بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى:
وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [سورة آل عمران:173] الآية، أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به.
وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [سورة آل عمران:173] روى البخاري عن ابن عباس: حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [سورة آل عمران:173] قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [سورة آل عمران:173][1].
وروى أبو بكر بن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قيل له يوم أُحد: إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فأنزل الله هذه الآية ولهذا قال تعالى: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [سورة آل عمران:174] أي: لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم، وردَّ عنهم بأس من أراد كيدهم، فرجعوا إلى بلدهم بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء مما أضمر لهم عدوهم.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [سورة آل عمران:173] هذا مثال عند الأصوليين حينما يذكرون العام المراد به الخصوص، وهو استعمال اللفظ العام في معنىً خاص، وذلك إذا فسرت هذه الآية: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ باعتبار أن القائل واحد وهو: أبو سفيان، أو من أرسله أبو سفيان وهو نعيم بن مسعود مثلاً، أو غير ذلك مما قيل، فالمقصود أن القائل واحد، وهكذا الأمر في قوله: الَّذِينَ فهو اسم موصول، والأسماء الموصولة تعتبر من صيغ العموم،
لكن قيل: إن المقول له ذلك واحد وهو أبو بكر الصديق وعلى كل حال هذا مثال مشهور يذكرون فيه هذا الأمر، لكن ليس بالضرورة أن يكون هذا هو المراد، فقد يكون من العام الباقي على عمومه، فقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ أي الذين توعدهم من لقيهم من الناس من أهل الإشراك وقائدُهم أبو سفيان إِنَّ النَّاسَ أي: المشركين من قريش الذين حاربوكم في أحد، قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ أي عزموا على الكرة والرجوع إلى استئصالكم، فيكون بهذا الاعتبار من العام الباقي على عمومه، لا سيما في قوله: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ [سورة آل عمران:173]، وأما قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ فيمكن هنا أن يكون ذلك أظهر في أن القائل واحد، والله أعلم.
وقوله -تبارك وتعالى: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ [سورة آل عمران:174] النعمة هي ما يحصل للإنسان من المنافع والخير، سواء كان ذلك في الأمور العاجلة أو في الأمور الآجلة فذلك كله من النعم، وسواء كان معنوياً أو حسياً.
وقوله: وَفَضْلٍ الفضل هو الزيادة، فسواء قيل: إن النعمة: هي السلامة مثلاً، أي أن الله سلمهم من عدوهم فهاب ورجع، ولهذا قال بعده: لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [سورة آل عمران:174] والفضل: هو الثواب والأجر، بأن عُدت تلك غزوة مع أنهم لم يواجهوا فيها عدواً، أو قيل بأن النعمة هي رحمة الله وثوابه لهم، والفضل هو الزيادة وذلك أنهم لقوا عيراً في الطريق في الموسم فاشتروا تلك العير فكان ذلك من المكاسب التي حصلت لهم عرَضاً، فكل ذلك تحتمله الآية.
ويمكن أن يكون المراد بهذه النعمة هي أن الله سلمهم، والفضل هو أن الله أثابهم مع أنهم لم يلقوا حرباً ولذلك قال بعده: لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [سورة آل عمران:174] والله تعالى أعلم.
وروى البيهقي عن ابن عباس في قول الله تعالى: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ [سورة آل عمران:174] قال: النعمة أنهم سلموا والفضل أن عيراً مرَّت وكانت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله ﷺ فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه.
ثم قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ [سورة آل عمران:175] أي: يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة.
إِنَّمَا ذَلِكُمُ أي: المثبط لكم هو الشيطان، والمعنى أن الشيطان يضخِّم الكفار في أعينكم ويجعل لهم هالة، ويجعل منهم أصحاب قوة لا يمكن أن تُدحر ولا تقهر ولا تهزم، فهذا هو الشيطان الذي يجعل لهم مثل هذا الانتفاش والتعاظم، أو العظمة في نظر الآخرين.
والمعنى المتبادر الظاهر –والله أعلم- في قوله: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ أي: يخوفكم من أوليائه، وأولياؤه هم الكفار، فالشيطان يخوف المؤمنين منهم بأن يلقي في نفوسهم أموراً يتعاظمون فيها قوة الكفار وما بأيديهم حتى يشعرهم أن هؤلاء الكفار قوة لا يمكن أن تواجه ولا تقهر.
فالحاصل أن هذا هو المعنى، وليس معناها أن الشيطان يخوف ويلقي الرعب والخوف في قلوب أوليائه، فليس هذا هو المراد، بل هو يحرضهم على الإقدام على أهل الإيمان، كما حصل في بدر لما زين لهم أعمالهم، وقال: وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ [سورة الأنفال:48] فهو الذي دفعهم إلى المواجهة.
وقوله: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ أبلغ من قوله: إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أولياءه؛ لأن قوله: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ معناه أنه يجعل لأوليائه من الهالة والعظمة بحيث إن جانبهم يكون مهيباً مرهوباً فيرفعهم بهذا، فيحسب المؤمنون لهم حساباً ولا يجترئون على مواجهتهم.
فالمقصود أن المعنى الظاهر المتبادر من قوله: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ أنه يخوف المؤمنين من أوليائه لا أنه يخوف أولياءه من المؤمنين أو من غير ذلك؛ لأنه من المعلوم أن الشيطان لا يخوف أولياءه، وإنما يدفعهم ويشجعهم على المضي لحرب أهل الإيمان، فهو لا يلقي الخوف في قلوبهم، وإنما يجتهد أن يلقي الخوف في قلوب المؤمنين، وهذا عام في الجهاد في سبيل الله وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يجعل لصاحب الباطل والمنكر عظمة غير حقيقية ولو كان من أقل الناس شأناً بحيث لا يجترئ عليه المؤمن أحياناً إذا قبل عن الشيطان هذا التأثير والإلقاء.
وهكذا يلقي في قلبه مهابة من هذا الإنسان ويجعل في نفسه من الخواطر والوساوس ما يجعله ينصرف عن الإنكار عليه، فلذلك ترى الإنسان أحياناً يجد إنساناً بجانبه يأكل ويتكئ على يده أو يشرب بيده اليسرى ولا يجترئ حتى على أن ينبهه، وتراه يجلس في المجلس ويسمع الغيبة أصرح ما تكون والاستطالة في الأعراض وربما الذي يقوم بهذا من أبسط الناس ومع ذلك لا يجترئ أن يقول: كف عن أعراض الناس اتق الله، فيسكت ويجامل ويداهن، وهذا كله من الشيطان، يقول له: إذا أنكرت فإن هذا الإنسان قد يسيء إليك أو قد يحصل مفسدة أكبر، أو هذا الإنسان قد يقاطعك أو يفهم هذا على غير مرادك، فيترك الإنسان مثل هذه الأشياء، وأحياناً يصلي بجانبه إنسان يرى عليه ألوان المنكرات فلا يكلمه، وأحياناً يراه لا يعرف يصلي فلا يجترئ على أن يكلمه ولو كان من أبسط الناس، والله المستعان.
قال الله تعالى: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:175] أي: إذا سوَّل لكم وأوهمكم فتوكلوا عليّ والجئوا إليّ فإني كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ [سورة الزمر:36] إلى قوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [سورة الزمر:38] وقال تعالى: فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء:76]
وقال تعالى: أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة المجادلة:19]، وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة المجادلة:21]، وقال: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [سورة الحـج:40] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ الآية [سورة محمد:7]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سورة غافر:51-52].
يقول تعالى لنبيه ﷺ: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، وذلك من شدة حرصه على الناس، وكان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق فقال تعالى: لا يحزنك ذلك، إنهم لن يضروا الله شيئاً.
يقول تعالى: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [سورة آل عمران:176] وفي قراءة نافع: (ولا يحزِنُك) وهما لغتان، والمعنى واحد.
فقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [سورة آل عمران:176] من هم الذين يسارعون في الكفر، ونهي النبي ﷺ عن الحزن عليهم؟ هل هم الذين يرتدون على أدبارهم؟ أو هم الكفار بجميع أنواعهم فهم استمرءوا الكفر وهم مستمرون عليه ويزدادون منه حيناً بعد حين؟ أو أن المراد بهم أ هل النفاق؟
الآية تحتمل هذه المعاني كلها، وابن جرير -رحمه الله- يحملها على المنافقين، والآية يدخل فيها أهل النفاق فهم يسارعون في الكفر، ويدخل فيها أيضاًَ من ارتد عن دينه فهو يسارع إلى الكفر، ويدخل فيها طوائف الكفار من أهل الكتاب الذين أنكروا ما عرفوا من أحقية ما جاء به النبي ﷺ فكفروا وازدادوا كفراً على كفرهم، ويدخل فيها أهل الإشراك الذين لم يألوا جهداً في صد دعوة النبي ﷺ والكيد لها بكل مستطاع، فكل هؤلاء يسارعون في الكفر، فهذه الآية تفسرها الآيات الأخرى، التي نهاه الله فيها عن الحزن عليهم وألا يكون في ضيق مما يمكرون وهي قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] أي: مُهلِك نفسك أسفاً وحسرة عليهم أنهم لم يؤمنوا ولم يقبلوا هذا الحق الذي جئت به، فكل هؤلاء والله أعلم ممن يسارعون في الكفر.
وابن كثير هنا حملها على مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد، لكنه لا يعني أن أهل النفاق بمنأى عن هذا؛ فأهل النفاق في الواقع كفار في الباطن، وهم يسارعون في الكفر كما هو معلوم، فحمْلها على المعنى الأعم هو ما مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- وهذا أولى من حملها على المنافقين.
يعني أن مجيء الكفار إلى المسلمين في أُحد وقتل هؤلاء الصحابة وما حصل على يد الكفار، هذا كله من المسارعة في الكفر، ونفاق المنافقين الذي نجم ذلك الحين كله من المسارعة في الكفر، وكلامهم واعتراضهم بقولهم: لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [سورة آل عمران:156] وقولهم: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [سورة آل عمران:168] وما أشبه ذلك، كل ذلك من المسارعة في الكفر.
وقوله تعالى: يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ [سورة آل عمران:176] هذه كما يقول الله : وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183] وكقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة آل عمران:178] فهذا بمعنى أن الله يريد ألا يكون لهم نصيب في الآخرة، فالله -تبارك وتعالى- لو شاء لأهلكهم ولو شاء لآمنوا جميعاً، ولكن حكمته -- أنه يملي لهم فيزدادون كفراً إلى كفرهم فيكون ذلك سبباً لمحقهم وذهاب نصيبهم عند الله .
حتى هذه الآية ابن جرير -رحمه الله- يحملها على المنافقين مع أن الآية أعم من هذا كما قال الله في أول سورة البقرة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16] وكقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ [سورة النساء:44].
فالحاصل أن كل هؤلاء الكفار وكذا أهل النفاق قد اشتروا الضلالة بالهدى، واشتروا الكفر بالإيمان، وسبق الكلام على معنى الاشتراء أنه المعاوضة، وبيّنا أن هؤلاء لم يكن عندهم الإيمان أصلاً، وأن المراد بذلك هو أنهم آثروا الكفر على الإيمان واختاروه فصحَّ أن يعبر عن ذلك بالشراء.
على كل حال قوله: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ في القراءة الأخرى المتواترة قراءة حمزة: (ولا تحسبن)، فلا يحسبن يكون الخطاب موجهاً للكفار أو الذين يسارعون في الكفر، أي عموم طوائف الكفار، وعلى القراءة الثانية: (ولا تحسبن) يكون الخطاب موجهاً للنبي ﷺ، وبالتالي يكون الخطاب متوجهاً لأمته وأتباعه أيضاً؛ لأن الأمة تُخاطَب في شخص رسول الله ﷺ.
على كل حال في قوله: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [سورة آل عمران:178] الإملاء يقصد به الإمهال والإطالة في العمر، أي: يطول عمره ويسوء عمله، والله أعلم.
قوله تعالى: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ الخطاب هنا موجه لمن؟ بعضهم يقول: هذا الخطاب للمؤمنين.
وقوله: حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [سورة آل عمران:179] أي حتى يتمحَّص أهل الإيمان ويتبيّن المؤمن الصادق من المنافق.
وبعضهم يقول: هذا الخطاب للمؤمنين والمنافقين ممن أظهر الانتساب إلى الإسلام، وأعلن الإيمان، والمعنى يا من تنتسبون إلى الإسلام وتظهرون اتباع الرسول ﷺ وقبول ما جاء به ستقع بكم مثل هذه البلايا والهزائم والكوارث والآلام فتتكشف في أوقات الشدائد حقائق مكنونات النفوس وتظهر، فيعرف هذا ويعرف هذا.
وبعضهم يقول: هذا الخطاب موجه للكفار، وعلى هذا يكون المعنى مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ أي على ما أنتم عليه أيها الكفار من الكفر حتى يميز الخبيث من الطيب، وهذا بعيد بل هو أبعد هذه الاحتمالات.
والحاصل أن الخطاب متوجه إلى أمة الإجابة، وأمة الإجابة هذه مختلطة، ففيهم الصادق فيما أظهر من الإجابة وفيهم الكاذب وفيهم ضعيف الإيمان، فالله وعدهم بالابتلاء كما قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186] وكما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [سورة محمد:31].
وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:142] وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ [سورة البقرة:214] فهذا كله لا بد منه، فهو أمر واقع يتميز به الصف.
أي لا بد أن يعقد سبباً من المحنة يُظهر فيه وليه ويفتضح فيه عدوه، ليعرفوا به المؤمن الصادق والمنافق الفاجر، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله ﷺ وهتك به ستر المنافقين فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله ﷺ ولهذا قال تعالى: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [سورة آل عمران:179] قال مجاهد: ميَّز بينهم يوم أُحُد، وقال قتادة: ميز بينهم بالجهاد والهجرة.
ثم قال تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [سورة آل عمران:179] أي: أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميِّز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك.
قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [سورة آل عمران:179] يقول بعضهم: أي: في اختيار النبوة من الذي يصلح لها ممن لا يصلح، وهذا بعيد، وإنما المعنى الصحيح هو ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- في قوله: "أي: أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميِّز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك" أي أنكم لا تعرفون ما تكنه الضمائر وما تنطوي عليه القلوب من النفاق وإنما الذي يعلم ما في القلوب هو الله الذي خلقها، والناس ليس لهم إلا الظاهر.
لكن إذا قدر الله هذا الابتلاء فإنه بذلك يظهر ما تنطوي عليه القلوب ليكون ذلك معايناً مشاهداً، فتعرفون أحوال هؤلاء، فما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن من حكمته أن قدر هذا الابتلاء حتى يظهر الصادق من الكاذب ويتميز الصف فتعرفون ذلك، وإلا لم يُعرف ولم يُميز هؤلاء من هؤلاء، وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير هو الذي عليه المحققون من المفسرين كابن جرير وغيره.
يعني أن الله إنما يطلع أنبياءه -صلى الله عليهم وسلم- على ما شاء أن يطلعهم عليه من الغيوب، وأما بقية الناس فإنهم لا سبيل لهم إلى الاطلاع على ذلك؛ لأن الوحي لا ينزل عليهم، وهذا الجزء من الآية: وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء [سورة آل عمران:179] هو الذي حدا ببعض المفسرين أن يقول: إن المراد بقوله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [سورة آل عمران:179] أي من يستحق أن يُجتبى للنبوة والرسالة، كما قال الله : وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [سورة القصص:68] وقال في موضع آخر: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32] يعني النبوة، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الزخرف:32]
فالحاصل أن هذه هي القرينة التي جعلتهم يقولون هذا المعنى، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو ما ذكرت من أن الناس لا سبيل لهم إلى الغيوب التي منها ما تكنه الصدور وإنما يكون ذلك لمن اجتباهم الله فهو يطلعهم بوحيه، فيقدر هذه المحن فتعرفون ذلك ظاهراً، وأما أنتم فليس لكم إلى ذلك سبيل.
ثم قال تعالى: فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أي: أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [سورة آل عمران:179].
وقوله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ [سورة آل عمران:180] أي: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه.
ثم أخبر بمآل أمرِ مالِه يوم القيامة، فقال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:180].
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له شجاعاً أقرعَ له زبيبتان يطوَّقه يوم القيامة يأخذ بِلهْزِمتيه -يعني بشدقيه- يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ [سورة آل عمران:180] تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه، وقد رواه ابن حبان في صحيحه[2].
هذا التفسير لا ينبغي العدول عنه؛ لأن النبي ﷺ ذكر فيه الآية، فليس مما يدخله الاجتهاد، بمعنى أن المفسر قد يعمد إلى حديث لم يتطرق فيه النبي ﷺ للآية فقد يخطئ المفسر في الربط بين هذا وهذا، ولهذا كان معنى قوله: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:180] أي: يكون طوقاً على أعناقهم، كما في الحديث الآخر: من ظلم من الأرض شيئاً طُوِّقه من سبع أرضين[3]، وهذا خلافاً لمن قال: إن قوله: سَيُطَوَّقُونَ أي: أن الله يجعل لهم طاقة وقدرة على حمله يوم القيامة يعني يُحمَّلونه يوم القيامة.
وبعضهم يقول: هذا يدل على الملازمة كملازمة الطوق للعنق، أي أن ذلك يكون ملازماً لهم يوم القيامة، وهذه المعاني فيها بعد، والأقرب -والله تعالى أعلم- بل المتعين في تفسير الآية هو ما دل عليه الحديث، أنه يكون طوقاً يطوقه في عنقهم يوم القيامة.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله عن النبي ﷺ قال: ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاعاً أقرع يتبعه يفر منه وهو يتبعه، فيقول: أنا كنزك ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:180] وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، ثم قال الترمذي: حسن صحيح[4].
وقوله تعالى: وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة آل عمران:180] أي وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله فقدموا لكم من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم.
وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة آل عمران:180] أي: بنياتكم وضمائركم.
قوله: وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي أنه خبير بنياتكم وضمائركم وسائر أعمالكم، ويعلم من يبخل ومن يجود، فالله يعلم خفيات الأمور ودقائق الأشياء، لا يخفى عليه منها خافية.
قال تعالى: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [سورة آل عمران:181-184].
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [سورة البقرة:245] قالت اليهود: يا محمد افتقر ربك، يسأل عباده القرض، فأنزل الله: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء الآية [سورة آل عمران:181] رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم.
وقوله: سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ تهديد ووعيد، ولهذا قرنه تعالى بقوله: وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:181] أي: هذا قولهم في الله وهذه معاملتهم لرسل الله، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء، ولهذا قال تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [سورة آل عمران:181-182] أي: يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً.
وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [سورة آل عمران:183].
يقول تعالى تكذيباً أيضاً لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدَّق بصدقة من أمته فقبلت منه أن تنزل نار من السماء تأكلها، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما.
قال الله : قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ [سورة آل عمران:183] أي: بالحجج والبراهين، وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي: بنار تأكل القرابين المتقبلة، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ أي: فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل.
ثم قال تعالى مسلياً لبنيه محمد ﷺ: فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [سورة آل عمران:184] أي لا يهِدَّنك.
وفي نسخة: لا يوهنك، والمعنى لا يضعفنك.
يقول: البينات: وهي الحجج والبراهين، والزبر: هي الكتب، والكتاب المنير: البيّن الواضح الجلي، والله أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4287) (ج 4 / 1662).
- أخرجه البخاري في كتاب الزكاة - باب إثم مانع الزكاة (1338) (ج 2 / ص 508).
- أخرجه البخاري في كتاب المظالم - باب إثم من ظلم شيئا من الأرض (2320) (ج 2 / ص 866) ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1612) (ج 3 / ص 1231).
- أخرجه النسائي في كتاب الزكاة - باب التغليظ في حبس الزكاة (2441) (ج 5 / ص 11) وابن ماجه في كتاب الزكاة - باب ما جاء في منع الزكاة (1786) (ج 1 / ص 569) وأحمد (3577) (ج 1 / ص 377) وأصله في البخاري وقد سبق تخريجه في الحاشية رقم (2).