الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
‏ [13] من قول الله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء} الآية:51 إلى قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} الآية:52‏
تاريخ النشر: ٠١ / ذو الحجة / ١٤٣٢
التحميل: 4967
مرات الإستماع: 3341

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

يقول الإمام الحافظ أبو الفداء ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى:

تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا [سورة الأحزاب:51].

روى الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها؛ أنها كانت تُعَيِّر النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله ﷺ، قالت: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فأنزل الله : تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ الآية، قالت: إني أرَى رَبَّك يُسَارع لك في هواك[1].

وقد تقدم أن البخاري رواه أيضاً، فدل هذا على أن المراد بقوله: تُرْجِي أي: تؤخر مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ أي: من الواهبات وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ أي: مَنْ شئت قبلتها، ومَنْ شئت رددتها، ومَنْ رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك، إن شئت عُدْتَ فيها فآويتها؛ ولهذا قال: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ.

وقال آخرون: بل المراد بقوله: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ الآية أي: من أزواجك، لا حرج عليك أن تترك القَسْم لهن، فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت.

هكذا يروى عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأبي رَزين، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم، ومع هذا كان النبي ﷺ يقسم لهن؛ ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسْم واجبا عليه ﷺ واحتجوا بهذه الآية الكريمة.

وروى البخاري عن عائشة: أن رسول الله ﷺ كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ، فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت: كنت أقول: إن كان ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحداً[2].

فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجوب القسْم، وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات، ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده، أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم، وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي، وفيه جمع بين الأحاديث؛ ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي: إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحَرَج في القسْم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أيّ ذلك فعلت، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختياراً منك لا أنه على سبيل الوجوب فرحْنَ بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك، واعترفن بمنتك عليهن في قسْمك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ بعد قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأحزاب:50] الآية، فهنا في هذه الآية ذكر ثلاثة أصناف من النساء، إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وقد مضى الكلام على المراد بذلك، هل المقصود بذلك عموم نساء الأمة اللاتي يتزوجهن ويعطيهن أجورهن يعني غير الواهبات اللاتي من غير مهر؟ وذكر الصنف الثاني وهو القرابات اللاتي هاجرن معه، والصنف الثالث الواهبات، ثم قال: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ

والأقوال في هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ ثلاثة، وهي الأقوال السابقة بناءً على الأصناف الثلاثة، تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ بعضهم يقول: من أزواجك اللاتي في عصمتك، ويكون المعنى بهذا الاعتبار إسقاط القسْم عن النبي ﷺ، بحيث إنه -عليه الصلاة والسلام- له أن يعزل بلا طلاق من شاء من نسائه فهو في حل، وله أن يأتي من يشاء بغير قسْم، وإن أراد أن يقرب مَن عزلها فعل، وإذا أراد أن يُبعد من قربها، يعني من لم يعزلها فإن له ذلك جميعاً.

وجاء في بعض الروايات التي لا تخلو من ضعف أن أزواج النبي ﷺ خشين أن يطلقهن، تخوفن أن يطلقهن -عليه الصلاة والسلام، فقلن له: اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئت، يقولون: فكان ممن أرجى سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة، وأدنى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، لكن الروايات الواردة في هذا لا تخلو من ضعف، أن ذلك كان بمبادرة من أزواج النبي ﷺ، وما ذكر في بعض هذه الروايات من هذه الأسماء، فهي روايات ضعيفة، وبعضها مراسيل.

وكذلك جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بسند ضعيف في قوله: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ قال: تطلق أو تمسك من تشاء، هذا الآن معنى آخر، وهذا كله في أزواجه ﷺ، تُدني وتبعد، يعني إسقاط القسْم، هذا المعنى الأول، لا يجب عليه أن يقسم، لكن كان يقسم ﷺ تفضلاً منه، ولكمال تحريه؛ ولهذا في مرض وفاته ﷺ كان يسأل: أين سيكون؟ حتى نزل أزواجه -رضي الله عنهن- عند رغبته وما عرفن من محبته أن يبقى عند عائشة -رضي الله تعالى عنها، فبقي عندها، فهذا معنى إسقاط القسم، والمعنى الثاني مما يتعلق بأزواجه: تطلق من شئت وتمسك من شئت، تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ، هذا جاء عن ابن عباس لكن بإسناد لا يصح.

ومن قال: إن قوله: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [سورة الأحزاب:50]، يعني: عموم نساء الأمة، من يتزوجها بمهر، فإن بعض هؤلاء قال: إن قوله: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ يعني: تتزوج من شئت وتترك من شئت، وبعضهم جعل ذلك في خصوص الواهبات، هؤلاء الواهبات تترك من شئت وتتزوج من شئت منهن، فلا يلزمك بذلك شيء، هذا القول الثالث، ويدل عليه الحديث عن عائشة -رضي الله عنها، لما قالت: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها؟ فأنزل تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ، فهذا واضح في أنها في الواهبات، وحديثها الآخر وهو: "كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ"، قالت: "كنت أقول: إن كان ذلك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله.." الحديث، "يستأذن المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ" يكون هذا في القسم، قال: فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجود القسم، كيف كان يستأذن وابن كثير يقول: يدل على عدم وجود القسم؟

كان يستأذن من باب التفضل، وإلا لو كان حقاً واجباً عليه لأعطى كل واحدة حقها ولم يؤثر غيرها عليها من هذا الباب؛ لأنها ذكرت الآية: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ يستأذن بعدها، فهل كان القسم حقاً واجباً عليه؟ فذكر عائشة -رضي الله عنها- الآية لو كان الحديث بمجرده، كان النبي ﷺ يستأذن الواحدة منا كان يقال: استأذنها في إسقاط حقها، لكن بعد الآية فظاهرها أنه مخير، ومع ذلك لكمال أدبه ﷺ وتحريه كان يستأذن الواحدة منهن تطييباً لقلبها، من هذا الباب، فصارت هذه هي الأقوال في الآية.

وابن جرير -رحمه الله- جمع بينها، قال: ومن هنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده، أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم، بقي على هذه العبارة التي ذكرها ابن كثير بقي صنف وهو النساء اللاتي لسن في حباله، أن يتزوج من شاء ويترك من شاء، وبقي قول آخر في أزواجه إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فصارت الأقوال أربعة.

فهنا العبارة التي ذكرها ابن كثير ونقل ذلك عن ابن جرير في صنفين، ومقتضى الجمع بين الأقوال جميعاً أن تكون الآية عامة في ذلك كله؛ لأن الله لم يحدد شيئاً، وابن جرير -رحمه الله- في كلامه -في أوله- ما ظاهره أنه اقتصر على هذين الصنفين اللذيْن ذكرهما ابن كثير، وفي آخره ما ظاهره العموم، ما هو أعم من ذلك، بمعنى عموم النساء اللاتي لسن في حباله واللاتي في حباله، فاللاتي لسن في حباله يتزوج ويترك، والواهبات يتزوج ويترك، واللاتي في حباله يقسم ويترك، أو يطلق ويمسك، تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ، وعلى هذا القول بأن المقصود القسْم هذا قال به جماعة من السلف كالزهري والشعبي واختاره ابن العربي المالكي، والقرطبي، يقولون: المقصود القسم، أن هذه الآية خيرت النبي ﷺ في أن يقسم بين أزواجه وأن يترك فكان ذلك لا يجب عليه، والله تعالى أعلم.

وأشهر الأقوال فيها: أن المقصود في الواهبات أو في القسم بين نسائه.

وابن جرير حملها على العموم، وظاهر كلامه في آخره من كن في حباله ومن لسن في حباله، إلا أن يحمل من لسن في حباله على الواهبات، لكن هي تعود إلى ما ذكر قبلُ وهن المذكورات في قوله: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ إلى آخره، إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ، وما المقصود بأزواجه كما سبق على القولين، تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ، وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ، تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ، فبحسب مرجع الضمير يكون تفسير هذه الآية، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ أي: من الميل إلى بعضهن دون بعض، مما لا يمكن دفعه، كما روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك[3].

ورواه أهل السنن الأربعة، وزاد أبو داود بعد قوله: فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني: القلب[4]، وإسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات، ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا أي: بضمائر السرائر، حَلِيمًا أي: يحلم ويغفر.

قوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ قال: من الميل، وقوله ﷺ: اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك، باعتبار أن ما يقع في القلوب من الميل والمحبة أو النفور أو ما أشبه ذلك، أن هذه أمور لا يؤاخذ الإنسان عليها، والهوى لا يؤاخذ عليه الإنسان إلا فيما يتبعه من العمل، فالمذموم هو اتباع الهوى، لكن قد يكون في قلب الإنسان ميل؛ لأن الهوى هو ميل النفس، فهذا الميل لا يؤاخذ عليه الإنسان، وهو بحاجة إلى مجاهدة الهوى، ولهذا قال الله : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [سورة النازعات:40]، وقال: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [سورة يوسف:53]، فأمْرُها بالسوء هذا من الهوى، تدعو إلى مبتغياتها ومطلوباتها ومشتهياتها ومحبوباتها، وقال النبي ﷺ: والنفس تمنى وتشتهي[5]، عندما ذكر زنا العين إلى آخره، فتمني النفس وتوقانها إلى تحصيل هذه اللذات والشهوات هذا هوى، فلا يؤاخذ عليه الإنسان، لكن الذي يؤاخذ عليه هو ما يتبعه من العمل، فهنا كون الرجل يحب إحدى النساء أكثر، أو يحب أحد الأولاد أكثر، لا يقال: إن ذلك مخالف للعدل الذي أمر الله به، هذه أمور لا يؤاخذ عليها الإنسان، لكن في تصرفاته يجب عليه أن يعدل.

لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا [سورة الأحزاب:52].

ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، وابن جرير، وغيرهم: أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي ﷺ ورضاً عنهن، على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهن رسول الله ﷺ كما تقدم في الآية، فلما اخترن رسول الله ﷺ، كان جزاؤهن أن الله تعالى قَصَره عليهن، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن، أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن، ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حجر عليه فيهن، ثم إنه تعالى رفع عنه الحجر في ذلك ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تَزَوُّجٌ لتكون المنة للرسول ﷺ عليهن.

روى الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها، قالت: ما مات رسول الله ﷺ حتى أحل الله له النساء[6]، ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما.

وقال آخرون: بل معنى الآية: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ أي: من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك، هذا مرويّ عن أبي بن كعب، ومجاهد -في رواية عنه، وعن غيرهما.

وروى الترمذي عن ابن عباس قال: نهي رسول الله ﷺ عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، فأحل الله فتياتكم المؤمنات وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ، وحرم كل ذات دين غير الإسلام، ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.

واختار ابن جرير -رحمه الله- أن الآية عامة فيمن ذُكر من أصناف النساء، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعاً، وهذا الذي قاله جيد، ولعله مراد كثير من السلف؛ فإن كثيراً منهم رُوي عنه هذا وهذا، ولا منافاة، والله أعلم.

قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ذكر قولين ثم ذكر الترجيح بينهما، يعني كأن الترجيح هو قول ثالث، أي اختيار ابن جرير وقواه ابن كثير، فحاصل ذلك أن قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ من بعد ماذا؟

فالقول الأول: يحرم عليه التزوج على نسائه اللاتي اخترنه، لا يتزوج عليهن مكافأة لهن، وهذا مروي عن ابن عباس لكن بإسناد ضعيف، وقال به كثيرون كقتادة وعلي بن الحسين زين العابدين، والضحاك واختاره القرطبي، وقال: إنه منسوخ لقوله: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [سورة الأحزاب:50]، الآية منسوخة، يعني: حرم عليه التزوج ثم أبيح له ذلك بالآية إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ، وبعضهم يقول: منسوخ والناسخ حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما مات رسول الله ﷺ حتى أحل الله له النساء، وكلام أهل العلم في نسخ السنة للقرآن معروف، وهذا على القول بالنسخ. 

والقول الآخر: أنها ليست منسوخة، وأن المقصود في قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ يعني: من بعد ما ذكر، ما الذي أحل الله له؟ أحل أزواجه وبنات عمه وبنات عماته.. إلى آخر اللاتي هاجرن معه، والواهبات، وما ملكت يمينه، فهؤلاء أحلهن الله له، وما وراء ذلك لا يحل له، لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ يعني: غير الموصوفات في هذه الآية، وهذا قال به أكثر السلف، قال به كثيرون.

وهنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: لا يَحِلُّ أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء، وما سَمّى القائلين بهذا، لكنهم كثير جداً، كالسدي وقتادة والحسن ومجاهد وهو منقول عن أبيّ بن كعب، وأبي صالح وعكرمة والضحاك.

والذي يصلح أن يكون قولاً ثالثاً وهو لا يخرج عن القولين: أن الآية تشمل هذا وهذا، لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ، ولا أن تبدل بهن من أزواج، انظر ماذا قال ابن كثير -رحمه الله- قال: اختار ابن جرير: أن الآية عامة فيمن ذُكر من أصناف النساء، وفي النساء اللاتي في عصمته وكن تسعاً.

وهذا الذي قاله جيد ولعله مراد كثير من السلف، لكن قد لا يخلو من إشكال هذا الجمع بين القولين، لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ يعني: غير الموصوفات، إذا قلنا هذا فظاهره أنه إن كانت من الموصوفات فيحل له أن يتزوجها من واهبة أو من بنات عمه... إلى آخره اللاتي هاجرن معه؛ لأنه يحل له، والقول الآخر: أنه لا يحل له أن يتزوج على أزواجه، لا من الموصوفات، ولا من غير الموصوفات، فكيف يقال: إن الآية تشمل النوعين، وإنه يحمل على ذلك جميعاً لا يَحِلُّ لَكَ مع أن هذا ظاهره أنه من قبيل اختلاف التضاد الذي لا يمكن الجمع فيه بين القولين؟

خلاف التضاد أحياناً يمكن الجمع بين القولين، وأحياناً لا يمكن، فإذا قلنا: لا يحل له غير الموصوفات، فمعنى ذلك أنه إن كانت من الموصوفات فهي حلال، كالواهبة وبنات العم إلى آخره اللاتي هاجرن معه، فيتزوج على نسائه من هؤلاء.

القول الثاني: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ يعني: أن تتزوج على هؤلاء النسوة اللاتي في حبالك، في عصمتك، اللاتي اخترنك، وهو اختيار القرطبي، لا من الموصوفات ولا من غير الموصوفات، لا من الواهبات ولا من غير الواهبات، وعلى هذا فإن هذا يقتضي الترجيح، لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ تبقى الآية محتملة للمعنيين، إما أن نقول هي مكافأة لأزواجه فلا يتزوج عليهن أبداً، لا واهبة ولا غير واهبة، أو يقال: لا يحل له أن يتزوج من غير ما وصف الله ، ومن ثَمّ فإن غير المسلمة لا تحل له، كما حمل الآية على ذلك مجاهد بن جبر -رحمه الله، لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ، فتبقى الآية محتملة للمعنيين، ولا يقال بأنها تحمل عليه.

وقد تكون القرينة مرجحة للمعنى الأول: أنه لا يحل له أن يتزوج عليهن وهو ما اختاره القرطبي وغيره، والقرينة هي قوله: وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ يعني: لا تتزوج عليهن فتزيد، ولا أن تستبدل، هذا أقرب للمكافأة لهن، فيكون نهاه عن هذا وهذا، لكن لو قيل: غير الموصوفات، لا يحل لك غير الموصوفات، فيحل له أن يتزوج من الموصوفات وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، لكن لو قيل: إنه لا يزيد على من عنده فقد يفهم منه أنه لو طلق واحدة وتزوج مكانها أخرى فلم يزد على العدد لكان ذلك سائغاً، فقال: وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، كأن هذا أقرب -والله تعالى أعلم، وأن قوله: وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ قرينة ترجح القول الأول، وهو: أنه نهي عن التزوج، ويبقى النظر بعد ذلك: هل نسخ ذلك أو لم ينسخ؟ وهذه الآيات نازلة في السنة الخامسة من الهجرة، بعد وقعة الأحزاب، فكافأهن حينما اخترنه -عليه الصلاة والسلام.

فالآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء، وفي النساء اللواتي في عصمته، فيحمل على القولين، لا يأخذ من غير ما وصف، ولا يتزوج على نسائه.

وقوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ، فنهاه عن الزيادة عليهن، أو طلاق واحدة منهن واستبدال غيرها بها إلا ما ملكت يمينه.

هذا الآن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ حمله ابن كثير على الزيادة، إن طلق واحدة، بما أنه لا يحل له النساء من بعد، إذا قلنا: لا يزيد على من عنده، فليس له أن يطلق ويستبدل، وهذه حاصل أقوال المفسرين فيها ثلاثة، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، بعضهم يقول: لا يحل لك النساء بعد المسلمات، ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من الكافرات، هذا منقول عن مجاهد.

القول الثاني: أنه لا يحل له أن يتبدل بأزواجه غيرهن، فيطلق أزواجه أو بعض أزواجه ويتزوج غيرهن، وهذا قال به الضحاك وهو ظاهر اختيار ابن جرير -رحمه الله، وهو ما مشى عليه ابن كثير في ظاهر عبارة المختصر، وأنت تقول الآن: إنه في الأصل: أن يزيد أو طلاق واحدة، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، لكنه يشير فيما يظهر إلى أن قوله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ يعني: بالزيادة، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بأن يطلق واحدة ويتزوج مكانها، فيكون هذا ليس هو تفسيراً لقوله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، وإنما ذكر مجموع المعنى من أول الآية وآخرها، فهنا هذا المعنى الثاني الذي مشى عليه ابن كثير وابن جرير.

وبعضهم -وهو منقول عن ابن زيد، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم- قال: إنه منهي أن يستبدل بأحد من أزواجه كما كان عليه أهل الجاهلية، الرجل يأتي للرجل، ويقول: بادلني امرأتك، فيتبادلان، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، وهذا بعيد؛ لأن هذا يحرم عليه وعلى غيره -عليه الصلاة والسلام، فليس هذا هو المراد من الآية، فيبقى أن قوله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ يعني: أن يطلق ويتزوج مكانها.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب، برقم (4510).
  2. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب، برقم (4511)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، برقم (1476).
  3. رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، برقم (2134)، والنسائي، كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، برقم (3943)، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، برقم (1140)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، برقم (1971)، وأحمد في المسند، برقم (25111)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (370).
  4. رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، برقم (2134)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (370).
  5. رواه البخاري، كتاب القدر، باب وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [سورة الأنبياء:95]، برقم (6238)، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم (2657).
  6. رواه النسائي، كتاب النكاح، باب ما افترض الله على رسوله وحرمه على خلقه ليزيده -إن شاء الله- قربة إليه، برقم (3204)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الأحزاب، برقم (3216)، وقال أبو عيسى: "هذا حديث حسن"، وأحمد في المسند، برقم (25467)، وضعفه محققو المسند.

مواد ذات صلة