بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة آل عمران:90-91].
يقول تعالى متوعداً ومهدداً لمن كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفراً، أي ستمر عليه إلى الممات، ومخبراً بأنهم لن تقبل لهم توبة عند مماتهم، كما قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ.. الآية [سورة النساء:18]، ولهذا قال ها هنا: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ [سورة آل عمران:90] أي: الخارجون عن المنهج الحق إلى طرق الغي.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..
فقوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90] هذه الآية فيها إشكال معروف عند أهل العلم وذلك أن الله أخبرنا في غير هذا الموضع من كتابه أنه يقبل التوبة عن عباده، وأن أهل الذنوب مهما تعاظمت ذنوبهم فإن الله يفتح لهم باب التوبة، حتى إنه يقول للذين نسبوا له الصاحبة والولد متلطفاً بهم غاية التلطف: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [سورة المائدة:74] إلى غير ذلك مما هو معلوم.
وهذه الآية يقول الله فيها إنه لن يقبل توبتهم، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يفسر هذه الآية بالآية الأخرى وهي أن الإنسان إذا أخر التوبة فإنه لا تقبل توبته عند الموت، أي إنه فسرها بقوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [سورة النساء:18] وهذا قول معروف قال به طوائف من أهل العلم، وعلى هذا القول ينتفي الإشكال، حيث قال: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90] يعني الذين أخروها إلى حال الغرغرة أو عند الموت، فهذا لا تقبل توبته ولو كانت من الذنوب والمعاصي كما هو معلوم.
ومنهم من حمل ذلك على من مات على الكفر؛ لأنه قال: وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [سورة النساء:18]، بمعنى أن هؤلاء الذين يموتون على الكفر هم الذين أرادهم الله بهذه الآية، لكن هذا الجواب فيه إشكال، لأن هؤلاء ما تابوا، والله هنا يقول: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90] فمن مات على الكفر فإنه لم يتب.
ومن أهل العلم من يقول -ككبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله: إن هذه الآية في اليهود حيث آمنوا بالنبي ﷺ قبل أن يبعث، بما كانوا يجدونه في كتبهم، فعرفوه من صفته، فهؤلاء آمنوا، فلما بعث كفروا به ﷺ وقاموا بأمور من الجرائم والذنوب، سواء كان في حقه -عليه الصلاة والسلام- أو في غير ذلك، لذلك قال: ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [سورة آل عمران:90].
فالذنوب والمعاصي التي يكتسبها الكافر هي زيادة في كفره كما قال الله عن المشركين: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [سورة التوبة:37]، فالنسيء هو تأخير الأشهر، فبدل أن يكون المحرم العام القادم في وقته يستبدلونه بصفر، وهكذا بدل أن يكون رجب في وقته يقدم عنه شعبان ورجب يؤخر، ففعلهم هذا سماه الله زيادة في الكفر، فهؤلاء إذا تابوا من شيء من ذنوبهم ومعاصيهم عدا كفرهم بالنبي ﷺ فلن تقبل توبتهم، هذا على قول ابن جرير ومن وافقه -رحمهم الله- أنها خاصة في اليهود.
ومن أهل العلم من يقول: هؤلاء الذين آمنوا ثم ارتدوا، فما كان لهم من توبة وهي من جملة الأعمال الصالحة قبل ردتهم فإنها لن تقبل، أي ما وقع منهم من توبة من الذنوب والمعاصي قبل الردة لا تقبل؛ لأن الردة أبطلت أعمالهم السابقة، وهذا القول قد لا يظهر كل الظهور.
ومن أهل العلم من يقول: إن المقصود بهذه الآية أنهم لن يوفقوا للتوبة، وبناءً على ذلك فإن توبتهم لن تقبل، يعني عُبِّر بأحد المتلازمين عن الآخر فقال: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90] أي لن يوفقوا للتوبة، فهؤلاء عرفوا الحق ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [سورة آل عمران:90]، فهم دانوا بالحق ثم رجعوا عنه، ثم ازدادوا غياً وضلالاً، فهؤلاء لن يوفقوا للتوبة، وإذا لم يوفقوا للتوبة فإن توبتهم لن تقبل بطبيعة الحال.
فهذه احتمالات، ومن أهل العلم من قال بأبعد من هذا، كمن قال: لن تقبل توبتهم إن تابوا إلى كفر آخر حتى يتوبوا من كفرهم توبة صحيحة بالرجوع إلى الحق الذي هو دين الإسلام، فلو تاب من اليهودية ودخل في النصرانية فإنه لن يقبل منه، وهكذا.
ولهذا قال هاهنا: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ [سورة آل عمران:90] أي: الخارجون عن المنهج الحق إلى طرق الغي.
روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس -ا- أن قوماً أسلموا ثم ارتدوا، ثم أسلموا ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فنزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90]. وإسناده جيد.
على كل حال هذه الآية يمكن أن تفسَّر الآية الأخرى أيضاً وهي قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [سورة النساء:137] حيث عقبها بقوله: لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [سورة النساء:137] وهنا في آل عمران قال: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90] وهذه المعاني متلازمة، فهم إذا قبلت توبتهم غفر الله لهم، فعبر بنفي المغفرة هناك، وهنا عبر بنفي قبول التوبة.
فيمكن أن يقال -والله أعلم: إن هذا مما يؤيد قول من قال: إن المقصود بقوله: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90] أنهم لن يوفقوا للتوبة، وبناءً عليه فإنهم لن تقبل توبتهم؛ لأنهم لم يتوبوا أصلاً، وهذا يرجع إلى قول من قال: إن هذه الآية فيمن مات على كفره، ثم إذا نظرت إلى حال من تاب عند الموت فهو في حكم من مات على كفره؛ لأن توبته لم تقع في محل يتحقق فيه القبول فكأنها منعدمة لم توجد.
والخلاصة أنك تجد أن بعض هذه الأقوال يمكن أن يرجع إلى بعض بهذا الاعتبار، والله تعالى أعلم.
قوله: مِّلْءُ الأرْضِ المقصود به مقدار ما يملأ الأرض، كما تقول: ملء هذا الكأس مثلاً، بمعنى مقدار ذلك.
في الآية الأولى: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123] جاء لفظ "عدل" نكرة في سياق النفي فهي للعموم، أي: لا يقبل منها عدل بإطلاق، وهنا في هذه الآية قال: فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا [سورة آل عمران:91]، فهنا جاء ذلك محدداً بهذا المقدار -بملء الأرض- وهناك أطلقه، أي فلن يقبل منهم الفدية ولا العدل ولو بذلوا في ذلك ملء الأرض ذهباً أو أكثر من ذلك أو أقلّ، قال الله : وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123] أياً كان.
وقال: لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [سورة إبراهيم:31] وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ [سورة المائدة:36] ذكر هنا ملء الأرض ومثله معه، يعني ضعف ما هاهنا، فكل ذلك وغيره على كل حال يقرر أن هؤلاء لا فكاك لهم، ولهذا ذكر الأمور الثلاثة في سورة البقرة، فقال سبحانه: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48].
فلا يقبل فيه شفاعة شافع، ولا يفتدي عن نفسه بشيء ولا يمكن لأحد أن يخلصه بالقوة، فلا خلاص لا بواسطة ولا بمقابل ولا بالقوة، فكل ذلك نفاه الله عنهم كما قال: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الحديد:15] وقال: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70] نسأل الله العافية.
قوله: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ: ليس المقصود بالعدل هنا ما يقابل الظلم وإنما المقصود ما يعاوض به، أي ما يقدمه فكاكاً وفداءً لنفسه.
هذا الكلام الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو وجه حسن، ولنتأمل الآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [سورة آل عمران:90-91] أي: لن يقبل منه ملء الأرض ذهباً ولو كان ذلك على سبيل الفدية.
فابن كثير -رحمه الله- يقول هنا: "ولهذا قال تعالى هاهنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ... إلى آخره، فعطف وَلَوِ افْتَدَى بِهِ على الأول فدل على أنه غيره" وهذا باعتبار أن العطف يقتضي المغايرة، أي أن قوله: فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًاِ، يكون معنى مستقلاً، بمعنى أنه يفسَّر بالآيات الأخرى كما في قوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23].
وكقوله -تبارك وتعالى- عن أعمال الكفار: كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [سورة إبراهيم:18]، وأخبر عنها بغير ذلك مما يدل على بطلانها وحبوطها، وأنها غير نافعة لهم كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [سورة النــور:39] فلن تؤثر لهم جزاءً في الآخرة وإنما هي باطلة حابطة، فهنا يكون الشق الأول يتحدث عن هذا المعنى وهو قوله: فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًاِ يعني لو بذله في سبيل الله في أعمال صالحة يتقرب بها إلى ربه -تبارك وتعالى- فإنها مردودة.
ثم ذكر معنى آخر وهو أنه لو كان هذا البذل لهذا المال الكثير على سبيل الافتداء، أي من أجل أن يفدي نفسه بهذا المال ليتخلص، فإن ذلك لن يقبل منه، يقول ابن كثير عن هذا التفسير: "وما ذكرناه أحسن من أن يقال: إن الواو زائدة"؛ ذلك أنه إذا قيل: إن الواو زائدة يكون المعنى: لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو افتدى به، بمعنى أن ذلك كله كان في شيء واحد هو الافتداء فقط بخلاف التفسير الأول.
ثم إن ادعاء الزيادة لا يصح، وهذا مع تحفظنا على لفظة زائدة؛ لأنه لا زائد في القرآن، فإذا قيل: إنها زائدة لفظاً ومعنى، فهذا لا يصح لأن القرآن كما هو معلوم ليس فيه حشو، وإنما زيادة المبنى لزيادة المعنى، فلا يوجد في القرآن حرف إلا وله معنى، لكنهم يقصدون الزيادة من جهة الإعراب فقط، ولذلك يتأدب بعضهم في العبارة فينكر التعبير بهذه اللفظة ويقول: إنها منافية للأدب مع القرآن، وإنما الأدب اللائق أن يقال: هي صلة، وهذا التعبير الأخير في كتب التفسير كثير.
فالحاصل أن الأصل عدم الزيادة، وأن كل حرف أو لفظة لها معنى، وإذا دار الكلام بين الإعمال والإهمال فالأصل الإعمال، وإذا دار الكلام بين الزيادة وعدمها فالأصل عدم الزيادة، فمهما أمكن حمل الكلام على معنىً صحيح فإنه أولى من ادعاء الزيادة.
ولذلك فإن الوجه الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- أولى من قول من قال: إنها زائدة، وأولى من تفسير من فسره بالمعنى، والمراد بالتفسير بالمعنى أن يفسر المفسر الآية بقوله: وهو محمول على المعنى، يقول هذا من غير مراعاة للألفاظ ولا للترتيب أحياناً؛ لأن السياق أو ترتيب الكلام يكون عنده فيه إشكال، وهذا له أمثلة كثيرة في التفسير.
ويقتضي ذلك ألا ينقذه من عذاب الله شيء ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهباً، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً، بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها.
وروى الإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي ربي خير منزل. فيقول: سل وتمنَّ، فيقول: ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار؛ لما يرى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: يا رب شرَّ منزل، فيقول له: تفتدي مني بطلاع الأرض ذهباً، فيقول: أي ربِّ نعم، فيقول: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار[2].
ولهذا قال: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة آل عمران:91] أي: وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله، ولا يجيرهم من أليم عقابه.
لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [سورة آل عمران:92].
روى وكيع في تفسيره عن عمرو بن ميمون: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ قال: البر الجنة.
لما ذكر الله حال الكافرين وبين أن ما يبذلونه من النفقات التي يتقربون بها إلى الله مردود، وأنه مهما بذلوا من أجل فكاك أنفسهم من عذاب الله فإن ذلك لن يحصل لهم؛ فالعذاب أمر واقع بهم لا محالة، خاطب الله بعد ذلك المؤمنين ببيان ما ينفعهم ويوصلهم ويبلغهم الدرجات العُلى عند الله -تبارك وتعالى، وتحصيل مرضاته وما يدخلهم جنته فقال: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92].
قوله: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ يقول: "روى وكيع في تفسيره عن عمرو بن ميمون: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ قال: الجنة"، وبعضهم يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ يعني العمل الصالح الذي يقرب إلى وجهه الكريم ويدخل جنته، والواقع أن هذه الأقوال متلازمة، فالعمل الصالح هو الذي يدخل به الإنسان الجنة بعد رحمة الله وفضله عليه، والله يقول لأهل الجنة: ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النحل:32]، فسواء قلنا: المقصود بقوله: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ الجنة، أو قلنا: العمل الصالح، فهذا من باب ذكر السبب أو المسبب، ولا يخفى ما بين السبب والمسبب من الملازمة، فلا نحتاج في مثل هذا أن نرجح بين القولين.
و"من" في قوله: مِمَّا تُحِبُّونَ تحتمل أن تكون بيانية، وتحتمل أن تكون تبعيضية، ويؤيد القول بأنها تبعيضية قراءة شاذة لابن مسعود وفيها: "بعض ما تحبون" أي: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا بعض ما تحبون"، بمعنى أن الإنسان لا ينفق كل ما يحب وإنما ينفق بعض ما يحب.
كانت مستقبلة المسجد من جهة الشمال، وهي الآن داخلة في المسجد، فإذا جئت المسجد من باب عمر أو الباب المجيدي اللذين في الجهة الخلفية، فهي على يسارك قليلاً أي أنها كانت في غاية القرب من المسجد.
قال أنس -: فلما نزلت لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]، قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن الله يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال النبي ﷺ: بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت، وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه[3]. [أخرجاه].
وفي الصحيحين أن عمر قال: يا رسول الله لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال: حبِّس الأصل وسبل الثمرة[4].
الأمثلة على هذا التصرف من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم كثيرة، ومن ذلك أن زيد بن حارثة لما سمع هذه الآية جاء بفرس له يقال له: "سَبَل" ودفعه إلى رسول الله ﷺ ليجعله في سبيل الله.
ومن ذلك فعْل ابن عمر في جاريته الرومية "مرجانة" التي كان يحبها غاية الحب، فأعتقها، وكذلك عمر في جارية من سبي جلولاء، وغير ذلك مما كانوا يفعلونه في تحري هذا المعنى، وهو بذل ما يحبون في سبيل الله.
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:93-95].
روى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله ﷺ فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، قال: سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم شيئاًً فعرفتموه لتُتابعنّي على الإسلام.
هذه الآية كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [سورة آل عمران:93] كلام أهل العلم فيها متقارب، والآية ليس فيها إشكال فهي واضحة المعنى.
لكن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر أمراً أشار إلى أنه هو المقصود من سياق الآية، فعامة أهل العلم يقولون: إن هذه الآية ترد على اليهود لما زعموا أن يعقوب ﷺ حينما حرم على نفسه ألبان الإبل ولحومها كان ذلك عندهم في التوراة فأكذبهم الله وأخبر أن جميع المطعومات كانت حلاً له ولأولاده، ولكنه حرم ذلك على نفسه على سبيل النذر، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم، ولم يحرمه الله -تبارك وتعالى- عليه، ثم استن به بنوه فجانبوها، ولم يحرمها الله عليهم حتى نزلت التوراة، فحرم الله –تبارك وتعالى- في التوراة أشياء على بني إسرائيل كما سيأتي.
فأما هذه التي حرمها يعقوب ﷺ على نفسه لم تكن مما حرمه الله -تبارك وتعالى- عليه، بل كان كل الطعام مما أحله الله لهم، ولم يكن ذلك محرماً بالتوراة، فالمقصود أن هذا هو المعنى الذي يدور حوله المفسرون، أي أنه ردَّ على اليهود هذه الدعوى، لكن ابن القيم -رحمه الله- ذكر معنىً وقال: وقد حام حوله المفسرون لكنهم لم يصرحوا به، وهو أن ذكر الطعام كان مثالاً، وأن الآية ترد على اليهود فيما هو أبلغ من ذلك، وهو الرد عليهم حيث أنكروا نسخ الشرائع، وبناءً عليه قالوا: نحن متعبدون بالتوراة أبداً، يعني لا تنسخ إلى الأبد، ويأتون بنصوص يزعمون أنها من التوراة يحتجون بها على قولهم، ويقولون: إن التوراة لا تنسخ وأن شريعة موسى ﷺ باقية إلى قيام الساعة.
وكما هو معلوم أن اليهود أنكروا النسخ وقالوا: إنه يستلزم البداء، وقد سبق الكلام عليه عند قوله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106] قالوا: يستلزم البداء، وقلنا: إن المقصود بالبداء: الظهور والانكشاف بعد الخفاء، يعني كأنه بدا لله أمر لم يكن ظاهراً له، وإنما يحصل هذا لمن ليس له علم محيط بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
فالمقصود أن اليهود أنكروا النسخ كما هو معروف، فهذه الآية ترد عليهم، تقول: أنتم في التوراة حرمت عليكم أشياء وأشياء، كما قال الله : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على تحريم أشياء عليهم لم تكن محرمة قبل التوراة على بني إسرائيل، فهذا برهان على النسخ وأن التوراة نسخت أشياء، ولم يكن ذلك رفعاً للبراءة الأصلية بل كان ذلك مباحاً إباحةً شرعية، قال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93]، ولو كان رفعاً للبراءة الأصلية لم يكن نسخاً، وقد عرفنا الفرق بين رفع البراءة الأصلية وبين رفع الإباحة الشرعية.
هذا الحديث جمع بين الأمرين -بين الشبه وبين الذكورة والأنوثة- وبيَّن أن ذلك مرتبط تمام الارتباط بهذا المعنى، وهذا ما لا يعرفه الأطباء ولا يقرونه ولا يعترفون به ولم يصلوا إليه أصلاً، ولو أن أصحاب الإعجاز في الكتاب والسنة جعلوا جهودهم منصبة على هذه الأشياء التي لا يحتاجون فيها إلى تفسير معاني القرآن ومعاني السنة من غير علم لكان أنفع وأحسن، يعني مثل حديث بول الجارية وبول الغلام، بناءً على أن خصائص بول الغلام تختلف عن خصائص بول الجارية، فينضح من هذا ويغسل من هذا، لو أجروا تحليلات ودراسات وكذا لكان أنفع بكثير، وكذلك هنا لو درسوا مثل ها الأشياء لكان أنفع.
ناقشت بعض الاستشاريين في هذا الجانب، يقولون: المرأة ما لها ماء أصلاً، وهذا قول الفلاسفة القدماء، وهو الذي عليه الأطباء، اليوم وأظنهم يُجمعون عليه، إذ ما رأيت لأحد كلاماً يخالف هذا، وإنما يقولون: إن الخلق ليس له علاقة بماء المرأة حتى وإن فرضنا أن لها ماء، وإنما الذي يحصل هو أن البويضة تلقح وينتهي كل شيء، فهذا الحديث يرد عليهم، ولذلك لما قيل للنبي ﷺ: أو تحتلم المرأة؟ قال النبي ﷺ: ففيمَ يشبهها ولدها؟[6].
وقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قبله؟ قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم اشهد قالوا: وأنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: إن وليي جبريل ولم يبعث الله نبياً قط إلا هو وليه قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك غيره لتابعناك، فعند ذلك قال الله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ.. الآية [سورة البقرة:97].
وقوله: مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93] أي حرَّم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، قلت: ولهذا السياق بعدما تقدم مناسبتان: إحداهما: أن إسرائيل حرم أحب الأشياء إليه وتركها لله.
قوله: مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ يعني أنه لم يحرَّم على بني إسرائيل شيء قبل نزول التوراة وهناك استثناء لم يكن بتحريم الله ، وإنما ما حرم يعقوب ﷺ على نفسه، فتابعه بنوه من غير تحريم الله عليهم، فنزلت التوراة وحُرِّم فيها أشياء بسبب بغيهم وظلمهم، كما قال الله : فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سورة النساء:160].
فالتحريم ثابت بالتوراة حيث حرم عليهم أشياء كثيرة إلى درجة أن ذلك يثقل عليهم ويشق عليهم، حتى إنك إذا نظرت إلى قوله تعالى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] تجد المشقة مفروضة عليهم بحيث إن الواحد منهم يحتاج إلى أن يستقصي في هذه الذبائح؛ لأن هذا يحل وهذا لا يحل!!.
إحداهما: أن إسرائيل حرم أحب الأشياء إليه وتركها لله، وكان هذا سائغاً في شريعتهم، فله مناسبة بعد قوله: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92].
هذا الكلام يربط فيه ابن كثير -رحمه الله- بين هذه الآية وبين التي قبلها، وهذا الوجه من الربط يقول فيه: إن الله قال لهذه الأمة: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92] ويعقوب ﷺ نذر لله أن يترك أحب الطعام والشراب إليه وهو لحوم الإبل وألبانها.
فالمقصود أن يعقوب ﷺ تخلى عن أحب الطعام والشراب إليه، ومعلوم أن الطعام والشراب أحد الأطيبين، فالأطيبان عند العرب الطعام والشراب والنكاح، وبعضهم يقول غير هذا.
واللبن إذا أطلق في القرآن والسنة ولغة العرب فالمقصود به الحليب وليس ما يطلق عليه اليوم عند المعاصرين، قال تعالى: لَّبَنًا خَالِصًا [سورة النحل:66].
فهذا هو المشروع عندنا، وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبه العبد ويشتهيه، كما قال تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [سورة البقرة:177] وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ الآية [سورة الإنسان:8].
المناسبة الثانية: لما تقدم السياق في الرد على النصارى، واعتقادهم الباطل في المسيح، وتبيين زيف ما ذهبوا إليه، وظهور الحق واليقين في أمر عيسى وأمِّه، وكيف خلقه الله بقدرته ومشيئته، وبعثَه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه -تبارك وتعالى- شرع في الرد على اليهود -قبحهم الله- وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع، فإن الله تعالى قد نص في كتابهم التوراة...
خلاصة وجه الارتباط بين الآيتين:
وجه الارتباط بين قوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [سورة آل عمران:93] مع قوله في الآية التي قبلها: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92] إما أن يقال: لما قرر -تبارك وتعالى-أن الإنسان لن يبلغ العمل الطيب الصالح والدرجات العالية ودخول الجنة إلا بإنفاق ما يحب، ذكر لهم مثالاً على ذلك وهو ما حصل من يعقوب ﷺ من تركه أحب الطعام والشراب إليه على سبيل النذر لمّا أصابه عرق النسا.
وإما أن يقال –وهو الوجه الثاني: إن الله لما رد على النصارى في الأمور التي سبقت، شَرَع في الرد على اليهود، فهو رد على النصارى في كذبهم ودعاواهم أن المسيح هو ابن الله... إلى آخره، وشرع في الرد على اليهود، وهذه المناسبات هي محتملة، فهي وجه يستنبطه المفسر أو يذكره المفسر بناءً على اجتهاده، ولذلك تجد أهل العلم يختلفون فيها، هذا يذكر مناسبة وهذا يذكر مناسبة، ولا يُقطع بشيء من ذلك.
وسبق الكلام على أن المناسبات إن كانت ظاهرة، بمعنى أنه يوجد ارتباط ظاهر فلا بأس، وأحياناً يصعب هذا، فيكون ذلك على سبيل التكلف، فهذا لا يلتفت إليه، فهذه الاحتمالات هي بسبب أن هذه القضايا يجتهد فيها المفسر فيلوح له وجه من الارتباط فيذكره، ويلوح لآخر وجه فيذكره، ولذلك تجد أن ما يذكرونه في المناسبات يتفاوت ويختلف، ومن أهل العلم من أنكر هذا بالكلية وقال: هذا من القول على الله بلا علم وتكلُّف في التفسير، لذلك فإن الاعتدال في الأمور هو المطلوب.
فإن الله تعالى قد نص في كتابهم التوراة أن نوحاً لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لُحْمان الإبل وألبانها، فاتبعه بنوه في ذلك، وجاءت التوراة بتحريم ذلك، وأشياء أخر زيادة على ذلك.
وكان الله قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه وقد حُرِّم ذلك بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حُرِّم مثل هذا في التوراة عليهم، وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغاً وقد فعله يعقوب جمع بين الأختين، ثم حُرِّم عليهم ذلك في التوراة، وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم، وهذا هو النسخ بعينه، فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح في إحلاله بعض ما حرم في التوراة، فما بالهم لم يتبعوه، بل كذبوه وخالفوه، وكذلك ما بعث الله به محمداً ﷺ من الدين القويم والصراط المستقيم، وملة أبيه إبراهيم فما بالهم لا يؤمنون، ولهذا قال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93].
يلاحظ الآن أن هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو الذي أشار إليه ابن القيم حين قال: حام حوله المفسرون ولم يصلوا إليه، وابن كثير ممن عاصر ابن القيم –رحمهما الله- وقد استفاد من شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ولذلك فإنه في المقدمة ذكر أشياء مما يتعلق ببعض أصول التفسير هي من كلام شيخ الإسلام وإن لم يذكره ولم يصرح به، فهو لاشك أنه استفاد من شيخ الإسلام كثيراً في هذا وفي غيره، أما ابن القيم فلا أعرف إن كان قد استفاد منه أم لا لكنه معاصر له.
ولهذا قال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93] أي: كان حلاًّ لهم جميع الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرمه إسرائيل، ثم قال تعالى: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة آل عمران:93]، فإنها ناطقة بما قلناه.
فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة آل عمران:94] أي: فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائماً وأنه لم يبعث نبياً يدعو إلى الله بالبراهين والحجج بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرناه فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة آل عمران:94].
ثم قال تعالى: قُلْ صَدَقَ اللّهُ [سورة آل عمران:95] أي: قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به، وفيما شرعه في القرآن.
فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:95] أي: اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد ﷺ فإنه الحق الذي لاشك فيه ولا مرية، وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم كما قال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:161].
وقال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:123].
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل (214) (ج 1 / ص 196).
- أخرجه أحمد (13185) (ج 3 / ص 207) والحاكم (2405) (ج 2 / ص 85) وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4279) (ج 4 / ص 1659) ومسلم في كتاب الزكاة - باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين (998) (ج 2 / ص 693).
- أخرجه البخاري في كتاب الشروط - باب الشروط في الوقف (2586) (ج 2 / ص 982) ومسلم في كتاب الوصية – باب الوقف (1632) (ج 3 / ص 1255).
- أخرجه أحمد (2514) (ج 1 / ص 278) والطبراني في الكبير (13045) (ج 12 / ص 246).
- أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب الحياء في العلم (130) (ج 1 / ص 60) ومسلم في كتاب الحيض - باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها (313) (ج 1 / ص 251).