الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
(5) من قوله تعالى: {كَذّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} الآية:123 إلى قوله تعالى: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} الآية:159
تاريخ النشر: ١١ / ربيع الأوّل / ١٤٣١
التحميل: 5300
مرات الإستماع: 5699

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

كَذّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتّقُونَ ۝ إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ۝ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ۝ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ آيَةً تـَعْبَثُونَ ۝ وَتَتّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلّكُمْ تَخْلُدُونَ ۝ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ ۝ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ۝ وَاتّقُواْ الّذِيَ أَمَدّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ۝ أَمَدّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ۝ وَجَنّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الشعراء:123-135].

وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود أنه دعا قومه عاداً، وكان قومه يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل قريباً من حضرموت، من جهة بلاد اليمن، وكان زمانهم بعد قوم نوح، كما قال في سورة الأعراف: وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [سورة الأعراف:69]، وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد، والطول المديد، والأرزاق الدارّة، والأموال والجنات والأنهار، والأبناء والزروع والثمار، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه، فبعث الله هوداً إليهم، رجلاً منهم رسولاً وبشيراً ونذيراً، فدعاهم إلى الله وحده، وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه، فقال لهم كما قال نوح لقومه، إلى أن قال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فقوله -رحمه الله: وكان قومه يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل قريباً من حضرموت، المؤرخون يقولون: إن عاداً وثمود من قبائل العرب البائدة، عاد، والقول هنا يسكنون الأحقاف وهي جبال الرمل، ويعرف اليوم بالربع الخالي، وهذا يدل على أنها قديمة جداً، لكن بعض من يتكلم في هذه الأشياء من بعض أهل العلوم المتعلقة بالأرض من أن هذا حصل، نزوح الأتربة والرياح وما أشبه ذلك، هذا قديم، عاد جاءوا بعد قوم نوح فهم من أقدم الأمم، وإذا كانت هذه الرمال بهذه المثابة من ذلك العهد فالجبال من باب أولى، ومن تأمل في ما جاء في الكتاب والسنة وفي الأخبار أيضاً يجد أن كثيراً من المعالم التي على وجه الأرض باقية كما هي في الجملة.

فقال لهم كما قال نوح لقومه، إلى أن قال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ اختلف المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جَوادّ الطرق المشهورة، يبنون هناك بنياناً محكماً هائلاً باهراً.

قوله: الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جوادّ الطرق المشهورة، هذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، بمعنى أنهم يبنون أبنية في مداخل المدينة لا حاصل ولا فائدة ولا طائل منها، كما تشاهد اليوم بنايات على أشكال وصور إما على صورة قلعة، وإما على صورة ما يشبه المئذنة أو ما يشبه المجمرة، أو غير ذلك، تبنى بالملايين، ولا فائدة منها، أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ فهي على هذا التفسير بنايات لا تسكن، ولا ينتفع بها، إنما هي زيادة في الترف وتضييع الأموال من غير فائدة، ولهذا قال: أَتَبْنُونَ.

ولهذا قال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً أي: معْلماً بناء مشهوراً.

وهذا لا يخالف قول من قال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً أي: بكل طريق، وهكذا قول من قال: بِكُلِّ رِيعٍ أي: بكل جبل، وقول من قال: الفج بين الجبلين يقال له: رِيعٍ، وبعضهم يقول: الثنية الصغيرة يقال لها: رِيعٍ، وهنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: هو المكان المرتفع عند جوادّ الطرق المشهورة، يعني أن ابن كثير جمع بين هذه الأقوال بهذه الطريقة، قول من قال: طريق بين جبلين، المكان المرتفع هو الطريق، رِيعٍ هو الطريق، تبنون بكل ريع أي مكان مرتفع عند جوادّ الطرق، فتكون عبارة ابن كثير هذه على اختصارها جامعة للأقوال التي ذكرها المفسرون هنا، وبهذا تعرف قدر هذا الكتاب.

تَعْبَثُونَ أي: وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه، بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة.

يحتمل أن يكون هذا العبث: مجرد البناء يعني بنايات لا يسكنها هؤلاء ولا غيرهم ممن يكون مثلاً من المسافرين، والمارة ونحو ذلك، وإنما تبنى لمجرد العبث واللهو، وإظهار القوة، وبعضهم يفسر قوله: تَعْبَثُونَ يعني تؤذون المارة، تُشرفون منها وتؤذون المارة، وبعضهم يقول: تأخذون العشور يعني المكوس، أن هذه على جوادّ الطرق فيبنون هذه الأبنية التي يحصلون من المارة بها المكوس والضرائب، آيَةً تَعْبَثُونَ.

وليس هذا هو المتبادر من معنى العبث إذا أطلق: أنه أخْذ المكوس -وأخذ المكوس حرام، هذا والظاهر -والله تعالى أعلم- أن ما ذكر أولاً هو الأقرب في المعنى، هذا البناء إنما هو عبث تبنونه عابثين من غير حاجة، والبناء من غير حاجة هو لون من العبث.

ولهذا أنكر عليهم نبيهم ، ذلك؛ لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة؛ ولهذا قال: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ قال مجاهد: المصانع: البروج المشيدة، والبنيان المخلد.

يعني على هذا أن المصانع البروج المشيدة كالقصور العظيمة، يعني أنكم تبنون بناء من لا يخاف الموت ولا يرجوه، كأنه يبقى مخلداً في هذه الحياة الدنيا، على هذا التفسير، قال مجاهد: المصانع: البروج المشيدة، وبعضهم يقول: الحصون المشيدة، وبعضهم فسرها بما هو معروف فيما يذكر بكتب الفقه، يقول: كمصانع طريق مكة، كما في زاد المستقنع في المياه من كتاب الطهارة.

والمقصود بالمصانع في كلام الفقهاء وهي لا زالت موجودة في بعض البلاد التي يعيش أهلها بنفس الطريقة التي كان يعيش الناس فيها قبل ألف سنة، وقد رأيت هذا في بلاد لا يوجد فيها كهرباء ولا سيارات ولا شيء كأن الناس قبل ألف سنة، أو ألفين، أو ثلاثة آلاف سنة تماماً، ينتقلون على الدواب إذا وجدوها، ويصنعون حفرةً كبيرة في الأرض خزانَ ماء ضخماً، يمكن أن يكون عشرين متراً في عشرين مثلاً، وهو عميق نحو عشرة أمتار، ويضعون في جوانبها من الأسمنت ونحو هذا، ثم يضعون ما حوله وفوقه إن كان مسقوفاً، ومداخل للماء في موضع تأتي الأمطار والسيول فيه، فإذا جاء المطر دخل، واجتمع، فيبقى يجتمع فيه سائر العام، ثم بعد ذلك يستخرجون منه الماء، خزان استخرجوا منه الماء كلما احتاجوا، يعني هو ليس بئراً وإنما خزان مياه من البحر، فهذه يجتمع فيها مياه كثيرة، ويدخلها ما يدخلها مع المطر من أوراق الشجر والحشرات وأشياء كثيرة جداً في داخلها، فهذه يقال لها: مصانع، فهنا بعضهم يقول: إن المصانع المقصود بها مصانع المياه وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وهذا قال به الزجاج.

لكن هل اتخاذ المصانع -هذه الحياض أو البرك- للمياه وهم بحاجة إليها تقوم عليها حياة الإنسان والحيوان، وهذا لا يكون من الترف، ومن التوسع في أفراد المعيشة وألوانها، وإنما من الضرورات، وليس ذلك من المياه التي لربما نحن لا يمكن أن نشربها؛ لأنها غير نقية، وإنما توضع في الأماكن الجافة التي لا يستطيع أهلها الحصول على الماء، لا تأتيهم الأمطار، وليس فيها أنهار، وليس الماء قريباً منهم حتى يُستخرج من الآبار، فيخزن الماء هذه المدة الطويلة ويتغير ويأسن، وتنظيفها متعذر، فقول الزجاج: إنها مصانع المياه يبدو أنه فيه بعد هنا -والله تعالى أعلم.

والإمام عبد الرزاق الصنعاني يقول: هي عندنا في اليمن القصور العالية، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ وهذا مثل ما ذكر ابن كثير -رحمه الله- المصانع: البروج المشيدة والبنيان المخلد، والبرج هو الشيء المشرف المرتفع من البناء، يقال له: برج بظهوره وانكشافه للناظرين، فبعضهم يقول: هو للحصون المشيدة، وبعضهم يقول: القصور، وهنا قال: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ واتخاذ الحصون أمر معروف في التاريخ منذ القدم، والناس بحاجة إليها من أجل الدفاع عن البلاد والحريم، فهل مثل هذا -يعني وضع الحصون- يعد توسعاً في المعيشة لاسيما في أوقات الخوف وما أشبه ذلك؟

الذي يبدو -والله تعالى أعلم- أن ذلك ليس بعيب، ولهذا فإنّ حمْله -والله تعالى أعلم- على التوسع في البناء في القصور هذا الذي يعاب قال: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي: كأنكم تخلدون، وإنما يكون كما هو هدي النبي ﷺ وكما جاء عنه قولاً، قال: مالي وللدنيا، إنما أنا والدنيا كمثل راكب استظل في ظل شجرة[1]، والأحاديث في هذا الباب معروفة ومشهورة، وكانت بيوته ﷺ كما جاء عن بعض من شاهدها من التابعين، الواقف يمس السقف بيده، من جريد، فهي إنما تكفي الإنسان في حياته هذه القصيرة، مدة يتمتع بها ثم بعد ذلك يفارقها، فإذا بنى الإنسان البناء الفخم المشيد العظيم الذي لا يصلح لمثل هذه الحياة القصيرة، فهذا من التوسع والترف المذموم، وهؤلاء كانوا بهذه المثابة وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ يعني: القصور العالية، فهذا مذموم -والله تعالى أعلم.

وابن جرير -رحمه الله- جوز هذه الاحتمالات، أن يكون المقصود بها الحصون أو أن المقصود بها القصور أو غير ذلك مما ذكر، يعني أن الله لم يخص شيئاً من هذه المعاني، وكله يقال له: مصانع، لكن قطعاً لا يصح أن تحمل نصوص القرآن على معنى أو اصطلاح حادث أو صار مشهوراً في مثل هذا العصر، أو في عصر بعد عصر المخاطبين في القرآن، والمراد بـ المخاطبين في القرآن: يعني الآن إذا أطلق لفظ مصانع فالمتبادر محل الصناعة، وليس ذلك بالمراد، اتخاذ المصانع وبناء المصانع أمر مطلوب، ولابد منه، ولا ينكره أحد، فليس لأحدٍ أن يقول: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ إن هوداً -عليه الصلاة والسلام- عاب على قومه اتخاذ المصانع، وينبغي أن يعيش الناس حياة بدائية بسيطة، وهذا ليس بمراد إطلاقاً، نصوص القرآن لا تُحمل على اصطلاح حادث.

لكن الذي قد يقال معه: إن الأقرب هو ما ذكر أنها القصور، والقرينة قوله: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي: كأنكم تخلدون، و"لعل" في القرآن تأتي بمعنى التعليل في جميع المواضع إلا في موضع واحد، وهو هذا الموضع يعني لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي: كأنكم تخلدون، هذا الموضع الوحيد، وإن كان من أهل العلم من حمل لعل في القرآن على معنى الترجي، على وجهها، وهذا المحمل غير مستبعد لكنه يحتاج إلى تخريج وتوضيح في بعض المواضع، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44] إذا قلنا: إنها للترجي فهل يقع الترجي من الله؟ إنما يكون الترجي لمن لا يعلم عواقب الأمور، والله يعلم غيب السموات والأرض، وبيده مقاليد الأمور، فلا يقع الترجي منه، لكن تحتاج إلى تخريج وتوجيه فيقال: إنه على رجائكما، وإن الخطاب هنا روعي فيه حال المخاطب فهو يترجى فجاء الخطاب خارجاً على ذلك، -والله أعلم.

ومعنى قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي: لكي تقيموا فيها أبدًا، وذلك ليس بحاصل لكم، بل زائل عنكم، كما زال عمن كان قبلكم.

وهذا كأنه يوضح أن ابن كثير -رحمه الله- يميل إلى أنها القصور التي يقيمون فيها، وفيها قراءة ليست متواترة، وهذا يؤيد ما ذكرت من التفسير من أن "لعل" هنا بمعنى "كأن"؛ لأن لعل لو حملت على الترجي، فإن اتخاذ القصور بناء القصور لا ترجِّيَ معه للخلود، يعني الذي يبني القصر، فهو يعرف أنه سيفارق، وإذا حُملت على التعليل فهذا أوضح وأشد، يعني هل يقال: تتخذون مصانع من أجل أن تخلدوا؟ هل اتخاذ القصور يكون علة للخلود؟ كأن تسابق الناس على ذلك من أجل تحصيل الخلود، فمعنى لعل أي كأنكم تخلدون، مصانع لكي تقيموا فيها أبداً، وذلك ليس بحاصل لكم.

العبارة يبدو لي -والله أعلم- أن فيها إشكالاً، فكانوا لا يبنون القصور لكي يقيموا فيها أبدا، فهم يعلمون أنهم سيموتون ويفارقونها، فاعتبار لعل هنا للتعليل بعيد -والله تعالى أعلم- غاية البعد، بل الذي أظنه -والله تعالى أعلم- أن هذا لا يمكن أن يصح؛ لأنهم لا يدّعون هذا، ولا يدّعي أحد أصلاً أنه يبني القصور من أجل البقاء الأبدي السرمدي، ما يعتقدون هذا ولا يقولونه ولا يرجونه.

وقوله: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَوصفهم بالقوة والغلظة والجبروت.

البطش: يعني هنا يصفهم بالقوة، والبطش هو السطوة في الأخذ، يأخذ بسطوةإذا سطا، إذا أخذ، فإذا أخذ فأخذُه شديد.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي: اعبدوا ربكم، وأطيعوا رسولكم.

ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم فقال: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ۝ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ. وَجـَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍأي: إن كذبتم وخالفتم، فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، فما نفع فيهم.

قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ۝ إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ۝ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ۝ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [سورة الشعراء:136-140].

يقول تعالى مخبرًا عن جواب قوم هود له، بعدما حذرهم وأنذرهم، وَرَغَّبَهُم ورهبهم، وبيَّن لهم الحق ووضحه: قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ أي: لا نرجع عما نحن فيه، وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة هود:53]، وهكذا الأمر؛ فإن الله تعالى قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ [سورة يونس:96، 97].

وقولهم: إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ: قرأ بعضهم: "إن هذا إلا خَلْق" بفتح الخاء وتسكين اللام.

وهي قراءة متواترة مشهورة قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، وقرأ الباقون كما نقرأ خُلُق ، إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ.

قال ابن مسعود، والعوفي عن عبد الله بن عباس، وعلقمة، ومجاهد: يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلا أخلاق الأولين، كما قال المشركون من قريش: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفرقان:5]، وقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ۝ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سورة الفرقان:4، 5]، وقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ [سورة النحل:24].

هذا تفسير لقوله: إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ العبارة التي نقلها عن جماعة من السلف -رضي الله تعالى عنهم، قال: إلا أخلاق الأولين، ويقصدون بالأخلاق الفضائل، وما يتحلون به من الأوصاف الكريمة أو غير الكريمة، فيقصدون بقولهم: إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ما الذي تأتينا به إلا أخلاق الأولين، مع أن الآيات التي أوردها ابن كثير -رحمه الله- هنا مما يوضح هذا المعنى من قول المكذبين للرسل -عليهم الصلاة والسلام- أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ بمعنى أخلاق الأولين، يعني الأكاذيب، أشياء لا حقيقة لها، أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ يعني من مختلقاتهم، والأمور التي لا تثبت ولا أساس لها ولا مستند قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ.

فهؤلاء الذين نقل عنهم الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذا مرادهم، إنما المقصود الأكاذيب والأخلاق: أي المفتريات والأكاذيب، وليس المقصود الخُلق، وما يتحلى به الإنسان من الفضائل أو الرذائل، هذا معنى القراءة الأولى، إِنْ هَذَا إِلا خَلْقُ الأوَّلِينَ، وعلى هذا يكون هذا الكلام موجهاً منهم لنبيهم هود -عليه الصلاة والسلام، أي هذا الذي جئت به مختلق مفترى في جملة أكاذيب الأولين وأساطيرهم، كأنهم قالوا له: هذا أساطير الأولين كما قيل للرسول ﷺ هذا على قراءة "خَلْق الأولين".

وقرأ آخرون: إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ -بضم الخاء واللام- يعنون: دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأوائل من الآباء والأجداد، ونحن تابعون لهم، سالكون وراءهم، نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد؛ ولهذا قالوا: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.

على هذه القراءة الثانية إِنْ هَذَا إِلا... إن هنا نافية ما هذا إلا خُلُق الأولين أي: عادتهم ومذهبهم ودينهم، وعلى هذا تكون الإشارة بقوله: "هذا" ترجع إلى ما هم عليه، الأول: يكون ذلك يراد به ما جاء به نبيهم -عليه الصلاة والسلام، يكذبونه ويردونه ويقولون: هذا الذي جئت به هو من مختلقات السابقين وأساطيرهم، والقراءة الأخرى: خُلُقُ الأوَّلِينَ يقولون: ما نحن عليه هو دين الآباء والأجداد.

وبعض أهل العلم يقول: إنهم قصدوا بذلك -وهذا لا ينافي ما الذي كانوا عليه: إن هذا يعني الأشياء التي أنكرتها علينا من اتخاذ القصور، والبناء في كل ريع عبثاً وما شابه ذلك مما ذكره وعابه عليهم، قالوا: هذا الذي أدركنا عليه الناس، وهذا لا ينافي قول من يقول: إن هذا أي ما نحن عليه هو عادة الأولين، ودأب الأولين، خُلُق الأولين دين الأولين، فهذا كله يرجع إلى شيء واحد، ما الذي كانوا عليه؟ هي الأشياء التي عابها عليهم من عبادة غير الله ، والبناء إلى آخره، وكأنهم يقولون له: عبتنا بشيء أدركنا عليه الناس، ما عهدنا غير هذا، وهذه الأشياء التي تأتي بها هي أمور مختلقة، فكل قراءة لها معنى، وإذا كانت القراءتان كل واحدة لها معنى فهي بمنزلة الآيتين.

وهذا لكون القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والحكمة من وجود الأحرف التي نزل بها القرآن على الأحرف السبعة التسهيل والتيسير هذا هو الأصل، لكن توجد حِكم تابعة أيضاً فمنها الإعجاز في المعاني، والألفاظ، وهذا القرآن الذي عجزوا عن الإتيان بمثله وتحداهم الله أن يأتوا بسورة، يصرفه الله -تبارك وتعالى- هذا التصريف بهذه الحروف التي يركبون منها الكلام، ومع ذلك هم في غاية العجز على أن يأتوا بوجه واحد يضاهيه، وهكذا كثرة ما يتضمنه من المعاني من جراء هذا التصريف، فإذا جمعنا معاني القراءات هنا كأنهم قالوا له: هذا الذي جئت به مختلق، وما نحن عليه عادة الأولين، ودين الأولين، ومسلكهم، رأيتم كيف تكون بلاغة القرآن وسعة معانيه وكثرتها.

وفي قوله عنهم: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ يعني أنهم كانوا يشركون، ما كانوا ينكرون وجود الله -تبارك وتعالى- بالكلية، وما كانوا ينكرون هذا كله، فهنا قال عنهم: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ هل معنى ذلك إنكار أن الله يعذب أحداً أصلاً؟ فهنا يمكن أن يفسر ويقال: إنهم قالوا ذلك باعتبار أن ما فعلوه ليس بعيب ولا مذموم، وأن هذه السنة المتبعة عند الآباء والأجداد التي أدركوا عليها الناس، فهم يقولون: عبتنا بشيء لا يُلحق بنا تبعة، ما نحن بمعذبين على هذا!

وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فهم لم يقصدوا إنكار التعذيب أصلاً لأحد من المخلوقين، وما كانوا ملاحدة ينكرون بمعنى الإلحاد المعروف في العصر الحديث، وإنما كانوا يقولون: نحن لم نفعل شيئاً خطأ، هذه الأشياء التي جئت فيها، وهذا أمر عجيب بعد قوم نوح ما زال الناس -وعذاب يأخذ أهل الأرض جميعاً- في التغرير هلكوا عن آخرهم إلا من آمن مع نوح في السفينة، ومع ذلك يقع هذا الشرك والكفر والعناد، ويقولون: هذا الذي أدركنا عليه الآباء.

وهذا يعني أنه قد تنوسي الإيمان والتوحيد، ودين نبي الله نوح -عليه الصلاة والسلام، فكلما سكت أتباع الرسل عن الحق وبيانه وإظهاره للناس كلما كان ذلك سبباً لخفائه واضمحلاله، بقاء الناس في جهالة وعماية، فيظهر الباطل ويعلو، ويبقى الناس مثل حال الجاهلية، وهذه الأمة ليس فيها أنبياء بعد النبي ﷺ، فواجب على أتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن يقوموا بما يجب، وإلا فإن سنة الله -تبارك وتعالى- جارية، والنبي ﷺ أخبر أن الإيمان يأرِز إلى ما بين المسجدين كما تأرِز الحية إلى جحرها[2]، تضيق الدائرة حتى يبقى في مساحة ضيقة ما بين المسجدين، تأرز، كما تجتمع الحية إلى جحرها فهذه غربة شديدة لابد من رفعها وهجرها، فأهل الباطل يرفعون غربتهم المذمومة بالدعاء إلى باطلهم، ونشره وبالذب عنه والغضب له، وأهل الحق أولى بهذا.

قال ابن جرير -رحمه الله تعالى:"وقوله: إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك; فقرأته عامة قرّاء المدينة سوى أبي جعفر، وعامة قرّاء الكوفة المتأخرين منهم: إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ من قبلنا، وقرأ ذلك أبو جعفر، وأبو عمرو بن العلاء: إنْ هَذَا إلا خَلْقُ الأوّلينَ بفتح الخاء وتسكين اللام بمعنى: ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأوّلين وأحاديثهم.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، نحو اختلاف القرَّاء في قراءته، فقال بعضهم: معناه: ما هذا إلا دين الأوّلين وعادتهم وأخلاقهم"[3].

يوجد في كتب التفسير قول من يقول: هذا مختلقات الأولين، وآخر يقول: هذا دين الأولين وعادتهم، وهنا تحمل كل قراءة، كل معنى يحمل على قراءة، لكن أحياناً بعض المفسرين قد لا يذكر القراءات، أو يذكر المعاني متتابعة من غير تفصيل، هذا يرجع إلى قراءة، وهذا يرجع إلى قراءة فيُظن أن هذا من قبيل الاختلاف، وليس كذلك، وإنما كل تفسير يرجع إلى قراءة.

وقال الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله: "وأولى القراءتين في ذلك بالصواب: قراءة من قرأ إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ بضم الخاء واللام، بمعنى: إن هذا إلا عادة الأوّلين ودينهم، كما قال ابن عباس، لأنهم إنما عوتبوا على البنيان الذي كانوا يتخذونه، وبطشهم بالناس بطش الجبابرة، وقلة شكرهم ربهم فيما أنعم عليهم، فأجابوا نبيّهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك، احتذاءً منهم سنةَ من قبلهم من الأمم، واقتفاء منهم آثارهم، فقالوا: ما هذا الذي نفعله إلا خُلق الأوّلين، يعنون بالخلق: عادة الأوّلين، ويزيد ذلك بيانا وتصحيحًا لما اخترنا من القراءة والتأويل، قولهم: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لأنهم لو كانوا لا يقرُّون بأن لهم ربا يقدر على تعذيبهم، ما قالوا: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ بل كانوا يقولون: إن هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خلق الأوّلين، وما لنا من معذِّب يعذبنا، ولكنهم كانوا مقرين بالصانع، ويعبدون الآلهة، على نحو ما كان مشركو العرب يعبدونها، ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى، فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوته: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ثم قالوا له: ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم، وما الله معذبنا عليه، كما أخبرنا تعالى ذكره عن الأمم الخالية قبلنا أنهم كانوا يقولون لرسلهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ"[4].

هذا يقوله ابن جرير -رحمه الله- من أجل ما ذكر في ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى قراءة إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ يعني دين الأولين وعادة الأولين، قال: لأنهم قالوا: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ هذا الذي عليه الناس ما جئنا بشيء خطأ، لكن إذا ثبتت القراءة فهذا كله قرآن، وكلام الله ، فهذه يكون لها معنى، وهذه يكون لها معنى، تكون كل قراءة بمنزلة آية مستقلة، لكن لا بأس للعالم أو القارئ أو نحو ذلك أن يختار، كما هي الطريقة المعروفة عند الأئمة، فإنهم رووا القراءات، واختاروا منها، فنسب هذا الاختيار إليهم فقيل: قراءة فلان وقراءة فلان.

وهذا الاختيار بناء على اعتبارات معينة منها ما يتصل بالمعنى، مثل هنا هذا الذي اختار هذه القراءة إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ هو لابد أن يقرأ، ولا يصح أن يجمع بين القراءات، إلا في مقام التلقين أو تعليم القراءات، أما الجمع بين القراءات في التلاوة فلا يذكر في اللفظة الواحدة الوجهين، ويجمع بين القراءات في المتفرق فيما لا يبنى بعضه على بعض، والذي يختار من القراء: اختار "إن هذا إلا خُلُق الأولين" أي دين الأولين، اختار هذه القراءة باعتبار أنه قال بعده عنهم: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فهذا أحد الأسباب التي تحمل القارئ على اختيار أحد الأوجه على غيره، وأحياناً يقرأ مراعياً لحال من يُقرئه، أن هذه قراءة أهل بلده مثلاً، وهناك اعتبارات معينة، لكن هذا واحد منها، هذا مثال تطبيقي.

قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ أي: فاستمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده، فأهلكهم الله، وقد بيَّن سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحًا صرصرًا عاتية، أي: ريحًا شديدة الهبوب ذات برد شديد جدًا، فكان إهلاكهم من جنسهم، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة، كما قال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۝ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ [سورة الفجر:6، 7] وهم عاد الأولى، كما قال: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى [سورة النجم:50]، وهم من نسل إرم بن  سام بن نوح.

مع أن الهوى هذا هو أرق شيء وأخفه وألطفه يعني هنا يقول: سلط الله عليهم شيئاً من جنسهم باعتبار أنها عاتية، بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [سورة الحاقة:6] لها صوت، تحمل الحجارة تسمع ضرب الحجارة من شدة تحصبهم بها، بِرِيحٍ صَرْصَرٍ قوية لا يقف أمامها شيء، وهذا قد لا يتصور أحياناً، لكن الله يرينا بين حين وآخر قوته وبأسه في هذه الأشياء اللطيفة، كيف تتحول إلى أشياء هائلة مدمرة، ترون الأعاصير لما تُنقل الآن، فهناك أعاصير تدمر مدناً كاملة، وتحمل المراكب البرية والبحرية وتلقيها بعيداً، وفيها مساكن الناس، ومقتنياتهم وما أشبه ذلك مثل القش، والمياه تزيل البنيان القوي، بحيث تجعله قاعاً صفصفاً لا يقف أمامها شيء، تحمل السيارات الكبار والصغار كأنها قش يسبح فوقها، وهنا هذه الريح لطيفة وأهلك الله بها هؤلاء المتجبرين، فقوة الله تظهر للناس بهذه الأمور وغيرها، والله المستعان.

ذَاتِ الْعِمَادِ أي: الذين كانوا يسكنون العُمُد.

قال: يسكنون العُمُد، يقال: العُمُد بضمتين، وابن كثير -رحمه الله- يقصد بقوله: يسكنون العمُد يعني الخيام، يقال: فلان رفيع العماد كثير الرماد، ويميل إلى أن قوله -تبارك وتعالى: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ أن إرم ليست مدينة وأنها قبيلة، ذات العماد، كانوا يسكنون الخيام على قول ابن كثير هذا، الخيام هي التي يكون لها عُمُد، هي التي يعبر عنها بهذا وإلا فحتى الدور لها عماد الآن، لكن هي التي يعبر بها عن هذا، يسكنون العمد، بمعنى أنهم لا يسكنون القصور مثلاً، أبنية من الحجارة، أو المدر، وهذا يحتاج إلى تحرير -والله تعالى أعلم، هل كانوا يسكنون الخيام فعلاً؟

المنطقة التي هم فيها صحراء، لكن هذا لا يمنع أن يوجد فيها مدينة أو مدن لكونهم بهذه القوة، والبطش والجبروت، وما ذكر الله عنهم مما متعهم الله -تبارك وتعالى- به، قال سبحانه: أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ ۝ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ۝ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ فالذين يسكنون الخيام المعروف عنهم أنهم يكونون أهل رعي وبهائم وأنعام، ولكن "جنات وعيون" هذه تكون لأهل القرى، يعني العمران سواء كانت صغيرة أو كبيره أهل الحواضر، ولهذا لما قال أصحاب موسى -عليه الصلاة والسلام- قوم موسى لما كانوا في التيه وأنزل الله عليهم المن والسلوى، وطلبوا من موسى ﷺ أن يدعو ربهم ليخرج لهم مما تنبت الأرض من ثومها وعدسها بصلها، قال لهم: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً [سورة البقرة:61] يعني مصراً من الأمصار بلداً من البلدان في قرية من القرى؛ لأن هذه الزروع توجد في القرى، والحواضر، لا توجد في البادية، الثوم والبصل والعدس.... إلى آخره، اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ما أردتم المن والسلوى هذا الذي يأتي من غير كلفة، ادخلوا مصراً من الأمصار، اسكنوا قرية من القرى تجدوا فيها هذه البغية الرخيصة.

فهنا "جنات وعيون"، والخيام تكون في البوادي؛ ولهذا يقال: أهل الوبر والمدر، فأهل المدر أهل القرى الحواضر والبنيان، وأهل الوبر هم أهل البوادي فهذا الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو لم ينفرد به، لكن يحتاج هذا المقام إلى تحرير وتأمل، وكثير من المؤرخين والمفسرين -لكنها روايات إسرائيلية- يذكرون مدينة بنيت بناء عجيباً يفوق الوصف، بل ذُكر أنها بنيت من الذهب والفضة وما أشبه ذلك، وقد يكون هذا فيه بعض المبالغات.

واليوم يزعم من يتكلمون على الحفريات والآثار، ولربما يأخذون بعض قولهم من أصحاب الإعجاز العلمي، يقولون: إنه وجدت مدينة في الربع الخالي وإن هذه إِرَمَ وإنهم وجدوا أن هذه الأماكن كانت جنات وأنهاراً، يقولون: زاحت الرمال، وجاءت الرمال لهذه المنطقة، وهذه الرمال كانت موجودة يعني هي جبال الرمل، أحقاف، فكانت هي منازلهم، والله تعالى أعلم، لكن يقولون: إن هذه المنطقة كانت عبارة عن جنات وأنهار، وإن البعثات التي جاءت ودرست أحوال المنطقة ونحو ذلك وجدوا ما يدل على ذلك فيها، ثم يربطون بين هذا وبين قول النبي ﷺ: لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً[5]، ولفظة العود تارة تطلق على رجوع الشيء إلى ما كان عليه، وتارة تطلق ويراد بها تصير، عاد الطين خزفاً، وعاد الغلام شيخاً.

ومن زعم أن "إرم" مدينة، فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب، وليس لذلك أصل أصيل، ولهذا قال: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [سورة الفجر:8]، أي: لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم، ولو كان المراد بذلك مدينة لقال: التي لم يُبن مثلها في البلاد.

وهذا ليس بضروري أي كونه ما قال: التي لم يُبن مثلها في البلاد، وإنما قال: "لم يخلق"، والخلق بمعنى الإيجاد، يأتي بمعنى الإيجاد، ويأتي بمعنى التقدير يعني سواء كان الإيجاد من العدم، أو كان دون ذلك، يعني الله يقول: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُون ُطَيْرًا بِإِذْنِي [سورة المائدة:110].

وهكذا أيضاً فيه شواهد أخرى تدل على هذا المعنى، فلفظة الخلق لا تعني الإيجاد من العدم دائماً، وأضاف الخلق إلى عيسى -عليه الصلاة والسلام، وهنا تجد ما يذكر من المنهيات اللفظيات قول: فكرة خلاقة، خلْق الأفكار هذا بمعنى إيجاد الأفكار وكذا، يعني هذه اللفظة ليست محرمة، وأن ذلك يمكن أن ينسب إلى المخلوق لكن بمعنى يصلح له، وذكرت في بعض المناسبات -بعد صلاة العشاء- كثيراً من الألفاظ هذه التي يقال: إنها منهية، مناهٍ ونحو ذلك: أنها تحتاج إلى تحرير، وليست على إطلاقها، إن قصد بها كذا فهي كذا، وإن قصد بها كذا فهي كذا، والأحسن أن الإنسان يبتعد عن الألفاظ الموهمة أو التي قد يستوحش منها السامع، ويسبق إلى ذهنه معنى غير مراد، ولكن كلام ابن كثير -رحمه الله- هنا لا يلزم: أي ما قال: لم يُبن مثلها في البلاد، وقال: "لم يُخلق".

وقال: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [سورة فصلت:15].

وقال تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ... إلى قوله: حُسُومًا [سورة الحاقة:6، 7]، أي: كاملة فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [سورة الحاقة:7]، أي: بقوا أبدانًا بلا رءوس؛ وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخ دماغه، وتكسر رأسه، وتلقيه، كأنهم أعجاز نخل منقعر، وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم، فلم يُغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ [سورة نوح:4]؛ ولهذا قال: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ... الآية.

وكونهم تحصنوا وحفروا إلى آخره، هذا مأخوذ من الإسرائيليات، لكن قوله -تبارك وتعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ أجسامهم ضخمة إذا ماتوا، والآن الناس مثلنا إذا رأيت بعض الصور وهم ميتون مثل القش والحطام والبيوت، كأنهم سمك السردين، الناس اليوم ضعفاء، وأحياناً تحتاج أن تنظر الخشبة هذه صغيرة أو رجل، لكن أولائك كانوا في منتهى الضخامة أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، أصول النخل، ومن عرف النخل تصور ضخامة هذه الأجساد وعظمها.

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ ۝ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ۝ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ۝ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء:141-145].

وهذا إخبار من الله ، عن عبده ورسوله صالح أنه بعثه إلى قوم ثمود، وكانوا عربًا يسكنون مدينة الحِجْر، التي بين وادي القُرَى وبلاد الشام، ومساكنهم معروفة مشهورة، وقد قدمنا في "سورة الأعراف" الأحاديث المروية في مرور رسول الله ﷺ بهم حين أراد غزوَ الشام، فوصل إلى تَبُوك، ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك، وقد كانوا بعد عاد وقبل الخليل ، فدعاهم نبيهم صالح إلى الله أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة، فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه، وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم، وإنما يطلب ثواب ذلك من الله ، ثم ذكرهم آلاء الله عليهم فقال: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ ۝ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ۝ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ۝ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ۝ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ۝ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [سورة الشعراء:146-152].

يقول لهم واعظًا لهم ومحذرًا إياهم نقم الله أن تحل بهم، ومذكرًا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارّة، وجعلهم في أمن من المحذورات، وأنبت لهم من الجنات، وأنبع لهم من العيون الجاريات، وأخرج لهم من الزروع والثمرات؛ ولهذا قال: وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ، قال العوفي، عن ابن عباس: أينَعَ وبَلَغ، فهو هضيم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ يقول: مُعشِبة.

وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن عمرو بن أبي عمرو -وقد أدرك الصحابة- عن ابن عباس، في قوله: وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ قال: إذا رَطُب واسترخى، رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: ورُوي عن أبي صالح نحو هذا.

وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ بمعنى نضيج لين طري صالح للأكل مهيأ، رخص لطيف، معاني طلعها هضيم إذا طاب جناه واسترخى، وصار مهيأ للأكل قيل له ذلك: طَلْعُهَا هَضِيمٌ وقد ذكر فيه الماوردي اثني عشر قولاً.

قال ابن جرير -رحمه الله تعالى: "القول في تأويل قوله تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ... الآيات، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيلِ صالح لقومه من ثمود: أيترككم يا قوم ربُّكم في هذه الدنيا آمنين، لا تخافون شيئا؟

فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يقول: في بساتين وعيون ماء. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ يعني بالطلع: الكُفُرَّى.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: هَضِيمٌ فقال بعضهم: معناه اليانع النضيج.

وقال آخرون: بل هو المتهشم المتفتت.

وقال آخرون: هو الرطب اللين.

وقال آخرون: هو الراكب بعضه بعضا.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: الهضيم: هو المتكسر من لينه ورطوبته، وذلك من قولهم: هضم فلان حقه: إذا انتقصه وتَحيَّفه، فكذلك الهضم في الطلع، إنما هو التنقص منه من رطوبته ولينه إما بمسّ الأيدي، وإما بركوب بعضه بعضا، وأصله مفعول صرف إلى فعيل"[6].

هضيم، مهضوم: منقوص، وقد يتبادر إلى أذهان الناس اليوم أنه مهضوم أي سريع الهضم، ويمكن أن يقال: هذا من لازمه إذا كان رخصاً رخواً ليناً فإن ذلك من شأنه أن يسهل أكله، والانتفاع به، من باب اللازم، تفسير باللازم، والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: وقوله: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ قال ابن عباس، وغير واحد: يعني: حاذقين، وفي رواية عنه: شرِهين أشِرين، وهو اختيار مجاهد وجماعة، ولا منافاة بينهما؛ فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشَرًا وبطرًا وعبثًا، من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم؛ ولهذا قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي: أقبلوا على عَمَل ما يعود نفُعه عليكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتوحدوه وتعبدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا.

هذه يقول: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فيها قراءتان متواترتان، القراءة الأولى فَرِهين وهذه قرأ بها بعض السبعة كنافع وأبي عمرو وابن كثير، والفَرَه بمعنى الفرح الشديد الذي يختل معه سلوك الإنسان، وتوازنه فيحصل له شيء من الخفة من شدة السرور والفرح فتكثر حركته وعبثه وكلامه فيما يصلح وما لا يصلح.

والكلام على قراءة "فرهين" فبعضهم يقول: إن هذه القراءة وقراءة "فرهين" بمعنى واحد، وبعضهم يقول: فرهين، الفَرَه بمعنى النشاط الزائد، وبعضهم يفسره بالبطَر والأشَر، وهذا كله على قراءة "فرهين" بطِرين أشِرين، وبعضهم يقول: الشرَه شرِهين، وبعضهم يقول: هذا بمعنى الإعجاب والتنعم معجبين آمنين ناعمين فرحين، هذا الفرَه.

وفسر الفاره بمعني الحاذق، حاذقين بالنحت، بنحتها، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ أي: حاذقين بنحتها، وهذا شيء مشاهد فإنك إذا رأيت تلك البيوت -واجهات تلك البيوت- فإنك تستكثر هذا على أهل هذا العصر الذين نظن أنهم وصلوا إلى حال من القوة والتمكين والآلات والصناعة، ومع ذلك يُستكثر ما يشاهد فيها عليهم سواء من جهة الارتفاع، أو كيف يكون الجبل في واجهته بهذه الملاسة كأنه قطعة رخام وعلى مر الأزمان -هذه القرون المتطاولة- بقيت هذه المعالم والنقوش بدقة، نقوش أحياناً صور طيور على الجبل منحوتة من الجبل، ورسومات أخرى على الواجهات، وزخارف بهذه الدقة، القوة هائلة، قدرة على النحت والتفنن فيه، ليست القضية مجرد أنه يأتي بآلة يخرق الجبل ثم بعد ذلك يكون غاراً أو نفقاً أو نحو ذلك.

ثم إن هذه الأشياء التي يستعملها ليست خارجة منه كأن يأتي بأمور تزينه على الواجهات مستعارة، لا من نفس الجبل، النحت والزينة بغاية الدقة والإحكام، والحسن سواء كان في اختيار مواضعها أو في دقة تصميمها، فالإنسان مجرد رسمه على ورقة قد لا يحسنه فكيف إذا جاء لتطبيق ذلك على أصعب الأشياء وأصلب الأشياء التي هي الحجارة الصخور جبل لا ينقله؟ يعني ليست حجراً بين يديه يتصرف فيه ويقلبه، فعلى هذا الارتفاع الشاهق هذا أمر! ولذلك هذه الحالة الموصوفة التي وصفها الله -تبارك وتعالى، ما وصف من حال عاد وأنهم كانوا في غاية الجبروت والقوة حتى إنهم أعجبوا بأنفسهم غاية الإعجاب، "من أشد منا قوة" ومثل هذا الإعجاب والجبروت الذي وصفهم الله -تبارك وتعالى- به ليس هذا مجرد طول الأجساد وضخامتها، وإنما لما اجتمع لهم من أسباب القوة، فهذه كانت مزيّة وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [سورة الأعراف:69] كانت مزيّة من المزايا، لكن اجتمعت لهم أسباب القوة ما جعلهم بهذا الجبروت والقوة حتى قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [سورة فصلت:15].

والله -تبارك وتعالى- وهو العظيم الأعظم القوي يصفهم بهذه الأوصاف من القوة والتمكين وما أشبه ذلك، وهكذا ثمود، وديارهم شاهدة، قيل: الآن يأتي إليها من يأتي يتعجبون من قدرة هؤلاء وما بقي من آثار الأمم في بلاد في أطراف الشام، في مصر وغير ذلك، كل هذا يدل على أمم ممكنة قوية، أشد قوة مما الناس عليه اليوم، انظر إلى آثار الناس اليوم ومبانيهم، وانظر إلى آثار الأولين كيف بقيت على هذه القرون؟!

وإذا سئل من له خبرة وممارسة في المقاولات عن العمر الافتراضي للبنيان في زماننا هذا فسيقول: ثلاثون سنة هذا العمر الافتراضي، إلا إذا جيء بمواد من أماكن أخرى ممكن أن تزيد في العمر الافتراضي بينما هؤلاء آلاف السنين، ولازالت هذه الآثار سواء من الجبال أو من غيرها الآثار الموجودة من الأهرام أو في بلاد الأردن لا زالت بعض الآثار، وفي أماكن أخرى كسور الصين، فهذه تدل على قوة هائلة الناس يتضاءلون أمامها.

فأولائك الناس لم يكونوا بسطاء من البدائيين، لا يستطيع الواحد منهم إلا أن يغطي سوءته بأوراق الشجر، كما يصور بعض من يكتب في التاريخ زوراً وكذباً، ويقول: العصر الحجري والعصر البرونزي هذا كله كذب، والله  أخرج آدم وعلمه الأسماء كلها، وأهبطه إلى الأرض منتهى التحضر والعلم، وأسجد له الملائكة، فأين هذا الإنسان البدائي الذي يصورون كأنه في غابة في جزيرة من جزر إندونيسيا النائية، أو مجاهيل أفريقيا، آدم ما كان بهذه المثابة، وهذه الأمم التي يصفها ونرى آثارهم، ثم يصور الإنسان على أنه مر بهذه، وهذا جزء من نظرية التطور الذي لا يفهمه أو لا يدركه أو لا يتفطن له كثير من أبناء المسلمين.

ونظرية التطور ما تختص بأن الإنسان قرد ثم بعد ذلك تطور حتى صار إنساناً، بل هي أوسع من هذا، فتمتد إلى جوانب أخرى من حياة الإنسان، والحضارة وما أشبه ذلك يقولون مثلاً: في العبادة والدين كان الناس مثلاً أمام خوف أمام المجهول يخافون من الظلام يخافون من الوحوش، يخافون من كذا ثم بعد ذلك عرفوا السحر والشعوذة؛ من أجل أن يتوصلوا إلى ما عجزوا عنه، ويدفعوا عن أنفسهم بهذه الأمور، فشاع السحر وانتشر وصار هو دين الناس، ثم توصلوا إلى شيء قالوا: هو الله من أجل أن يُشعروا أنفسهم بأنهم يلجئون إلى قوة خفية تمدهم بالعون، ثم يقولون: نحن وصلنا إلى درجة من التمكين والسيطرة على كوكب الأرض، ولسنا بحاجة إلى ذلك، هكذا يزعمون.

هذه كلها أطراف لنظرية التطور فما يوجد شيء اسمه عصر برونزي، ولا يوجد شيء اسمه عصر الإنسان البدائي، وعصر الإنسان الحجري، هذا كله كذب، والمشكلة أن هذه أسماء من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يعرف شيئاً من أمور الوحي، ما يعرفون هذا الكلام إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ۝ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [سورة الفجر:7، 8]، وما ذكر الله  عن ثمود وغيرهم، ما يعرفون هذا الكلام إطلاقاً، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31]، فيقولون: خرج الإنسان بدائياً ما يعرف شيئاً، ثم بدأ يأخذ أوراق الشجر ويستر سوءته، ثم بدأ يتخذ من الشجر وكذا أشياء قوساً يرمي به الطريدة ويصليها على حجر.

وقوله: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا بعضهم يزعم أن هذه البيوت قبور، ويحاول أن يستدل على ذلك بأن البيت يأتي في كلام العرب بمعنى القبر، وهذا الكلام وإن جاء في لغة العرب لكنه معنى غير مشهور، ولا يجوز حمل ألفاظ القرآن على معانٍ خفية غير مشهورة من غير موجب، وبعضهم حمل هذا على أنها كانت قبور بناء على كلام بعض الغربيين الذين يقولون: كانت هذه قبوراً، لكن ليس كذلك.

الله يقول: "بيوتاً" والبيت معروف، والله -تبارك وتعالى- قال: تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا [سورة الأعراف:74] فالسهول خارج الوادي الحِجر، السهول خارجه كانوا يبنون القصور، وهذا الوادي ينحتون فيه الجبال، بعض أهل العلم يقول: كانوا في الصيف يخرجون إلى السهول والقصور التي يبنونها فيها، وفي الشتاء يسكنون في هذا الوادي، وإن وُجد في بعضها الآن قبور لكن ليست هي قبور لهم، هذه تتابع عليها الناس منذ أزمان متطاولة والأمم حولها، ويُفني الله أمماً وينشئ آخرين، فإذاً وُجد من دفن البوادي إلى الآن، وبعضهم يدفن أمواتهم في مغارة أو كهف ويضع عليه الحجارة، وإلى الآن جبال الجنوب يوجد فيها مِن هذا، والبادية عرف عنهم ذلك من قديم؛ لجهلهم أو لقلة إمكاناتهم، أو لصعوبة الأرض عندهم، أو لشحهم فيها، أحياناً أرض صغيرة يزرعها، فيضع الميت في هذا الغار، ويضع عليه أحجاراً، وإذا جاء ميت آخر أُدخل في هذا الغار ووُضع عليه أحجار وهكذا بلا دفن.

فكون أن هؤلاء يوجد منهم من يستغل هذه الأماكن المنحوتة في الجبال ويدفن فيها ميتاً أو نحو ذلك ليس بمستغرب، فلا يعني أن هذه هي، ولذلك فإن بعض من شاهدها، أنا لم أذهب إلى الحِجر، وليس للإنسان أن يقصده إلا إذا كان شاكاً أو متردداً، فالله أمر بالسير في الأرض والضرب فيها لينظر الإنسان كيف كان عاقبة الذين من قبل هذا الأمر، فالنظر إنما كان لمن كان عندهم تردد، ما كان لكل الناس، ما جاء في القرآن من الأمر في السير في الأرض والنظر في عاقبة المكذبين هذا للناس الذين عندهم شيء من التردد، أما الإنسان الموقن فهو لا يؤمر بالذهاب إلى أماكن المعذبين، وإذا مر بها أسرعَ، كما فعل النبي ﷺ، وكما فعل علي حينما مر بأرض الخسف من بابل.

بل ذكر بعض أهل العلم أن النبي ﷺ لما أتى وادي مُحسِّر أسرع قالوا: لأنه الموضع الذي أهلك فيه الفيل، وإن كان هذا لا يثبت، أعني أن هذا المكان الذي أهلك فيه الفيل بين مزدلفة ومنى، لكن يكفي أن النبي ﷺ لما مر بالحِجر أسرع حين عاد من تبوك ونهاهم عن دخوله إلا أن يكونوا باكين أو متباكين، فالمقصود أن الذين رأوا هذه القبور يقولون: إنها بحجم قبورنا، لكن أولائك كانوا أطول أجساداً منا فكيف تكون بمقدار قبورنا؟!

فهذا يدل على أنها قبور متأخرة، ثم هؤلاء الذين أهلكهم الله عن بكرة أبيهم بهذه الريح الصرصر العاتية من الذي جاء ليحترم تلك الذوات، ويضعها في هذه الأماكن ويقبرها؟! فهذا لا يبنى عليه معنى كهذا وهو أن يقال: هذه البيوت هي عبارة عن قبور، إنما هي بيوت، ويقول بعض من شاهدها: إنه يوجد فيها أماكن أوسع، ومنحوت على أطراف الجدار مثل المقعد ممتد للجلوس، يعني مثل الكنب لكن منحوت من الحجارة، وهذا لا يعني أنهم كانوا يجلسون على الحَجر، فإذا استطاعوا نحت هذه فمعنى ذلك أن عندهم من الأثاث ما يزينون به هذه الأماكن، لكن هذا يدل على أنها ليست قبوراً، ويكفي قول الله : وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ -والله أعلم، حتى الأهرام القول إنها مقابر وكذا، قد لا يكون دقيقاً، فهي ليست مجرد قبور، بل فيها مقتنيات وأشياء لهم.

وقوله: وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ۝ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ يعني: رؤساءهم وكبراءهم، الدعاة لهم إلى الشرك والكفر، ومخالفة الحق.

يقول: وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ فسرها هنا بقوله: الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ والله -تبارك وتعالى- ذكر في موضع آخر قوله: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ [سورة النمل:48]، ولهذا ابن جرير -رحمه الله- حمله على هذا المعنى وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ هم الذين قص الله خبرهم، وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فيقول: لا تطيعوا هؤلاء، والمفسرون والمؤرخون يذكرون أخباراً كثيرة جداً في هذا، ويذكرون أسماء، وأسماء لبعض النساء، ومن تسبب وباشر قتل الناقة، ودواعِيَ ذلك، والنبي ﷺ أخبر عن أحيمر ثمود الذي عقر الناقة.

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ۝ مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بـِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ۝ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ۝ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ فَعَقَرُوهـَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ۝ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [سورة الشعراء:153-159].

يقول تعالى مخبرا عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح ، حين دعاهم إلى عبادة ربهم: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، قال مجاهد، وقتادة: يعنون من المسحورين.

ثم قالوا: مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا يعني: فكيف أوحي إليك دوننا؟ كما قالوا في الآية الأخرى: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ۝ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ [سورة القمر:25، 26].

الآن إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ نقل هنا عن بعض السلف في قوله: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَيعني من المسحورين، وهو قول مجاهد وقتادة، لكن المعنى الثاني يعني المخلوق، ووجه ذلك: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي: لك سحر، وهو الرئة، يُقال: انتفخ سحره، الرئة، يقولون: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ يعني ممن له سحر يعني رئة، والذي يكون له رئة معنى ذلك أنه بشر! وهو ما أنكر أنه بشر، وهم يعتقدون أو يزعمون أن النبي لا يكون من البشر، لابد أن يكون ملَكاً، أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94]، هذا لا يمكن عندهم، فيقولون له: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ يعني لك سحر فأنت إذاً بشر! يعني أنت ممن يتعلل بالطعام والشراب مثلنا، أنت بشر تأكل وتشرب لك سحر مثلنا، فإذاً أنت لست برسول!

وهذا المعنى هو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ يعني لك سحر، ونتيجة المآل يعني أنهم يقولون: أنت بشر، ولكن هذا من قبيل اللازم يعني حينما يقال قوله: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي: أنت مخلوق، أو أنت إنسان، أو أنت بشر، فالمعنى المطابق يعني لك سحر، يريدون من هذا ويلزم من ذلك أن تكون بشراً، فمن تفسيره بلازمه، ولا بأس بالتفسير باللازم لكن لابد أن تفهم وجه هذا التفسير، فهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وقد يكون المتبادر الأول يعني أنهم رموه بالسحرإِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا [سورة الفرقان:8].

ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها، ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم فطلبوا منه -وقد اجتمع ملؤهم- أن يُخرج لهم الآن من هذه الصخرة -وأشاروا إلى صخرة عندهم- ناقة عُشَراء من صفتها كذا وكذا.

 الناقة العُشراء هي التي مضى لها عشرة أشهر في الحمل، فهي قريبة الولادة.

وقوله: وأشاروا إلى صخرة عندهم ناقة عُشَراء من صفتها كذا وكذا يعني أنهم طلبوا ناقة بمواصفات معينة أن تكون عشراء يعني لها عشرة أشهر حامل كَوْماء وبراء، فخرجت لهم ناقة.

فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق، لئن أجابهم إلى ما سألوا لَيُؤمنُنّ به، وليصدقنه، وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فقام نبي الله صالح ، فصلى، ثم دعا الله ، أن يجيبهم إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عُشَراء، على الصفة التي وصفوها، فآمن بعضهم، وكفر أكثرهم.

يعني يوجد من قوم صالح -عليه الصلاة والسلام- من آمن، ويوجد في بعض كتب التاريخ أسماء لبعض أهل الإيمان منهم، والمحاورات التي حصلت بينهم وبين المكذبين الكافرين، وبعض من تردد منهم وكاد يؤمن وما جرى له من صرف عن الإيمان، وما حصل من كيد إلى آخره، وإن كانت تلك الأخبار لا يمكن أن نجزم بصحة التفاصيل الواردة فيها، لكن كما قال النبي ﷺ: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[7]، فيذكرون تفاصيل فيهم، ومجاوبات بينهم وبين قومهم، وأسماء جملة من المؤمنين بصالح -عليه الصلاة والسلام- فما كذّبوا جميعاً.

قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ يعني: ترِد ماءكم يوما، ويوما تردونه أنتم.

الشِرب هو الحظ من الماء، فلها حظ ولكم حظ، الماء قسمة بينهم يوم للناقة، ويوم لهم يسقون أنعامهم ودوابهم، وفي كتب التواريخ يذكرون بعض الدوافع لقتل الناقة لو صح ذلك، امرأة لها نَعم كثير من الغنم فكانت تتأذى بالناقة؛ لأن دوابها لا تشرب من الماء في اليوم الآخر، وأن الناقة لما كانت بهذه المثابة من الضخامة إذ كانت تفزع منها الأغنام وتتفرق عليها وتفر وتجفل فتأذت بها فأغرت بعض الأشقياء، وكان عندها بنات في غاية الجمال فوعدت بالتزويج من هؤلاء البنات هكذا يزعمون -والله تعالى أعلم، لكن الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- هنا أنه جعل الماء قسمة بينهم كل شرب يُحضّر على غير صاحبه، فيوم للناقة ويوم لهم ويوم لدوابهم، وكانت الناقة فيها من اللبن ما يكفي لهم يشربون منها في ذلك اليوم.

وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حينًا من الدهر ترد الماء، وتأكل الورق والمرعى، وينتفعون بلبنها، يحتلبون منها ما يكفيهم شربًا وريًا، فلما طال عليهم الأمد وحضر شقاؤهم، تمالئوا على قتلها وعقرها، فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ۝ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ.

فَعَقَرُوهَا والآية الأخرى دلت على أن هناك عملاً قبل العقر قال: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ [سورة القمر:29] هو أحيمر ثمود، وتأتي تسميته في كتب التواريخ، وكذا يقولون: قدار بن سالف، هم عرب كانوا، فَتَعَاطَى فَعَقَرَ قام بأعمال قبل العقر، والمؤرخون يذكرون أن رجلاً كمن لها بأصل صخرة، والآخر رماها، وذاك قطع عرقوبها فسقطت، والثاني نحرها، فالتعاطي يدل على عمل.

وقوله: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَأصبحوا نادمين يذكر المؤرخون أن صالحاً -عليه الصلاة والسلام- كما قال الله -تبارك وتعالى- وعدهم ثلاثة أيام: تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ [سورة هود:65]، وأنه وضع لهم علامة في ذلك أن في اليوم الأول تكون ألوانهم كذا، واليوم الثاني تكون وجوههم كذا، واليوم الثالث تكون وجوههم كذا، فلما بدأت هذه العلامات في اليوم الأول ندموا وعرفوا صدق ما وعدهم به، ولكن لات ساعة مندم، والفاء في قوله: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ تدل على التعقيب المباشر، وتعقيب كل شيء ومباشرته بحسبه، يعني لا يلزم أنه بمجرد العقر حصل الندم مباشرة، لكن فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ في الصباح فجاءت الدلائل والأمارات في هذه الأيام الثلاثة على حلول نقمة الله بهم.

وهو أن أرضهم زُلزلت زلزالا شديدًا، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب عن محالها، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.

الأشياء التي يخبر الله فيها عن عقوبة أمة من الأمم تارة يذكر أنه أخذتهم الصيحة، وتارة يذكر أنه أخذتهم الرجفة، فالعلماء يجمعون بين هذا فيقولون: صاح بهم الملك صيحة شديدة انخلعت لها القلوب ورجفت بهم الأرض فهلكوا، فتارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا، والله أعلم.

  1. رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (11898)، وابن حبان في صحيحه برقم (6352)، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (438).
  2. رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة، برقم (1777)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، برقم (147).
  3. جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري(19/ 377).
  4. جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري(19/ 378، 379).
  5. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها، برقم (1013).
  6. جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (19/ 380، 381).
  7. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3274).

مواد ذات صلة