السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} الآية:19 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ١١ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 7715
مرات الإستماع: 12371

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [سورة التكوير:6] بمعنى أوقدت، مُلئت، فجرت، هذه عبارات السلف -رضي الله تعالى عنهم، وبعضهم يقول: صارت يابسة، ومن أهل العلم من يجمع بين هذه المعاني فيقولون: فُجرت ففتحت على بعضها فملئت، وسالت وسعرت واضطرمت ناراً، ومن أدخل المعنى الأخير قال: حصل لها الجفاف بذلك، والله تعالى أعلم.

قال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [سورة التكوير:7]، إلحاق النظير بنظيره، فأهل الإيمان مع أهل الإيمان، وأهل الكفر مع أهل الكفر، على اختلاف طوائفهم ومللهم ونحلهم، وهذا يكون في محشرهم، كما أنه يكون أيضاً في عاقبة أمرهم في الجنة أو في النار كما جاء عن السلف -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم- وتُزوج نفوس أهل الإيمان، فيكون المؤمن مع المؤمنين في الجنة، والكافر مع الكافرين في النار، وقول من قال: زوجت نفوس أهل الإيمان بالحور العين فهذا مما يرجع إليه كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله، وهكذا قول من قال: زوجت نفوس الكافرين بالشياطين في النار فهذا يرجع إليه.

وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ۝ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [سورة التكوير:7، 8]، البنت التي دفنت وهي حية تُسأل ما ذنبك ما جنايتك؟!

تُسأل تبكيتاً لمن وأدها بأي ذنب قتلت؟

وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [سورة التكوير:10]، صحائف الأعمال تطوى حينما يموت الإنسان، ثم تنشر، فيجد كل أحد كتاباً بين يديه يلقاه منشوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [سورة الإسراء:14].

وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ [سورة التكوير:11] جذبت ونزعت بشدة وقوة، قلعت كما يكشط الجلد، نُزعت فطُويت، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ [سورة التكوير:12]، تضرم النار، وهي متوقدة ولكنه يزاد في وقودها.

وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [سورة التكوير:13] قربت لأهلها، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ [سورة التكوير:14]، في هذه الحال يعلم كل أحد ما قدم وما هو عليه من العمل؛ لأنه شاهد صحيفة عمله وقرأها، فعرف حاله معرفة تامة على سبيل التفصيل بعد أن عرف ذلك معرفة مجملة حينما عاين ما عاين بعد الموت، وبعد البعث، وهذا هو الجواب لما قبله، يعني إذا حصلت هذه الأمور علمت نفس ما أحضرت.

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ [سورة التكوير:15] أقسم، و"لا" هذه لتأكيد القسم، الخنس الجواري الكنس، أقسَمَ بالنجوم أو الكواكب التي تخنِس، وذكر أحوالها الثلاث: الخنس، والجواري، والكنس، فتغيب تحت ضوء الشمس وتختفي، هذا هو المشهور الذي عليه الجمهور، وبعضهم يقول: هي بقر الوحش أو الظباء، وبعضهم جعل المعنى يشمل ذلك جميعا، كل ما يتصل بهذا، مع أن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- اختار أنها النجوم، ورد على من قال: إنها الظباء، أو بقر الوحش من أوجه كثيرة وضعّفه.

من هذه الأوجه: أنه لم تجرِ العادة في القرآن بالقسم بالظباء، ولا ببقر الوحش، كذلك أيضاً أن النجوم آية أعظم وأبلغ، وكذلك النجوم يشاهدها الجميع أما الظباء وبقر الوحش فلا تُعرف هذه التفاصيل من أحوالها لدى كل الناس، ولا يشاهدونها، وذَكَرَ بالخنس معنى الخنس في الظباء وبقر الوحش أن آنافها تكون إلى الأعلى، يعني ليست قائمة، ترون الأبقار كيف تكون آنافها إلى الأعلى، يعني ليست قائمة كأنف الإنسان، فيقول: هكذا الظباء أيضاً، ويقول: هذا هو المراد، لهذا الخنساء يقال لها: الخنساء؛ لارتفاع في أنفها، فيقول: إن هذه الصفة لا يعرفها أكثر الناس عن بقر الوحش والظباء فكيف يقسم بشيء خفيٍّ؟ ما جَعل ذلك باعتبار أنها تختفي، يقول: لأنها لا تختفي دائماً هي في الفلوات.

ويقول: "الخُنّس" ليس ذلك جمعاً لما قيل من أنها الظباء، وإنما الظباء يقال: الخُنْس؛ باعتبار هذه الصفة فيها، والمؤنث يقال: خنساء، الواحدة، والجمع يقال: خُنْس، يقال: أخنس وخنساء، ويجمع ذلك جميعاً على الخُنْس، قال: هنا قال: "الخُنّس" إذاً هي ليست بمعنى أنها تخنِس، أي ليس معنى ذلك أن الظباء أو بقر الوحش كونها خنساء بهذه الصفة فيها، وإلا لقال: الخُنْس، وإنما قال: "الخُنّس" ذكر هذه وذكر غيرها يرجح بذلك أن المراد النجوم أو الكواكب، وكما سبق أن ابن جرير -رحمه الله- يحمل ذلك على كل ما يتصف بهذا.

الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [سورة التكوير:16] هاتان صفتان أخريان لها: جوارٍ وكنس، تكنِس والكِناس هو غروبها، أو المحال التي تأوي إليها بقر الوحش أو نحو ذلك، فذلك كِناسها، ابن القيم يقول: ليست بقر الوحش والظباء هي التي لها كِناس حتى يقال لها: الجوار الكنس، يقول: حتى الطيور وبقية الحيوانات فلماذا خصها؟

وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [سورة التكوير:17]، يأتي بمعنى أقبل ويأتي بمعنى أدبر، وحمل المشترك على معنيين  -لاسميا إذا دل الدليل على أن كل واحد صحيح- ثابت لا إشكال فيه، ومن هنا قال بعض أهل العلم: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ أقسم به في حال إقباله وفي حال إدباره، ومن أهل العلم من قال: المراد أقبل قال: لأنه قابله بتنفس الصباح، فأقسم بكل واحد منهما في حال إقباله، والذين قالوا: أدبر قالوا: هذا المناسب لما بعده، فإذا أدبر تنفس الصباح، وابن القيم ينتصر لهذا بقوة، ويقول: هذا هو القول؛ للبعد ما بين ظلام الليل في حال إقباله وطلوع الصبح فناسب أن يكون ذلك بعده مباشرة كما قال: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ۝ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ [سورة المدثر:33، 34].

وتنفُّسُ الصباح معروف بضيائه ونسيمه، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [سورة التكوير:19] هذا المقسم عليه.

وسنقرأ بعض العبارات المهمة في نظري من كلام ابن القيم لما فيها من فائدة، أو تفصيل، أو طريقة قوية في الترجيح، أو لفتة جميلة، ولا نقرأ كل كلامه ولكن مختارات من كلامه، فابن القيم يرى أن وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [سورة التكوير:5] أنه في يوم القيامة، ذكره من جملة الأدلة على أن الوحوش والحيوانات تحشر يوم القيامة، وليس كما جاء عن أُبي في الرواية التي سبقت أنها تختلط في الدنيا وتذهب منها الوحشة أو الاستيحاش، تخالط الناس أو يخالط بعضها بعضاً عند أهوال القيامة في آخر الزمان، هذا كلام ابن القيم لكن ممكن أن نترك هذا، هذا حاصله الذي ذكرته آنفاً.

قال ابن القيم -رحمه الله: "ولما كان للنجوم حال ظهور وحال اختفاء وحال جريان وحال غروب أقسم سبحانه بها في أحوالها كلها، ونبه بخُنوسها على حال ظهورها؛ لأن الخُنوس هو الاختفاء بعد الظهور، ولا يقال لما لا يزال مختفياً: إنه قد خنس، فذكر سبحانه جريانها، وغروبها صريحاً"[1].

هنا يُلفت النظر إلى مسألة الطلوع أنه على طريق التنبيه بالخنوس.

وقال -رحمه الله: "وخنوسها، وظهورها، واكتفى من ذكر طلوعها بجريانها الذي مبدؤه الطلوع، فالطلوع أول جريانها، فتضمن القسم طلوعها وغروبها وجريانها واختفاءها، وذلك من آياته ودلائل ربوبيته، وليس قول من فسرها بالظباء وبقر الوحش بالظاهر؛ لوجوه:

أحدها: أن هذه الأحوال في الكواكب السيارة أعظم آية وعبرة.

الثاني: اشتراك أهل الأرض في معرفته بالمشاهدة والعيان.

الثالث: أن البقر والظباء ليست لها حالة تختفي فيها عن العيان مطلقاً، بل لا تزال ظاهرة في الفلوات.

الرابع: أن الذين فسروا الآية بذلك قالوا: ليس خنوسها من الاختفاء، قال الواحدي: هو من الخَنَس في الأنف وهو تأخر الأرنبة وقصر القصبة، والبقر والظباء أنوفهن خُنْس، والبقرة خنساء، والظبي أخنس، ومنه سميت الخنساء؛ لخَنَس أنفها"[2].

هذه الوجوه ذكرت لكم حاصلها فلتراجع في موضعها.

وقال -رحمه الله: "واختلف في عسعسة الليل هل هي إقباله أم إدباره؟ فالأكثرون على أن عسعس بمعنى ولى وذهب وأدبر هذا قول علي وابن عباس وأصحابه، قال الحسن: أقبل بظلامه وهو إحدى الروايتين عن مجاهد

فمن رجح الإقبال قال: أقسم الله بإقبال الليل وإقبال النهار فقوله: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ مقابل لليل إذا عسعس، قالوا: ولهذا أقسم الله بـ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [سورة الليل:1، 2] وبالضحى، قالوا: فغشيان الليل نظير عسعسته، وتجلى النهار نظير تنفس الصبح، إذ هو مبدؤه وأوله.

ومن رجح أنه إدباره احتج بقوله تعالى: كَلاّ وَالْقَمَرِ ۝ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ۝ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ [سورة المدثر:32- 34] فأقسم بإدبار الليل وإسفار الصبح وذلك نظير عسعسة الليل وتنفس الصبح، قالوا: والأحسن أن يكون القسم بانصرام الليل وإقبال النهار فإنه عقيبه من غير فصل، فهذا أعظم في الدلالة والعبرة بخلاف إقبال الليل وإقبال النهار فإنه لم يعرف القسم في القرآن بهما، ولأن بينهما زمناً طويلاً، فالآية في انصرام هذا ومجيء الآخر عقيبه بغير فصل أبلغ، فذكر سبحانه حالة ضعف هذا وإدباره وحالة قوة هذا وتنفسه، وإقباله يطرد ظلمة الليل بتنفسه، فكلما تنفس هرب الليل وأدبر بين يديه، وهذا هو القول، والله أعلم"[3].

وهذا الكلام الذي يذكره ابن القيم -رحمه الله- يقول: قالوا، وقالوا، في كثير من الأحيان -والله أعلم- فيما أطالعه من كتب التفسير، ومراجعة كلام المفسرين وكذا لا أجد لذلك أثراً، يعني كلام ابن القيم لا تجده في كتب التفسير، لكن هو -رحمه الله- يحتج لهؤلاء بما يمكن أن يحتجوا به، فيذكر ذلك على سبيل المناظرة، فيستقصي لهم الأدلة ويبدع في هذا -رحمه الله- غاية الإبداع، وإلا فمثل هذا الكلام في مواضع كثيرة كما اعتدنا في دروس التفسير لا تجد له نظيراً إطلاقاً في كتب التفسير، ولا في طريقة الترجيح، ولا بالمقارنة بين الأقوال، ولا بطريقة الجمع بينها في بعض المناقشات في عبارة عذبة سلسة واضحة، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [سورة التكوير:17] كما سبق يمكن أن تحمل على المعنيين، باعتبار أن كل واحد منهما شهد له القرآن.

وقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [سورة التكوير:19]، يعني أن هذا القرآن لَتبليغُ رسول كريم، أي ملك شريف حسن الخلق بهي المنظر وهو جبريل -عليه الصلاة والسلام، قاله ابن عباس، والشعبي، وميمون بن مهران، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والضحاك، وغيرهم.

هذا هو جواب القسم، أقسم بالخنس الجواري الكنس، وأقسم أيضاً بالليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس، قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وهذا الرسول الكريم المقصود به جبريل -عليه الصلاة والسلام- بالإجماع؛ لأن الله وصفه هنا قال: ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [سورة التكوير:20، 21] هذا كله في جبريل ﷺ كما قال الله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [سورة النجم:5].

أما الذي في سورة الحاقة إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [سورة الحاقة:40-42]، فهذا الرسول هو الرسول البشري محمد ﷺ بناء على الصفة، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ فأضافه إلى الرسول الكريم في الموضعين، والكريم هو الشريف من جنسه كما سبق، فهذه الإضافة باعتبار التبليغ، فهي وظيفة الرسول الملائكي، وهي وظيفة الرسول البشري -عليهم الصلاة والسلام، يبلغون عن الله.

وصحة الإضافة بهذا الاعتبار، وإلا فهو كلام الله قول الله، فالقرآن هو كلام الله بلفظه ومعناه، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [سورة التوبة:6] فأضافه إلى الرسول الملائكي تارة، وإلى الرسول البشري تارة باعتبار أنهما مبلغان عن الله.

ذِي قُوَّةٍ كقوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى أي: شديد الخلْق، شديد البطش والفعل، عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍأي له مكانة عند الله ومنزلة رفيعة، مُطَاعٍ ثَمَّ أي له وجاهة، وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى، قال قتادة: مُطَاعٍ ثَمَّ أي: في السماوات يعني هو ليس من أفناد الملائكة، بل هو من السادة والأشراف، معتنى به، انتخب لهذه الرسالة العظيمة.

مطاع ثم: أي مطاع بين الملائكة، مطاع في الملأ الأعلى ﷺ، وقوله هنا: هو ليس من أفناد الملائكة، الأفناد جمع الفَنَد، هذه المادة تدل على القوة والشدة، الشديد القوي، ولكن السياق الذي ذكرها فيه ابن كثير -رحمه الله- كأنه يقصد بذلك: ليس من أفناد الملائكة، يعني ليس من آحاد الملائكة، ليس من أفراد الملائكة، إنما هو أعظم الملائكة وأشرف الملائكة، وليس من أفراد الملائكة، هكذا أراد، والله تعالى أعلم.

وفي بعض الطبعات: من أفناء يعني لا يُعلم من هو، يعني هو ليس مجهولاً، وليس ممن لا يعرف؛ لأن أفناد هنا تحتاج إلى تخريج كما ذكرت أن السياق يدل على أنه استعملها يريد ليس من أفراد الملائكة، وإلا فأصل المادة يدل على الشدة والقوة، فكنت أعجب من استعمال ابن كثير -رحمه الله- لهذه اللفظة هنا ليس من أفناد الملائكة ليس من أشداء الملائكة وأقوياء الملائكة، هكذا لو أردنا أن نفسرها بمعناها، لكن وجدت لذلك مساغاً أنه لربما استعملت هذه الكلمة بهذا السياق ليس من آحاد الناس، ليس من أفراد الناس أو نحو ذلك، لكن ليس هو معناها الأصلي، فكونها أفناء هذا هو المناسب، يعني هو من رؤساء الملائكة، ليس من أفناء، بالهمزة وليس بالدال.

وقوله: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [سورة التكوير:21] "ثَمّ" هذه ظرف مكان للبعيد، مُطَاعٍ ثَمَّ مطاع في السماوات، أمين فيها أي على ما ائتمنه الله عليه من الوحي، وما جعله أميناً عليه مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ليست هذه "ثُم"، وإنما "ثَم" بمعنى هناك، وابن القيم -رحمه الله- تكلم على هذا الموضع بكلام جيد فيه إشارات جميلة وهذه الصفات التي ذكرها الله، وما تدل عليه، فقال -رحمه الله تعالى: "ووصف رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم، قوي، مكين عند الرب تعالى، مطاع في السماوات، أمين، فهذه خمس صفات تتضمن تذكية سند القرآن، وأنه سماع محمد من جبريل وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علواً وجلالة قولُ الله سبحانه بنفسه تزكيته.

الصفة الأولى: كون الرسول الذي جاء به إلى محمد كريماً، ليس كما يقول أعداؤه: إن الذي جاء به شيطان، فإن الشيطان خبيث مخبث لئيم قبيح المنظر عديم الخير، باطنه أقبح من ظاهره، وظاهره أشنع من باطنه، وليس فيه ولا عنده خير فهو أبعد شيء عن الكرم، والرسول الذي ألقى القرآن إلى محمد ﷺ كريم جميل المنظر، بهي الصورة، كثير الخير، طيب مطيب، معلم الطيبين، وكل خير في الأرض من هدى وعلم ومعرفة وإيمان وبر فهو مما أجراه ربه على يده، وهذا غاية الكرم الصوري والمعنوي.

الوصف الثاني: أنه ذو قوة كما قال في موضع آخر: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، وفي ذلك تنبيه على أمور:

أحدها: أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو منه، وأن ينالوا منه شيئاً، وأن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقربه.

الثاني: أنه موالٍ لهذا الرسول الذي كذبتموه، ومعاضد له، وموادٌّ له وناصر، كما قال تعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [سورة التحريم:4]، ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه، ومعلمه فهو المهدي المنصور، والله هاديه وناصره.

الثالث: أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك.

الرابع: أنه قادر على تنفيذ ما أمر به لقوته، فلا يعجز عن ذلك، مؤدٍّ له كما أمر به لأمانته، فهو القوي الأمين، وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو وكالة أو غيرها فإنما ينتدب له القوي عليه الأمين على فعله، وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قوياً أميناً، معظماً، ذا مكانة عنده، مطاعاً في الناس، كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفات، وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل والرسول والرسالة والمرسل إليه، حيث انتدب له الكريم القوي، المكين عنده، المطاع في الملأ الأعلى، الأمين حق الأمين، فإن الملوك لا ترسل في مُهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية"[4].

هذا الكلام الذي ترونه كل صفة استخرج منها معاني، وربط ذلك بحال النبي ﷺ، قال: إذا كان الذي يأتيه بالوحي بهذه المثابة فينبغي أن يكون هذا الرسول الذي اختير لذلك أن يكون أيضاً بهذه الأمانة والشرف وما إلى ذلك، وهذا الجزء هو الذي يسمونه بالتفسير الإشاري -هذا الجزء الأخير، والتفسير الإشاري غالبه وعامته لا يصح -كلام الصوفية وما أشبه ذلك؛ لأنه لا يستند إلى قاعدة، أو طريقة من طُرق الاستنباط، ولكن يوجد منه أشياء من قبيل الشيء بالشيء يذكر، النظير بالنظير، الاعتبار، المقايسة، يذكره ابن كثير، وابن القيم، وابن تيمية، والسعدي وأمثال هؤلاء، دعنا من الصوفية، هذه أمثلة قليلة جداً جميلة مفيدة، وذكرت لكم منها قول شيخ الإسلام وابن القيم في وصف القرآن بأنه فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ۝ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ [سورة عبس:13، 14] قالوا: ينبغي إذا كان الذي في السماء بهذه المثابة أن يكون الذي في الأرض بهذه المثابة، لا يمسه إلا المطهرون.

بل قال شيخ الإسلام وابن القيم: إذا كان هذا القرآن بهذه المثابة أنه بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:15، 16]، ولَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة:79] فكذلك معانيه لا تدخل إلا في القلوب الطيبة، لا تدخل إلا في القلوب الزاكية، هذا كله من قبيل التفسير الإشاري وليس من قبيل التفسير بإشارة النص.

قال ابن القيم -رحمه الله: "وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل والرسول والرسالة والمرسل إليه، حيث انتدب له الكريم القوي، المكين عنده، المطاع في الملأ الأعلى، الأمين حق الأمين، فإن الملوك لا ترسل في مُهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية"[5].

يعني هذا يعتبر من دلالة الاقتضاء، يقتضي كذا، وهي دلالة معروفة من أنواع المنطوق، لا إشكال فيها.

وقوله تعالى: أَمِينٍ صفة لجبريل بالأمانة، وهذا عظيم جداً أن الرب يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمداً ﷺ بقوله تعالى: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ.

قال الشعبي، وميمون بن مهران، وأبو صالح، ومن تقدم ذكرهم: المراد بقوله: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ يعني محمداً ﷺ.

هنا ذِكرُ الصاحب يدل على معنى وهو أنهم يعرفونه تمام المعرفة، وهو أبعد ما يكون عن الجنون، وهذا الذي جاء به لا يمكن أن يصدر عن مجنون.

وقوله تعالى:وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [سورة التكوير:23]، يعني ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أي: البين وهي الرؤيا الأولى التي كانت في البطحاء والمذكورة في قوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ۝ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ۝ وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ۝ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ۝ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ۝ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [سورة النجم:5-10] كما تقدم تفسيرُ ذلك وتقريرُه والدليلُ أن المراد بذلك جبريل .

والظاهر -والله أعلم- أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤيا وهي الأولى.

وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ۝ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ۝ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ۝ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [سورة النجم:13-16] فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يعني مطلع الشمس من جهة المشرق هذا هو الأفق المبين، وإلا فإن الأفق يقال على المشرق، كما يقال أيضاً على المغرب، كل ذلك يقال له: الأفق، لكن لما قال: "المبين" دل على أنه من جهة المشرق، فهذا هو المبين الذي تُرى به الأشياء، وبعضهم يقول: بالأفق المبين يعني أقطار السماء ونواحيها كل ذلك يصدق عليه، وبنحوه قال ابن جرير -رحمه الله، يعني لم يقيد ذلك بناحية المشرق.

وقوله تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [سورة التكوير:24] أي: وما محمد على ما أنزله الله إليه بظنين أي بمتهم، ومنهم من قرأ ذلك بالضاد أي: ببخيل بل يبذله لكل أحد، قال سفيان بن عيينة: ظنين وضنين سواء، أي: ما هو بكاذب، وما هو بفاجر، والظنين المتهم، والضنين البخيل، وقال قتادة: كان القرآن غيباً فأنزله الله على محمد فما ضنّ به على الناس، بل نشره، وبلغه، وبذله لكل من أراده، وكذا قال عكرمة وابن زيد وغير واحد، واختار ابن جرير قراءة الضاد، قلت: وكلاهما متواتر، ومعناه صحيح كما تقدم.

قوله: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضاد هذه قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى بالظاء -أخت الطاء- فهذه قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ومعنى "بضنين": ببخيل، ضن بماله، ضن بما في يده، ضن بعلمه، يعني بخل، وظنين من الظن يعني أنه متهم، ليس على علم وبينة ويقين من أمره، فالسلف فسروا هذا، وهذا كله حق، والقاعدة أن القراءتين إذا كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين، فهذه دلت على معنى، وهذه دلت على معنى، وهذا من إعجاز القرآن حيث يصرّفه الله بهذه الألفاظ التي يركب الناس كلامهم من حروفها، ومع ذلك يتحداهم أن يأتوا بمثله على أي وجه كان، وكذلك أيضاً تكثُر المعاني وتتوارد، ويكون ذلك زيادة في الأحكام بتنوع هذه القراءات.

وهنا في قول قتادة: كان القرآن غيباً فأنزله الله على محمد ﷺ فما ضن به على الناس، بمعنى أن الإنسان إذا كان عنده شيء نادر، أو شيء لا وجود له عند الآخرين أنه يمسكه، يكون عزيزاً على نفسه، لا يبذله للناس، لا يسهل ذلك على نفسه، والنبي ﷺ الله أنزل عليه هذا الوحي الذي فيه السعادة في الدنيا والآخرة، ومع ذلك كان في غاية البذل والجود، فبلغ البلاغ المبين -عليه الصلاة والسلام، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: "ثم نزه رسوليه كليهما -أحدهما: بطريق النطق، والثاني: بطريق اللزوم- عما يضاد مقصود الرسالة من الكتمان الذي هو الضنة، والبخل، والتبديل، والتغيير الذي يوجب التهمة، فقال: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين: أداؤها من غير كتمان، وأداؤها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان، والقراءتان كالآيتين، فتضمنت إحداهما -وهي قراءة الضاد- تنزيهه عن البخل، فإن الضنين هو البخيل، يقال: ضنِنتُ به أضنّ بوزن بخِلتُ به أبخل"[6].

من باب ضنِنتُ فهو أضَنّ الوصف بالضاد -أخت الصاد، يقال: فلان أضن، وهو ضنين، يعني بخيل، أما بالظاء -أخت الطاء- فتقول: ظنَنُت كذا أظُنه، الذي هو الشك أو الريبة، أو عدم التيقن من الشيء، ظننت أظن فهو ظان يظن.

وقال -رحمه الله: "يقال ضنِنت به أضن بوزن بخلت به أبخل ومعناه، ومنه قول جميل بن معمر:

أجودُ بمضمونِ التِّلادِ وإنني بسرِّكِ عمن سألني لضنينُ

قال ابن عباس -رضي الله عنهما: ليس بخيلاً بما أنزل الله، وقال مجاهد: لا يضن عليهم بما يعلم، وأجمع المفسرون على أن الغيب هاهنا القرآن والوحي، وقال الفراء: يقول تعالى يأتيه غيب السماء وهو منفوس فيه، فلا يضن به عليكم"[7].

لاحظ وهو منفوس فيه، وهو على الغيب يعني على الوحى، يعني هذا الشيء خُص به، نفيس جداً، غاية النفاسة، مع ذلك ينقله ويجود به.

وقال أيضاً -رحمه الله: "وهذا معنى حسن جداً فإن عادة النفوس الشح بالشيء النفيس، ولاسيما عمن لا يعرف قدره، ويذمه، ويذم من هو عنده، ومع هذا فهذا الرسول لا يبخل عليكم بالوحي الذي هو أنفس شيء وأجله.

وقال أبو علي الفارسي: المعنى يأتيه الغيب فيبينه ويخبر به ويظهره، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه حتى يأخذ عليه حُلواناً.

وفي معنى آخر وهو أنه على ثقة من الغيب الذي يخبر به فلا يخاف أن يَنتقض، ويظهر الأمر بخلاف ما أخبر به كما يقع للكهان وغيرهم ممن يخبر بالغيب، فإن كذبهم أضعاف صدقهم، وإذا أخبر أحدهم بخبر لم يكن على ثقة منه بل هو خائف من ظهور كذبه، فإقدام هذا الرسول على الإخبار بهذا الغيب العظيم الذي هو أعظم الغيب واثقاً به مقيماً عليه، مبدياً له في كل مجمع، ومعيداً منادياً به على صدقه، مُجلباً به على أعدائه من أعظم الأدلة على صدقه.

وأما قراءة من قرأ بظنين بالظاء فمعناه المتهم، يقال: ظننتُ زيداً بمعنى اتهمته وليس من الظن الذي هو الشعور والإدراك فإن ذاك يتعدى إلى مفعولين، ومنه ما أنشده أبو عبيدة:

أمَا وكتابُ اللهِ لا عن شناءةٍ هجرتُ ولكنّ المحبَّ ظنينُ

المعنى وما هذا الرسول على القرآن بمتهم، بل هو أمين لا يزيد فيه ولا ينقص، وهذا يدل على أن الضمير يرجع إلى محمد ﷺ؛ لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكي بالأمانة ثم قال: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ، ثم قال: وَمَا هُوَ أي: وما صاحبكم بمتهم ولا بخيل، واختار أبو عبيدة قراءة الظاء لمعنيين.

أحدهما: أن الكفار لم يُبخِّلوه وإنما اتهموه"[8].

ضن يضن: يبخل، لكن العبارة التي نقلها هنا ابن القيم -رحمه الله- باعتبار أن الظنين ليس من الظن الذي هو دون اليقين، وإنما هو للتهمة، يعني معنى آخر فظنه: اتهمه، الظنين: المتهم، يعني غير الظن الذي خلاف اليقين.

وقوله تعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [سورة التكوير:25] أي: وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم، أي لا يقدر على حمله ولا يريده ولا ينبغي له، كما قال تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ۝ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ۝ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [سورة الشعراء:210-212].

وقوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [سورة التكوير:26] أي: فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه، وبيان كونه حقاً من عند الله ، كما قال الصديق لوفد بني حنيفة حينما قدموا مسلمين وأمرَهم فتلَوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة الكذاب الذي هو في غاية الهذيان والركاكة فقال: ويحكم أين تذهب عقولكم؟! والله إن هذا الكلام لم يخرج من "إلٍّ" أي من إله.

وقال قتادة: فأين تذهبون أي عن كتاب الله وعن طاعته.

هكذا، فأين تذهبون يعني بعد هذا البيان أين تذهبون؟ أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريق التي بينت لكم؟ كما يقول الزجاج: أي مسلك تسلكون بعد هذا البيان؟

وقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [سورة التكوير:27] أي: هذا القرآن ذكر لجميع الناس يتذكرون به ويتعظون، لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ [سورة التكوير:29]، أي من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن، فإنه منجاة له وهداية، ولا هداية فيما سواه.

يعني هذا القرآن ذكر للعالمين، ذكر لجميع الناس، فهو مذكر لهم ثم قال: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ فهذا بدل بعض من كل، أي: ذكر للعالمين قال: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ يعني هم بعض العالمين وهم الذين آمنوا بهذا القرآن وانتفعوا به، كما قال الله : ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2]؛ لأنهم الذين ينتفعون به، فصح تخصيصهم بذلك باعتبار الانتفاع.

والأول: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ يعني كما يقال: بالقوة مشتمل على الذكر، متضمن له، لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ هذا بالفعل، هو ذِكرٌ بالفعل لهم؛ لأنهم عملوا بمقتضاه وانتفعوا بهداه، قال ابن القيم -رحمه الله: "ثم أخبر تعالى عن القرآن بأنه ذكر للعالمين، وفي موضع آخر تذكرة للمتقين، وفي موضع آخر لرسوله ﷺ ولقومه، وفي موضع آخر ذكر مطلق، وفي موضع آخر مبارك، وفي موضع آخر وصفه بأنه ذو الذكر، وبجمع هذه المواضع تبين المراد من كونه ذكراً عاماً وخاصاً، وكونه ذا ذكر، فإنه يذكّر العباد بمصالحهم في معاشهم ومعادهم، ويذكرهم بالمبدأ والمعاد، ويذكرهم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته، وأفعاله وحقوقه على عباده، ويذكرهم بالخير ليقصدوه وبالشر ليجتنبوه.

ويذكرهم بنفوسهم وأحوالهم وآفاتها، وما تكمل به، ويذكرهم بعدوهم وما يريد منهم، وبماذا يحترزون من كيده، وبأي الأبواب والطرق يأتي إليهم، ويذكرهم بفاقتهم وحاجتهم إليه، وأنهم مضطرون إليه لا يستغنون عنه نفساً واحداً، ويذكرهم بنعمه عليهم، ويدعوهم بها إلى نعم أخرى أكبر منها، ويذكرهم بأسَه وشدة بطشه وانتقامه ممن عصى أمره وكذب رسله، ويذكرهم بثوابه وعقابه، ولهذا يأمر سبحانه عباده أن يذكروا ما في كتابه كما قال: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:63]، و [سورة الأعراف:171].

وإذا كان كذلك فأحق وأولى وأول من كان ذاكراً له مَن أُنزل عليه، ثم لقومه، ثم لجميع العالمين، وحيث خص به المتقين؛ فلأنهم الذين انتفعوا بذكره، وأما وصفه بأنه ذو الذكر؛ فلأنه مشتمل على الذكر، فهو صاحب الذكر ومنه الذكر، فهو ذكر وفيه الذكر، كما أنه هدى وفيه الهدى، وشفاء وفيه الشفاء، ورحمة وفيه الرحمة"[9].

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة التكوير:29] أي ليست المشيئة موكولة إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رب العالمين.

روى سفيان الثوري عن سليمان بن موسى لما نزلت هذه الآية: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ .

آخر تفسير سورة التكوير، ولله الحمد والمنة.

هذه الآية فيها إثبات المشيئة للعبد، والمشيئة للرب -تبارك وتعالى، وأن مشيئة العبد لا تخرج عن مشيئة الرب وَمَا تَشَاءُونَ أثبت لهم المشيئة، إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فلا يقع في ملكه إلا ما أراد وشاء خلافاً لمن نفى مشيئة العبد، وأثبت مشيئة الرب أو عكَسَ ذلك، العلماء من أهل السنة وغير أهل السنة يتكلمون على أنواع المشيئة في هذا الموضع بالكلام المعروف لكن ابن القيم له تعليق على هذه.

قال ابن القيم -رحمه الله: "وقوله تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ بدل من العالمين، وهو بدل بعض من كل، وهذا من أحسن ما يستدل به على أن البدل في قوة ذكر عاملين مقصودين، فإن جهة كونه ذكراً للعالم كلهم غير جهة كونه ذكراً لأهل الاستقامة، فإنه ذكر للعموم بالصلاحية والقوة، وذكر لأهل الاستقامة بالحصول والنصر، فكما أن البدل أخص من المبدل منه فالعامل المقدر فيه أخص من العامل الملفوظ في المبدل منه، ولابد من هذا فتأمله.

وقوله: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ رد على الجبرية القائلين بأن العبد لا مشيئة له، أو أن مشيئته مجرد علامة على حصول الفعل لا ارتباط بينها وبينه إلا مجرد اقتران عادي من غير أن يكون سبباً فيه.

قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رد على القدرية القائلين بأن مشيئة العبد مستقلة بإيجاد الفعل من غير توقف على مشيئة الله، بل متى شاء العبد الفعل وُجد.

ويستحيل عندهم تعلق مشيئة الله تعالى بفعل العبد بل هو يفعله بدون مشيئة الله، فالآيتان مبطلتان لقول الطائفتين"[10].

وقال -رحمه الله: "وهاتان الآيتان متضمنتان إثبات الشرع والقدر، والأسباب والمسببات، وفعل العبد واستناده إلى فعل الرب، ولكل منهما عبودية مختصة بها، فعبودية الآية الأولى: الاجتهاد واستفراغ الوسع والاختيار والسعي، وعبودية الثانية: الاستعانة بالله والتوكل عليه، واللجوء إليه، واستنزال التوفيق والعون منه، والعلم أن العبد لا يمكن أن يشاء ولا يفعل حتى يجعله الله كذلك.

وقوله: رَبُّ الْعَالَمِينَ ينتظم ذلك كله ويتضمنه، فمن عطل أحد الأمرين فقد جحد كمال الربوبية وعطلها، وبالله التوفيق"[11].

العلماء كابن جرير وغيره كثير يرجحون بين القراءات ويختارون، باعتبار أن هذه القراءة مثلاً تتضمن معنى أكبر أو أوسع أو أبلغ أو يناسب السياق، أو نحو ذلك، يعني مما يجري فيه اختيار القراءة، هذا كثير في كتب التفسير، وفي غيرها أيضاً، ولا بأس به، لا إشكال بقيد وهو أن لا يكون هذا الترجيح بين القراءات بطريقة يفهم منها الحط أو الوضع أو الإزراء أو التنقص من القراءة الأخرى، وأحياناً توجد في بعض العبارات بعض المفسرين لما يرجح قراءة على قراءة أحياناً تشعر بأن هذا الترجيح يفضي إلى شيء من تنقص القراءة الأخرى، وهذا لا يجوز؛ لأنها متواترة وهذا كلام الله ، لكن لا بأس أن يختار كأن يقول: والله أنا أختار قراءة ملِك يوم الدين باعتبار أن الملِك يكون ملِكاً ومالكاً، فهو أبلغ من المالك، أرجّح هذه القراءة، لا إشكال.

لكن تبقى القراءة الثانية قراءة متواترة، والأحسن عند التفسير أن يذكر معنى هذا وهذا، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، يكون هذا من جملة التفسير على أوجه القراءات، فلو أنه اختار إحدى القراءات وقال: أنا أرجح هذه وهي تدل على المعنى الفلاني لا إشكال، لكن بحيث لا يكون ذلك يفهم منه انتقاص القراءة الأخرى.

فما تجدونه في كتب التفسير أحياناً من ترجيح لإحدى القراءات بما يشعر بالحط من الأخرى هذا لا يصح، أما مجرد الترجيح فلا إشكال لاعتبارات معينة في المعنى، هكذا يُفهم مما ذَكر مما قرأت هنا أنه يأتي لهذا المعنى وهذا المعنى، اقرأه كاملاً يعني كأنها مادة أخرى، يمكن أن يرجع في هذا إلى معجم مقاييس اللغة لابن فارس، فهو الذي يبين أصل المادة هل ترجع إلى أصل واحد أو إلى أصلين.

معنى فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ يعني بعد هذا البيان والإيضاح أي طريق تسلكون؟ ماذا عسى أن تقولوا؟ كما تقول لمن توضح له، وتبين بياناً يجلّي الحق، ولا يدع فيه لبساً أو غموضاً، تقول له: فأين تذهب؟ فأين تذهبون بعد هذا البيان؟ ماذا عسى أن تقولوا؟ ماذا عسى أن تجيبوا؟ تورد الأدلة التي لا مجال معها للمكابرة، وتقول: فأين تذهب بعد ذلك؟ أين تذهبون بعد هذه الأدلة؟

  1. التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص:116).
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق (ص:118، 119).
  4. المصدر السابق (ص:120-122).
  5. المصدر السابق (ص:122).
  6. المصدر السابق (ص:124).
  7. المصدر السابق (ص:124، 125).
  8. المصدر السابق (ص:125، 126).
  9. المصدر السابق (ص:128، 129).
  10. المصدر السابق (ص:129، 130).
  11. المصدر السابق (ص:130).

مواد ذات صلة