الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} الآية:19 إلى قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} الآية:31
تاريخ النشر: ٢٣ / ذو الحجة / ١٤٣٣
التحميل: 6993
مرات الإستماع: 8103

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على النبي محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.

ربنا اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ۝ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [سورة الزمر:19، 20].

يقول تعالى: أفمن كتب الله أنه شَقِي تَقْدِر تُنْقذُه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي: لا يهديه أحد من بعد الله؛ لأنه من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له.

ثم أخبر عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: أفمن كتب الله أنه شقي تقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي: لا يهديه أحد من بعد الله؛ لأنه من يضلل الله فلا هادي له، أَفَمَنْ الهمزة للاستفهام، و"من" هذه تحتمل أن تكون موصولة أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، فتكون موصولة في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف، أي كمن يخاف، أفمن حق عليه كلمة العذاب كمن يخاف الله -تبارك وتعالى؟ أو أفأنت تخلصه أو تأسف عليه ونحو ذلك مما يمكن أن يقدر في هذا الموضع.

ويحتمل أن تكون شرطية أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، والجواب: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ، فيكون التكرار في الاستفهام إما للتوكيد وإما لطول الكلام؛ لأنه إذا طال قد يعاد للربط بين أطراف الكلام، يعني: أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب؟ وفي هذا الموضع كلام كثير في بعض كتب التفسير.

وكلمة العذاب أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، كلمة العذاب هي كما يقول بعض المفسرين: قوله -تبارك وتعالى- لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [سورة ص:85] يعني: أن أتباع إبليس سيملأ الله بهم جهنم، هذه للجنة ولا أبالي، وقبض أخرى وقال: هذه للنار ولا أبالي[1]، فهؤلاء هم الذين حقت عليهم كلمة العذاب، حكم الله عليهم بالنار.

وللمزيد من التفصيل في "مَن" هذه نذكر كلام العلامة الشنقيطي -رحمه الله، وإن كان ليس من العادة أن نشتغل بالإعراب، ولكن أحياناً يتوقف عليه فهم معنى الآية، فيكون لها معنى على إعراب، ولها معنى آخر على وجه آخر من الإعراب، حيث قال -رحمه الله- في أضواء البيان: "أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أظهر القولين في الآية الكريمة أنهما جملتان مستقلتان، فقوله: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ جملة مستقلة، لكنّ فيها حذفاً، وحذف ما دل المقام عليه واضح، لا إشكال فيه.

والتقدير: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ تخلصه أنت منه؟ والاستفهام مضمن معنى النفي، أي لا تخلص أنت يا نبي الله أحداً سبق في علم الله أنه يعذبه من ذلك العذاب، وهذا المحذوف دل عليه قوله بعده: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ.

وقد قدمنا مراراً قولي المفسرين في أداة الاستفهام المقترنة بأداة عطف كالفاء والواو وثم كقوله هنا: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ وقوله: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ.

أما القول بأن الكلام جملة واحدة شرطية، كما قال الزمخشري: أصل الكلام: أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، جملة شرطية، دخل عليها همزة الإنكار، والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب، تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار موضع الضمير، فالآية على هذا جملة واحدة"[2].

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فأنت تنقذه، لم يأت بالضمير، وكان بالإمكان أن يستغنى بالضمير، على قول الزمخشري، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فأظهر في مقام الإضمار.

"فالآية على هذا جملة واحدة، فإنه لا يظهر كل الظهور"[3]. ا.هـ

يعني أنه يرجح أنهما جملتان مستقلتان، أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أفأنت تخلصه؟ ثم جاءت الجملة الثانية كالتأكيد والبيان لما قبلها -للجملة الأولى- وتدل على المقدر المحذوف، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ، لكنه ليس هو الجواب.

ثم أخبر عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة وهي القصور أي الشاهقة.

والعرب عادة تعبر عن العلية، هي الغرف التي تكون في الأعلى، بخلاف اصطلاح الناس اليوم، الغرف هي ما تكون عالية مرتفعة، ولا تكون لما كان في أسافل البناء، والله كما في قوله: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [سورة الفرقان:75]، فالغرفة هنا جنس يصدق على القليل والكثير، وهنا جاء بصيغة الجمع لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ، وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ [سورة سبأ:37]، فكل ذلك بمعنى واحد، والله تعالى أعلم.

مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ طباق فوق طباق، مَبْنيات محكمات مزخرفات عاليات.

روى عبد الله بن الإمام أحمد عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: إن في الجنة لغرفاً يُرَى بطونها من ظهورها، وظهورها من بطونها فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال ﷺ: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام[4]، ورواه الترمذي وقال: حسن غريب.

وروى الإمام أحمد عن سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ قال: إن أهل الجنة ليتراءون في الغرف في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء، قال: فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: "كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي"[5]، أخرجاه في الصحيحين.

يعني يتراءون كما يتراءى أصحاب الغرف، أو يتراءون الغرف يعني لارتفاعها وبعدها وتباين هذه المراتب والدرجات، كما نتراءى الكوكب الغابر في الأفق، يعني كم بيننا وبين هذا الكوكب الغابر، فالجنة أعظم من ذلك، وأعظم مما نشاهده في هذه الدنيا، ولكن هذا للتقريب.

وقد مضى الكلام في بعض المناسبات على قول النبي ﷺ: إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها[6]، ومائة عام لا يقطعها -شجرة- وذكرت بأقل التقديرات في سير الراكب القاصد أن هذا لا يمكن أن يقادر قدره، يعني ظل هذه الشجرة يحتاج في قطعه إلى مدة طويلة جداً سنوات بالطائرة، وأن الأرض بكاملها بالنسبة إلى هذه الشجرة ليست إلا كحبة رمل أو نحو هذا، الأرض بكاملها، هذا في شجرة، فحينما يأتي الحديث عن غرف الجنة وما بينها من التباعد والتباين فلا نتصور بحال من الأحوال غرف الدنيا وبنايات الدنيا وقصور الدنيا، لو أن قصراً بحجم الكرة الأرضية، فهذا لا يمكن أن نقول: إنه مثل غرف أو مثل قصور الجنة؛ لتباين ما بين الدنيا والآخرة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا فَزارة، أخبرني فُلَيح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف، كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع، في تفاضل أهل الدرجات، فقالوا: يا رسول الله، أولئك النبيون؟ فقال ﷺ: بلى، والذي نفسي بيده وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل [7] ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أي: تسلك الأنهار بين خلال ذلك، كما يشاءوا وأين أرادوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ.

مثل هذه إذا أيقن بها المؤمن جد واجتهد في العمل للآخرة، وما يقعدنا عن هذا إلا ضعف اليقين، نحن نصدق بهذه الأشياء، ولكن العمل لا يدل على يقين تام بوعد الله -تبارك وتعالى، واعتبرْ حال أهل الدنيا وما يتحملون من ألوان العناء في طلب قليل منها، وتعجبْ حينما ترى الناس في الزحام في الحج، كل واحد إنما همه أن يخلص نفسه وأن يؤدي الفرض من طواف أو سعي أو نحو ذلك، وتجد من يواصلون الليل والنهار من أجل دراهم معدودة، أصحاب العربيات، فأنا أعتبر كثيراً إذا رأيت هؤلاء، الإنسان إذا أتى إلى الحرم الموسم فهو يفكر كيف يستطيع أن يؤدي هذه العبادة ولا يحصل له ما يقطعها أو يعوقه، وهؤلاء يواصلون العمل الليل والنهار وكم سمعت قول بعضهم لبعض، هذا يقول: منذ يومين ما نمت، وهذا يقول: منذ ثلاثة أيام ما نمت.

يقفون في طرف المسعى، وعند أبواب الحرم، وفي الطرقات يرجون أن يحصلوا شيئاً قليلاً من الدنيا، ويتحملون هذا التعب والزحام الشديد، فهو كلما أخذ شيئاً من هذه الدراهم القليلة ازداد نشاطه وتجدد، فهو لا يفتر، فهذا فيه عبرة عظيمة جداً، كيف أن الإنسان إذا كان يتطلع إلى شيء من المكاسب فإنه يتحمل العناء والتعب الكبير، أما الآخرة في هذه الغرف التي وصفها الله بهذا الوصف، الذي ليس ثمة أبلغ منه، ما في أبلغ من كلام الله، ولا أفصح ولا أوضح ولا أبين، ومهما وصفها الواصفون فإنهم لا يقاربون ذلك، ومع هذا العمل ضعيف، والهمة ضعيفة في طاعة الله ، والأعمال التي تُعمل للآخرة يدخلها ما يدخلها من المقاصد الفاسدة، والإنسان يحتاج معها إلى جهاد عظيم لنيته، والله المستعان.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ۝ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سورة الزمر:21، 22]

يخبر تعالى: أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال : وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا فإذا أنزل الماء من السماء كَمَنَ في الأرض، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء، ويُنبُِعه عيوناً ما بين صغار وكبار، بحسب الحاجة إليها؛ ولهذا قال -تبارك وتعالى: فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ.

قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي: إن كل ماء في الأرض فأصله من السماء.

وقال سعيد بن جبير: أصله من الثلج يعني: أن الثلج يتراكم على الجبال، فيسكن في قرارها، فتنبع العيون من أسافلها.

أصله من الثلج: ليس بلازم، يعني أصله منه ما يكون من المطر، ومنه ما يكون من الثلج، لكن الثلج ينزل كالرذاذ شيئاً فشيئاً حتى يجتمع، فكل ما علا وارتفع يقال له: سماء، فحينما يقال: كل ماء في الأرض فأصله من السماء، لا يأتي هنا قائل فيقول للماء الذي يكون من العيون والآبار ونحو ذلك، هو يقصد في الأرض يعني في باطنها، وأما المياه السارحة والأنهار الجارية ونحو ذلك فهذه تأتي تارة من الأمطار، وتارة تكون من ذوبان الثلوج كما هو معلوم، لكن كيف تجتمع هذه الثلوج؟

هي تنزل شيئاً فشيئاً حتى تجتمع، والله -تبارك وتعالى- هنا لم يذكر ذلك على سبيل الحصر، وإنما أخبر أنه أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ، ومعنى سلكه يعني: أدخله، أي أدخله في الأرض، سلكه فيها، فتخلل في باطن الأرض فصار عروقاً جارية ويكون على أنحاء شتى كما هو معلوم، فتارة يستخرجه الناس، وتارة يخرجه الله -تبارك وتعالى- بصورة العيون التي تفجر من الأرض.

وقوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ أي: ثم يخرج بالماء النازل من السماء، والنابع من الأرض زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ أي: أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه، ثُمَّ يَهِيجُ أي: بعد نضارته وشبابه يكتهل.

يعني زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ يدخل فيه اللون يعني هذا أحمر وهذا أصفر، ويدخل فيه الطعوم المختلفة، ويدخل فيه الأشكال والأنواع والأصناف المتنوعة، قال: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا، يَهِيجُ يعني: يتم جفافه ثم بعد ذلك يتفرق، فإن أصل هذه المادة تدل على ذلك، هاج، فهو حينما ييبس يتكسر فيصير حطاماً متفتتاً، كما قال الله : تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [سورة الكهف:45]، فهذا إذا هاج الزرع صار يابساً ثم يتكسر ثم بعد ذلك يتفرق، تفتت وتكسر، فهذا قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا، فمن فسره بـ ييبس فإن تلك هي مقدمة ذلك، يعني يكون يابساً هي مقدمة لأن يتفتت، ثم بعد ذلك يتفرق تذروه الرياح، هذا يَهِيجُ يعني: يتفرق ويتشتت، ويُصَوِّح نبته ويدبر بعد أن كان في تلك النضارة والخضرة، فيولي ذلك النبت.

فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا قد خالطه اليُبْس.

يعني يتحول لونه من الخضرة إلى الصفرة، وإذا صار بهذه المثابة فذلك يعني أنه صار يابساً وهذا يؤذن بتهشمه وتكسره وتفرقه، يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا،ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا يعني: يعود يابساً يتحطم، وأصل الحطام كما يقول كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله: هو فتات التبن -أعزكم الله- والحشيش يقال له: حطام، وترون التبن والحشيش إذا يبس يتفرق ولا يمكن جمع ما تفرق منه، والرياح تذهب به يمنة ويسرة، فهذا تصوير لحال الحياة الدنيا.

وإذا تأملت وقلبت النظر وجدت ذلك في كل شيء، هذا اختصار للحياة كلها التي نشاهدها، اعتبر هذا في كل ما تراه، الهلال يبدو صغيراً ثم ما يلبث أن ينمو حتى يكتمل ثم بعد ذلك يأخذ بالنقص حتى يرجع هلالاً ثم يضمحل وينمحي، هذه خلاصة للحياة الدنيا التي نشاهدها من أولها إلى آخرها مثل الهلال، والعام يبدأ هكذا، والشتاء يبدأ هكذا، والصيف يبدأ هكذا، والربيع يبدأ هكذا، والخريف يبدأ بهذه الطريقة.

واللباس الذي نلبسه بهذه الطريقة في أوله نضر جميل، لربما ينظر الإنسان في ثيابه وفي عطفيه وما إلى ذلك ثم بعد ذلك يبدأ هذا اللباس شيئاً فشيئاً، وهكذا يبدو الإنسان صغيراً، ثم يشب حتى يكتمل ويكون في نضارة الشباب وقوته، جمال وما إلى هذا، ثم بعد ذلك يبدأ يضمحل شيئاً فشيئاً، فيتحول ذلك الجمال والنضارة والحسن إلى ذبول وتظهر آثار الأيام والليالي على وجه الإنسان، وإنك لتقدر عمر الإنسان من وجهه، هذا أمر مشاهد ومعلوم، وهذه فيها أعظم عبرة، بنظرة إلى الوجه تقول: هذا بلغ الأربعين، وهذا بلغ الثانية والأربعين، وهذا بلغ الخامسة والأربعين، وهذا بلغ السابعة والأربعين، يعرف مثل هذا بآثار الأيام والليالي على الوجه، فهذه عبرة عظيمة.

وإذا نظرت إلى الثمار والأشجار، والمراكب ونظرت إلى الدور والقصور وهكذا، كل هذا يكون في حال من النضارة، ثم بعد ذلك شيئاً فشيئاً حتى يعود خراباً، فإذا كانت هذه حقيقة الحياة الدنيا فإن الإنسان لا يغتر بما فيها، وقل مثل ذلك في الأسفار والنزهة وما يزاوله الإنسان فيها والتجارات والشركات، يكون لها نوع من البريق وتتألق حيناً من الدهر ثم بعد ذلك يبدأ يخبت، الأسماء اللامعة، الأسماء التجارية، الأسماء التي تشرق وتغرب ما تزال ترتفع ثم بعد ذلك تبدأ تخفت وتذبل كما يذبل النجم أو الكوكب.

ورأيت قبل مدة قريبة صورة حقيقية كنت أتمناها، صورة حقيقية اختصرت بثوانٍ أو بدقائق لمكان كله ثلوج والأشجار التي فيه ليس فيها ورقة واحدة، غابة ثم بعد ذلك تبدأ سريعاً هذه الثلوج تذوب، وتذوب، وتذوب، ثم بعد ذلك تجري على الأرض، ومن بعد ذلك تبدأ تخضر هذه الأشجار والمكان حتى يكون في غاية الجمال من الخضرة، صورة حقيقية، لكنها مسرعة، يعني صورت في سنة كاملة ثم دمجت وصار لها تسريع في الوقت بحيث تشاهدها، كيف يحصل لهذه التي في سنة من التغير والنمو وما يطرأ عليها، تشاهد ذلك في ثوان أو في دقائق، ثم بعد ذلك يبدأ يخضر ثم بعد ذلك يصفر شيئاً فشيئاً وأنت تشاهده في لحظات، ثم يتحول إلى شيء آخر، يعود من جديد في حال من اليبس والذبول وتذهب أوراقه ولا يبقى إلا تلك الأغصان السوداء، هذا مشهد يصور لك الحياة كما هي، الربيع ينتظره الناس، وينتظرون نزول الأمطار، فإذا نزلت فرحوا بها وتزدان الأرض، ثم يلبث شئياً فشيئاً حتى يضمحل ويزول، هذه هي الحياة، ومن يغتر بمثل هذا فلا بصر له، إنما يغتر بذلك من قد عميت بصيرته، فهو ينظر بنظر قاصر إلى شيء من البهرج الذي ما يلبث أن يضمحل ويزول.

فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا قد خالطه اليُبس، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا أي: ثم يعود يابساً يتحطم، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ أي: الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا تكون خَضرةً نضرةً حسناء، ثم تعود عَجُوزاً شوهاء، والشاب يعود شيخاً هَرِماً كبيراً ضعيفاً وبعد ذلك كله الموت، فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير، وكثيراً ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما يُنزل الله من السماء من ماء، ويُنبت به زرعاً وثماراً، ثم يكون بعد ذلك حُطاماً، كما قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [سورة الكهف:45].

وقوله -تبارك وتعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ أي: هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق؟! كقوله : أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [سورة الأنعام:122].

الهمزة والفاء في قوله: أَفَمَنْ يعني هناك خبر محذوف، -والله تعالى أعلم، مقدر يفهم من السياق، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ يعني: كمن قسى قلبه وصار في حال من الحرج والضيق عن قبول الإسلام؟ أو أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ كمن طبع الله على قلبه؟ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ شرح الله صدره للإسلام يعني: وسعه لقبول الحق.

ولهذا قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي: فلا تلين عند ذكره، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم، أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.

قوله: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، "مِن" هنا يحتمل أن تكون بمعنى "عن" ومعروف أن حروف الجر تتناوب، فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ عن ذكر الله، كما يقوله أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- وقاله قبله أيضاً جماعة من أصحاب المعاني كالفراء، فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، يعني قست قلوبهم عن ذكره -تبارك وتعالى.

مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وبعضهم يقول: إن "من" على بابها وإنها ليست بمعنى "عن" وإنما بمعنى "من أجل"، فويل للقاسية قلوبهم من أجل ذكر الله، يعني من الناس من إذا ذكر الله اشمأز ونفر وقسى قلبه -نسأل الله العافية، كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سورة الزمر:45]، فتنقبض وتنفر من ذلك، ويؤيد القول الأول أنها بمعنى "عن" قراءة عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وقراءة الآحاد كما هو معلوم إذا صح سندها فإنها تفسر القراءة المتواترة، فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي: عن ذكره، وهذا اختيار ابن جرير كما سبق.

اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [سورة الزمر:23].

هذا مَدْحٌ من الله لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم، قال الله تعالى: اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ قال مجاهد: يعني القرآن كله متشابه مثاني.

وقال قتادة: الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف.

وقال الضحاك: مَثَانِيَترديد القول ليفهموا عن ربهم -تبارك وتعالى.

وقال عكرمة والحسن: ثنَّى الله فيه القضاء، زاد الحسن: تكون السورة فيها آية، وفي السورة الأخرى آية تشبهها.

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما: مَثَانِيَ قال: القرآن يشبه بعضه بعضاً، ويُرَدُّ بعضه على بعض.

وقال بعض العلماء وُيرْوى عن سفيان بن عيينة: معنى قوله تعالى: مُتَشَابِهًا مَثَانِيَأنّ سياقات القرآن تارةً تكون في معنى واحد، فهذا من المتشابه، وتارةً تكون بذكر الشيء وضده، كذكر المؤمنين ثم الكافرين، وكصفة الجنة ثم صفة النار، وما أشبه هذا، فهذا من المثاني، كقوله تعالى: إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [سورة الانفطار:13، 14]، وكقوله : كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [سورة المطففين:7] إلى أن قال: كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [سورة المطففين:18]، هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [سورة ص:49] إلى أن قال: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [سورة ص:55] ونحو هذا من السياقات، فهذا كله من المثاني، أي: في معنيين اثنين، وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضاً فهو المتشابه، وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله تعالى: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ذاك معنى آخر.

يعني أن التشابه المذكور في القرآن على نوعين، الأول: وهو التشابه العام، وهذا الذي جاء في هذه الآية، وصف القرآن كله بأنه متشابه، والمقصود: يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً، وكذلك في فصاحته وبلاغته من أوله إلى آخره، فهو متشابه بهذا الاعتبار، وأما التشابه الخاص المذكور في آية آل عمران وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [سورة الأنعام:3]، فإذا أشكل عليه هذا المعنى وظن أن الله بذاته في الأرض فهذا يكون بالنسبة إليه من قبيل المتشابه، فيرجع فيه إلى المحكمات، الآيات الدالة على علو الله على خلقه، وعلى استوائه على عرشه، فيتضح المراد، وهكذا، فالمتشابه الخاص ما لم يستقل بنفسه وإنما احتاج إلى غيره لبيان معناه، هذا المذكور في آية آل عمران: مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [سورة آل عمران:7]، أما التشابه العام فهو المذكور هنا، كما أن الإحكام العام، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [سورة هود:1] حكم بأن القرآن كله محكم، فالمقصود أنه لا تناقض فيه ولا تعارض، وإنما يصدق بعضه بعضاً، فهنا قوله -تبارك وتعالى: اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ، متشابه يعني في حسنه وبلاغته وفصاحته وما إلى ذلك، وبعضهم قال: متشابه يعني: يشبه الكتب المنزلة قبله، ولكن هذا بعيد، والله تعالى أعلم.

وأما مَثَانِيَ فمن أشهر ما قيل فيها وهو اختيار ابن جرير وهو يشمل كثيراً من الأقوال التي قالها أهل العلم، أن المقصود بالمثاني هنا: أنه تثنى فيه الأخبار والقصص، والقضاء والأحكام وما إلى ذلك؛ ولذلك تجد قصة موسى -عليه الصلاة والسلام- تتكرر في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى، تكرر فيه المواعظ، الأمر بالتقوى وبمراقبة الله -تبارك وتعالى، وما إلى ذلك من المواعظ التي تتكرر فيه، والأحكام التي تتكرر في مضامين هذا القرآن العظيم، وبعضهم يقول: مَثَانِيَ أي: أنه يثنى في القراءة فلا يمل كما يمل سائر الكلام شعراً ونثراً، فالناس إذا سمعوا القصيدة مرة أو مرتين أو نحو ذلك ملوا سماعها، أو سمعوا الحكاية أو الخبر، أو الكلام فإنه يثقل عليهم سماعه ثانياً، أما القرآن فإنك تقرأ الفاتحة دائماً في كل ركعة، ومع ذلك لا تمل من قراءتها، كأنك تقرؤها في كل مرة لأول مرة، وهذا قاله بعض أهل العلم، ولكن الأقرب -والله أعلم- في معنى المثاني هو ما سبق، تثنى فيه القصص والأحكام والقضاء والأخبار.

وهنا قال: وقال بعض العلماء ويروى عن سفيان بن عيينة: معنى "متشابهاً مثاني" أن سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد، فهذا من المتشابه، وتارة تكون بذكر الشيء وضده، كذكر المؤمنين ثم الكافرين، يعني: يكون المثاني بأن تذكر المتقابلات: الوعد والوعيد، وصفة أهل الجنة وأهل النار، صفة الأبرار وصفة الأشرار، فيكون هذا من قبيل المثاني، على هذا القول، واسترسال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- مع هذا القول كأنه يؤيده، والله أعلم.

وهنا قال قبله، قال: عن ابن عباس -رضي الله عنهما: مَثَانِيَ قال: القرآن يشبه بعضه بعضاً، ويُرد بعضه على بعض، ما معنى يُرد بعضه على بعض؟ كما يقول الشاطبي -رحمه الله: إن القرآن يفهم، يعني الشاطبي يقول: إن السور المدنية مبنية على السور المكية، يعني: أنه حتى نفهم القرآن نردّ بعضه على بعض، فنرد السور المدنية على السور المكية، يعني يقصد أنه وحدة كاملة -كما نعبر اليوم- مترابطة يفسر بعضه بعضاً، فنحتاج أن نستقرئ النصوص، وأن ننظر في أول ما نزل وآخر ما نزل، ثم بعد ذلك نفهم على ضوء هذا مراد الله -تبارك وتعالى، هذا معنى: أنه يُرد بعضه على بعض، هكذا فسر المثاني.

وقوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ أي هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف.

معنى الاقشعرار الانقباض، يعني أن جلودهم تنكمش، تنقبض من خشية الله -تبارك وتعالى، وهي عبارة في التفسير، يعني نحن حينما نفسر تقشعر بتنقبض قد لا تؤدي كل المعنى لهذه اللفظة، ولكن الإنسان يدرك المعنى حينا يقول: اقشعر جلدي من سماع كذا، فهو ليس مجرد انقباض وإنما انقباض خاص يدركه الإنسان ويعرفه من حاله ونفسه، قد لا تفي العبارة في بيان حقيقته، فتقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، يعني تقشعر بسبب الخشية، والخشية هي خوف مقرون بالعلم، فالخوف إذا كان مع علم من المخوف منه فهذه هي الخشية، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فما يقع في القلب من الخوف يؤثر في البدن فيقشعر له الجلد، يشعر كأن جلده به حركة وانقباض بسبب هذا الشعور الذي وقع في القلب من الخوف حينما يسمع آيات الوعيد، وصفة النار، وما فيها من العذاب، وصفة أهل النار، أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها.

تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ من الخشية والخوف.

ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ لما يرجون ويُؤمِّلون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه:

أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولائك نَغَمات الأبيات من أصوات القَيْنات.

الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً، بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال -تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الأنفال:2-4]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [سورة الفرقان:73] أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.

الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة عند سماعهم كلام الله تعالى من تلاوة رسول الله ﷺ تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله، لم يكونوا يتصارخُون ولا يتكلّفون بما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك؛ ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة.

قال عبد الرزاق: حدثنا مَعْمَر قال: تلا قتادة -رحمه الله: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، قال: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان.

هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرها في صفة أهل الإيمان حينما يسمعون كلام الله -تبارك وتعالى، هذه حالهم، وهذه أوصفاهم عند سماع القرآن، فهذه الآيات التي يذكرها الله -تبارك وتعالى- كما في آية الزمر هنا وفي غيرها ينبغي للمؤمن أن يعرض نفسه عليها إذا سمع أو قرأ كلام الله -تبارك وتعالى، هل يحصل له ذلك أو لا؟ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ.

فإذا كان لا يحصل لنا هذا، فمعنى ذلك أن الخشية في قلوبنا ضعيفة أو منعدمة، وهكذا عندما يأتي بصيغة الحصر، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ؛ لأن "إنما" من أقوى صيغ الحصر، لربما في المرتبة الثانية من صيغ الحصر في القوة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، هذا يدل على أنها أوصاف واجبة في الإيمان، وأنها إذا تخلفت فإن صاحبها، صاحب هذه الحال، من تخلف عنه شيء من هذه الأوصاف يكون من أصحاب الوعيد، يعني نقص من إيمانه، من الكمال الواجب، وليس الكمال المستحب؛ لأنه جاء بصيغة الحصر، وهكذا في النفي حينما يقول: لا يؤمن، لا يؤمن من فعل كذا، فهذا تارة يكون لنفي الإيمان أصلاً وتارة يكون لنفي الإيمان الواجب في مثل هذه الصيغ.

قال: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، بعضهم يقول: إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ إن ذكر الله هنا له مفعول مقدر محذوف، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ رحمته وثوابه وجزائه وجنته، هكذا قال بعض أهل العلم، وهذا وإن كانت الآية تحتمله لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن المقصود ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يعني: إلى مذكوره، وهو كلامه، فإن كلام الله -تبارك وتعالى- في غاية التأثير، كما قال الله : لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة الحشر:21].

وهكذا فالله -تبارك وتعالى- يقول: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [سورة المجادلة:9] يحتمل المعنيين، إذ الذكر مصدر، فيمكن أن يكون مضافاً إلى الفاعل أو إلى المفعول، يعني: أنساهم ذكر الله الذي هو كلامه، غفلوا عنه فلم يقرءوه، لم يتدبروه، لم يعملوا به، لم يتحاكموا إليه، ويحتمل أن يكون فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ بقلوبهم لم يذكروه وبألسنتهم لم يذكروه، وبجوارحهم لم يعبدوه، فهذان معنيان، وكلاهما داخل في الآية، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ.

فهنا ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يعني: إلى كلامه وما إلى ذلك.

وهنا في قوله: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ تَلِينُ، إِلَى، يعني: إلى ذكر الله، تلين بمعنى أيضاً تلين وتسكن وتطمئن إلى ذكر الله -تبارك وتعالى.

وقوله: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أي: هذه صفة من هداه الله، ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.

ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي "ذلك" يعني: هذه الصفة المذكورة قبله، ويحتمل أن يرجع إلى القرآن، ذَلِكَ أي: القرآن، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.

أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ۝ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ۝ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة الزمر:24-26].

يقول تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ويُقَرّعُ فيقال له ولأمثاله من الظالمين: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، كمن يأتي آمناً يوم القيامة؟! كما قال : أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الملك:22].

هنا قوله -تبارك وتعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هو حينما تكون يداه قد غلتا -نسأل الله العافية- فإنه لا يجد شيئاً يتقي فيه العذاب، والأصل أن الإنسان يتقي بيديه عن وجهه، فحين تغل أيدي هؤلاء المجرمين فإنهم يتقون العذاب بوجوههم، وبعض أهل العلم فسر ذلك بالسحب على الوجوه، أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فهو لا يجد شيئاً يتقي به النار سوى الوجه، لا يستطيع أن يدفعها بشيء آخر بيده أو نحو ذلك، أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

ويُقرع فيقال له ولأمثاله من الظالمين: ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ، كثيرا ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [سورة الدخان:49]، مع أن أصل الذوق يقال لما يكون باللسان، وحاسة الذوق إنما هي باللسان، ولكن يأتي هذا كثيراً وهو في كلام العرب أيضاً، فيقال في كل ما تناله الجوارح ويصل إليها من ألم ولذة: إنه ذوق، يقال: ذاق المرض، وذاق الحر، وذاق البرد، وذاق الفقر، وذاق الجوع، وذاق الشدة، وما إلى ذلك، فهو يصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى حاسته التي يحس بها ذلك وهي اللسان، فهذه الأشياء من الآلام واللذات والنعيم وما إلى ذلك حينما يصل إلى الإنسان يصل إلى جوارحه، يصل إلى جسده فإنه يقال له ذلك، يقال: ذاقه، ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ، أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ

وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ هذا معطوف على يَتَّقِي، ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ، يقال لهم، لكنه عبر عن هذا الأمر المستقبل بالماضي لتحقق الوقوع، وإلا فهو أمر لم يحصل بعد، يعني: ويقال لهم ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ، والله تعالى أعلم.

وقال -جل وعلا: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [سورة القمر:48]، وقال تبارك وتعالى: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة فصلت:40]، واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر.

يعني أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خير أمن ينعم في الجنان؟ فهذا الذي يسمونه بالاكتفاء، كقوله -تبارك وتعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] يعني: والبرد، وهو على أحد القولين أيضاً في قوله -تبارك وتعالى: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] وإن لم تنفع، باعتبار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط إذا غلب على الظن أو علم أن المأمور والمنهي لا يستجيب، وإنما ذكر أشرف الاحتمالين، هذا على أحد القولين في الآية، والقول الآخر معروف أن ذلك إنما يتوجه إذا وجد المحل القابل، وإلا فإنه لا يجب.

والأول هو الأقرب -والله أعلم؛ لوجود الأدلة التي تدل على هذا المعنى، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط لمجرد الظن أن ذلك لا يستجيب، كما قال الله في أصحاب القرية التي مسخ أهلها، الذين كانوا يحتالون على أحكام الله -تبارك وتعالى: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ [سورة الأعراف:163]، فالطائفة التي أمرتهم ونهتهم قالوا: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [سورة الأعراف:164]، يعني: إنا نفعل ذلك، نأمرهم وننهاهم ونعظهم إعذاراً إلى الله -تبارك وتعالى، من أجل المعذرة، والذين سكتوا كانوا يائسين، فسكت الله عنهم، بمعنى أنه لم يذكر خبرهم وما آل إليه أمرهم، فمن أهل العلم من يقول: إنهم هلكوا معهم؛ لسكوتهم، ومنهم من يقول: إنهم نجوا، لكن لم يستحقوا التنويه والذكر.

والمقصود هنا بيان المراد بذكر أحد الاحتمالين أو الطرفين أو نحو ذلك.

وقوله -جلت عظمته: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يعني: القرون الماضية المكذبة للرسل أهلكهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق.

وقوله -جل وعلا: فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: بما أنزل بهم من العذاب والنكال وتشفي المؤمنين بهم، فليحذر المخاطبون من ذلك، فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل وخاتم الأنبياء ﷺ، والذي أعده الله لهم في الآخرة من العذاب الشديد أعظمُ مما أصابهم في الدنيا؛ ولهذا قال : وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ۝ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۝ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ۝ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ۝ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [سورة الزمر:27-31].

يقول تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: بينا للناس فيه بضرب الأمثال، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، فإن المثل يُقَرّب المعنى إلى الأذهان، كما قال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: تعلمونه من أنفسكم، وقال : وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43].

قوله -تبارك وتعالى- بعدما سبق: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، يدل على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من أن الأمثال يدخل فيها القصص وما يحصل به الاعتبار والاتعاظ، مما قصه الله علينا في القرآن، وأن ذلك لا ينحصر بما قاله كثير من أهل العلم، ولربما هو المتبادر إلى كثير من الأذهان من أن المثل هو تقريب الأمور المعنوية، أو المعاني بصور محسوسة من أجل أن يعقلها السامع وأن يدركها وأن يفهمها.

ومثل هذا القول هو الذي ينحل به كثير من الإشكال في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى، حيث يذكر المثل صراحة في أمور من قبيل القصص، قصص الأمم، وما حل بهم ونحو ذلك، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وكثير من أهل العلم في أصله يرجعونه إلى معنى الشبه، يوجد قدر من المشابهة، فيذكر الله أحوالاً وأموراً إذا سمعها المؤمن رجع إلى نفسه، ونظر في حاله واعتبر من أجل أن لا يقع له ذلك، ويحصل له مثل هذا المكروه، أو إذا كان ذلك في أمور محبوبة نظر في حاله، وهل هو كذلك محقق لهذه الأوصاف أو لا؟

والمقصود ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يعني: من كل مثل مما تحصل به الهداية، مما يحتاجون إليه، مما يجلي الله فيه الحق، ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، فهذا من قبيل العموم الاستعمالي كما يسميه الشاطبي، يعني كل مثل مما يحتاجون إليه، وما يحصل به الهداية وتجلية الحق وبيانه، ففيه أقوى صيغ العموم كما في قوله -تبارك وتعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25]، يقولون: ما دمرت الجبال، ولا دمرت السماوات والأرض، فالأصوليون عادة يقولون: هذا عموم قد خص بالحس.

والشاطبي -رحمه الله- يقول: لا يخصه الحس، العموم لا يخصص بالحس، وإنما هذا تعرفه العرب، وهو ما يسمى بالعموم الاستعمالي يعني فيما سيقت لتدميره، فالسامع يدرك هذا، أنها ما جاءت لتدمير السماوات والأرض، فإذا سمع تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ يعني: مما سيقت لتدميره، وفي قوله عن الحرم: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57]، يقول: هناك ثمرات في الدنيا ما تجبى إليه، فهذا غير وارد، وما اعترض المشركون بهذا، وإنما فيما يجبى إليه عادة، وفي ملكة اليمن بلقيس، وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل:23]، يقولون: ما أوتيت ملك سليمان، يقولون: هذا خصصه الحس، وما أوتيت لحية سليمان، فهذا غير وارد، وإنما حينما يسمع السامع ذلك يعرف أنها أوتيت من كل شيء مما يصلح لإقامة ملكها، وشده، وتثبيته، والله أعلم.

وقوله -جل وعلا: قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي: هو قرآن بلسان عربي مبين، لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس.

يعني فسر بهذا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا لبس فيه ولا اختلاف، كثير من السلف فسروا ذلك بالاختلاف، قالوا: لا اختلاف فيه، يعني كل هذه المعاني صحيحة، لا انحراف، لا اعوجاج، غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ليس فيه تضارب ولا تعارض ولا فيه ضعف في مبانيه، ولا تضارب وتناقض في معانيه، وإنما هو في غاية الإحكام، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا [سورة الكهف:1].

بل هو بيان ووضوح وبرهان، وإنما جعله الله تعالى كذلك، وأنزله بذلك لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: يحذرون ما فيه من الوعيد، ويعملون بما فيه من الوعد.

ثم قال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ أي: يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم.

يعني ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلاً، "رجلاً" هنا منصوب باعتبار أنه تفسير لمثل، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلاً، فهو تفسير للمثل، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ قال: يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم، والتشاكس يعني التخالف والتعاسر، ورجل شكس يعني: فيه عسر في الخلق والتعامل، صعب، ليس بهين ولين في تعامله، في تعاطيه، في بيعه وشرائه، وعقده وما إلى ذلك، فهذا صعب الخلق.

فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ يعني: يديره أكثر من واحد، فهذا يأمره بكذا، وهذا يأمره بكذا، ولا يحصل إغضاء ولا عفو، ولا يتنازل أحد عن حقه، كل واحد من هؤلاء يريد أن يستنطف حقه، فهذا يقول: اذهب هنا، وهذا يقول: اذهب هنا، وهذا يقول: لا تفعل هذا، وهذا يقول: افعل هذا، وكل واحد صعب، فإذا أراد شيئاً من حقوقه فإن كل واحد يحيله إلى الآخر، بينما كل واحد يأمره وينهاه بغير ما يأمره صاحبه وينهاه، فيحصل له بذلك تحير، إن أرضى هذا أسخط هذا، وإن أرضى هذا أسخط هذا، فيه شركاء متشاكسون، فهذا حال من يعبد غير الله -تبارك وتعالى، فهو مشتت القلب بين هذه الآلهة، وفي المقابل هذا الذي يكون سلماً لرجل، إنما له مولى واحد يأمره، وينهاه، ويرجع إليه في حاجاته، وإذا جاع أو مرض رجع إليه فكساه وأطعمه وأعطاه الدواء وما إلى ذلك، لا يحيله إلى غيره.

وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ أي: سالماً.

قرأ أبو عمرو وابن كثير (ورجلاً سالماً لرجل)، وهي قراءة متواترة، سلماً لرجل وسالماً لرجل، والأقرب أنهما بمعنى واحد، وإن كانت سلماً تأتي لمعنى آخر أيضاً وهو ما يقابل الحرب، لكن تأتي لهذا وهذا، فهي بمعنى سالم، سَلَمًا لِرَجُلٍ يعني: أنه سالم لرجل ليس فيه شركة، فيتشتت بين هؤلاء الشركاء.

لِرَجُلٍ أي: خالصاً لا يملكه أحد غيره، هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أي: لا يستوي هذا وهذا، كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فأين هذا من هذا؟

قال ابن عباس ومجاهد، وغير واحد: هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص، ولما كان هذا المثلُ ظاهراً بَيِّناً جلياً، قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: على إقامة الحجة عليهم، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: فلهذا يشركون بالله.

لا يَعْلَمُونَ يعني: لا يعلمون حال هذا الإشراك وحقيقته وما يئول إليه، وقوله -تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هو كما ذكر الحافظ ابن كثير: على إقامة الحجة عليهم، وبعض أهل العلم يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني: على بيان الحق، وتجليته، وقيل غير ذلك.

وقوله -تبارك وتعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق عند موت الرسول ﷺ، حتى تحقق الناس موته، مع قوله : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [سورة آل عمران:144].

ومعنى هذه الآية: ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله ، فيفصل بينكم، ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين.

ثم إن هذه الآية وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذِكْر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل متنازعيْن في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.

هو هذا، يعني من أهل العلم من يقول: إن هذه الخصومة في قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ أن الخصومة بين أهل الإيمان وأهل الإشراك؛ لأن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، قالوا: يعني قريشاً، يعني المشركين الذين كذبوا النبي ﷺ، ومن ثَمّ ستنتقلون إلى الدار الآخرة، وتكون الخصومة بينكم.

والأقرب -والله تعالى أعلم- حمل ذلك على العموم، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ يعني: الخصومة تكون بين المؤمنين والكافرين، وتكون أيضاً بين الناس عموماً فيما يختصمون به من أمور تتعلق بالدين، ومن أمور أخرى تتعلق بالدنيا، وما يكون بينهم من المظالم، فهذا إنما يكون بين يدي الله -تبارك وتعالى- في الدار الآخرة، فيختصم الرجل مع الرجل، وتختصم الطائفة مع الطائفة، وهكذا فالله يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، وهذا المعنى: حمل الآية على هذا العموم فيكون ذلك في أهل الإيمان مع أهل الكفر، ويكون في أهل الإيمان مع بعضهم البعض هو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

وروى ابن أبي حاتم -رحمه الله- عن ابن الزبير -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال الزبير : يا رسول الله، أتكرر علينا الخصومة؟ قال ﷺ: نعم قال : إن الأمر إذاً لشديد[8].

تكرر علينا الخصومة يعني: المشهد يعاد بين يدي الله ، اختصم هذا مع هذا سيختصمون غداً بين يدي الله -تبارك وتعالى، اختصمت هذه الطائفة، وهذه الطائفة سيحصل هذا الخصام بين يدي الله ويحكم الله بينهم.

وروى أحمد عن الزبير بن العوام قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله ﷺ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ۝ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال الزبير : أي رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: نعم ليكررن عليكم، حتى يُؤدَّى إلى كل ذي حق حقه، قال الزبير : والله إن الأمر لشديد[9].

ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ يقول: يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهدي الضال، والضعيف المستكبر.

وقد روى ابن منده في كتاب "الروح"، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: يختصم الناس يوم القيامة، حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنتَ فعلت، ويقول الجسد للروح: أنتِ أمرت، وأنت سولت، فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما، فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والآخر ضرير، دخلا بستانا، فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثماراً، ولكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: اركبني فتناولها، فركبه فتناولها، فأيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما.

يعني الروح والجسد، فيقولان: كلاهما، يعني: كلاهما معتدٍ، الضرير والمقعد، فهذا مثل الروح والجسد، الروح تركب الجسد، فالجسد يقول: هي أمرتني، والروح تقول: هو حملني.

فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما، يعني: أن الجسد للروح كالمطية، وهو راكبه.

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نزلت هذه الآية، وما نعلم في أي شيء نزلت.

هذا في غاية الأهمية من جهة أن بعض الآيات قد يفسرها الواقع، ولا أعني بذلك أن الناس ينزلون القرآن على وقائع وأحداث ويقولون: هذا المعنِيُّ بذلك كلما وقع حدث، ولكنه قد يكون مما يدخل في معناها، مما تصدق عليه الآية، لكنه قد يتوقف المفسر أو العالم في فهم المراد، فإذا رأى ذلك واقعاً كما هو حال أصحاب النبي ﷺ في فهمهم للقرآن، فهم الآية، يعني زال عنه الإشكال، هذا هو المقصود، لا تنزيل القرآن على وقائع أن هذا هو المقصود بذلك بعينه كما يفعل بعض الناس.

يعني مثلاً: الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- حينما سمعوا قول الله ، أو حينما كان عمر يتساءل عن قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر:45]، فكان يتساءل: أي جمع وأي دبر؟ استشكل ذلك؛ لأنه لم يقع، فلما رآهم يوم بدر منهزمين، والنبي ﷺ يثب في الدرع ويقرأ هذه الآية فهم المراد، فهنا ابن عمر في ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ يتساءل عنده إشكال فيها، ما بينهم خصومة هم على قلب رجل واحد في زمن أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله تعالى عنهم، في صدر خلافة عثمان -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ثم وقعت الفتنة، فلما وقع القتال بينهما ما كان هذا يخطر في بال، ولا يتوقعونه، ففهم ذلك.

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال قلنا: من نخاصم؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة، فمن نخاصم؟ حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر -رضي الله عنهما: هذا الذي وعدنا ربنا نختصم فيه[10]، رواه النسائي.

يقول: ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة، سواء كان في مكة أو كان في المدينة، ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة، يعني هو كان يتوقع أن الخصومة تتوجه إلى هؤلاء، ولكنه بعدما رأى المسلمين يتقاتلون ويختلفون هذا الاختلاف عرف أن المراد بذلك ما هو أعم من هذا، وإلا فالخصومة والاختلاف كان واقعاً مع المشركين، مع عباد الأوثان، وعموماً الآيات التي يقولون: هذه بمكة، وأهل الكتاب كانوا في المدينة إلى آخره هذا الكلام ليس على هذا الإطلاق، وإنما قد تأتي بعض الآيات المكية -وهي مكية ولم تنزل في المدينة- لا يقال إنها مستثناة، وفيها ذكر لأهل الكتاب.

  1. رواه أبو يعلى في مسنده، برقم (3422)، وصححه الألباني في ظلال الجنة، برقم (248).
  2. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 358- 359).
  3. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 359).
  4. رواه الترمذي، كتاب صفة الجنة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صفة غرف الجنة، برقم (2527)، ومسند الإمام أحمد، برقم (1338)، وقال محققوه: "حسن لغيره".
  5. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب في السماء، برقم (2830 وبرقم 2831)، وأحمد في المسند، برقم (22876)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  6. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3080)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، برقم (2828).
  7. رواه الترمذي، كتاب صفة الجنة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في ترائي أهل الجنة في الغرف، برقم (2556)، والإمام أحمد في المسند، برقم (8471)، وقال محققوه: حديث صحيح.
  8. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الزمر، برقم (3236)، وأبو يعلى في مسنده، برقم (687)، وقال الألباني: "وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات"، في السلسلة الصحيحة، برقم (340).
  9. رواه أحمد في المسند، برقم (1434)، وقال محققوه: "إسناده حسن، رجاله ثقات رجال الصحيح غير محمد بن عمرو    -وهو ابن علقمة بن وقاص الليثي المدني- فقد روى له البخاري مقرونا ومسلم متابعة، وهو صدوق حسنُ الحديث"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (340).
  10. رواه النسائي في السنن الكبرى، برقم (11447).

مواد ذات صلة