الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
‏[8] تتمة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} الآية 25‏‎ ‎
تاريخ النشر: ١٤ / رمضان / ١٤٢٩
التحميل: 4430
مرات الإستماع: 4331

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال -رحمه الله تعالى:

وقوله: الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [سورة الحج:25] أي: يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وقد جعله الله شرعا سواء، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه، سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ قال: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام.

وقال مجاهد في قوله: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل، وكذا قال أبو صالح، وعبد الرحمن بن سابط، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: سواء فيه أهله وغير أهله.

وهذه المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهَويه بمسجد الخِيف، وأحمد بن حنبل حاضر أيضًا، فذهب الشافعي، -رحمه الله- إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر، واحتج بحديث أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله، أتنزل غدًا في دارك  بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عَقيل من رباع؟، ثم قال: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر[1]، وهذا الحديث مُخَرّج في الصحيحين، وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة -فجعلها سجناً- بأربعة آلاف درهم، وبه قال طاوس، وعمرو بن دينار.

وذهب إسحاق بن راهَويه إلى أنها تورث ولا تؤجر، وهو مذهب طائفة من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء، واحتج إسحاق بن راهَويه بما رواه ابن ماجه، عن علقمة بن نَضْلة قال: "تُوُفي رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر، وما تُدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن"[2].

وروى عبد الرزاق عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها"[3].

وقال أيضًا عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهي عن تبويب دور مكة؛ لأن ينزل الحاج في عَرَصاتها، فكان أول من بَوّب داره سُهَيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك، فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين، إني كنت امرأ تاجرا، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال: فلك ذلك إذًا[4].

وقال عبد الرزاق، عن مجاهد؛ أن عمر بن الخطاب قال: "يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء"[5].

قال: وأخبرنا مَعْمر، عمن سمع عطاء يقول في قوله: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ، قال: "ينزلون حيث شاءوا"[6].

وروى الدارقطني عن عبد الله بن عمرو موقوفاً: "من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً"[7].

وتوسط الإمام أحمد فيما نقله صالح ابنه فقال: تملك وتورث ولا تؤجر، جمعا بين الأدلة، والله أعلم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ العاكف يعني: المقيم، يعني أهل مكة أهل البلد، والباد يعني: من طرأ عليه من غير أهله، وهذا الاستواء لم يحدد الله فيه معنى أو أمراً من الأمور، ولهذا حمله ابن جرير –رحمه الله- على العموم بناء على القاعدة المعروفة وهي عموم المقتضى، يعني: المقدر المحذوف سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ في ماذا يستوون؟ فكثير من السلف يعبرون بأنهم يستوون بسكنى فيه، ونحو ذلك، فابن جرير حمله على أعم معانيه فقال: هم سواء في ذلك حيث إنهم يجب عليهم تعظيمه، وتقديسه، وتطهيره وهم سواء في الأحقية لا فضل لأحد على أحد، ولا مزية لأحد على أحد، فهم مستوون في ذلك كله، يجب على أهله مكة، ويلزمهم من تعظيم البيت وتطهيره التطهير اللائق والتقديس الواجب ما يجب على غيرهم ممن طرأ عليه، ولا فرق بين هؤلاء وهؤلاء، كما أنهم يستوون في الأحقية لحرم الله -تبارك وتعالى- والنزول حيث شاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ.

لكن يبقى على هذا المعنى –وهو الحمل على العموم- يبقى النظر في المراد بالمسجد الحرام، فإذا خص ذلك بمسجد الكعبة فإنه يقال: يستوون في المسجد –الكعبة، وإذا قيل: إن المراد به مكة فمعنى ذلك أن الحق للجميع، وليس لأحد أن يتحجر شيئا دون غيره مما يزيد عن حاجته، ومن طرأ عليه سكن حيث شاء، وليس لأحد أن يؤجر، وليس لأحد أن يبيع إذا قيل: إنهم يستوون بهذا كله، وذكر هنا الأقوال.

ومبنى هذه المسألة على قضية فتح مكة هل فتحت مكة صلحاً أو فتحت بالقوة؟ وإذا كانت فتحت بالغلبة بالقوة، هل أقرها النبي ﷺ بأيدي أهلها يتملكون، يعني: تركها بأيديهم على سبيل التمليك أو على سبيل الانتفاع، فمن قال: إنها فتحت صلحاً قال: إن أهلها يملكون الدور ولهم أن يتصرفوا فيها تصرف المالك من إيجار وبيع وهبة وغير ذلك، وليس لأحد حق فيها، ومن قال: إنها فتحت بالقوة فهؤلاء بحسب نظرهم، ومن قال: إن النبي ﷺ بعدما غلب عليها وقهر أهلها بقوة الجيش أقرها في أيديهم ينتفعون بها ليس لهم أن يؤجروا ولا أن يتصرفوا تصرف المالك، هذا مأخذ المسألة وأصلها.

والذين قالوا: إنها ملك لهم يتصرفون فيها كما شاءوا احتجوا بأدلة ذكر بعضها المؤلف -رحمه الله- هنا، ومنها قول النبي ﷺ لما قال أسامة: أتنزل غداً في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟، ثم قال: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، فمعنى ذلك أن هذا الحديث يدل على أنهم يتملكون، قال: هل ترك لنا عقيل من رباع؟لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، فإذا جرى فيها التوارث فمعنى ذلك أنهم يتملكون؛ لأن التوارث إنما يكون فيما يملك.

وهكذا ما ذكره من أن عمر اشترى دار صفوان بن أمية اشتراها منه، وإنما يشترى ذلك المالك، وإلا لما جاز له بيعها وهكذا احتج به ابن خزيمة، وقوله -تبارك وتعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [سورة الحشر:8] فنسب الديار إليهم، وهكذا أيضاً احتجوا بقوله ﷺ: من دخل داره فهو آمن[8]، فنسب الدار إليه ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فنسبها إليه.

بالنسبة لهذين الدليلين: فإن الإضافة لا تقتضي التمليك دائماً، وإنما قد يضاف الشيء إلى الشيء أو ينسب إليه لأدنى ملابسة، وهذا معروف؛ ولذلك الله قال لأمهات المؤمنين: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [سورة الأحزاب:33]، مع أن البيوت للنبي ﷺ لكن هن المنتفعات بها في السكنى فأضافها إليهن، وهكذا أيضاً في قوله -تبارك وتعالى- في المطلقة: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ [سورة الطلاق:1]، مع أن البيت ليس لها، فأضافه إليها لأنها ساكنة فيه.

وقوله: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ لا يقتضي أن الديار هي ملك لهم، لكن لما كانوا يسكنون فيها وينتفعون بها أضيف ذلك إليهم، والبخاري -رحمه الله- بوب باباً قال فيه: باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها وأن الناس في المسجد الحرام سواء لقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ ثم أورد حديث أسامة، وحديث أسامة يدل على أنها تملك، فكأنه لم يصح عنده شيء؛ لأنها لا تملك، فأراد هذا الحديث الذي يدل على أنها تملك -الحديث الذي ذكره هنا.

واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجه عن علقمة بن نضلة قال: "توفي رسول الله  ﷺ، وأبو بكر وعمر وما تُدعى رباع مكة إلا السوائب"، الشيء السائب أو السائبة هو الذي لا مالك له متروكة لله، "إلا السوائب" يقال لبيوت مكة: السوائب، لا مالك لها، ولكن هذا الحديث لا يصح، ولو صح الحديث لكان نصاً، قال: من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن

والجمهور على أن بيوت مكة ملك لأهلها وأنه يجوز لهم أن يؤجروها ويبيعوها ويتصرفوا بها، ومن الناس من يتبنى القول بأنها لا تؤجر ولا تباع، فيأتي ويسكن في ما شاء من فنادق الحرم ثم يخرج ولا يعطيهم شيئاً، ويحتج عليهم بما جاء من كلام أهل العلم والآثار المنقولة عن السلف في هذا: أن كل هذا حرام وسحت، ولا يجوز لهم، ومنهم من يستأجر في مكة السنوات فيأتي ويحتج بمثل هذه الأشياء، ولذلك وُجد بعض من يقوم على هذه المساكن بمجرد ما يأتيه الإنسان يطالبه أحياناً بدفع مبلغ من المال يغطي المدة التي يسكن فيها، خوفاً من الاحتجاج بمثل هذه الأمور.

وقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قال بعض المفسرين من أهل العربية: الباء هاهنا زائدة، كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [سورة المؤمنون:20] أي: تُنْبِتُ الدهنَ، وكذا قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ تقديره إلحادًا، أي: يَهمّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار.

وقوله: بِظُلْمٍ أي: عامدا قاصدا أنه ظلم، ليس بمتأول، كما قال ابن جريج، عن ابن عباس: هو التعمد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: بِظُلْمٍ بشرك.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس: بِظُلْمٍ هو أن تَستحلَ من الحرم ما حَرّم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فَعَل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم.

وقال مجاهد: بِظُلْمٍ يعمل فيه عملا سيئا.

وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر، إذا كان عازما عليه، وإن لم يوقعه، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره: عن عبد الله -يعني ابن مسعود-في قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ قال: لو أن رَجُلا أراد فيه بإلحاد بظلم، وهو بِعَدَن أبينَ، لأذاقه الله من العذاب الأليم.

ورواه أحمد، قلت: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفُه أشبه من رفعه، والله أعلم.

وقال سعيد بن جُبَير: شتم الخادم ظلم فما فوقَه.

وقال حبيب بن أبي ثابت: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ قال: المحتكر بمكة. وكذا قال غير واحد.

قال ابن عباس في قول الله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍقال: نزلت في عبد الله بن أنيس، أن رسول الله ﷺ بعثه مع رجلين، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاريّ، ثم ارتد عن الإسلام، وهَرَب إلى مكة، فنزلت فيه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ يعني: من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام.

وهذه الآثار، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكنْ هُو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ۝ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [سورة الفيل:4، 5]، أي: دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء؛ ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله ﷺ قال: يغزو هذا البيتَ جيشٌ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِف بأولهم وآخرهم" الحديث.

الضمير في يُرِدْ فِيهِ يرجع إلى المسجد الحرام الذي وصفه الله في قوله: الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [سورة الحج:25] بِإِلْحَادٍ الذين قدروا أو قالوا: إن الباء زائدة يبقى المعنى عندهم هكذا "ومن يرد فيه إلحاداً بظلم نذقه من عذاب أليم"، فصار فعل الإرادة هنا على وجهه دون الحاجة إلى القول بالتضمين؛ لأن فعل الإرادة في الأصل لا يتعدى بالباء، وإنما يتعدى بنفسه، أراد إلحاداً، وهنا قال: "يرد بإلحاد" عداه بالباء، فمن قال: إنها زائدة -يقصدون زائدة إعراباً- أبقى الفعل على ظاهره، والأصل عدم الزيادة.

ولذلك فإن من أهل العلم -كشيخ الإسلام، وأضافه ابن القيم -رحمه الله- إلى فقهاء أهل اللغة- من قال بتضمين الفعل معنى فعل آخر يصح أن يعدى بالباء، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ والفعل الذي يصح أن يعدى بالباء هو "هَمّ" همّ بكذا، وهمّت بكذا، فهذا يصح أن يعدى بالباء، فإذا قيل: إن فعل الإرادة مضمن الفعل "همّ" فعُدي لذلك بالباء فيكون إذاً هنا المعنى أوسع، فيكون المعنى وَمَن يُرِدْ فِيهِ دل على فعل الإرادة، ومعنى الإرادة، ودل على درجات تارة تكون إرادة جازمة وهو ما يسمى بالعزم المصمم، وتارة تكون هذه الإرادة لم تصل إلى حد العزم ولكنها همٌّ فقط، هم بكذا لكن لم يعزم عليه، هممت أن أسافر، قال ابن مسعود : "حتى هممتُ بأمر سوء" حين أراد أن يجلس، والنبي ﷺ يصلي، لكنه لم يجلس، فالهم لم يصل إلى العزم.

ثم يأتي دون ذلك الخاطرة التي تخطر بنفس الإنسان، هذه الخواطر تقع في قلب الإنسان لكن قد يدفعها فإذا تركها واستقرت صارت بعد ذلك باعثاً على العمل وهو الهم، ثم بعد ذلك قد تقوى حتى تصل إلى حد العزيمة، فإذا قلنا: إنه مضمن معنى الهم -فعل الهم همّ- فمعنى ذلك أن الإنسان يؤاخذ على مجرد الهم، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم.

والدليل على هذا غير مسألة التعدية؛ لأنه كما هي القاعدة أنه تفهم معاني الأفعال على ضوء ما تتعدى به، فنفهم فعل الإرادة هنا وَمَن يُرِدْ بالنظر إلى الحرف الذي عُدي به، ففهمنا أن المقصود بالإرادة هنا الهم، والذين فسروه بالعزم يُردّ عليهم في كل مكان؛ لأن الفعل أربعة أنواع:

 النوع الأول: الفعل بالجوارح، باليد، بالمباشرة، بالمشي، بالذهاب، بالمجيء، فعل الجوارح.

الثاني: الفعل باللسان.

الثالث: الفعل بالقلب، هو العزم المصمم.

الرابع: وهو الترك؛ لأن الترك فعل كما قال في المراقي: والترك فعل في صحيح المذهب.

فلو أن إنساناً غرق وكاد أن يموت ورآه  شخص وعنده حبل يستطيع أن يلقيه إليه فيخرج، أو يسبح فينقذه لكن تركه حتى مات، أو إنسان أصيب بحادث ويحتاج إلى إنعاش، لكن الطبيب جلس يتفرج عليه حتى مات، فهذه كلها من باب الترك، وإذا قالوا: الترك فعل، فالفعل أربعة أنواع: منها العزم المصمم، هذا لا يختص بالحرم، العزم المصمم فعل، النبي ﷺ قال: القاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[9]، فهذا العزم فعل لا يختص بالحرم فلو فسر هنا فعل الإرادة بالعزم لما صار للحرم مزية على غيره، ولهذا فإن تفسيره بالهم أولى، هذا وجه الترجيح.

والأقوال التي ذكرها هنا والآثار عن السلف قال: بِظُلْمٍ عامداً قاصداً، إذا قيل: إن تفسير وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ الإلحاد: هو الميل عن الحق، إذا قلت: إنه لا يوجد إلحاد بحق تكون هذه الصفة كاشفة مثل: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61]، ولا يمكن لأحد أن يقتل نبياً بحق، ولذلك إذا قلنا: إن الإلحاد لا يقع أبداً إلا بظلم فتكون هذه من باب الصفة الكاشفة، يعني ليس صفة مقيدة، والله يقول مثلاً: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [سورة الأحزاب:58]، بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا لأنه يمكن أن يؤذي المؤمنين والمؤمنات بما اكتسبوا، بسبب ظلمٍ صدرَ منهم، فهذه الصفة مقيدة وليست كاشفة.

قال عن ابن عباس: بِظُلْمٍ بشرك، ونقل أيضاً عنه: "أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة، أو قتل، فتظلم وتقتل.... إلى آخره".

قال مجاهد: يعمل فيه عملاً سيئاً، كل هذا يمكن أن يقال: إنه من الصور الداخلة تحت قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ؛ لأن الإلحاد نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم. 

وبهذا كلام ابن كثير -رحمه الله- في الآخر، وكلام سعيد بن جبير: شتم الخادم ظلم فما فوقه هذا هو الأقرب في تفسير الآية، فذلك يعم جميع الصور القليل والكثير من المعاصي كله يدخل في قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وهذا الذي اختاره ابن جرير، وقال به من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- أن الآية على عمومها، فهذا وعيد لكل من تسول له نفسه الإساءة والمعصية في حرم الله .

ويدخل في هذا ألوان المعاصي بالنظر، والكلام بالغيبة إلى غير ذلك، ولهذا ينقل عن بعض السلف الاحتياط في مثل هذه الأمور فيذكر أن ابن عمر كان له فسطاطان واحد في الحل، والثاني في الحرم.

وكلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: "وهذه خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر، إذا كان عازماً عليه" هذا القيد "عازماً عليه" قد يناقش، وإنما يكفي الهم في ذلك وإلا فالعزم فيه وفي غيره، ولهذا في السبب في تخليد الكفار في النار مع أنه عبد غير الله قد يكون سنة أو عشر سنوات أو ستين سنة، بحيث يكون عازما هو على الاستمرار على هذا وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [سورة الأنعام:28] فعزمه هذا المصمم هو بمنزلة الفعل.

  1. رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وإذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له، برقم (6383)، ومسلم، كتاب الفرائض، رقم (1614)، والإمام أحمد في المسند، رقم (21766)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  2. رواه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب أجر بيوت مكة، رقم (3107)، والبيهقي في السنن الكبرى، رقم (10968)، وضعفه الألباني.
  3. رواه عبد الرزاق في المصنف (5/ 148)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 450).
  4. رواه عبد الرزاق في المصنف، رقم (9210).
  5. رواه عبد الرزاق في المصنف، رقم (9211).
  6. رواه عبد الرزاق في المصنف، رقم (9211).
  7. رواه الدار قطني في سننه، رقم (286)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (2186).
  8. رواه البيهقي في السنن الكبرى، رقم (18053)، والطبقات الكبرى، لابن سعد (2/ 135).
  9. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [سورة الحجرات:9]، رقم (31)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، رقم (2888).

مواد ذات صلة