بسم الله الرحمن الرحيم
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة آل عمران:137-143].
يقول تعالى مخاطبًا عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي: قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين ولهذا قال تعالى: فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ [سورة آل عمران:137].
ثم قال تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138] يعني القرآن فيه بيان للأمور على جليتها، وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [سورة آل عمران:137] المراد به المثلات التي وقعت للأمم المكذبة حيث أجرى الله العادة بأن يعذب المكذبين الظالمين من الأمم التي كانت قبلنا ويأخذهم بذنوبهم فأرشد إلى النظر في هذا فقال: فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ [سورة آل عمران:137]، وهذا الأمر هو لمن كان عنده شيء من التردد والشك أو التكذيب.
ولا مستمسَك في هذه الآية لطوائف المتكلمين ممن قالوا: إن أول ما يجب على المكلف هو النظر؛ لأن الله قال: فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ [سورة آل عمران:137] وإنما أمر الله بالنظر لمن كان عنده تردد أو شك أو تكذيب، ولم يؤمر به أهل الإيمان الذين ثبتوا، فهم لا يحتاجون إلى مثل هذا، كأبي بكر الصديق وأمثاله، وقد قال القائل:
وليس يصح في الأذهان شيءٌ | إذا احتاج النهار إلى دليل |
قوله -تبارك وتعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138]، قال: يعني القرآن فيه بيان للأمور على جليتها، وبعض أهل العلم يقول: إن اسم الإشارة في قوله: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ يعود إلى الآية التي قبلها وهي قوله: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [سورة آل عمران:137] أي أن السياق يكون هكذا: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ.. [سورة آل عمران:137]، ثم قال: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138]، وهذا فيه بعد والله تعالى أعلم، والأحسن من هذا هو ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- من أن المراد بقوله: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138] ما ذكره الله قبله من التفاصيل والأمور التي بيّن بها حال أهل الإيمان والمكذبين الكافرين، وما جرى لهؤلاء، وما جرى لهؤلاء، وما وقع في يوم أحد، وأسباب ذلك، فهذا التفصيل الذي سبق في الآيات هو المراد بقوله: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138].
وما ذكره الحافظ ابن كثير هنا من أنه القرآن لا يبعد من هذا كثيرًا؛ لأن القرآن بيان للناس، وهذه الأشياء التي ذكرها الله من الآيات هي من جملة هذا القرآن وما تضمنه من البيان والهدايات التي يحتاج إليها الناس، والعلم عند الله .
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ [سورة آل عمران:138] يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم وهدىً لقلوبكم، وموعظة للمتقين، أي: زاجر عن المحارم والمآثم.
ثم قال تعالى مسليًا للمؤمنين: وَلاَ تَهِنُوا [سورة آل عمران:139] أي: لا تضعفوا بسبب ما جرى وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:139] أي: العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون.
في قوله تعالى: وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:139] يمكن أن يكون قوله: إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ متعلقًا بقوله: وَلاَ تَهِنُوا أي: لا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين، فإن المؤمن يصبر ويثبت ويرضى بما قدره الله عليه، ويستشعر هذه المعاني.
وبعض أهل العلم يقول: إنه يتعلق بقوله: وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ أي: ولا تهنوا ولا تحزنوا فإنكم الأعلون إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يعني أن هذا الوصف -من كونهم أعلى من الكفار وإن هُزموا- إنما يكون إذا كانوا محققين للإيمان.
ومثل ابن جرير الطبري -رحمه الله- يقول: إن قوله: إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ أي إن كنتم مصدقين لرسولي فيما أخبركم به من النصر والظفر وأن العاقبة لكم وما يئول إليه أمركم؛ لأن العبرة إنما هي في المآل والنهايات، وأما ما يعرض للناس من هزيمة وانكسار في بعض الأحيان فذلك لا يعني أنه نهاية المطاف، وكما هو معلوم فإن الرسل -كما في حديث هرقل مع أبي سفيان- تارة يدالون وتارة يدال عليهم، فالحرب سجال، لكن النهاية والعاقبة تكون لأتباع الأنبياء وللأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
وعلى كل حال مثل هذا الأسلوب وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:139] يستعمل عادة للتحريض والتحضيض، وهذا كثير في القرآن، وتقول: إن كنت ابن الكرام فافعل كذا، فالله يأمرهم أو ينهاهم ثم يقول: إن كنتم مؤمنين فامتثلوا ذلك، فهنا قال: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:139]، والله تعالى أعلم.
القرح هو الجرح، فقوله: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ أي: جراح، وهنا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ أي: إن كنتم قد أصابتكم جراح وقُتل منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، وهذا الذي أصاب أهل الإيمان المقصود به قطعًا ما وقع لهم في يوم أحد، فهذه السورة تتحدث عن وقعة أحد، حيث قتل منهم سبعون.
وأما الذي أشار الله إليه بقوله: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ [سورة آل عمران:140] فمن أهل العلم من يقول: إن المراد بذلك ما وقع للمشركين في يوم أحد؛ وذلك أنه في أول الغزوة ولوا مدبرين وسقط اللواء، فلم يجرؤ أحد على أخذه، وقتل حملته وقتل منهم نحو تسعة وكانت الهزيمة، فهذا القتل الذي وقع للمشركين في أول المعركة بعض أهل العلم يقول: إنه هو القرح المشار إليه في هذه الآية، ويكون هو المشار إليه بقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ [سورة آل عمران:152]، والحس هو القتل والاستئصال، نقول: حسهم بالسيف، كما سيأتي.
فقوله تعالى: إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:152] يعني صرفكم عنهم وتحول ميزان المعركة، وهذا المعنى عند من قال: إنه القرح الذي أصاب المشركين في يوم أحد، لكن الأقرب والله أعلم أن المراد به ما وقع لهم في يوم بدر، ولهذا قال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا [سورة آل عمران:165]، وإصابة المثلين إنما وقع في يوم بدر حيث قتل من المشركين سبعون وأسر سبعون، وفي يوم أحد قتل من المسلمين سبعون ولم يؤسر أحد، فهذا دليل على أن المراد ما وقع للمشركين في يوم بدر، وهو المشار إليه في قوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12]، فوقع لهم ما وقع في يوم بدر.
وأما القرح الذي أصاب المسلمين فقد أشار الله إليه في هذه الآيات حيث قال: وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة آل عمران:143] وكذلك في قوله: وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [سورة آل عمران:140] وغير ذلك من الآيات، كقوله: تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ [سورة آل عمران:153]، وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:152] يعني وقع لكم الهزيمة.
فالخلاصة أن القرح الواقع للمسلمين هو ما حصل في يوم أحد، والقرح الواقع على المشركين هو ما وقع لهم في يوم بدر، وهذا على الأرجح من قولي العلماء، والله تعالى أعلم.
هنا عدّد جملة من الحكم فقال : وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:140-141] فهذه جمل من الحكم في إدالة الكفار على المسلمين في يوم أحد، فمثل هذه الأمور المذكورة، وغير المذكورة مما يُعرف كُلها داخلة تحت حكمة الله .
فهنا يقول: وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة آل عمران:140] فلو كان النصر دائمًا لأهل الإيمان لدخل فيهم كل أحد من المنافقين وكل طامع؛ ذلك أن قومًا يحالفهم الانتصار في كل الأحوال جديرون بالاتباع، فالناس تبعٌ للمنتصر، لكن إذا وقعت الهزيمة في بعض الأحيان والآلام والجراح فإنه لا يبقى ولا يثبت إلا أهل الصدق والإيمان، ولهذا قال: وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء فهؤلاء الذين قتلوا ليسوا خسارة إلا بالمقاييس المادية الدنيوية، وكل إنسان سيموت وقد ماتوا بآجالهم وانتهت أعمارهم أصلًا، فحتى لو لم يقاتلوا ولم يخرجوا إلى المعركة فهم سيموتون في هذه اللحظات، ولكن الله كتب لهم هذه النهاية التي يرتفعون بها كثيرًا عند الله فهذه حكمة من حكم إدالة الكفار.
يقول: وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:141] أي يحصل لهم التمحيص فتذهب عنهم وساوس الشيطان ويحصل المحق للكافرين؛ لأنهم إذا انتصروا على أهل الإيمان بغوا وتعالوا وطغوا وأفسدوا فيكون ذلك سببًا لمحقهم وزوالهم، ومن أراد أن يطالع الحكم الكثيرة في هذا فلينظر في ما كتبه الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد، حيث ذكر أشياء تطول جدًا.
الشهيد قيل له شهيد؛ لأنه مشاهد للجنة، أو كأنه مشاهد للجنة، كما يقول بعض أهل العلم، أو لأنه مشهود له بالجنة، وعلى كل حال القتل في سبيل الله شهادة، وهذا أدل دليل على صدق الإيمان، كما أن النبي ﷺ قال: الصدقة برهان[1] فالإيمان قد يدعيه كل أحد، فإذا قدم مهجته فهو شهيد، وإذا قدم ماله فذلك برهان على صدق دعوى الإيمان، وأحب شيء إلى الإنسان نفسه وماله.
التمحيص: هو الاختبار أو التطهير، فهو يخلصهم من ذنوبهم، أو يخلصهم من وساوس الشيطان أو نحو ذلك، وعلى كل حال فالمؤمنون يحصل لهم التمحيص بسبب ما أصابهم فيكون ذلك رفعًا في درجاتهم، وتطهيرًا لذنوبهم أي يكون كفارة له، ويكون ذلك أثبت في إيمان المؤمنين الصادقين؛ لأن هذه الابتلاءات تزيدهم من الله قربًا فيتوجهون إليه، ويتعلقون به، ويركنون إلى جنابه، وينقطع تعلقهم بالمخلوقين، ولا يحصل لهم أيضًا التفات إلى النفس ولا عجب، لكن الانتصار الدائم المستمر ربما يورث شيئًا من الوثوق بالنفس أو بالقوة والعدة وما أشبه هذا، أما إذا حصلت الهزيمة والانكسار رجع العبد إلى نفسه فعرف قدرها وعرف شدة حاجته إلى ربه، وعرف فقره إليه وأنه لا يستغني عنه طرفة عين، وهذا مشاهد في الإنسان حينما يصيبه المرض أو العلة أو البلاء عمومًا، وقد ذكر بعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- شيئًا من هذا في الكلام على الحكم من وقوع المعاصي من العباد.
أصل المحق هو إزالة الأثر، تقول: محقه أي أزال أثره، والمعنى أن الله يستأصلهم ويهلكهم.
ثم قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:142] أي: أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد كما قال تعالى في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ الآية [سورة البقرة:214].
وقال تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ الآية [سورة العنكبوت:1-2] ولهذا قال هاهنا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:142] أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقارنة الأعداء.
وقوله: وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة آل عمران:143] أي: قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا وصابروا.
قوله: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أي أنهم رأوا أسبابه حاضرة يوم أحد.
"وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف[2] ولهذا قال تعالى: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ [سورة آل عمران:143] يعني الموت وشاهدتموه وقت لمعان السيوف وحد الأسنة واشتباك الرماح، وصفوف الرجال للقتال.
والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تتخيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب.
بمعنى أن العداوة لا تشاهد ولكنها تتصور، أي يعقلها الإنسان ويتصورها، فإذا رأى الإنسان أسباب الموت حاضرة -فالسيوف مشرعة والرماح والرؤوس تتطاير ورأى الدماء ورأى الطعن- فكأنه قد رأى الموت أمام عينيه، مع أن الموت لا يرى وإنما ترى أسبابه أو آثاره.
قوله تعالى في الآية: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:142] هنا يرد سؤال مفاده أن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ولا يخفى عليه خافيه، فما المراد بالعلم في هذه الآية: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:142]؟
الجواب: أي يعلم ذلك واقعًا منكم، فالله يعلم ما سيكون ولكن علمه لا يحاسِب عليه حتى يقع مقتضى هذا العلم من المكلفين، فيكون المراد بالعلم هنا هو العلم الذي يترتب عليه الجزاء، أي أن يكون ذلك واقعًا منكم، وهذه قاعدة في القرآن، فكل آية يضاف فيها العلم إلى الله بمثل هذا أي: في شيء مستقبل، أن كذا من أجل أن يعلم الله كذا، فالمراد به العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وهذا له أمثلة في القرآن منها قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ [سورة محمد:31] وأمثال هذا كثير وكله يراد به هذا المعنى.
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران:144-148].
لما انهزم مَن انهزم مِن المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم نادى الشيطان: ألا إن محمدًا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين، فقال لهم: قتلت محمدًا، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله ﷺ قد قتل، وجوزوا عليه ذلك كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء -عليهم السلام- فحصل ضعف ووهن وتأخرٌّ عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله -ﷺ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [سورة آل عمران:144] أي: له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه.
قال ابن أبي نجيح عن أبيه: إن رجلًا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدًا ﷺ قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلَّغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [سورة آل عمران:144] رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة.
وهذا من الحكم التي ذكرها الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فيما وقع يوم أحد، وهو أن ذلك كان توطئة وتهيئة لنفوس أهل الإيمان فيما سيقع بعده في المآل وهو موت النبي ﷺ، فوطَّأ لهم بهذا، حيث ظهرت هذه الإشاعة ثم عالجها القرآن وبيّن لهم أن شأن النبي ﷺ كغيره لم يكتب له الخلد في هذه الحياة وأنه سيموت، وأنه لا يجوز لهم بحال من الأحوال أن يرجع الناس بعده، فوطأ لهم بهذا.
ثم قال تعالى منكرًا على من حصل له ضعف: أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [سورة آل عمران:144] أي: رجعتم القهقرى وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [سورة آل عمران:144] أي: الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حيًا وميتًا.
وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع، وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر -ا- أن الصديق تلا هذه الآية لما مات رسول الله ﷺ.
روى البخاري عن عائشة -ا- أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله ﷺ وهو مغشىً بثوب حبرة فكشف عن وجهه.
الثوب الحبرة هي ثياب من القطن أو الكتان، وربما كانت مخططة أو معلمة، وقد كان يؤتى بها من اليمن.
فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها[3].
وروى الزهري عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يحدث الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [سورة آل عمران:144] إلى قوله: وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [سورة آل عمران:144]، قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها.
وعن سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض.
تقول: عقر الرجل: يعني إذا بقي مكانه لشدة الفزع الذي فاجأه أو أصابه بحيث لا يستطيع أن يتقدم أو يتأخر، فهو لا يتحرك من مكانه لشدة ما نزل به، وكأنه قد قطعت رجله.
قوله: كِتَابًا مُّؤَجَّلًا هذا مصدر مؤكِّد لما قبله، أي أنه مؤقت لا يتقدم ولا يتأخر كما قال تعالى: فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف:34].
قوله: قالوا: ديوان فهربوا، يعني أنهم قالوا: هؤلاء شياطين يمشون على الماء فخافوا منهم، والديوان فسره في الهامش فقال: وديوان: جمع ديو وهو بالفارسية والهندية العفريت الكبير.
هذه الآية مقيدة في سورة الإسراء، فالله يقول: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ [سورة الإسراء:18] فقيدها بقيدين، قيد في المعطين وقيد في المعطَى -يعني العطاء- فقال: مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ [سورة الإسراء:18] أي ما نشاء من العطاء لمن نريد من الخلق.
وفي سورة هود يقول تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ [سورة هود:15-16] فلم يقيدها.
وفي سورة الشورى لم يقيدها حيث قال: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [سورة الشورى:20] فثلاث آيات مطلقة وواحدة مقيدة والتي هي آية الإسراء، والقاعدة أن المطلق يحمل على المقيد.
كما قال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [سورة الشورى:20]، وقال تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [سورة الإسراء:18-19] وهكذا قال هاهنا: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [سورة آل عمران:145] أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم.
ثم قال تعالى مسليًا للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [سورة آل عمران:146] قيل: معناه كم من نبي قُتل وقُتل معه ربيون من أصحابه كثير، وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
قوله تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ لفظة "كأين" يقول عنها أمثال الخليل وسيبويه: إن أصلها "أن" دخلت عليها كاف التشبيه، وصارت بعد التركيب وكثرة الاستعمال بمعنى "كم" ثم تصرفت فيها العرب فصار فيها أربع لغات، الأولى: كأين نحو التي في قوله: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ الثانية: وكائن وهي قراءة ابن كثير، ويقف عليها بعض القراء كأبي عمرو (وكأي) واللغة الثالثة: وكأيْن بفتح الهمزة والكاف وسكون الياء، واللغة الرابعة "كي إن" بكسر الهمزة، وعلى كل حال مثل هذا يستعمل للتكثير، فقوله: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ يعني أنبياء كثير.
فقوله تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [سورة آل عمران:146] يقول ابن كثير -رحمه الله: قيل: كم من نبي قُتل وقُتل معه ربيون من أصحابه كثير، وعلى هذا التفسير صار القتل واقعًا على النبي وعلى أتباعه وذلك على قراءة (قُتِل) وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو.
وقوله: (قُتل) هذا فعل مبني للمجهول، ومعروف أن الفعل المبني للمجهول يكون ما بعده نائبًا للفاعل، فما هو نائب الفاعل هنا؟ هل هو ضمير يرجع إلى النبي، يعني وكأين من نبي قتل أي هو، أم أن نائب الفاعل هو قوله: رِبِّيُّونَ أي وكأين من نبي قتل ربيون كانوا معه، وعلى هذا يكون القتل واقعًا على الربيين؟
هذا احتمال وبعض أهل العلم كالشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان يرجح أن نائب الفاعل هو قوله: رِبِّيُّونَ ويحتج على هذا من جهة المعنى بأن الله أخبر أن الغلبة للرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأن النصر لهم، ويقول: وبالتتبع نجد أن الغلبة تكون بالسيف وتكون بالحجة، وأكثر ما جاءت في القرآن في الاستعمال بالنسبة للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين أمروا بالقتال أن الغلبة تكون بالسيف، ثم إن الله جعل الغلبة مقابلة للقتل كما قال تعالى: فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ [سورة النساء:74] فالمقتول ليس بغالب، والله قال: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات:173] وقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا [سورة غافر:51] فالمقتول مغلوب -هذا كلام الشنقيطي -رحمه الله- وبناء على ذلك يقول: إن النبي إن كان قد قتل في ميدان المعركة فمعنى ذلك أنه قد غلب؛ لقوله: فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ [سورة النساء:74]؛ لأن المقتول صار مقابلًا للغالب، فالمقتول مغلوب والقاتل غالب، ويقول: إن الأنبياء لا يغلبون وبذلك يكون القتل وقع على الربيين.
وعلى كل حال القول بأن القتل في قوله تعالى: (وكأين من نبي قُتل معه ربيون كثير) -في قراءة نافع ومن معه- وقع على النبي وعلى الربيين لا يخلو من إشكال، وإن كان يمكن أن يخرَّج هذا باعتبار كأين من نبي قتل معه ربيون كثير قتلوا، لكن قد لا يكون هذا هو المتبادر، فالآية تحتمل وجوهًا من التفسير على هذه القراءة ومنها كأين من نبي قتل أي أن القتل وقع على النبي ومعه ربيون كثير، أي أتباع وجماعات أو علماء ربانيين وفقهاء وعباد وغير ذلك فما فتَّ في أعضادهم قتل نبيهم وقائدهم وإمامهم ومقدمهم وإنما استمروا على ما كانوا عليه.
والمعنى الثاني: أن يكون القتل وقع على الربيين، فالعلماء الذين رجحوا أن القتل وقع على النبي، قالوا: لو كان القتل واقعًا على الربيين فكيف يقال: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146]، وهم قد قتلوا؟
وهذا في الواقع لا إشكال فيه؛ لأن ذلك يرجع إلى من بقي منهم لم يقتل، يعني أن إخوانهم لم يتراجعوا ويتضعضعوا ويضعفوا أمام عدوهم حينما استحرَّ القتل في إخوانهم، وإنما من بقي حيًا بقي عزيزًا ثابتًا صامدًا صابرًا لم يتضعضع مع كثرة ما وقع من القتل لإخوانه.
وهذا جواب واضح ولا إشكال فيه وله شواهد وله ما يدل على صحة هذا التخريج ومنها قول الله لبني إسرائيل في الكفارة لما عبدوا العجل: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] أي أنهم لما طلبوا أن يروا الله جهرة عاقبهم الله بأن أخذتهم الصاعقة فكيف ينظرون؟
المعنى على أحد الأقوال في الآية: أن بعضهم ممن لم يمت كان ينظر إلى الآخر وهو يموت، أي ينظر بعضهم إلى بعض، فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55]، فهذا أحد المعاني في هذه الآية، وبمثل هذا المعنى يقال في قوله: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146] أي أن من بقي حيًا بقي عزيزًا ثابتًا صامدًا صابرًا لم يتضعضع مع كثرة ما وقع من القتل لإخوانه، والله تعالى أعلم.
وعلى القراءة الأخرى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة آل عمران:146] فهذا لا إشكال فيه، ثم إن القتل غير القتال، فما أصابهم من جراح وآلام وهزيمة لم يفتّ في أعضادهم، والآية تحتمل هذه المعاني جميعًا، وهذه المعاني معتبرة فيها، وهي تربية لأهل الإيمان، فقد يقتل نبيهم كما قتل جماعة من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وقد يقتل كثير من الأتباع بل من خيار الأتباع، وتبقى البقية صامدة ثابتة لا تتضعضع.
والقرآن يعبر عنه بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، ومن المعاني أنه يفترق المعنى في حال الوقف والوصل، فعند الوقف (وكأين من نبي قُتل) يصير المعنى والحال أن معه هؤلاء الجماعات رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146]، والله أعلم.
قيل: معناها "كم من نبي قُتل وقُتل معه ربيون من أصحابه كثير"، يقول: "وهذا القول هو اختيار ابن جرير"، والصواب أن هذا ليس اختيار ابن جرير، وإنما اختيار ابن جرير يوافق قول ابن إسحاق الذي سيأتي.
وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولًا آخر، قال: وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون: أي جماعات، فما وهنوا بعد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم.
يعني عكس الأول، فالقول الأول الذي قال عنه: "وهذا قول ابن جرير" هو إن القتل وقع على الربيين، والقول الآخر هو أن القتل وقع على النبي فثبت أتباعه وأصحابه من بعده، وهذا هو قول ابن جرير وليس الأول.
قوله: "وله اتجاه؛ لقوله... " يعني والذي يمكن أن يرجِّح هذا القول هو قوله تعالى: فَمَا وَهَنُواْ، والمعنى أنه لو كانوا هم الذين قتلوا فكيف يقول: فَمَا وَهَنُواْ؟
لكن هذا يُرَدُّ بأنه لا إشكال فيه في الواقع حيث إن البقية التي لم تقتل منهم هي التي صبرت وثبتت وصمدت.
أي: لم يحكِ قولًا آخر وإنما اقتصر على هذا كأنه مختار.
وروى سفيان الثوري عن ابن مسعود -: رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أي ألوف.
وقال ابن عباس -ا- ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخرساني: الربيون: الجموع الكثيرة.
بعضهم يقول: إن الرّبة الواحدة ألف، والربيون: بمعنى ألوف، فهذا تفسير لقول من قال: إن الرِّبة والرَّبة الواحدة تعني ألفًا.
يقول: "وقال ابن عباس -ا- ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخرساني: الربيون الجموع الكثيرة" وهذا لا ينافي قول من قال: إنهم ألوف؛ فالألوف جموع كثيرة، وقد قرأ بعض السلف بضم الراء، وهي ليست من القراءات المتواترة، لكن نقل ذلك عن علي وجاء عن ابن عباس بالفتح، وبهذا يكون الواحد رَبِّي والجمع على الفتح رَبيون.
وبعضهم يقول: هذا نسبة إلى الرب، كقوله: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79] ويقال: العالم الرباني، والرباني فيه معنى التربية، وقالوا: الربانيون يعني فقهاء علماء، وقالوا: الذين يرجع إليهم الناس في شئونهم كلها وما ألم بهم في دينهم ودنياهم، وما أشبه هذا، وإذا قيل بضم الراء وكسرها يكون منسوبًا إلى الرِّبة أو الرُّبة، وهي الجماعة أو الألف.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [سورة آل عمران:146] أي: علماء كثير، وعنه أيضًا: علماء صبر أبرار وأتقياء.
فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146] قال قتادة والربيع ابن أنس: وما ضعفوا بقتل نبيهم، وَمَا اسْتَكَانُواْ يقول: فما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله.
وقال ابن عباس -ا: وَمَا اسْتَكَانُواْ تخشعوا، وقال السدي وابن زيد: وما ذلوا لعدوهم، وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:146].
يعني كأن الاستكانة تكون من قبيل الظاهر، أي ما يظهر عليهم من التخشع، وأما الضعف والوهن فيكون بالقعود عن عدوهم ومناجزته، ويكون ذلك في القلوب، وما يكون في الخارج إنما هو نتيجة عنه.
وعلى كل حال بعض أهل العلم يفرق بين هذه الألفاظ الثلاثة في قوله: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146] فينبغي مراجعة كتب التفسير في ذلك.
الهجير: يعني الدأب والعادة والشيء الذي يولع به الإنسان وينشغل به كثيرًا.
قوله: وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران:148]، بعضهم يقول: هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فـ "حسن" صفة و"الثواب" موصوف وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، مثل قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [سورة الإسراء:24] هذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، فالجناح موصوف، والصفة هي الذُّل، أي جناحك الذليل.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب فضل الوضوء (223) (ج 1 / ص 203).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب كان النبي ﷺ إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس (2804) (ج 3 / ص 1082) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء (1742) (ج 3 / ص 1362).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب مرض النبي ﷺ ووفاته (4187) (ج 4 / ص 1618).