السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} الآية:31 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ١١ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 6077
مرات الإستماع: 15221

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [سورة عبس:17]، يقول الله -تبارك وتعالى- عن هذا الإنسان المكذب: قُتِلَ الْإِنسَانُ دعاء عليه، وذلك بمعنى اللعن، مَا أَكْفَرَهُ، ما أشد كفره مع ظهور ووضوح دلائل وحدانية الله وقدرته على بعث الأجسام، أو قُتل الإنسان ما الذي أكفره مع ظهور ما سبق؟ ثم لفت نظره إلى ذلك فقال: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [سورة عبس:18] ما مبدؤه، ما مادته التي خلق منها؟

مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [سورة عبس:19]، هذه النطفة اليسيرة، قطرة من الماء المهين خلقه الله -تبارك وتعالى- منها، فَقَدَّرَهُ جعله أطواراً يصير إلى علقة ثم مضغة ثم بعد ذلك يتحول إلى شيء آخر، وينفخ فيه الروح حتى يستتمّ، ثم إلى الدنيا إلى أن يموت، ثم بعد ذلك يكون في البرزخ ثم يبعث يوم القيامة، وقد قدر الله عليه رزقه وأجله وعمله.

ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [سورة عبس:20]، هداه النجدين، هداه طريق الخير وطريق الشر، أو يسره إلى سبيل الخروج من بطن أمه، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [سورة عبس:21]، بعد ذلك كله يموت، ثم إن الله -تبارك وتعالى- قد أكرم هذا الإنسان فأقبره، جعله ذا قبر، لا يُلقى في العراء بعد الموت فيكون ذلك شيناً فيه ومهانة.

ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ [سورة عبس:22]، إذا شاء بعثه من جديد كما خلقه من العدم، ثم قال: كَلَّا أي: أن ذلك لم يحن بعد لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [سورة عبس:23]، على قول ابن كثير، حيث بقي مما قدره الله -تبارك وتعالى- مما هو كائن قبل النشور والبعث لابد أن يقع.

وعلى قول الجمهور كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [سورة عبس:23] هذا الكافر لم يحقق ما أمره الله -عز وجل- به من الإيمان، أو أن جنس الإنسان لم يقم بما أوجب الله عليه من وظائف العبودية على الوجه اللائق، فلا يخلو العبد من تقصير.

فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [سورة عبس:24] هذا الطعام كيف جاء إليه، كيف يصل إليه؟ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا [سورة عبس:25]، وفي القراءة الأخرى إِنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا، ينزل المطر منصباً من السماء ثم بعد ذلك تنشق الأرض عن النبات، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ۝ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا [سورة عبس:26، 27] أنواع الحبوب، وَعِنَبًا وَقَضْبًا [سورة عبس:28] الأعناب، والقضب قلنا: يقال لِمَا يحصد ثم يعود ثانياً من الزرع الذي تأكله الدواب، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ۝ وَحَدَائِقَ غُلْبًا [سورة عبس:29، 30] هذه الأشجار ذوات الثمار والحدائق المسوّرة التي تستهوي الناظرين بجمالها وكمالها وجودتها، وامتلاء أشجارها، وضخامة سيقانها، وجذوعها، مع كثرتها وتقاربها والتفاف أغصانها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين ولجميع المسلمين، يا رب العالمين.

وقوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [سورة عبس:31]، أما الفاكهة فكل ما يُتفكه به من الثمار، قال ابن عباس: الفاكهة: كل ما أكل رطباً، والأبّ ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس، وفي رواية عنه: هو الحشيش للبهائم.

وروى أبو عبيد القاسم بن سلام عن إبراهيم التَّيمي قال: سُئِلَ أبو بكر الصديق عن قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبّاً فقال: أيّ سماء تظلني، وأيّ أرض تقلني إن قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم.

فأما ما رواه ابن جرير عن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب : عَبَسَ وَتَوَلَّى [سورة عبس:1] فلما أتي على هذه الآية: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأبّ؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف، فهو إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن أنس به، وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض، لقوله: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً ۝ وَعِنَباً وَقَضْباً ۝ وَزَيْتُوناً وَنَخْلا ۝ وَحَدَائِقَ غُلْباً ۝ وَفَاكِهَةً وَأَبّاً [سورة عبس:27-31].

قوله -تبارك وتعالى: وَفَاكِهَةً الفاكهة معروفة، وأما الأبّ فهنا يقول: ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير -رحمه الله، وأصل المادة يدل على الرجوع، على العوْد، أصل المادة، تقول: آب يئوب، والأوْب، وما إلى ذلك، كل هذا يرجع إلى معنى الرجوع، فالأبّ يقول في رواية: الحشيش للبهائم، رواية عن ابن عباس، الأول قال: ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس، والرواية الأخرى: الحشيش للبهائم، وهما بمعنى واحد، مع أن الضحاك قال ما هو أعم من هذا، قال: كل ما ينبت على وجه الأرض فهو الأبّ.

والله قال: مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [سورة عبس:32]، فهذا يُشعر -والله أعلم- أن ما ذكر منه ما يكون للناس، ومنه ما يكون للدواب والأنعام، فالحدائق والأعناب والفواكه وما إلى ذلك هذا للناس، وأما الأبّ فهو لدوابهم وبهائمهم، -والله تعالى أعلم.

وأما تحرج أبي بكر وكذلك ما جاء عن عمر فهذا كما قال ابن كثير -رحمه الله: كأنه –يعني عمر– أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه. يعني: عين النبات، نبات معين اسمه الأبّ، لكن حينما يقال: الأبّ هو نبات، هذا لا إشكال فيه، أو يقال: ما تأكله الدواب والبهائم، هذا لا إشكال فيه، لكن هل هو نبت بعينه يقال له: الأبّ؟ هذا الذي وقع فيه التحرج.

ومثل هذه المرويات عن السلف -رضي الله تعالى عنهم- تارة لكونه لم يبلغه المعنى، لم يظهر له المعنى، وتارة يفعل ذلك تورعاً، يعني ما جاء عنهم من التوقف أو التحرز في بعض المعاني أو نحو ذلك يكون على سبيل التورع، يتهيبون، الأصمعي إمام في اللغة، والمفردة التي جاءت في القرآن كان لا يجيب فيها ويقول: هذا مما جاء في القرآن؛ لشدة تحرزه، مع حذقه وعلمه وإمامته -والله المستعان.

قال: وعن مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد: الأبّ للبهائم كالفاكهة لبني آدم.

وقوله تعالى: مَتَاعاً لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ أي: عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة.

يعني تتمتعون به في هذه الحياة إلى أن يأذن الله بانقضائها.

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ۝ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ۝ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ۝ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ۝ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ۝ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ۝ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [سورة عبس:33-42].

قال ابن عباس: الصَّاخَّةُ اسم من أسماء يوم القيامة، عظمه الله، وحَذّره عباده، قال ابن جرير: لعله اسم للنفخة في الصور، وقال البَغَويّ: الصَّاخَّةُيعني صيحة القيامة؛ سميت بذلك؛ لأنها تَصُخّ الأسماع، أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تُصمّها.

قوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ "إذا" هذه ما جوابها؟ بعضهم يقول: الجواب محذوف، ولكنه يفهم من قوله -تبارك وتعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، إذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه؛ لشدة الهول وعظم المصاب.

يقول: الصَّاخَّةُ قال ابن عباس: اسم من أسماء القيامة، وقال ابن جرير: لعله اسم للنفخة في الصور، فيقال لها: الصاخة باعتبار أن ابن جرير -رحمه الله- يقول: إن الصوت هو الصاخّ، فهذه النفخة صاخة، صخ أذنه يعني: الصوت الشديد، بهذا الاعتبار؛ ولهذا يقول البغوي: الصاخة يعني صيحة يوم القيامة، وهذا بمعنى ما سبق، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع، أي تبالغ في الإسماع حتى تكاد تصمها.

يعني: أنها صوت شديد يصدم الأسماع، فيقال: صخّ هذا الصوتُ الأسماع، صخ الآذانَ لشدة وقعه عليها، كاد أن يصمها، والأذن فيها جزء خلفها يقال له القوقعة لها مثل الخيوط المتدلية، هذه الخيوط إذا جاء الصوت يصدمها فيسمع الإنسان، فإذا جاء ما يصخ سمعه أتلف هذه الخيوط المتدلية، ثم بعد ذلك أتلف السمع، أي الأصوات القوية جداً؛ ولذلك تجد الناس الذين يعملون أحياناً على سماعات أوقاتاً طويلة قد يذهب سمعهم، والسبب أن هذه تتضرر فتتلف، فإذا جاء الصوت لم يعد هناك ما يصطدم به فيترجم عن هذا الصوت فيسمعه.

هذا معروف عند العرب، من شدة الصوت تصخ الآذان، وقد تُذهب السمع بالكلية، وأصلها من الصك الشديد، الصاخة: الصك الشديد، صخّه بكذا.

ولهذا يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ أي: يراهم، ويفر منهم، ويبتعد عنهم؛ لأن الهول عظيم، والخطب جليل.

وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة: أنه إذا طلب إلى كلٍّ من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق يقول: نفسي نفسي، لا أسأله اليومَ إلا نفسي حتى إن عيسى ابن مريم يقول: لا أسأله اليوم إلا نفسي، لا أسأله مريم التي ولدتني[1]؛ ولهذا قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.

قال قتادة: الأحب فالأحب، والأقرب فالأقرب، من هول ذلك اليوم.

قوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ليس هذا هو جواب فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، من جهة الإعراب يحتمل أن يكون بدلاً منه، فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يعني: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، أو أنه منصوب بمقدر فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُيَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، فيكون تفسيراً للصاخة، أو بدلاً منها، لكن يكون الجواب مقدراً، -والله أعلم.

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، يفر من أخيه وأمه وأبيه لماذا؟ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [سورة عبس:37]، فبعض السلف -واختاره ابن جرير- يقول: يفر منهم؛ لئلا يطالبوه بالحقوق والمظالم، يعني يكون قصّر في حقوقهم، قصر في واجبه نحوهم، فيطالبونه به، فيفر منهم إذا رآهم، وهذا يدل على أنه يفر من غيرهم من باب أولى، فهذا قال به طائفة من السلف، وهو اختيار ابن جرير، ويحتمل غير ذلك.

بعضهم يقول: يفر من أخيه وأمه... كراهية أن يروا ما به من الشدة -نسأل الله العافية؛ لئلا يروه في حال يكرهونها، أو يكره أن يراه الناس عليها، أو لعلمه أنهم لا ينفعونه.

ويمكن أن يقال -والله أعلم: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ؛ لأنه مشغول بنفسه، ليس لديه أي اقتدار على سماع ما بالآخرين أو الشكوى، أو المطالبة بحق، أو المطالبة بحسنة، فهو حينما يراهم يفر منهم؛ لأنه مشغول بنفسه ليس عنده قدرة على نفعهم بشيء، لا يستطيع أن يقدم لهم نافعة، فإذا رآهم فر منهم؛ لئلا يطالبوه بحسنات، أو لئلا يطالبوه بحقوق، كل ذلك وارد، فهو مشغول بنفسه عنهم.

فإذا ذكر هؤلاء الذين يسمون الدائرة الأولى في القرابات، القرابة دوائر، فهذه الدائرة رقم واحد، الأصول والفروع، يعني الإخوة والأخوات، الأب والأم، الزوجة والأولاد، الدائرة الأولى، الذين هم أقرب الناس إليه، ومع ذلك يفر منهم، يعني الأخ هو العاضد، يعني الناصر، والأب محل تعظيم وتقدير، والأبناء القلوب بهم أعلق؛ لأنهم بضعة منه، فالقلب يتفرق بين هؤلاء عادة، الإخوة ينتظر منهم العون والنصر، يتقوى بهم، والأب والأم لا يرد لهم طلباً، والأولاد يموت دونهم، ويود لو أنهم لم يطئوا على الأرض؛ لئلا يلحقهم بذلك مشقة، ويوم القيامة: نفسي نفسي، لن يجد أحداً يقف معه، لن يجد معيناً ولا مؤازراً، أقرب الناس إليه، فكيف بالأصدقاء الأصحاب؟!

أما الأشرار فكما قال الله: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [سورة الزخرف:67]، فلن يجد من زملاء ومعارف وجيران وقرابات، لن يجد من أحد رفداً ولا عوناً إطلاقاً، وإنما يعتقه أو يوبقه عمله، فاللائق بالإنسان إذا كان الأمر بهذه المثابة أن يبحث عما يحصل به الخلاص في ذلك اليوم، وعما يؤنسه وهو العمل الصالح والإيمان بالله -تبارك وتعالى، فإذا كان حظه من ذلك وافراً كانت حاله آنذاك أفضل وأكمل وأطيب، وإذا كان الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يأتيهم الناس وكل واحد منهم يقول: نفسي نفسي، فكيف بما دون الرسل -عليهم الصلاة والسلام؟ في الدنيا الناس يتعاونون ويتوانسون، ويتسلى بعضهم بما يقع لبعض من الآلام والعلل والمصائب، وهناك كل أحد يجد أن مصيبته قد انفرد بها واختص بها، لا يشاركه في ذلك أحد.

والمقصود أن مثل هذه تدفع الإنسان إلى مراجعة النفس، والتوبة إلى الله ، والجد والاجتهاد، والعمل الصالح، فذلك اليومُ الحق، وما عداه هذه الدنيا بما فيها، كل ما يجري فيها من اللذات والأتعاب إنما هي أحلام نائم سرعان ما تنقشع، وتبقى في النهاية ذكريات، لا يدوم شيء منها على حال، لا أوقات العافية، ولا أوقات المرض والشدة، كل ذلك يزول، ولكن الحياة التي لا تزول هي تلك الحياة التي علة العليل فيها لا تبرأ، ولا يمكن الإمهال أو الرجوع إلى الدنيا أو إعطاء فرص جديدة، يبقى الإنسان أسيراً من عمله، والأمر قريب جداً، يمكن أن يموت الإنسان الآن وهو في مكانه، ثم يعاين الحقائق ويكون أسيراً لعمله، لا يستطيع أن يتزود، ولا ينفعه ندم، ولا تُرجي توبة، والله المستعان.

وقوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي: هو في شُغُل شاغل عن غيره.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: تحشرون حفاة عراة مشاة غُرلاً قال: فقالت زوجته: يا رسول الله، ننظر أوْ يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أو قال: ما أشغله عن النظر[2].

وعن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: تُحشَرون حُفاة عُرَاة غُرْلا، فقالت امرأة: أيبصر -أو: يرى- بعضنا عورة بعض؟ قال: يا فلانة، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[3]، ثم قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح.

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ هذا يبين لك لماذا يشتغل كل أحد بنفسه ويفر من أقرب الناس إليه، قال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.

فقوله: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، كما يقول ابن قتيبة: يصرفه عن قرابته، له شأن، التنكير في "الشأن" هنا يدل على التهويل والتعظيم، شأن كبير يُغْنِيهِ يصرفه عن قرابته وعن الاشتغال بهم، أو الوقوف معهم أو مجرد الاستماع إليهم، والعرب تقول: أغنِ عني وجهَك، يعني: اصرفه عني، فيكون هذا من معناه.

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ يصرفه عن غيره، ويغنيه أيضاً، يعني فيه ما يكفيه، نزل به ما يكفيه مما لا يحتمل معه بلاءً من غيره، أن يدفع عن أحد أو يسمع من أحد أو يعطي أحداً شيئاً من حسناته، لكن إذا بدأ الحساب، والمقاصّة بين الخلق، وبدأت خزائن أعماله -لاسيما إذا كانت قليلة- تستخرج الحسنات، وينتثلها من وقعت عليهم مظالمه، فعند ذلك يرى الحسرات بعينه، يقتص الناس منه، يأخذون من الحسنات، فإذا فنيت حسناته ألقوا عليه من سيئاتهم، هذا الذي ما يقف مع أبيه ولا أمه ولا أولاده من أجل أن يعطيهم حسنة واحدة، يجد هذه الحسنات تؤخذ من بين يديه وهو يشاهد بسبب مظالم ظلمها هؤلاء في الدنيا، إما في عرضهم -تكلم فيهم، أو كان ذلك في أموالهم، أو غير ذلك.

وقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ۝ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [سورة عبس:38، 39] أي: يكون الناس هنالك فريقين: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي: مستنيرة،ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي: مسرورة فرحة، من سرور قلوبهم قد ظهر البشر على وجوههم، وهؤلاء أهل الجنة.

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم مُسْفِرَةٌ مستنيرة، مضيئة، حسنة، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، مع شدة الموقف إلا أن الناس ينقسمون إلى قسمين بحسب أعمالهم.

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ۝ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [سورة عبس:40، 41] أي: يعلوها ويغشاها قترة، أي: سواد.

وقال ابن عباس: تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أي: يغشاها سواد الوجوه.

غبرة يعني: غبار وكُدورة، وما زال الناس يقولون على سبيل الذم للبعير: أغبر، عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، يعني: هذه الوجوه كدِرة متغيرة، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ يقول: يعلوها ويغشاها قترة: سواد الوجوه.

وابن جرير وقبله أبو عبيدة معمر بن المثنى يقولون: القَتَر هو الغبار، عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ۝ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، وزيد بن أسلم يقول: إن القترة ما ارتفع إلى السماء من الغبار، المرتفع يقال له: قترة، والغبرة ما انحط إلى الأرض؛ لأن الغبار يكون نازلاً، والقَتَر يكون عالياً، وهنا قال: عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ۝ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ يعلوها سواد، تغير لون هذه الوجوه، بخلاف تلك الوجوه المضيئة، الحسنة المشرقة، يعني كما قال الله -عز وجل: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران:106] هذا معناه، -والله تعالى أعلم.

وقوله: أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [سورة عبس:42] أي: الكفرة قلوبهم، الفجرة في أعمالهم، كما قال تعالى: وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً [سورة نوح:27].

آخر تفسير سورة "عبس" ولله الحمد والمنة.

يعني هذه وجوه الكفار، مع أن بعض السلف قالوا في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قالوا: وجوه أهل البدع تسوّد، وقال الله تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ وهناك قال: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [سورة آل عمران:106]، فدل على أن المراد بذلك الكفار، لكن يكون للإنسان من التغير بحسب حاله من الإيمان والفجور والطاعة والمعصية، يكون له من الإشراق ووضاءة الوجه بحسب ما معه من الإيمان والعمل الصالح، فالناس يتفاوتون في هذا كله، كما ترى هذا التفاوت بينهم في الدنيا في أعمالهم.

وكما قال ابن القيم -رحمه الله: يكون سيرهم على الصراط في الآخرة كسيرهم على الصراط في الدنيا، وقالوا أيضاً: للعبد موقفان بين يدي الله ، الأول في الصلاة، والثاني للحساب، فمن حسن موقفه في الصلاة حسن موقفه عند الحساب، والله يقول: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة التحريم:7]، فهذه أعمالهم، إنما هي أعمالكم أحصيها ثم أوفيكم إياها[4].

  1. هو في الصحيحين لكن ليس بهذا اللفظ، وإنما يقول عيسى حين يطلب منه الشفاعة: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد، رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [سورة الإسراء:3]، برقم (4712)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (194).
  2. تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3400)، برقم (19129)، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية، ط3، سنة النشر:1419 هـ.
  3. رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب كيف الحشر، برقم (6527)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة عبس، برقم (3332).
  4. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).

مواد ذات صلة