الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
‏[11] قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} الآية 29 ‏‎ ‎
تاريخ النشر: ١٧ / رمضان / ١٤٢٩
التحميل: 4493
مرات الإستماع: 4166

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

وقوله: عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ يعني: الإبل والبقر والغنم، كما فصلها تعالى في سورة الأنعام وأنها ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ الآية [سورة الأنعام:143].

وقوله: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ كما ثبت أن رسول الله ﷺ لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها.

قال هُشَيْم، عن حُصَين، عن مجاهد في قوله: فَكُلُوا مِنْهَا هي كقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [سورة المائدة:2]، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ [سورة الجمعة:10].

وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.

وقوله: الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، قال عكرمة: هو المضطر الذي يظهر عليه البؤس، وهو الفقير المتعفف.

وقال مجاهد: هو الذي لا يبسط يده.

وقوله: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو وضع الإحرام من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار، ونحو ذلك. وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه. وكذا قال عكرمة، ومحمد بن كعب القُرَظي.

وقوله: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: نحر ما نذر من أمر البُدن.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [سورة الحج:27] عرفنا أن الأيام المعلومات على قول الجمهور أنها العشر من ذي الحجة.

وقوله: عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أي: على نحر وذبح مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ويمكن أن يكون المعنى أوسع من هذا: ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، بإطلاق، فيذكرون اسمه -تبارك وتعالى- شكراً عند رؤيتها وعند ذبحها أيضاً باعتبار أن هذا الذكر لا يختص بالذبح، وهذا الجواب أجاب به من قال بأن الأيام المعلومات هي الأيام العشر، أجابوا به على اعتراض من قال: إن الذكر هنا على الذبح، والذبح لا يكون إلا في يوم النحر في الأيام التي بعده، فقالوا: لا يلزم أن يكون على الذبح، وإنما يكون عند رؤيتها يشكرون الله على تسخيرها والإنعام بها.

وبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الإضافة هنا مثل مسجد الجامع، صلاة الأولى وما أشبه ذلك، فهو من باب إضافة الشيء إلى صفته، وهذا يدل على أن الهَدي لا يكون إلا من بهيمة الأنعام، وهي التي ذكرها الله في سورة الأنعام: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍوذكر المعز، والضأن، والبقر، والإبل.

وقوله -تبارك وتعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [سورة الحج:27]، هل الأمر للوجوب، أو للاستحباب؟ الجمهور ذهبوا إلى أن الأمر هنا للاستحباب، وأنه لا يجب على الإنسان أن يأكل من هديه أو من أضحيته، وإنما هذا كقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ [سورة المائدة:2] ويشبه من وجهٍ قولَه -تبارك وتعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [سورة الجمعة:10] ومبني على هذا اختلاف أهل العلم في حكم هذا الانتشار، فابن حزم يرى أنه واجب، واختلفوا في الانتشار لأي شيء يكون؟

بعض السلف قال: يذهب لعيادة المريض، وصلة الرحم وما يكون قربة لله  الشاهد أن مبنى هذه المسألة هو: الأمر بعد الحظر على أي شيء يحمل؟ والأقرب من أقوال أهل العلم فيه -والله أعلم- أنه يرجع إلى حاله قبل الحظر، فإن كان هذا الشيء مباحاً فيرجع إلى الإباحة وإن كان مستحباً يرجع إلى الاستحباب، وهكذا، فالانتشار على قول الجمهور في صلاة الجمعة فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا حرم الله عليهم البيع والشراء عند النداء للجمعة، المقصود به النداء الثاني: إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [سورة الجمعة:9] حرم عليهم ذلك جميعاً، ثم بعد ذلك قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فحكم البيع قبل النداء مباح، ثم حرم عليهم بعد النداء فلما قال لهم: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ يرجع إلى ما قبل الحظر، فيكون الانتشار مباحاً، فلو أراد الإنسان أن يجلس في المسجد إلى العصر فليس عليه من بأس، وهذا واضح في هذه الآية: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ لكن هنا في قوله: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ هل يقال: إن الأمر يرجع إلى ما قبل الحظر؟ وهل كان هناك حظر أصلاً؟

لو قال قائل: إن الحظر موجود باعتبار أنها تعينت لله بأن صارت هدياً أو أضحية، وليس له أن ينحر هذا الهدي قبل أن يبلغ محله، وليس له أن يذبح أضحيته قبل يوم العيد، وليس له أن ينتفع بها من غير حاجة، على قول الجمهور، فلما بلغت محلها قال الله : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا فيكون الأمر للإباحة بهذا الاعتبار والنظر، ومن نظر إلى أن الأمر للوجوب قال بأنه واجب، وهذه طريقة الظاهرية، ومن المفسرين من اختار هذا من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- وأن هذا يجب على الإنسان أن يأكل من أضحيته، واحتج أيضاً بالحديث أن النبي ﷺ أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها، وكان الرسول ﷺ قد قدم مائة من الإبل[1]، وضحى عن نسائه[2].

والمقصود بـ"ضحى": الهدي -على قول عامة أهل العلم- بالبقر فلا يستطيع أن يأكل من مائة بدنة، فماذا فعل؟ وضع من كل واحدة بضعة، قطعة وضعت في القدر وطبخت، فشرب من مرقها فيكون هذا المرق متحللاً من المجموع، وهذا امتثال لقوله -تبارك وتعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وعامة أهل العلم يرون أن هذا ليس على الوجوب، وأنه كقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ [سورة المائدة:2].

لكن قوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ [سورة المائدة:2] هذا مثل: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا؛ لأنه كان الصيد مباحا، ثم صار محرما لما تلبسوا بالإحرام ثم بعد ذلك قال: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ فيرجع إلى حكمه الأول، لكن هنا هل هذا أمر بعد الحظر فكلوا منها؟ الحظر غير ظاهر، ولم يسبق بحظر، بمعنى لو أن الإنسان -كما هو حال عامة الناس اليوم- جاء في يوم العيد إلى السوق في منى أو إلى المكان التي تذبح فيه هذه، ويباع فيه الهدي، فجاء مباشرة واشتراها، لم يكن هناك حظر قبلُ -في يوم العيد- فبمجرد ما ملكها فذلك وقت للذبح، وإلى عهد قريب في منى كان الناس يذبحون الهدي في المكان الذي يشترونه منه، فتأتي الحظيرةَ في يوم العيد تجدها مليئة بالأغنام، فإذا أتيت قبل الظهر وجدتها مليئة بالأغنام لكنها مذبوحة في أماكنها، تذبح وتترك، ثم تأتي الجرافات وتأخذها إلى المحرقة في منى، وبعضهم يأتي منها بقطعة، فإذا أتعبه المشي ألقاها، فتجد فجاج منى مليئة باللحوم، هذه يد، وهذه رجل، وهذه كبد، وهذا رأس.

فالشاهد أن في قوله: فَكُلُوا مِنْهَا الأمر ليس دائماً للوجوب، وهنا لا يظهر أنه أمر بعد حظر، لكن هل الأمر دائما للوجوب؟ الجواب لا، هذه قاعدة، والقواعد أغلبية، فيحسن للإنسان ويستحب له ويجمل به أن يأكل، لكنه قد لا يتيسر له هذا، وإلا سيلحق الناس مشقة عظيمة، فالناس القادمون مع الحملات، بعض الحملات تأخذ منهم الأموال ويذبحون، ويأتون بها إليهم، وصاحب الحملة أظن أن لسان حاله يقول: "اللهم سلم، اللهم سلم" لأنهم قد يطالبون بالعوض، فيقولون: أنت تعطينا الوجبات من الهدي، فلا بد أن تقلل من قيمة الاشتراك في الحملة، فهذا لا يبعد، ويكون هؤلاء كأنهم دفعوا الهدي، كأنهم ما دفعوا ثمنه، الشاهد أن الكثيرين لو طلب منهم أن يأكلوا من هديهم لصعب عليهم، حتى الذي يقدم لهم في الحملة، هل هو من هديهم أو لا؟! وعامة الحجيج لا يستطيعون هذا أصلاً، وحينما تطالبهم بأن يأخذوا منها قطعة ويطبخوها لا يجدون أين يطبخونها.

قديماً كان الناس إلى ما قبل حوالي 15سنة أو 20 سنة كل إنسان ينصب خيمته حيث أراد، وتجد كل واحد يوقد طعاماً، فينتظرون متى يأتي يوم العيد، ويفرحون بالهدي، فتجد الخيام منشورةً عليها اللحوم مجففة مشرحة مملحة ظاهرة في منى، فلا تكاد تجد خيمة إلا وعليها اللحوم مشرحة، فكان الناس يأكلون، والأمور متيسرة، لكن الآن لا يجد أين يطبخ، ففيه مشقة عظيمة على الناس.

ثم إن هذا يؤدي إلى تلف هذه اللحوم، فكل واحد معه هدي، كيف سيصنع به وإلى أين يذهب بها؟ سترمى كما هي الحال في السابق، ترمى وتحرق ويتلوث الهواء في منى، ولا تجد أحداً يرجع من منى إلا وهو مريض، إلا من شاء الله، وهذا شيء كان معروفا، فالآن وجدت هذه الشركات التي تأخذ هذه اللحوم، تذبح في مكة وترسل إلى الفقراء، على خلاف بين أهل العلم، هل يجوز إخراج ذلك من أرض الحرم أو لا؟ هل يوزع على منطقة خارج حدود الحرم أو لا؟ نعم، الذبح يجب أن يكون في الحرم، فصاروا يأخذونها ويعطونها الفقراء في بلاد كثيرة، فهذا أرفق.

بل إذا ذهبت بعد الحج في يوم 15، 16، 17، 18، إلى بعض البلاد مثلاً أفريقيا قد لا تستطيع أن تركب في الدرجة السياحية، بسبب أن الفقراء يحملون معهم اللحوم، وتراهم يأتون إلى المسالخ فما يستحسنونه من الذبائح مباشرة قبل ما تذبحها يحجزونها، أما إذا كان بعيراً فيتقاتلون عليه قبل أن يموت، وكل واحد معه سكين فيقطع قبل ما يموت، فمجرد ما ينحر يهجمون عليه، فالشاهد أن هؤلاء يأخذونها، وصاحبها لا يستطيع أن يأخذ منها شيئاً في كثير من الأحيان.

فالقول بالوجوب فيه عسر ومشقة كبيرة على الناس وفيه تفويت مصالح؛ لأن هذه الشركة التي تأخذ وترسل إذا قال صاحبها: لا، أنا أريد أن تعطوني منها، ما أعطوه، وقالوا: إما أن تأخذها وإما أن تتركها لنا، أما إذا كان الهدي من النوع الرخيص، أو من الأنواع التي تسمى: "بربري"، فلا أحد ينظر إليه ولا يسابق عليه، وهو ربما أكثر الهدي، فتجده يذبح، ويجلس في مكانه لا يستفاد منه، فمن أراد أن ينتفع به فعلاً فليشترِ من النوع الجيد الغالي، ليأتيه الفقراء فيحجزوا قبل ما يذبحها، ويجتمعوا عليه، فهذا الذي كان يحصل.

فالقول بوجوب الأكل منها فيه عسر ومشقة على الناس، والأقرب -والله أعلم- أنه الاستحباب، وهكذا الإطعام لا يجب أن يطعم الإنسان، بل له أن يأكلها جميعاً، والله أعلم.

وقوله: الْبَائِسَ الْفَقِيرَ البائس: بعض أهل العلم يفسره بمن أضر به الفقر، أو أنه بحال ليس مجرد الفقر وقع به، وإنما به زمانة بحيث لا يستطيع الاكتساب ولا التصرف في مصالحة وأحواله وشئونه، والبائس: من البؤس، فشدة الفقر تصيّر إلى البؤس، الحالة البائسة، حال هؤلاء في بؤس، يعني شدة الفقر، أضر بهم الجوع والفقر والزمانة مثلاً، ومن أجلى صور هذا ما نشاهده بين حين وآخر في أفريقيا مثلاً والصور التي تعرض في المجاعات، فهؤلاء في بؤس، أما الفقير فهو الذي لا يجد كفايته من حاجاته الضرورية من المأكل والملبس والمشرب، وهنا يدخل فيه المسكين؛ لأن الفقير ذكر وحده، وكما هو معلوم إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، فالمسكين والفقير هنا بمعنى واحد، لكن البائس أشد، فالفقير لا يصل به الحد إلى البؤس، ويجد شيئاً، يجد بلغة، لكن لا يجد الكفاية، أما البائس فوصل به الأمر إلى حد الضرر.

لهذا كما ذكر بعض الأطباء كـ"الدكتور شاهر في ندوة الطب والصيام" ذكر المراحل التي يمر بها الإنسان في حال الجوع، وذكر أن الصوم هذا الذي نصومه نحن لا يضر بل ينفع، وأن الإنسان إذا جاع وعطش بدأ الجسم بالتعويض بالدهون، وتوجد مرحلة ثانية، وثالثة، ورابعة، وتوجد مصانع في الكبد تعوض، وهكذا إلى أن يصل الأمر إلى مراحل متقدمة من الجوع بحيث تبدأ الأنسجة والعظام ونحو ذلك في الجسم تتضرر، فيحصل للإنسان مثل هذا الهزال الشديد في لحمه، وعظمه وفي بدنه عموماً.

والبائس: "قال عكرمة: المضطر الذي يظهر عليه البؤس وهو الفقير المتعفف"، هنا قال عنه: إنه الفقير المتعفف، وليس ذلك بالضرورة، وقد لا يكون متعففاً لكنه لا يجد من يعطيه، فالذين حوله قد يكونون من هذا القبيل، لكن لماذا قال: البائس: المتعفف؟ بمعنى أنه يحتاج، ثم يحتاج، ثم يحتاج، ولكنه لا يطلب فيصل به ذلك إلى حد الضرر، هنا قال متعفف، وإلا فليس من لازم البائس التعفف، فقد يسأل ثم يسأل لكنه لا يجد، ويقال: عنه بائس، "قال مجاهد هو الذي لا يبسط يده"، وهذا كأنه تفسير الشيء بسببه، لماذا صار إلى حال البؤس؟ لأنه لا يطلب فيصبر على الجوع حتى يحصل له الضرر.

قال: ثم ليقضوا تفثهم، "قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو وضع الإحرام من حلق الرأس، ولبس الثياب وقص الأظفار، ونحو ذلك"، هذه الأشياء التي ذكرها هي قضاء التفث، والتفث: فسره بعض أهل اللغة: بالأذى، والقذر، والوسخ.

وفسر القضاء بالتأدية؛ لأن كلمة القضاء تأتي بمعانٍ متعددة كالفراغ من الشيء فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ [سورة البقرة:200]: أديتم مناسككم، تأدية الشيء أو الفراغ من الشيء، ومثله: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ، فقال بعضهم: إن المقصود بــثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي: ليؤدوا إزالة ذلك من أجسادهم، ونحن قد لا نتصور هذا، مع أنه نقل عليه الواحدي الإجماع على أن المقصود إزالة الأذى والوسخ، ويدخل في ذلك قص الأظفار والشعر، نحن قد لا نتصور هذا، لكن في السابق كيف كانت حالهم؟ لنتخيل أن إنسانا جاء محرماً من المدينة، والنبي ﷺ خرج في الخامس والعشرين من ذي القعدة، فكم المدة! وكيف بمن جاء من أبعد من ذلك من كل فج عميق يمشي شهراً وأكثر! ومن حال الإحرام ليس له أن يقص الشعر ولا الأظفار ولا يأخذ من بشرته شيئا، وهذه المدة من الخامس والعشرين إلى يوم النحر خمسة عشر يوما.

ونحن الآن في ثيابنا النظيفة، لو ركب أحدنا على البعير الآن إلى نهاية الشارع ربما ذهب ليغتسل، أو على الأقل ينظر إلى ثيابه ما الذي أصابه، فكيف بإنسان على بعير خمسة عشر يوماً في الصحراء في الشمس في الرياح، وشعورهم طويلة، والنبي ﷺ كما هو معروف لبَّد شعره وضع عليه صمغة من أجل أن لا يكون الشعر متناثراً، ولا يجتمع في داخله الغبار والتراب فيضع عليه مثل الصمغة بحيث تكون مثل هذه الأشياء في الخارج، هكذا كانت الحياة قديماً، كعب بن عجرة رآه النبي ﷺ والقمل يتناثر على وجهه، قال: ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا!، أما تجد شاة؟ قال: لا، قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك[3] 

فالشاهد أننا لا نتصور ذلك الوضع كثيرا، فالإنسان منا يحرم أحياناً يوم عرفة أو في يوم ثمانية في الظهر، أو العصر، وهو في غاية النظافة وفي حملة، وعنده الصوابين، وعنده الماء، ويغتسل في كل وقت، ومع ذلك ينتظر متى يرجع من يوم النحر لينزع الإحرام، ويغتسل ويشعر أنه دخل على الحياة من جديد، ولا يسأل أين يلقي إحرامه بعد ذلك، حتى إن بعضهم لا يريد أن ينظر إليه، وقد كان من يوم أو نصف يوم ومع ذلك يشعر أنه في حالة يحتاج إلى الاغتسال والنظافة، ليرجع وهو مستريح، وهذا معنى لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ.

وبعضهم يقول: هو إزالة الوسخ، والإجماع على هذا فيه نظر، وغير صحيح؛ فليس محل اتفاق أن يفسر قضاء التفث بإزالة الوسخ فقط، وإنما الأحسن -والله أعلم- بالنظر إلى السياق: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [سورة الحج:29] ما قاله كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله: أي ما بقي عليهم من مناسك الحج من حلق وأخذ شارب، ورمي الجمار، وطواف بالبيت وكل هذه الأشياء، فالحاج يذبح هديه أو ينحر بعد أن يرمي جمرة العقبة، ثم بعد ذلك يحلق وعندئذٍ له أن يقص من أظفاره ويأخذ من شاربه، ويلبس الثياب، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: نحر ما نذر من أمر البُدن.

وقوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِقال مجاهد: يعني: الطواف الواجب يوم النحر.

وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ يدخل فيه النذر بالنحر، ويدخل فيه سائر النذور، بعضهم يقول: إذا كتب الله لي المجيء إلى بيته الحرام له عليَّ أن أعتكف ليلة، وآخر يقول: أن أطوف فيه مائة مرة، وهكذا، لأنهم يتمنون رؤية البيت، فيكون عليهم من النذور هذه أو غيرها كالصدقة أو الإطعام أو الذبح من غير الهدي أو نحو ذلك...

فالله أطلق هذا وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ.

اقرءوا ما نشر في رسالتي "إلى قاصدي البيت الحرام" رحلةَ الشيخ عثمان دابو من أفريقيا من مالي، وجاءوا إلى مكة ومكثوا سنتين، وكانوا خمسة، مات اثنان أو ثلاثة، أحدهم مات في البحر، وهو نهشته حية، وكلما مروا بقرية اشتغلوا فيها ليجمعوا المال ثم ينتقلون، وجاء حجٌّ آخر، ثم حج في سنتين، وكتب وصية أوصى فيها أصحابه، وقال لهم: إذا مت فقربوني أكثر عند الحرم، فلما رأوا الكعبة فلا تسأل عن حاله، فمثل هؤلاء تحصل منهم نذور، وانظروا إلى أحوال الناس الذين يأتون من الهند ومن غيرها، واسألوهم، منهم من يجمع المال عشرين سنة وثلاثين سنة من أجل أن يأتي، ولهذا هؤلاء المساكين يعتمرون بعد الحج أكثر الوقت، حتى إن بعضهم يقول: اليوم هذه عاشر عمرة اعتمرتها، وتراهم ذاهبين راجعين من وإلى مسجد عائشة في التنعيم، ونحن نقول عنهم: هؤلاء الجهلة الهمج الذين ضيقوا على الناس!، هذا أجداده يتمنون أنهم يرون الكعبة، وهذا الوحيد من جماعته، ومن قرابته، ومن أسرته الذي حصل له هذا الشرف، وله جد وجدة وعم وخالة ووصايا: هذا يقول: طُفْ لي، وهذا يقول: اعتمر لي، وهذا يقول كذا، وهذه تقول: جدتك ماتت وهي تتمنى أن ترى الحرم، اعتمر لها، وما اعتمرت ولا حجت، فيأتي ويبقى لأجل ذلك مدة، يذهب ويجيء عمرة بعد عمرة، ونحن نتأذى من الزحام خاصة في طواف الإفاضة أو طواف الوداع، وهؤلاء ما عندهم مشكلة في الزحام، ولو مشوا فوق الناس، فهم فقط يريدون أن يروا الكعبة، وكل شيء يهون لأجل ذلك، ولذلك هم يتمنون الموت هناك، وهذا موجود، لهذا قيل: ليس الخليّ كالشجيّ، والله المستعان.

وقوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ قال مجاهد: يعني: الطواف الواجب يوم النحر.

وروى ابن أبي حاتم: عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: أتقرأ سورة الحج؟ يقول الله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت.

قلت: وهكذا صنع رسول الله ﷺ فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة، فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.

هذا في طواف الوداع، والأول في طواف الإفاضة، طواف الوداع واجب، ويسقط عن الحائض، وطواف الإفاضة ركن، ولا يسقط عن أحد، لكن هنا في هذا السياق قال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ بعدما قال: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ كل هذه أوامر جاءت مقترنة، بعضهايقال:إنه واجب وبعضها يقال: إنه ليس بواجب، وهذا له أمثلة ليست قليلة، ولهذا يقولون: ثبوت الاقتران ليس بحجة، على تفصيل في مسائل تتعلق به.

وقوله: بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ من وراء الحِجْر؛ لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت، حين قصرت بهم النفقة؛ ولهذا طاف رسول الله ﷺ من وراء الحِجْر، وأخبر أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمَّما على قواعد إبراهيم العتيقة.

قال قتادة: عن الحسن البصري في قوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِقال: لأنه أول بيت وضع للناس.

لكن هذا الذي ذكره وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ إذا قلت إن الباء هنا للمجاورة، أو غير ذلك، على كل حال الطواف يكون بالبيت، ولهذا يكون من وراء الحِجْر لأن الحجر أو بعض الحجر من البيت، وإذا دخل فإنه يكون قد طاف في بعض الشوط داخل الكعبة؛ لأن بعض الحجر من الكعبة، وهذا يدل أيضاً على أن الإنسان لا يخرج من الحرم ويطوف، فلو أراد إنسان أن يستريح من الزحام، فقال: أنا سأطوف من الخارج وأدور على الحرم، فهذا ليس من قبيل طواف البيت إلا إذا امتلأ الحرم واضطر الناس إلى الخروج، وأنت بهذا لم تطف بالبيت، ولذلك إذا قلنا بأن المسعى ليس من المسجد فالنزول في بعض النواحي على المسعى يكون في هذا القدر سعيٌ من خارج، فهذا لا بأس أن يفعله الإنسان إذا اضطر إلى ذلك كأن يكون ازدحم المكان فزاد الناس وما وسعهم الممر الضيق، في الدور الثاني أو في السطح، فيخرجون إلى المسعى ثم يرجعون.

أما البيت العتيق فسبب تسميته بهذا قيل: لأنه أول بيت وضع للناس، وهذا من أحسن ما يفسر به؛ لأن الله  قال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [سورة آل عمران:96] وبهذا الاعتبار يكون العتيق بمعنى القديم، والقدم أحياناً يكون مدحاً ويضفي على هذا الشيء قيمة وقدراً، وأحياناً يكون ذلك نقصاً، فالإنسان حينما يكون ثوبه عتيقا قديماً أو سيارته أو نحو هذا هل هذا يضفي عليه جودةً، ويكون هذا أفضل وأحسن وأعظم وأكمل؟

الجواب: لا، وكذا البيت حين يكون قديماً، فهذا يكون نقصا، لكن متى يكون ذلك أجود؟ في بعض الأشياء العتيقة التي كلما تقادم بها الزمن، زادت قيمتها، مثلا: دهن العود كلما مرت عليه مدة أطول، صار أفضل برائحته، فهذا أجود، كذلك مثلا الرز العتيق فهو أفضل، وهكذا بعض الأشياء القِدمُ يضفي عليها جودةً ويزيدها فضلاً، وبعضهم يقول: العتيق: المعتق من الجبابرة، فأبرهة قصمه الله ، وبعضهم يقول غير ذلك، ولا مانع من اجتماع هذه المعاني، وإذا أردنا الترجيح فنفسر الآية بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فالآية أو اللفظة في القرآن قد تحتمل معانيَ يوجد في القرآن ما يشهد لأحدها، فيكون هذا سبب الترجيح.

وقال قتادة، عن الحسن البصري في قوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ قال: لأنه أول بيت وضع للناس. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وعن عكرمة أنه قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح.

وقال خَصِيف: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط.

بعضهم يقول: لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من النار، فـ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[4]، من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[5] وهكذا، ومثل هذا قول من قال بأن العتيق بمعنى الكريم، فالقدم يضفي عليه هذا الوصف، فيمكن أن يرجع إلى ما سبق، ولا يخالفه، والله أعلم.

  1. رواه مسلم برقم: (3009) كتاب الحج – باب حجة النبي ﷺ.
  2. رواه البخاري برقم: (1623) كتاب الحج - باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن.
  3. رواه البخاري برقم: (4245) كتاب التفسير – سورة البقرة.
  4. رواه البخاري برقم: (1683) كتاب الحج - باب وجوب العمرة وفضلها ، ومسلم برقم: (3355) كتاب الحج - باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة.
  5. رواه البخاري برقم: (1723) كتاب الحج – باب قول الله تعالى: فلا رفث، ومسلم برقم: (3357) كتاب الحج - باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، واللفظ للبخاري.

مواد ذات صلة