الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
(5) من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية 23 إلى قوله تعالى: {وَمَا تَكْتُمُونَ} الآية 29‏
تاريخ النشر: ٠٥ / ربيع الآخر / ١٤٣٠
التحميل: 10056
مرات الإستماع: 31932

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [سورة النور:23-25].

يقول المختصر -رحمه الله: هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات.

فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولاسيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق -ا.

وقد أجمع العلماء -رحمهم الله، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكره في هذه الآية فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن، وكذا الحكم في جميع أمهات المؤمنين.

وقوله تعالى: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ الآية، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... الآية [سورة الأحزاب:57].

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا في عائشة، ومن صنع مثل هذا أيضًا اليوم في المسلمات، فله ما قال الله ، ولكن عائشة كانت إمامَ ذلك.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات[1]، أخرجاه في الصحيحين.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنهم -يعني: المشركين- إذا رَأوا أنه لا يدخلُ الجنةَ إلا أهل الصلاة، قالوا: تعالوا حتى نجحد، فيجحدون فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثًا.

وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذُه، ثم قال: أتدرون مِمَّ أضحك؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب، ألم تُجِرْني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليَّ شاهدًا إلا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام عليك شهودا فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنّ وسُحْقًا، فعنكُنَّ كنتُ أناضل[2]، وقد رواه مسلم والنسائي.

وقوله: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ قال ابن عباس: دِينَهُمُ أي: حسابهم، وكل ما في القرآن دِينَهُمُ أي: حسابهم، وكذا قال غير واحد.

وقوله: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أي: وعده ووعيده وحسابه هو العدل، الذي لا جور فيه.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ هنا يرِد سؤالان:

السؤال الأول: أن الله -تبارك وتعالى- ذكر اللعن لهؤلاء في الدنيا والآخرة، ومن لُعن في الدنيا والآخرة فلا خلاق له ولا نصيب عند الله -تبارك وتعالى، ومعلوم أن قذف المحصنات لا يبلغ مرتبة الشرك، والله قال في مسطح وأمثاله موجهاً لأبي بكر الصديق : وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة النور:22]، فرغبهم في هذا، وفي الإحسان إليهم، وأثبت لهم هجرتهم، فالشرك بالله -تبارك وتعالى- أعظم من ذلك وهو محبط للأعمال، والنصارى أهل لون قبيح من الشرك وهم الذين نسبوا إلى الله الصاحبة والولد ومع ذلك يقول الله عنهم: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:74].

السؤال الثاني: ما الفرق بين هذه الآية وبين الآية الأولى التي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها الحد؟

أما جواب السؤال الأول: وهو اللعن هنا في الدنيا والآخرة فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك يختص بعائشة -ا- مَن قذفها فلا توبة له، وهو ملعون في الدنيا والآخرة، ومنهم من قال: إن ذلك يختص بأمهات المؤمنين، فمن قذفهن فهذا حكمه.

ومن أهل العلم من يقول: إنه لمّا نزلت هذه الآية نزلت بعد ذلك الآية التي في أول هذه السورة وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۝ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ [سورة النور:4، 5]، فيكون ذلك في من لم يتب.

وبهذا الاعتبار تكون الآية عامة، وهذا هو ظاهرها، فظاهر اللفظ يدل على هذا فالله -تبارك وتعالى- قال: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فهذا عام في المؤمنات اللاتي بهذه الصفة محصنات غافلات، لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فإن حصلت التوبة، فإن التوبة تجبّ ما قبلها، ويبقى ما يتعلق بحق المخلوق، وهل يتوقف عن المطالبة فيه أو لا يتوقف، فإذا أقيم الحد فإن المخلوق يكون قد استوفي.

لكن لو لم يطالب أو لم يعلم، أو كان ميتاً ونحو ذلك فيبقى حق المخلوق، فمن تاب وكانت توبته صحيحة فالله يتولى أمره، ولهذا قال بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن اللعن، وعموم نصوص الوعيد تكون عامة، ولكن ذلك لا يعني أن تتنزل على المعين، ما ورد فيه اللعن لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله...الحديث[3]، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غيّر منار الأرض[4]، أو نحو ذلك من النصوص الواردة في اللعن فإن هذا لا يتنزل بالضرورة على المعين؛ لأن المعين قد يوجد ما يمنع من ذلك في حقه، يوجد مانع، أو ينتفي شرط أو يوجد مصائب مكفرة، أو حسنات ماحية ينغمر فيها هذا الذنب، كما قال النبي ﷺ في حق حاطب لما قال لعمر: وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم[5]، فهذه الحسنة العظيمة والشهود في غزوة بدر انغمرت معها تلك السيئة مع أنها ليست بسيئة يسيرة.

وإذا فهمتَ هذا المعنى: أن ما ورد من اللعن والوعيد العام لا يقتضي بالضرورة ولا يتنزل على المعين، ولاشك في كل الحالات أن التائب يخرج من هذا، فإذاً قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ عام، وهو من نصوص الوعيد، ولا حاجة للتكلف في حمله على المحامل البعيدة، أو في تخصيصه من غير دليل، فيقال: هذا خاص بعائشة -ا، أو خاص بأمهات المؤمنين ولا دليل عليه، فهو نص عام ولا يعلم ما يخصصه، وهذا فيمن لم يتب، ثم إن هذا اللعن حتى في حق من لم يتب قد يوجد مانع أو ينتفي شرط، أو توجد حسنات ماحية فلا يتنزل على المعين.

وكثير من نصوص الوعيد إذا عوملت بهذه الطريقة استرحنا من حملها على المحامل المتكلفة، وذلك أوقع في النفوس، ويحصل به مقصود الشارع من الزجر، وإلا فمن أهل العلم من قال: إن هذا خاص بالمشركين؛ حيث كانت المرأة إذا خرجت مهاجرة إلى المدينة قالوا: إنما خرجت للفجور، فيرمون المحصنات، فإذا قالوا: هذا خاص بالمشركين فلا إشكال عندهم، لعنوا في الدنيا والآخرة، وهكذا قال بعضهم: إن هذا يختص بعبد الله بن أبيّ فهو كافر بالباطن؛ لأنه من المنافقين، وبهذا الاعتبار لا إشكال عندهم باللعن في الدنيا والآخرة، ولا دليل على أن هذا يختص بعبد الله بن أبي، أو بالمشركين.

وهكذا قول من قال: إن ذلك إن قُصد به أحد من أهل الإيمان أو من وقع بهذا مثل حسان ومسطح فالمقصود باللعن في الدنيا استيحاش المؤمنين منهم، ويكون الواحد منهم مبعداً بهذا الفعل وما شابه ذلك، وإن كان من المنافقين فاللعن المراد به ما عرف من حقيقته الشرعية، لكن هذا الكلام لا دليل عليه، يعني: إذا وجه هذا في اللعن في الدنيا فيقولون في اللعن في الآخرة لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ استيحاش المؤمنين في الآخرة، وعدم الثناء عليهم، فهذه إن ما حمل عليها هو هذا الاستشكال: هذا مؤمن، وقذفَ محصنة فكيف يلحقه اللعن في الدنيا والآخرة؟ نقول: هذه نصوص الوعيد، فان تاب ارتفع ذلك عنه، وقد يوجد له حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو يوجد له ما يمنع هذا أو يُفقد شرطٌ أو نحو ذلك، والله تعالى أعلم.

والسؤال الآخر: ما الفرق بين هذه الآية والآية السابقة؟ من خص ذلك بعبد الله بن أبي أو بالمشركين أو قال: إن ذلك يختص بأهل الإيمان، فالفرق عنده ظاهر أن تلك عامة، وهذه خاصة إما بمن قذف أمهات المؤمنين أو قذف عائشة -ا- أو كان ذلك يختص بنوع من القاذفين، فقالوا: تلك الآية عامة، وبعض السلف يقول تلك: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء [سورة النور:4] فيمن عسى أن تكون قد قارفت -يرمون المحصنات- يعني: لا يستبعد منها هذا، فيها ريبة، فيها شك فيها أمارات، فيها قرائن، وهذه فيمن لم تقارف، ولم يصدر منها شيء يوجب ارتيابًا، أخذوا هذا من الزيادات في الآية زيادة الأوصاف.

هناك قال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء، وهنا ذكر ثلاثة أوصاف: المحصنات، الغافلات، المؤمنات، فالمحصنات بمعنى العفيفات، والغافلة هي التي لا يخطر ذلك في بالها، ولا تلتفت إلى هذه الأمور، ولا تتفطن لها إطلاقاً مع وصف الإيمان، لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا فقذف هذه أشد من قذف تلك التي قد تكون قارفت هكذا قال بعض السلف.

وهذا لا يخلو من إشكال، مع أنه لاشك أن من قذف الغافلة ليس كمن قذف غيرها، فقذف الغافلات أشد.

وهناك شروط لإقامة الحد في القذف متعلقة بالمقذوف، وأخرى تتعلق بالقاذف، فمن الشروط التي ذكروها في المقذوف أن يكون نزيهاً عُرف بالنزاهة مما قذف به، فلو تكلم في واحدة في مرقص ليليّ -أعزكم الله- وقذفها لا يقام عليه الحد؛ لأنها ليست من المحصنات، والمحصنات بمعنى العفيفات وليس المتزوجات في الآية، فلو قذف هذه التي ترقص وتقارف ألوان المنكرات في ملهى ليليّ أو نحو هذا مثل هذا لا يقام عليه الحد، لكن لا يمكن أن نقول له أن يطلق لسانه أصلاً في هذا، فهنا قال الله -تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

والذي أظنه أقرب -والله أعلم- في الجمع بين الآيتين أن الآية الأولى فيما يترتب على ذلك من الحكم والحد في الدنيا، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۝ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا حكم عليهم بالفسق، وعدم قبول الشهادة، والجلد، كما ذكر الله حد الزنا، ذكر حد القذف، وذلك في بيان الأحكام التي تترتب على القذف في الدنيا ماذا يُفعل بالقاذف، وهذه في الوعيد، والعقاب الذي ينتظر هذا الإنسان جراء ذلك لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللعن: هذا في الوعيد، وذاك في الأحكام.

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ قلنا: العفيفات، الغافلات هي التي تكون بعيدة عن هذا يعني كيف تفرق بين الغافلة وغير الغافلة في هذه الأمور؟

فالغافلة: هي التي لا يخطر ذلك في بالها، ولا تلتفت لهذه الأمور ولا تعرف حيل غير الغافلات، ولا يصدر منها شيء يكون سبباً للارتياب.

وأما غير الغافلة: فهي امرأة تعرف كيف تتصرف تصرفات تحرك فيها نفوس الرجال، سواء كان ذلك باستمالة قلوبهم بغنج، ومحادثات مع الرجال غير لائقة لها، ورجال بالهاتف هذه ليست غافلة، أو كان ذلك بتصرفاتها بنفسها حيث تخالط الرجال، وتزاحمهم، وتعاشرهم، وتذهب معهم لربما وتجيء، وتخرج مع رجل، وإن كانت لا تقارف الفاحشة وإنما تخرج مع رجل ليس من محارمها وتواعده....إلى آخره، فهذا أمر يخرجها عن كونها من الغافلات، وهذا أمر معروف لا يخفى، فالمرأة غير الغافلة غالباً ما تكون صاحبة التواء وحيل، تعرف كيف تتصرف إذا جاء الموقف المحرج مباشرة، تعرف كيف تغطي ذلك وتستره باختلاق أي لون من ألوان المعاذير والأكاذيب، والله المستعان.

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنيَا وَالْآخِرَةِ واللعن معروف، وهو محمول على معناه المعروف شرعاً: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ولا داعيَ لحمله على الاستيحاش وما أشبه ذلك، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة لاسيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة -ا.

كلامه -رحمه الله- ظاهر في أنه حمل الآية على العموم؛ وكذلك حملها جماعة من أهل العلم والمحققين، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- ويدخل في ذلك دخولاً أولياً من رمى أمهات المؤمنين، ويدخل فيه أيضاً من باب أولى من رمى عائشة؛ لأن الآيات نزلت فيها، ولا يوجد دليل على أنه هل يختص هذا بها أو بهن؟

والإشكال سمعتموه في قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يعْمَلُونَ، يرد السؤال هنا كيف تشهد عليهم ألسنتهم، وقد ختم على أفواههم الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ [سورة يــس:65]، كيف تشهد الألسنة؟ فكثير من أهل العلم، عامة أهل العلم ومنهم كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- يقول: المراد به أنها تشهد ألسنة بعضهم على بعض تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ؛ لأنه إذا ختم على الأفواه فمعنى ذلك أن الألسن لا تنطق، هذا قال به عامة أهل العلم، ويمكن أن يقال غير هذا، وقد قيل: إنه يختم على الأفواه وتتكلم الأيدي والأرجل إلى آخره فهو ينكر في البداية، وكما في الحديث أنه يقول: لا أجيز عليّ شاهداً إلا من نفسي، ويجادل، فإذا شهدت عليه جوارحه وجلده فعند ذلك يقر بلسانه، ويقول كما جاء في آخر الحديث، ثم قال: يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول بعداً لكُنّ وسحقاً فعنكنّ كنت أناضل فيقر بعد ذلك.

وهذه الآية كقوله -تبارك وتعالى- في الآيات الأخرى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يكْسِبُونَ، وقوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ [سورة فصلت:20]، فالله -تبارك وتعالى- ينطقها، وهذا على ظاهره ولا حاجة إلى التكلف وحمله على المحامل البعيدة، فهو كما قال الله عنهن: أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [سورة فصلت:21]، ويقول: وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ [سورة فصلت:22].

فالحاصل أن الإنسان يقر بعد ذلك فينطق حينما يُخلَّى بينه وبين الكلام، وقد يكون هذا التوجيه أقرب لظاهر الآية من القول بأن المراد أنه تشهد ألسنة بعضهم على بعض؛ لأن الله ذكر ذلك في سياق واحد، يقول: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم فلسانه يشهد عليه، ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم فكل ذلك يختص به يرجع إليه، وليس من شهادة بعضهم على بعض، والله تعالى أعلم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ، قال: قال ابن عباس: دِينَهُمُ أي: حسابهم، وكل ما في القرآن دِينَهُمُ أي: حسابهم، كل ما في القرآن دينهم أي حسابهم: هذا الذي يسمى بالكليات كل ما في القرآن، هذا يوجد كثيراً في كلام السلف لاسيما في كلام التابعين، وهذه هي التي تسمى بالكليات في التفسير، كل كذا فهو كذا. 

وهي تحتاج إلى شيء من الاستقراء، يعني بعض هذه الأشياء التي تذكر قد لا تكون دقيقة، فإن كان المستثنى قليلاً فيمكن أن يبين، يقول: كل ما كان كذا فهو كذا إلا في الموضع الفلاني، كل ما في القرآن من "لعل" فهو للتعليل إلا في قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، فيبين، لكن أحياناً تكون الأشياء الخارجة عن هذا كثيرة، كل ما في القرآن من القنوت فهو دوام الطاعة مثلاً، وهذا يحتاج إلى استقراء، وقد تجد أهل العلم يفسرونه في المواضع المختلفة بتفسيرات مختلفة غير متفقة أحياناً، وقد يرى بعض أهل العلم أن ذلك يرجع إلى معنى واحد، ولهذا قد يتفاوت الناس في تقدير هذه الأشياء هل هذا الحكم العام صحيح أو غير صحيح؟

وقوله -تبارك وتعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ، يعني يوفيهم جزاءهم، فالدين يأتي بمعنى الجزاء دِنّاهم كما دانوا أي جازيناهم مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] أي: يوم الجزاء والحساب، والله يقول: ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى [سورة النجم:41]، وقال: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ [سورة آل عمران:185]، والأجور هي الجزاء، وذكْر التوفية يدل على أن ذلك يكون بكمال لا يحصل به بخس، ونقص، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ [سورة البقرة:281]، وقوله الحق: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ أي: جزاءهم الحق، يعني الذي هو في غاية العدل والإنصاف، يوفيهم الله دينهم قال: الحق، فالحق يرجع إلى الدين يعني جزاءهم الحق فيكون المراد بذلك دينهم الحق أي الذي هو في غاية العدل والإنصاف كما جاء في آيات كثيرة: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة يونس:44]، إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [سورة النساء:40].

وهكذا في قوله: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7، 8]، وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:47] هذا كله راجع إلى هذا المعنى، لكنه جاء في قراءة بعض السلف بالرفع يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ فبهذا الاعتبار يكون الحق راجعاً إلى الله -تبارك وتعالى، وفي مصحف أُبيّ يومئذ يوفيهم اللهُ الحقُّ، الحق يكون من صفة الله -تبارك وتعالى، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ومن أسمائه -تبارك وتعالى- الحق.

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِين َوَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة النور:26].

قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول، للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، قال: ونزلت في عائشة وأهل الإفك.

وهكذا رُوي عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، والشعبي، والحسن بن أبي الحسن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك، واختاره ابن جرير، ووجَّهَهُ بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم؛ ولهذا قال: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.

وهذا -أيضًا- يرجع إلى ما قاله أولائك باللازم، أي: ما كان الله ليجعل عائشة زوجةً لرسول الله ﷺ إلا وهي طيبة؛ لأنه أطيب من كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له، لا شرعا ولا قدرا؛ ولهذا قال: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ أي: هم بُعَداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي: بسبب ما قيل فيهم من الكذب، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي: عند الله في جنات النعيم، وفيه وعد بأن تكون زوجة النبي ﷺ في الجنة.

قوله -تبارك وتعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِين َوَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ... قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، قال: ونزلت في عائشة وأهل الإفك، ثم ذكر من قال بهذا، وأنه اختيار ابن جرير، هذا الذي عليه الجمهور من المفسرين سلفاً وخلفاً أن الطيبات المقصود بها من الكلمات والأقوال للطيبين، وأن الطيبين من الناس للطيبات من الأقوال، فيكون المعنى كما قال الله -تبارك وتعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا [سورة الأعراف:58].

فالشيء من معدنه يستخرج، فأولائك من الطيبين إنما يصدر الطيب من الأقوال فينتقون من الكلام أحسنه، ولا يطلقون ألسنتهم فيصدر منها مالا يليق، وهكذا أيضاً الخبيثون للخبيثات، الخبيثون من الناس للخبيثات من القول فلا يصدر عنهم إلا السب واللعن والشتم والقذف والقبيح من الأقوال؛ لأنهم معدن لهذه الأشياء، كما أن الخبيثات من الأقوال الكلمات والألفاظ إنما تصدر من الخبيثين، فإذا كان الإنسان طيباً فإن لسانه يكون طيباً ولابد، والله يبغض الفاحش البذيء، والنبي ﷺ لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، والمؤمن ليس باللعان ولا الطعان ولا الفاحش ولا البذيء، هذا القول لا إشكال فيه، وابن جرير -رحمه الله- اختار هذا القول واختاره غيره كثيرون وعزاه النحاس لعامة المفسرين، ولكن ذلك ليس محل اتفاق.

ومن أهل العلم من يقول: إن المقصود بالخبيثات أي من النساء للخبيثين من الرجال، كما أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال وبالعكس.

وهذا القول يشكل عليه أن من الطيبين من قد يبتلى بامرأة ليست كذلك والعكس أيضاً، لكن جواب أصحاب هذا القول عن هذا الإيراد أن ذلك باعتبار الغالب، وإلا فكم من امرأة طيبة ابتليت برجل لا خلاق له والعكس، قالوا: باعتبار الغالب، وأن الطيور على أشكالها تقع، وكما وجه هذا في قوله على بعض المعاني في التفسير التي ذكرت: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [سورة النور:3].

وبعض أهل العلم مثل الشنقيطي -رحمه الله- ذكر تفصيلاً أدق من هذا، انظر الآية: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ قال: "الخبيثات يعني من الكلمات والأقوال، وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ الطيبات من الكلمات والأقوال لكن الطيبون للطيبات، الطيبون للطيبات مثلاً، الطيبون والخبيثون جمع مذكر سالم فهذا من الناس، الخبيثون من الناس، الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس، والطيبات من الأقوال للطيبين من الناس، يقول: إن هذا يوضح قول عامة أهل العلم، ولكنه في نفس الوقت يمكن حمل الآية على المعنيين، الخبيثات من الأقوال ومن النساء للخبيثين من الناس من الرجال.

وقوله -تبارك وتعالى- بعده: أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ يقول هنا ابن كثير -رحمه الله: واختاره ابن جرير ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم، ولهذا قال: أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ يقول ابن جرير: إن الطيبين إنما يصدر عنهم الطيبات من القول، فإن صدر عنهم خلاف ذلك فإنه لا يضرهم، وإن صدر في حقهم -يعني قال الناس فيهم كلاماً سيئاً- فإن ذلك إنما يضر قائله، ولا يضر هؤلاء الطيبين، وأما الخبيثون فإنه إن صدر عنهم الكلام الخبيث فإنه يضرهم، وإن قيل فيهم فإن ذلك هو مظنة السوء والخبث من الأوصاف والأحوال والأعمال، إن صدرت في حقهم فإن ذلك يضرهم، أما الطيبون فالله -تبارك وتعالى- قال في حقهم: أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ.

قال ابن جرير -رحمه الله: يعني مما يصدر عنهم، أو مما يقوله أهل الإفك، والذي عليه عامة أهل العلم أن المقصود أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ مما يقال فيهم، كما قال أهل الإفك في عائشة -ا، وظاهر كلام ابن جرير أنه حمله على الاحتمالين أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ أي إن صدر منهم كلام غير جيد فإنه لا يضرهم، وإن صدر ذلك في حقهم فإن ذلك لا يضرهم، لكن القول إن صدر منهم فإنه لا يضرهم هذا لا يخلو من إشكال وهو مؤاخذ على ما يقول، فإذا قذف أحداً من الناس أو شتمه أو لعنه والنبي ﷺ أخبر أن لعن المؤمن كقتله[6]، وقال: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر[7]

لكن قد يجيب ابن جرير عن هذا الإيراد فيقول: إنما مَن عُرف بلعن وبقذف وما أشبه ذلك، والمؤمن ليس باللعان ولا الطعان ولا الفاحش ولا البذيء، والكلام ليس عن هذا، وإنما عمن صدر منه ذلك على سبيل الفلتة في حال من الغضب والانفعال أو نحو ذلك، ليس ذلك من عادته ولا صفته ونحو هذا، ويمكن أن نجيب بهذا، وذلك في قصة أبي بكر الصديق لما نزل به أضياف ثم أمر ابنه أن يقوم بما يجب، فأبوا أن يأكلوا...، الشاهد أن أبا بكر شتم ولده، ثم قال لهم: كلوا لا هنيئاً ولا مريئاً، فمثل هذا إذا صدر في حال من الأحوال النادرة من الإنسان فقد يقول ابن جرير -رحمه الله: المقصود هذا، والحالات التي ليست من صفة الإنسان، ولا من عادته إنما هو من أهل الإيمان والكمال فيه فإن ذلك لا يضره إن صدر مثل هذا، بخلاف من كانت هذه عادته وديدنه، فهذا تخريج لقول ابن جرير.

لكن الأحسن -والله أعلم- أن يقال: إن الخبيثين من الناس للخبيثات من الأقوال والأوصاف والأعمال والأحوال هم مظنة ذلك، وإذا قيل ذلك في حقهم فهو مظنته، وأما الطيبون من الناس فللطيبات من الأقوال والأعمال والأحوال، وإن شئت تقول: النساء أيضاً، كما أن الخبيثين للخبيثات، والنبي ﷺ طيب، والله -تبارك وتعالى- لا يختار له إلا الطيبات من النساء، باعتبار النزول، النزول في عائشة -ا- قصة الإفك، لكن هذا يكون على سبيل الإلحاق، بمعنى أنه ليس هو المعنى الأساسي الأصلي ونحو ذلك، ويقال -والله أعلم: إن الأصل هو هذا: الطيبات من الأوصاف والأعمال والأحوال والكلمات والنساء للطيبين من الرجال والعكس.

أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، يُبرءون مما يقول أهل الإفك، وابن جرير يزيد عليه مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ مما يصدر عنهم من الطيبين، إن صدر منهم مالا يليق، والرزق الكريم عرفنا المراد به، والتنكير في المغفرة يدل على التعظيم، والمغفرة عظيمة لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ الرزق الكريم الطيب الذي لا تنغيص فيه بوجه من الوجوه.

وعبارة ابن جرير التي تقدم ذكرها وهي قوله: "الطيبون من الناس مبرءون من خبيثات القول، إن قالوها فإن الله يصفح لهم عنها، ويغفرها لهم"، هذا إذا كان على سبيل أنها ليست صفته، وليست ديدن هذا الإنسان، وإلا فلا يكون طيباً، وإن قيلت فيهم ضرت قائلها ولم تضرهم، كما لو قال الطيبَ من القول الخبيثُ من الناس لم ينفعه الله به؛ لأن الله لا يتقبله، ولو قيلت له ضرته؛ لأنه يلحقه عارها في الدنيا، وذلها في الآخرة، هذا نص كلام ابن جرير، ولكن قد لا يخلو من إشكال، فالخبيث إذا لم يكن كافراً وقال كلاماً طيباً ونحو ذلك الكلمة الطيبة صدقة، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، والأصل أن الإنسان مؤاخذ على ما يقول من شتم أو سب أو لعن أو نحو ذلك هو مؤاخذ عليه، والله أعلم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۝ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ۝ لَيْسَ عَلَيْكُم ْجُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [سورة النور:27-29].

هذه آداب شرعية، أدّب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان أمرهم ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا، أي: يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده، وينبغي أن يستأذن ثلاثًا، فإن أذن له، وإلا انصرف، كما ثبت في الصحيح: أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن له، انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما رجَعَك؟ قال: إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فلينصرف، فقال عمر: لَتَأتِيَنَّ على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربًا، فذهب إلى ملأ من الأنصار، فذكر لهم ما قال عمر، فقالوا: لا يشهد لك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخُدْريّ فأخبر عمر بذلك، فقال: ألهاني عنه الصَّفْق بالأسواق[8].

قوله -تبارك وتعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا كلام أهل العلم طويل وكثير جداً في المراد بالاستئناس، وذلك أنه وقع له شيء من الاستشكال من جهتين:

الجهة الأولى: معنى الاستئناس، هذه اللفظة.

والجهة الثانية: الاستئناس إذا فسر بالاستئذان فقد دلت السنة على أن الاستئذان يبدأ بالسلام "السلام عليكم أأدخل؟"، إذا قلنا: إن الاستئناس هو الاستئذان، والسنة تدل على أن السلام يقدم، وظاهر الآية إذا فسر بهذا التفسير قد يفهم منه أن الاستئذان يقدم على السلام وهذا محل الاستشكال، ولذلك كلام أهل العلم متفرق وكثير، الذي عليه عامة أهل العلم كثير من أهل العلم يفسرون الاستئناس بالاستئذان، وهذا منقول عن ابن عباس وسعيد بن جبير والإمام مالك، ومن المفسرين اختاره القرطبي، وهو قول ابن كثير، وفي قراءة لابن عباس وأٌبيّ بن كعب وسعيد بن جبير {حتى تستأذنوا}، ومعلوم أن القراءة الأحادية تفسر القراءة المتواترة وتبينها، وذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عن الطحاوي أنه قال: الاستئناس في لغة اليمن بمعنى الاستئذان، وفي مصحف ابن مسعود {حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا}، وهذا أيضاً مروي عن ابن عباس، واختار هذا القول ابن جرير -رحمه الله.

القول الثاني: إن المراد به الاستئناس قالوا: حتى تؤنسوا أهل البيت، نؤنسهم بإشعارهم بالتنحنح أو نحو ذلك، إصدار صوت من حركة النعل -أعزكم الله، أو التنحنح أو ما إلى ذلك حتى يعلموا ويشعروا بمجيئكم وإرادة الدخول عليهم، هذا قال به بعض السلف، وهو منقول عن مجاهد، وعن ابن زيد عبارة ابن جرير يقول في كلامه: إن الاستئناس هو أن يستأذن أهل البيت بالدخول عليهم مخبراً بذلك من فيه، وليؤذنهم أنه داخل عليهم، فليأنسَ إلى إذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم، وقد حُكي عن العرب سماعاً: اذهب فاستأنس هل ترى أحداً في الدار؟ بمعني انظر هل ترى فيها أحداً؟

فكلام ابن جرير لم ينتهِ بعد، لكن إذا تأملت في عبارة ابن جرير وهي دقيقة جداً فكأنه جمع بين المعنيين بين إطلاق الاستئناس على الاستعلام والاستكشاف كما سيأتي، وهذا معنى له في كلام العرب في كلام الاستئناس، ولازم هذا هو يستأنس: يستعلم هل يأذنون أو لا يأذنون، والمعنى الآخر وهو ما يقابل الاستيحاش فيأنس بإذنهم ويأنسون باستئذانه، وهذا بخلاف الذي يأتي ويدخل مباشرة ويفاجئون به وهو في الصالة، فسيستوحشون، ينقبضون ويقولون: من أين جاء؟ كيف دخل؟

وآيات الاستئذان جاءت في بعض الكلام على رمي المحصنات والقذف والآداب التي ذكرها الله ، وحكم هذه الفواحش إلى آخره فسدَّ الباب، فذكر لهم آداب الدخول على الناس؛ لئلا تقع عينه على شيء وأمور لا تحمد عواقبها، إما من مقارفات الفواحش يرى عورات الناس، ويرى المرأة متبذلة، أو غير ذلك مما قد يقع من قذف كأن يرى شيئاً يوجب ريبة فيتكلم في أعراض الناس، فيستأنس فلا يدخل على هؤلاء إلا وقد تهيئوا له؛ لأن الناس إنما يستروحون إذا خلوا في بيوتهم فيطمئنون فيها، ويتخففون في لباسهم وتصرفاتهم وجلوسهم وطريقتهم ومأكلهم.

فالإنسان إذا كان أمام الآخرين فإنه يكون متحفظاً بطريقته في جلسته وقيامه وقعوده وحركته، وأكله وشربه ولباسه، كل هذه الأمور لربما يكون لك على سبيل أو بشيء من التكلف الذي يرهق النفوس فإذا خلا وانفرد لوحده وضع عنه بعض هذه الثياب، وجلس كما يحلو له واطمأنت نفسه، واستروح أن عيون الآخرين لا ترقبه، وإذا أراد أحد الدخول عليه فإنه يشعره بذلك ويتهيأ له، لكن لو تخلى الناس عن هذه الآداب وصار الواحد يدخل متى شاء على الآخرين فإن الإنسان يبقى مترقباً دائماً، ولذلك تقع مشاكل، فمثل هذا قد لا يتصور: أناس يدخلون في البيت بدون أي استئذان، والقضية لا تتعلق بالأجانب والآخرين بل حتى أهل البيت، وتقع بسببها مشاكل كثيرة وشحناء في الطلاب الذين في الجامعة مثلاً هذا زميله في الغرفة أو بجواره في الغرفة المجاورة، أو أصحابه أو كذا وما يشعر إلا والباب يدفع وإذا به وسط الغرفة، هذا على أساس ما يوجد في البيت نساء، ما يوجد في الغرفة نساء، لكن القضية لا تختص بالنساء.

فالشاهد أن ابن جرير جمع المعاني الأصلية، والمعنى اللازم، فكلمة استئناس تطلق على ما يقابل الاستيحاش، وتطلق على معنى الاستكشاف والاستعلام، إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [سورة طه:10] آنس من جانب الطور ناراً؛ ولهذا انظر عبارته، يقول: الصواب أن الاستئناس هو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم مخبراً بذلك من فيه، فإذا استعلم وطلب الأنس بإذنهم، فإن الأنس يحصل لمن أذن له، وهم إنما يأنسون بمن يستأذن عليهم، يقول: وليؤذنهم أنه داخل عليهم فليأنسَ إلى إذنهم في ذلك ويأنسوا إلى استئذانه إياهم.

وذكر كلام العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً في الدار؟ بمعنى انظر هل ترى أحداً؟ قال: فتأويل الكلام إذاً "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا" ذلك أن يقول أحدكم: السلام عليكم أأدخل؟ وهو من المقدم الذي معناه التأخير، وإنما هو: حتى تسلموا وتستأنسوا، وهذا الجواب عن الإشكال إذا كان الاستئناس بمعنى الاستئذان، فكيف قدمه والسنة دلت على أن السلام مقدم؟ ومن يقول: الاستئذان هو المقدم على السلام أخذاً بظاهر الآية فهذا فيه نظر فالسنة تفسر القرآن، لكن يمكن أن يقال: إن الواو أصلاً لا تقتضي الترتيب، فالله ذكر الأمرين، والسنة دلت على الترتيب، وأن السلام مقدم على الاستئذان.

وأحسن من تكلم عن هذه المسألة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وخلاصة ما قاله ذكر المعنيين الأصليين للاستئناس: الأول هو الاستعلام، والثاني أنه يطلق على الاستيحاش فلان يأنس، وفلان استأنس يعني لم يستوحش، فهو يقول: إن هذا الإنسان الذي يستكشف ويستعلم ويستطلع هل يأذنون له بالدخول؟ وهل في البيت أحد؟ يحصل له هذا بالاستئذان، وإنما يأنس الإنسان بإذنهم إذا أذن له الدخول؛ لأن من يقف بالباب فهو مستوحش ما يدري ماذا يلقى؟ كيف يجاب؟ من يخرج إليه؟ ماذا سيقول له؟ فيبقى مستوحشاً فإذا أذنوا له فإنه يأنس بإذنهم، فقال: إنما هذه هي المعاني الأصلية، وجعلها مرتبطة بالاستئذان، وإنما يستعلم هل يأذنون له أو لا؟ وذلك باستئذانه ولا يأنس إلا بإذنهم فهذا كله يدل على أنه يستأذن.

لكن من فسر الاستئناس بالاستئذان فلا يكون قد فسره بمعناه الذي يدل عليه دلالة مباشرة -معناه الأصلي، وإنما كأنه فسره بلازمه أو نحو ذلك، والسلف قد يفسرون باللازم ولا إشكال، وسواء قيل هذا أو هذا حتى تستأنسوا وتسلموا، والإنسان الذي زال عنه الاستيحاش بالاستئذان أو استعلم بطريق الاستئذان يعرف كيف يأذنون أو ما يأذنون بالاستئذان، فيبقى أن الاستئناس أو الاستئذان مقدم على السلام، فيقال: السنة تبين هذا وتوضحه، والواو لا تقتضي الترتيب فيبدأ الإنسان بالسلام عليكم أأدخل؟

قد يقول قائل: اليوم الناس يطرقون الجرس فهذا هو استئذانهم، فكيف يقدم السلام وبيوت الناس صارت كبيرة وليست مثل السابق أن يتحدث عند الباب، فالبيت عبارة عن حجرة أو حجرتين يسمعونه، فيقال: إنه حينما يطرق عليهم فيجيبونه فإنه يبدأ بالسلام، السلام عليكم أأدخل؟ السلام عليكم أنا فلان أو نحو ذلك، ومن أراد أن يدخل بيته أو بيت أهله فإن هذا ينطبق عليه أيضاً، ولكن ذلك يخفف في حقه، لكن الأجنبي لا يدخل حتى يؤذن له، وهذا ليس على مرتبة واحدة في جميع الحالات. 

فالإنسان إذا كان مدعوًّا وجاء ووجد الباب مفتوحاً أو جاء مع الرسول الذي بُعث إليه فيدخل مباشرة، وإذا كان الإنسان داخلاً على أهله فإن كانت زوجته فإنه يحسن أن يشعرها بدخوله، إما أن تعرف من عادته أن يطرق الجرس طرقة واحدة ثم يدخل أو بالتنحنح كما ورد عن بعض السلف أو نحو ذلك؛ من أجل أن تتهيأ لمقابلته ولا يراها في حال يكرهها، فيفاجئها، والناس لا يحبون هذا، والمرأة لا تحب أن زوجها يفجؤها في دخوله عليها مع أن ذلك لا يجب عليه؛ لأن الله قال: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، لكن هذا من الأدب الحسن الذي يجب للإنسان أن يفعله.

وأما إذا كان في البيت أحد من محارمه كالأخت والأم ونحو هذا والبيت له فالله قال: بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ فجاء عن جماعة من السلف لما سئل بعضهم عن هذا كان يقول للسائل: أتحب أن تراها عريانة؟ يحتاج أن يُشعرها، لكن اليوم في حالنا هذه يمكن أن يقال: هذا يتفاوت ويختلف، فإذا أراد أن يدخل البيت الذي فيه أهله من محارمه من أخواته وزوجته، وقد يكون معه زوجة أو قد لا يكون، فإنه يشعرهم بدخوله، بدخول البيت بالتنحنح، أو بما عودهم، لكنه إذا أراد أن يدخل داراً أو غرفة تختص بإحدى هؤلاء النساء والمحارم فإنه يحتاج أن يستأذن من الناس، فقد تكون في حجرتها متبذلة في لباسها، أو تغير ملابسها فيستأذن؛ لأن ذلك المحل يختص بها، فيفرق بين هذا وهذا.

ولهذا السلف يختلف فقههم في هذه المسألة من حين إلى حين، فابن عباس في مسألة الاستئذان كما في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ [سورة النور:58] الآية، كان يرى أن ذلك قبل أن تكون البيوت من الغرف، أو للبيوت ستور وغرف؛ فقد يدخل هذا الصبي أو يدخل هذا المملوك عليهم والرجل يواقع أهله أو نحو ذلك، فذكر العورات الثلاث، فابن عباس يرى أن الله وسع على الناس وصار للبيوت ستور ونحو هذا فالأمر اختلف، لكن هذا يقال في دخول البيت، أما دخول الغرفة المختصة بهم فلابد من الاستئذان بلاشك. 

لكن الناس الآن توسعوا وصارت بيوت الناس كبيرة، وصار لكل إنسان غرفة تختص به في الغالب أو اثنتان أو نحو هذا، فلا يدخل حتى يستأذن؛ لئلا يقع بصره على ما يكره، أو ما يكره الناس ما يرى منهم، أما دخول البيت عموماً فإنه لا إشكال فيه، ولهذا كان ابن مسعود إذا أراد أن يدخل داره استأنس هكذا جاء في الرواية، بمعنى تكلم ورفع صوته، ومجاهد فسر تستأنسوا قال: تتنحنحوا أو تتنخموا، والآن ضغطة في الجرس تشعرهم ويعرفون هذا منه أو ضغطة معينة له خاصة به يعرفون أن هذا فلان مباشرة، حتى الصغار إذا اعتادوا على هذا وسمعوا ذلك يقولون: فلان جاء، وجاءوا لاستقباله، وهذا الأدب متردد بين الوجوب في بعض الحالات وبين الاستحباب.

لكن من أهل العلم من يقول في مسألة تقديم الاستئذان وعدمه: من يقع بصره على إنسان يسلم يقول: السلام عليكم أأدخل؟ وإذا لم يقع بصره فإنه يستأذن، وابن كثير يقول: يقدم الاستئذان، لكن عامة أهل العلم يقولون: نقدم السلام لكن قد لا يتأتى هذا في وضعنا الحالي إلا بما ذكرت، ومسألة الترتيب والواو إلى آخره لا تقتضي الترتيب، وهنا مسائل كثيرة تتعلق بهذا مثل العرف وأثره في هذه القضية.

هذا أبو عبد الملك مولى أم سكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب يقول: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي فلما قام بالباب قال: أندر؟ قالت: أندرون، يعني فهذه تستعمل في بعض النواحي، لكن يقصد بها أخرج، أندر، لكن كانوا يستعملونها بمعنى أأدخل؟ وجاء عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل أصفهان نزل المدينة فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: أندرون، فلقبه أهل المدينة بالدراوردي، فهي كأنها كلمه غير عربية فقالوا له الدراوردي، وتبقى بعض المسائل مثلاً الآن استأذن ثلاثاً إذا كان مدعوًّا أو غلب على ظنه أنهم لم يسمعوه -هو يعرف أن الجرس عندهم ضعيف، أو بعيد عن جلوسهم- يزيد أو لا يزيد؟

فمن أهل العلم من قال: لا يزيد، ومن نظر منهم إلى المقصود، وقال: إن ذلك لا يعني أنهم لا يريدون الإذن له، وإنما لم يسمعوه، فله أن يزيد على ذلك، ولهذا قال الإمام مالك -رحمه الله: لا أحب أن يزيد على الثلاث إلا إذا علم أنه لم يُسمع، وقصة عمر مع أبي موسى قالوا عن الاستئذان ثلاثاً، كذلك النبي ﷺ استأذن على سعد بن عبادة ثلاثاً السلام عليكم فلم يجيبوه، وإنما أجابه سراً ليستكثر من تسليم رسول الله ﷺ عليهم. 

وهكذا من الآداب أنه لا يقول: أنا، وقد جاء ما يدل على كراهته في الحديث المخرج في الصحيحين عن جابر استأذنت النبي الله ﷺ فقال: من هذا؟، قلت: أنا، فقال النبي ﷺ: أنا، أنا، كأنه كرهها[9]، هذا بل من الطريف ما جاء عن بعض أهل العلم شعبة بن الحجاج أو غير شعبة أنه كان إذا دُق بابه قال: من هذا؟ وإذا قال المستأذن: أنا، كان يقول: أنا همٌّ دق، همٌّ دق: يعني هذا أمر غير مستساغ ولا مستحسن؛ لأنه إذا قال: أنا لم يجب، وكذلك إذا أتى بكنية غير معروفة كأن يقول مثلا: أبو محمد فكم من الناس أبو محمد، فعليه أن يذكر ما يعرف به، ويتميز، فلا يلتبس مع غيره، وابن كثير تعرض إلى بعض هذه المسائل التي أشرت إليها، وليس من العادة.

وروى الإمام أحمد عن أنس -أو غيره- أن رسول الله ﷺ استأذن على سعد بن عبادة فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي ﷺ حتى سلم ثلاثًا، ورد عليه سعد ثلاثًا ولم يُسْمعه، فرجع النبي ﷺ، واتبعه سعد فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما سلمتَ تسليمة إلا وهي بأذني، ولقد رَدَدْت عليك ولم أُسْمِعك، وأردتُ أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت، فقرَّب إليه زَبيبًا، فأكل نبي الله، فلما فرغ قال: أكل طعامَكم الأبرار، وصَلَّت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون[10].

ثم ليُعْلمْ أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليَكن البابُ عن يمينه أو يساره؛ لما رواه أبو داود عن عبد الله بن بُسْر قال: كان رسول الله ﷺ إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور[11]، تَفرد به أبو داود.

وفي الصحيحين، عن رسول الله ﷺ أنه قال: لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح[12].

وأخرج الجماعة عن جابر قال: أتيتُ النبي ﷺ في دَين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: من ذا؟، قلت: أنا، قال: أنا، أنا، كأنه كرهه.

وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرَف صاحبها حتى يُفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها، وإلا فكل أحد يُعبِّر عن نفسه بـ"أنا"، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس: الاستئناس: الاستئذان، وكذا قال غيرُ واحد.

وقد روى الإمام أحمد أن كَلَدَةَ بن الحنبل أخبره أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بِلبَأ وجَدَايَة وضَغَابيس، والنبي ﷺ بأعلى الوادي، قال: فدخلتُ عليه ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي ﷺ: ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟، وذلك بعدما أسلم صفوان[13].

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب.

يقول روى الإمام أحمد عن كلدة بن الحنبل، كلدة بن عبد الله، وقيل: كلدة بن قيس هذا أخٌ لصفوان بن أمية لأمه هو الذي شهد معه موقعة حنين، وقال ما قال في القصة المعروفة لما هزم المسلمون في أول الأمر قال: الآن بطل سحر محمد، والله لا يردهم إلا البحر، فقال له صفوان: اسكت ثكلتك أمك، والله لئن يَرُبَّني رجل من قريش أحب إلي من أن يَرُبَّني رجل من هوازن، هذا أخوه لأمه كلدة بن الحنبل قال: إن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ، واللبأ بالفتح أو الكسر، هو يكون بعد الولادة يكون حتى هذا في المرأة ولذلك يقول الأطباء: الإرضاع في أول الأيام في غاية الضرورة؛ لأن الصبي لا يستغني عن هذا بحال، فيكون في الأيام الأولى من الولادة فهذا الحليب أو اللبن إذا أخذ فإذا عرضته على النار غلي فإنه ينعقد يتخثر حتى إنه لا يشرب شرباً، وإنما يؤكل أكلاً، قال: بلبأ وجداية، والجداية يعني ما له حتى ستة أشهر أو ما لم يبلغ ستة أشهر من ولد الظبية ذكراً كان أو أنثى يقال له: جداية، قال: جداية وضغابيس، والضغابيس هيصغار القثاء، والقثاء هو القرع، فهو من جنس الخيار، قثاء، كان يأكل القثاء بالرطب، والنبي ﷺ بأعلى الوادي، يعني بأعلى مكة بوادٍ غير ذي زرع يعني كان بأعلى مكة عام الفتح.

وقال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس ، قال: ثلاث آيات جَحَدها الناس: قال الله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [سورة الحجرات:13]، قال: ويقولون: إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتًا، قال: والإذن كله قد جحده الناس، قال: قلت: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري، معي في بيت واحد؟ قال: نعم، فرددت ليرخِّص لي، فأبى، قال: تحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا، قال: فاستأذن، قال: فراجعته أيضاً، فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قلت: نعم، قال: فاستأذن.

قال ابن جُرَيْج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عريتها من ذات محرم، قال: وكان يشدد في ذلك.

وقال ابن جريج، عن الزهري: سمعت هُزَيل بن شُرَحْبِيل الأوْدِيّ الأعمى، أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم.

وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا.

وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها.

وروى أبو جعفر بن جرير عن ابن أخي زينب -امرأة عبد الله بن مسعود، عن زينب -ا، قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق؛ كراهية أن يهجُم منا على أمر يكرهه[14]. إسناد صحيح.

لهذا الإمام مالك -رحمه الله- يقول: أرى أن يستأذن على أمه وأخته، والإمام أحمد -رحمه الله- يقول: يتنحنح، ويحرك الباب يعني يشعرهم متى إذا دخل بيته، وفيه أمه أو أخته أو نحو ذلك.

وقال مقاتل بن حيَّان في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه، ويقول: حُيِّيتَ صباحًا وحييت مساء، وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم، ويقول: "قد دخلتُ"، فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغَيَّر الله ذلك كله، في ستر وعفة، وجعله نقيًا نزِهًا من الدنس والقذر والدرَن، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا.

وهذا الذي قاله مقاتل حسن؛ ولهذا قال: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني: الاستئذان خير لكم، بمعنى: هو خير من الطرفين: للمستأذن ولأهل البيت، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

وقوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ، وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فإن شاء أذن، وإن شاء لم يأذن وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ أي: إذا رَدُّوكم من الباب قبل الإذن أو بعده فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ أي: رجوعكم أزكى لكم وأطهر وَاللهُ بِمَا تَعْملُونَ عَلِيم.

وقال قتادة: قال بعض المهاجرين: لقد طلبتُ عمري كلَّه هذه الآية فما أدركتها: أن أستأذنَ على بعض إخواني، فيقول لي: "ارجع"، فأرجع وأنا مغتبط لقوله: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْملُونَ عَلِيمٌ.

وقال سعيد بن جبير: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي: لا تقفوا على أبواب الناس.

قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني الاستئذان وعدم دخول بيوت الناس إلا بإذنهم ذلكم خير لكم لما فيه من المصالح التي ترجع إلى هؤلاء، وترجع أيضاً إلى الداخلين والمستأذنين، فيكون فيه سد الطريق والباب على ما ذكر قبله من الآداب في الآيات فيما يتصل بمقارفة مالا يليق من الفواحش أو إطلاق الألسن في أعراض الناس إذا دخل عليهم من غير إذنهم في بيته، وقد يرى أموراً لربما أغرته بالفاحشة أو تعلق قلبه بما رأى أو نحو ذلك، ولربما تكلم في حق الناس هؤلاء وقذفهم؛ ولهذا حتى الرجل وحتى الزوج، وكذا النبي ﷺ نهى أن يأتي الرجل أهله إذا كان في سفر أن يأتيهم ليلاً؛ لئلا يتخون أهله، وهذا إذا كانوا لا يشعرون بمجيئه، لكن إذا كانوا يعلمون واتصل بهم ولم يكن مجيئه مفاجئاً فلا إشكال.

ثم قال: فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ هذا في البيوت التي فيها أهل وساكنون، وهذا خلاف البيوت غير المسكونة التي ذكر الله بعد ذلك لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ [سورة النور:29]، فهذه في البيوت الأولى في بيوت الناس التي لها أهل وساكنون لكنهم قد سافروا أو خرجوا لحاجة أو نحو ذلك فلا يجوز لك أن تدخل ولو كان الباب مفتوحاً، وإذا كانوا غير موجودين فليس لك أن تُدخل صاحبك يسكن في غرفة أو نحو هذا، وإذا طرقت عليه وهو غير موجود والباب غير مغلق فليس لك أن تدخل؛ لأن بيوت الناس المسكونة لها حرمة.

قال: فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ من نواحٍ شتى هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ففيه تربية للنفوس على الترفع والتنزه، بحيث إن الإنسان يكون مهذباً لا يستثقل الحق، ولا يتبرم به؛ لأن من الناس من يثقل عليه هذا ويعظم عليه، فإذا قالوا له: عفواً لا نستطيع مقابلتك واستقبالك أو نحو هذا فهو يرى أن مجيئه يحتم عليهم أن يدخلوه، ولا خير له في هذا؛ لأن من عُرف عنه أنه يغضب أو يحمل في نفسه أو يتبرم باعتذارهم فإنهم سيضطرون إلى الإذن له، وإدخاله لكنهم كأن الواحد منهم على رماد حار أو على نار يتململ متى يمشي؟ متى سيذهب؟ يستثقلون بقاءه ومجيئه، وهذه قد تكون أحد الأسباب -لاسيما إذا تكرر من الإنسان- التي تُلحقه بالثقلاء.

وهذه الصفة أحياناً تكون غير مكتسبة يعني بل يبتلى بها الإنسان، يكون ثقيلاً، بمجرد ما تراه تستثقله هذا مجرد ما تراه، وأحياناً تكون هذه الصفة مكتسبة بسبب أو بآخر إما بأسئلة سخيفة كلما جلس وجهها، يسأل الناس عن شئونهم الخاصة، أين تشتغل؟ وكم مرتبك؟ ومن هو هذا؟ كم عدد أولادك؟ وهكذا، أو يردد كلمات معينة طول المكث، بعض الناس إذا جاء يقول: كيف الحال عساك طيب، الحمد لله، كيف الحال؟ الحمد لله، عساك طيب الحمد لله، وهكذا يعيد لك هذا سبع مرات أو ثماني، فيقال: هات الذي عندك واختصر، وما في داعٍ تعيد هذه الكلمات ونحن فقط الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله فهذا يستثقل.

وهكذا إذا كان الإنسان يطيل المكث بلا حاجة إذا دخل عُرف أنه سيضيع عليهم الأوقات، فإن كان جاء في الصباح فمعنى ذلك أن الصباح قد ذهب، وإذا جاءهم في العصر، فالعصر كله ذهب، فالناس يستثقلون هذا ولا يتحملونه، ومن الناس من يتولاهم ولو كان بالهاتف إذا جلس يسأل بعد صلاة العصر مباشرة فإلى أذان المغرب بل إلى الإقامة ما تنتهي أسئلته، لا تنتهي هذه الأسئلة بل لربما يريد أن يقرأ عليك رسالة في الهاتف كتبها، رسالة، كتاب! ولا يمهلك، يبدأ يقرأ يا ابن الحلال أنا ما أستطيع أن أسمع، الوقت لا يسمح، ولا يبالي أصلاً جالس يقرأ مستمر تتوسل وتحاول أن تقنعه أنه لا يمكن، هو يقرأ مسترسل، هذه الأشياء موجودة حتى في رمضان في صلاة العصر إلى أذان المغرب، يا أخي ما أنت صائم، أذن المغرب ما تفطر؟ يقرأ مسترسل من بعد صلاة العصر أو يسأل أسئلة ما هو العمل الصالح، الصلاة، والصيام، والصدقة، والزكاة، وبعد....، وبعد.....، الحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الكلمة الطيبة، يريد منك أن تشرح له حتى الصباح من غير مراعاة للمشاعر.

فالإنسان الذي يستأذن على الناس ويتبرم بهم إذا اعترضوا منه هذا يجعل الناس يستثقلونه، هذا من أحد الأسباب المكتسبة التي تجعل الإنسان ثقيلاً، فلا يتحملونه، وما الخير في الإنسان أن الناس لربما راعوه وداروه من أجل أن يكف شره عنهم، يقول: دعه يدخل ويجلسون يتململون، وكلٌّ يقول: لا إله إلا الله، اللهم صلِّ على محمد، وهو لا يشعر بأنهم يتململون، وهكذا إذا كان الإنسان وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ إذا كان الإنسان مستجيباً لأمر الله فإن هذا هو نوع عبودية وطاعة، وتهذيب للنفوس، فكما أن هذا من القضايا التي تتعلق بالأخلاق فهو يرجع إلى الناس أيضاً فلا يُستثقل الإنسان، وشر الناس من أحسن الناس إليه اتقاء شره، فيزورونه إذا مرض أو يأتون لمناسباته أو نحو ذلك يقولون: فلان يزعل لازم نذهب لزيارته، ويتجشم ويركب الصعب والذلول ويترك ما هو فيه من أشغال من أجل مراعاة خاطره، لئلا يغضب؛ لأنهم يعرفون أنه يتحامل عليهم، لماذا لم يأتِ فلان، ولماذا كذا؟ فقال الله -تبارك وتعالى: فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ.

وقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ هذه الآية الكريمة أخصُّ من التي قبلها، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد، إذا كان له فيها متاع، بغير إذن، كالبيت المعد للضيف، إذا أذن له فيه أول مرة كفى.

قال ابن جريج: قال ابن عباس: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، ثم نسخ واستثني فقال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وكذا روي عن عكرمة، والحسن البصري.

قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ غير مسكونة ما المراد بها؟ بعض أهل العلم يقول: المراد بها بيوت مكة باعتبار أنها حق للجميع على قول بعض أهل العلم، فإذا كان لا يوجد فيها ساكن فمن حقك أن تسكن من غير استئذان، وهذه مسألة معروفة والخلاف فيها معروف، و منشؤها الخلاف، والأقرب أن الآية لا تحمل على هذا.

وبعضهم قال: إن ذلك يحمل على البيت المُعد للضيف، فإذا خلّوا بينه وبينه أول مرة أُذن له فلا يحتاج كل مرة أن يستأذن، كلما جاء دخل مباشرة، والله -تبارك وتعالى- قال: غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ الأقرب -والله أعلم- أن ما قاله السلف يدخل في ذلك، فذكروا من ذلك الأماكن الخربة يدخلها الناس من المسافرين وغيرهم؛ لقضاء الحاجة، فيها متاع، متاع قضاء الحاجة، وقد يكون هذا المتاع الظل يستظلون بها، فهي أماكن متروكة ما فيها أحد، بيوت تبنى في الطريق -السفر، وتُبنى مقاهٍ ومطاعم مهجورة، فدخلها ليستظل بها مثلاً، وإذا كان في طريقه إلى الحج والعمرة أو نحو ذلك ووجد عمارة تبنى فجلس في ظلها جلس يأكل فيها أو نحو هذا لا حرج عليه، فلا يحتاج أن يستأذن.

 غَيْرَ مَسْكُونَةٍ، يعني لا ساكن لها، وقل مثل ذلك في الأماكن التي كان –قديماً- يضع الناس فيها أمتعة لهم من المسافرين كالأقتاب وغيرها، أماكن أشبه بالأماكن الخربة، فيدخلونها فيضعون هذه الأشياء يتخففون بالأسفار فلذلك يرجعون فيها، ويأتون متى شاءوا، وهكذا يدخل فيه الأماكن التي لا ساكن لها مثل الأسواق، والمكاتب العامة، وكذلك يدخل فيه الفنادق غير غرف النزلاء ونحو هذا وما شابهه، فهذه فيها أناس لكنها مأهولة غير مسكونة، والذي يقابل المأهولة المهجورة، كالأماكن الخربة ونحو هذا. 

وأما المسكونة التي فيها ساكن، فالغرف التي في الفنادق هذه مسكونة، كلها تُدخل باستئذان، لكن حينما يدخل من باب الفندق أو المستشفى فإنه لا يحتاج أن يستأذن، لكن إذا كان مظنة عورات مثل غرفة الطبيب قد يكون عنده مريض فيجب أن يستأذن، بخلاف الأسواق فهي فتحت لهذا، فهي مأهولة غير مسكونة، وكذلك المطعم، لكن مطاعم عائلية وفيها ناس يحتاج أن يستأذن، فيدخل في قوله: غَيْرَ مَسْكُونَةٍ الأماكن المهجورة الخربة ونحو هذا، ويدخل فيه الأماكن المأهولة غير المسكونة كالأسواق المتاجرة والمكاتب العامة، ولو دخل في شركة أو في مؤسسة حكومية ونحو ذلك فهذه مأهولة غير مسكونة، فلا يحتاج أن يستأذن إلا إذا كان المقام يقتضي هذا، كأن يدخل على مكتب خاص هذا المكتب لا يسمحون للدخول هكذا إلا بإذن فيستأذن، قال: فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وهذا المتاع يشمل قضاء الحاجة، والظل، والشراء، والنوم، والراحة، والأكل كل هذه الأشياء، والله أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10]، برقم (2615)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (89).
  2. رواه مسلم، في أول كتاب الزهد والرقائق، برقم (2969)، والنسائي في السنن الكبرى، (11653).
  3. رواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، برقم (2125).
  4. رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، برقم (1978).
  5. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، برقم (2845)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة، برقم (2494).
  6. رواه أحمد في المسند، برقم (16385)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، يحيى بن سعيد: هو القطان، ويزيد: هو ابن هارون، وهشام: هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، ويحيى: هو ابن أبي كثير الطائي، وأبو قلابة: هو عبد الله بن زيد الجرمي، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (712).
  7. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، برقم (47)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي ﷺ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، برقم (64).
  8. رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الحجة على من قال إن أحكام النبي ﷺ كانت ظاهرة وما كان يغيب بعضهم من مشاهد النبي ﷺ وأمور الإسلام، برقم (6920)، ومسلم، كتاب الآداب، باب الاستئذان، برقم (2153).
  9. رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب إذا قال من ذا؟ فقال: أنا، برقم (5896)، ومسلم، كتاب الآداب، باب كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل من هذا؟ برقم (2155).
  10. رواه أحمد في المسند، برقم (12406)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصحح إسناده الألباني في آداب الزفاف (98).
  11. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان؟ برقم (5186)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4638).
  12. رواه البخاري، كتاب الديات، باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان، برقم (6493)، ومسلم، كتاب الآداب، باب تحريم النظر في بيت غيره، برقم (2158).
  13. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة، (15)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب كيف الاستئذان، برقم (5177)، والترمذي واللفظ له، كتاب الاستئذان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في التسليم قبل الاستئذان، برقم (2710).
  14. رواه أحمد في المسند، برقم (3615)، وقال محققوه: صحيح لغيره.

مواد ذات صلة