروف مجتمعة ترسل إليك إشارة معينة في المعنى، وكذلك حينما تسمع كلمة "وعر" تجد أنها تدل على شيء، وحينما تسمع كلمة "سهل" وهكذا، فالألفاظ والحروف التي يتركب منها اللفظ في كثير من الأحيان تشعر بمعنىً معين وإن لم يفهم الإنسان معناه الخاص الذي يفسر به، فهذا على كل حال من فقه اللغة العربية.
وعلى كل حال على هذا التفسير لقوله: قُلِ اللَّهُمَّ إذا نظرت في كلام السلف في تفسيرها تجد أن بعض العبارات تدل على هذا وتحمل عليه، وإنما ذكرت هذه المعاني في الميم وخاصة المعنى الأخير بالذات من أجل توجيه بعض أقوال السلف التي قد تمر على الشخص فيستغربها، وهي في الواقع ترجع إلى هذا المعنى.
فإذا قلت: إنها تدل على الجمع، فهي مؤذنة بهذا الاعتبار الداعي، كأنه قد جمع أو قصد جمع أسماء الله وصفاته فدعا بها، فكأنه يقول: اللهم إني أسألك بكل اسم سميت به نفسك، ولذلك تجد في بعض العبارات كقول الحسن: اللهم مجمع الدعاء، فقد تقرأ هذه اللفظة ولا تتصور المراد منها، فإذا قرأت قال: اللهم مجمع الدعاء، عرفت أنها تدل على الجمع، وهذا القول يوجه بما ذكرته من القول الثالث أي القول الأخير.
يقول أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قول: اللهم، فيها تسعة وتسعون اسماً لله ، وهذا يؤدي نفس الكلام السابق -مجمع الدعاء- أي كأنك جمعت الأسماء الحسنى، وهذا باعتبار أن الأسماء الحسنى تبلغ تسعة وتسعين، لكن الأقرب في معنى الحديث: إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة[1] أن هذا العدد المذكور له هذه المزية من أحصاها دخل الجنة وإلا فأسماء الله أكثر من هذا، ففي الدعاء المأثور: بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك[2]، فأسماء الله ليست محصورة بهذا العدد.
ومن أمثلة توجيه ذلك قول النضر بن شميل: "من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه"، فهذه الآثار يمكن إذا تصورت المعنى الثالث أن توجهها ولا تقف عندها، بل ربما قد يسارع الإنسان في ردها، أو لا يستطيع الربط بينها وبين هذه اللفظة من جهة المعنى، لكن هذه الطريقة من طرق توجيه كلام السلف في التفسير. وكثير من الأشياء يستغربها الإنسان أحياناً لأنه يستعجل، ولو كشف له عن مأخذها ربما اقتنع بهذا القول وقال: هو الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة، لذلك طالب العلم لا يستعجل في الرد والإنكار للقول واستهجانه، فربما يكون هذا الاستغراب لأنه لم يفهم وجهه.
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ أي: لك الملك كله، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء أي: أنت المعطي وأنت المانع وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن.
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله ﷺ وهذه الأمة؛ لأن الله تعالى حوّل النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يعطها نبياً من الأنبياء ولا رسولاً من الرسل في العلم بالله وشريعته، واطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار.
ولهذا قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ الآية، أي: أنت المتصرف في خلقك الفعَّال لما تريد، كما رد تعالى على من يتحكم عليه في أمره حيث قال: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31]، قال الله رداً عليهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32] الآية: أي نحن نتصرف في خلقنا كما نريد بلا ممانع ولا مدافع.
حقيقة المُلك –بالضم- هو كمال التصرف أو هو التصرف المطلق، وأما المِلك –بالكسر- فهو بمعنى حيازة الشيء أو الاستحواذ عليه وكونه تحت يد الإنسان، فكمال التصرف هو المُلك، ولا شك أنه أبلغ من المِلك، فهنا يقول سبحانه: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ يعني مالك التصرف المطلق، ولهذا قال: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء، بمعنى أن الله يمكِّن لبعض خلقه فيعطيهم شيئاً من الملك، فيكون متصرفاً بهذا الملك في غيره، فيكونون تحت طاعته، يأتمرون بأمره.
وقوله: وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء؛ أي أن الله ينزعه ممن يشاء؛ لأنه ملكه فهو الذي ينزع منهم ذلك ويرفعه عنهم ويحول أحوال الناس من عز إلى ذل، ومن ذل إلى عز، يرفع أقواماً ويضع آخرين، فكل ذلك بيده -- وبتقديره، بناء على حكمته وعلمه.
أي نحن نتصرف في خلقنا كما نريد بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة البالغة والحجة التامة في ذلك، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد كما قال تعالى: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] وقال تعالى: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ الآية [سورة الإسراء:21].
وقوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [سورة آل عمران:27] أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة ربيعاً وصيفاً وخريفاً وشتاء.
هذا القول هو المتبادر، فالإيلاج هو الإدخال، فقوله: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [سورة آل عمران:27] أي تدخل هذا في هذا، وهذا في هذا، بمعنى أنه يطول الليل فيأخذ من النهار، ويطول النهار فيأخذ من الليل، وينتج عن ذلك ويتأثر عنه أيضاً ما يتعلق بتحول الفصول وانتقالها من صيف إلى شتاء إلى ربيع إلى خريف، فكل ذلك يحصل فيتفاوت في ذلك الليل والنهار تفاوتاً ظاهراً كما هو مشاهد، فهذا هو القول المتبادر.
كما تحتمل الآية معنىً آخر وهو: أن المقصود بذلك التعاقب حيث ينسلخ النهار من الليل كما قال الله : وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ [سورة يــس:37]، فتعاقب الليل والنهار يمكن أن يكون هو المراد بقوله: تُولِجُ اللَّيْلَ فالآية تحتمل هذا، لكن المعنى الأول أقرب؛ وذلك لأنه عبر هنا بلفظ الإيلاج، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ أي تدخل، وإدخال الليل في النهار معنى ذلك أنه يأخذ منه، والله تعالى أعلم، وهذا من كمال تصرفه وتدبيره بشؤون هذا العالم، فهو دليل على قدرته وهو جزء من ملكه -جل وعلا.
وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- معنى أن الليل يأخذ من النهار والنهار يأخذ من الليل- هو الذي ذهب إليه كثير من السلف، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.
هذا الكلام الذي ذكره الحافظ -رحمه الله- هو من أحسن ما تفسر به الآية؛ وذلك أنه جمع فيها أقاويل السلف -، فالسلف عند تفسير هذه الآية منهم من يفسرها بالحقيقة ومنهم من يفسرها بالمجاز -وهذا إن قسمنا الكلام حقيقة ومجازاً- فعلى الحقيقة بهذا الاعتبار -عند من رآه- يكون بإخراج الحبة أو الثمرة من الشجرة أو الحبة من الزرع، وكذلك بإخراج البيضة من الدجاجة والنطفة من الإنسان، فهذا كله يقال له: ميت؛ لأنه أخرج من حي هو النبات والإنسان.
وقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [سورة الأنعام:95] مثل إخراج الشجرة من الحبة، والإنسان من النطفة، والدجاجة من البيضة وهكذا.
والمعنى المجازي -عند القائل بالمجاز- يكون بإخراج المؤمن من الكافر، فالمؤمن حي أخرج من الميت، والميت من الحي أي إخراج الكافر من المؤمن، وبغض النظر عن هذا التقسيم للكلام، وما فيه من المعارضة، لكن يقال: كل هذه المعاني داخلة في الآية؛ لأن الله لم يخص شيئاً دون شيء وإنما يدلل على قدرته ، فمن ذلك أنه يخرج الإنسان من النطفة، والبيضة من الدجاجة، والشجرة من الحبة، والمؤمن من الكافر، فهذا كله يقال له: حي، والسلف قد يعبرون بالمثال ولا يقصدون به الحصر، أي لا يقصدون تخصيص المعنى بهذا الذي ذكروه، فقوله مثلاً: الحبة من الشجرة والشجرة من الحبة لا يقصد تخصيص هذا وإنما يذكرون مثالاً يوضحه فقط، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- من فهمه وفقهه لطريقة السلف جمع هذه الأقوال، فهي تشمل ذلك جميعاً.
وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة آل عمران:27] أي تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل.
لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ [سورة آل عمران:28].
نهى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك، فقال تعالى: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ [سورة آل عمران:28].
قوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ هذا نهي من الله عن اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين، والمقصود باتخاذهم أولياء: أي بطانة، ويواليهم بمعنى النصرة والنصح لهم وتقديمهم وما إلى ذلك من المعاني.
وقوله: مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ يمكن أن يكون المراد بذلك: أي لا يتخذهم أولياء متجاوزاً بذلك أهل الإيمان فيقرب هؤلاء وينصرهم على إخوانه المسلمين.
ويمكن أن يكون قوله: مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ بمعنىً آخر وهو: أن ذلك يكون واقعاً منه تحيزاً إلى هؤلاء ضد إخوانه المؤمنين، فعلى هذا الاعتبار يكون هذا القيد لا مفهوم له، يعني ليس له مفهوم مخالفة، فيكون أحد المواضع التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة، وذلك أنه يكون قد جرى على وفاق واقع معين، كأن تكون طائفة من المسلمين والوا بعض الكفار على بعض إخوانهم المؤمنين، فأنكر الله عليهم هذا وقال: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ.
فلو قال إنسان على هذا المعنى: أنا أتخذ الكفار أولياء مع المؤمنين، نقول له: لا يجوز ذلك، لكن هذا القيد جاء لهذا السبب أي في واقعة معينة مثل قول الله : وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [سورة النــور:33]، فليس معنى هذا أنها لو كانت هي تحب الزنا أصلاً أنه لا مانع، وإنما الآية نزلت بسبب واقع معين وهو أن عبد الله بن أبيّ -كما صح في سبب النزول- كان عنده جاريتان فأسلمتا فكان يكرههما على الزنا، فأنزل الله فيه: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [سورة النــور:33] فعلى كل حال قوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ ابن جرير له كلام جيد في الآية.
يقول ابن جرير في هذه الآية: "ومعنى ذلك لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهراً وأنصاراً توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ [سورة آل عمران:28] يعني بذلك فقد برئ من الله وبرئ الله منه؛ بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر.
إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [سورة آل عمران:28] إلا أن تكونوا في سلطانهم وتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل".
هذا كلام جيد في بيان معنى الآية، ويلاحظ أنه خصص ذلك في قوله: إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [سورة آل عمران:28]، بمعنى أن ذلك يكون باللسان، فقوله هنا: إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [سورة آل عمران:28] يمكن أن يكون من قبيل الاستثناء المنقطع، بمعنى أن ذلك ليس أصلاً من موالاتهم في شيء، ومنهم من يقول: إن هذا إنما يكون باللسان، وهذا لا ينافي ما سبق، أي يكون باللسان في حال الخوف وكون الإنسان تحت سلطانهم، فيتقيهم ببعض القول كما قال الله : إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [سورة النحل:106]، ولذلك نجد عبارات كثير من السلف يخصصون فيها ذلك بالقول دون الفعل، كما جاء عن ابن عباس -ا- أنه التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإيمان، يقول: ولا يبسط يده فيقتل، ولا إلى إثم فإنه لا عذر له، إنما يرخص له بالقول باللسان.
وكما جاء أيضاً عن غيره كأبي العالية قال: هو التكلم باللسان وليس بالعمل، وحمله بعضهم كقتادة على معنىً آخر تماماً فقال: إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً إلا أن يكون بينك قرابة فتصلهم فقط، وهذا ليس من موالاتهم في شيء.
فالحاصل أن الآية تُحمل على المعنى الأول الذي عليه عامة السلف، إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً بأن يرخص له في القول إذا خافهم وكان تحت سلطانهم، أو كان في حال من الضعف، بالقول دون الفعل، والله أعلم.
ثم توعد على ذلك فقال تعالى: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ [سورة آل عمران:28] أي ومن يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ [سورة الممتحنة:1] إلى أن قال: وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [سورة الممتحنة:1].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:144]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ الآية [سورة المائدة:51].
وقال تعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب: وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [سورة الأنفال:73]، وقوله تعالى: إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [سورة آل عمران:28] أي إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: "إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم".
قوله: "إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم" يعني نبتسم في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم.
التقية هنا هي بمعنى ما يسميه الناس اليوم المجاملة.
ثم قال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28] أي: يحذركم نقمته، أي مخالفته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه.
ثم قال تعالى: وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ [سورة آل عمران:28] أي: إليه المرجع والمنقلب فيجازي كل عامل بعمله.
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب مقلب القلوب (6957) (ج 6 / ص 2691) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677) (ج 4 / ص 2062).
- أخرجه أحمد (3712) (ج 1 / ص 391) والحاكم (1877) (ج 1 / ص 690) وأبو يعلى (5297) (ج 1 / ص 198) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1822).