السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
[1] سورة الناس كاملة
تاريخ النشر: ٢٥ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 16261
مرات الإستماع: 16932

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ ۝ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [سورة الناس].

يقول ابن كثير -رحمه الله: هذه ثلاث صفات من صفات الرب : الربوبية، والملك، والإلهية، فهو رب كل شيء، ومليكه، وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة، عبيد له، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات من شر الوسواس الخناس وهو الشيطان.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

 فهذه السورة: سورة الناس، وأيضًا يقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وهي التي يقال لها: المعوِّذة الثانية من المعوِّذتين، وسورة الفلق هي استعاذة من الشرور الخارجية قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ۝ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ۝ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ۝ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ۝ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق]، هذا الذي يذكره أهل العلم.

لكن يمكن أن يقال: يلاحظ في ذلك أن قوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ۝ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ يدخل فيه شرور النفس، فهذا عام ثم بعد ذلك خصّ هذه الشرور الثلاثة -وهي خارجية؛ لشدة خطرها، وصعوبة التحرز منها، وهو شيء لا يملكه، فيكون ذلك من قبيل عطف الخاص على العام، وسورة الناس تتعلق بالوسواس، فتلك تتعلق بالمخاوف من الشرور التي تصل إليه، الشرور بأنواعها، وهذه تتعلق بنوع من الشرور، وهو الوسوسة.

وهذه الوسوسة العلماء -رحمهم الله- يقولون: إنها شيء في داخل النفس، مع ملاحظة أنه على أحد القولين المشهورين كما سيأتي في قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أن الموسوس قد يكون من شياطين الإنس، فيكون ذلك مع الشيطان من الجن، الشيطان من الجن يحدث وسوسة في داخل النفس، وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، فالوسوسة شيء داخلي بنفس الإنسان، إلا أن الوسوسة من شيطان الإنس هي ما يلقيه على مسامعه ويزينه له من المنكر والمعصية بما يُسمعه، أو ما يقوم مقام الإسماع، فهذا شيء من الخارج.

ويمكن أن نقول قولًا يُتلافى فيه هذا الاستثناء بالأولى والثانية من هاتين السورتين، فيقال: إن السورة الأولى تتعلق بالاستعاذة من الشرور، وخص منها ثلاثة وهي خارجية، والسورة الثانية تتعلق بالوسوسة، ويلاحظ أنه في السورة الأولى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ استعاذ بالله بصفة واحدة، وأما هذه التي تتعلق بالوسوسة فذكر ثلاثة أسماء قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فذكر الربوبية العامة التي لا يخرج عنها مخلوق، فالكل مربوبون لله -تبارك وتعالى- لا يخرج أحد عن ربوبيته، فنواصيهم بيده، فهو مدبرهم ومصرف أمورهم؛ ولهذا قال بعده: مَلِكِ النَّاسِ، فإن صفة المُلْك أخص من صفة الربوبية؛ لأن الرب -رب الشيء رب الدار ونحو ذلك- قد لا يكون ملكًا فجاء بالمُلك، والمُلك يعني التصرف المطلق فهو يتصرف فيهم، ثم ذكر بعد ذلك ما هو أخص من هذا وهو الإلهية؛ لأن الكثيرين من الخلق لا يؤلِّهون الله ، ولا يعبدونه، فهو ليس بإله لهم في مزاولتهم وأعمالهم التي يتقربون بها، ويتعبدون، وإن كان هو الإله الحق للجميع، فذكر الإلهية بعد ذلك، والمستعيذ المستجير إنما يلجأ إلى ربه ليقيه ويحفظه من شرور واقعة أو من شرور متوقعة، فهنا يلجأ به ليرفع عنه ما حلّ به ونزل من هذه الأضرار والعلل فيُرقى الإنسان بمثل هذا، ويستعيذ ويرقي نفسه، ويقرأ هاتين السورتين.

وكذلك أيضًا يلجأ إلى ربه ومالكه وإلهه؛ لدفع ما يتخوفه؛ لئلا يقع، فالشرور والمحابّ هي إما أن تكون واقعة، أو متوقعة، فالمحابّ الواقعة يسأل ربه أن يحفظها وأن يبقيها، والتي يرجِّيها ولم تقع يطلب من ربه أن يحققها له، والمخاوف إما أن تكون واقعة أو متوقعة، فالواقعة يطلب رفعها، والمتوقعة يطلب دفعها، فهو يدور بين هذه الأمور الأربعة، عليها تدور مطالب الناس، وما ينتابهم من القلق وما تعلمون، كله يرجع إلى هذا، وكل المحاولات والمزاولات والأعمال التي يعملونها فهي إما لدفع بلاء وقع، أو لدفع ما هو متوقع، أو للإبقاء على ما حصل لهم من الخير والنفع واللذات -يعني المصالح فإنه يعبر عنها باللذات- والمحاب، أو ما كان متوقعًا يرجِّيه فهو يسأل ربه فيلجأ إلى الله في هذه الأمور الأربعة.

وهو يلجأ إلى ربه وخالقه، ويلجأ إلى مالكه وملِكه، هذا الإنسان المربوب يلجأ إلى ربه، والعبد الرقيق يلجأ إلى مالكه ومليكه، وكذلك أيضًا الذي يكون عبدًا لله فإنه يلجأ إلى إلهه، فهنا لجأ إلى الرب، وإلى الملك، وإلى الإله، هذه الأسماء الثلاثة هي أوقع وأليق وأنسب ما يكون في الاستعاذة في هذا الباب، ليُوقَى العبد من شر المكاره والمخاوف، ومن أجل أن يحافظ على ما أعطاه الله من المحاب، أو يرفع عنه ما حلّ به من البلاء والشرور والآفات والمكاره، فالله -تبارك وتعالى- هو رب الناس، يعني هو مالك أمرهم ومصلح أحوالهم، هو مربيهم بالنعم الظاهرة والباطنة، فيلجئون إليه إذا حصل لهم أو نزل بهم المكروه، أو يلجئون إليه إذا تخوفوا شيئًا.

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: مَلِكِ النَّاسِ فهذا مثل عطف البيان، رب الناس هو ملك الناس، فربوبيته -تبارك وتعالى- ليست كربوبية غيره، بل هي ربوبية مع المُلك، فهو ملك لهؤلاء الناس، وملكه كامل، وسلطانه قاهر، أما ملك المخلوق فهو محدود وقاصر، وهو أيضًا إله الناس، وهذا من قبيل عطف البيان بالنسبة لما قبله، فهذه الربوبية والملك انضم إليهما الإلهية ومن هنا يكون العبد ملتجئاً إلى الله -تبارك وتعالى- بهذه الأسماء المتضمنة لهذه الصفات، وبهذا نعرف قدر هذه الاستعاذة، ويمكن أن يقال: إنه ابتدأ بالرب -إضافة إلى ما ذكر من كون الربوبية عامة- لأنه رباه منذ أن كان نطفة ثم علقة ثم مضغة، فهو إذا انتابته المخاوف أو نزل به المكروه يلجأ إليه مباشرة، ولا يلتفت إلى أحد سواه، وهكذا ما بعده، لما ذكر الربوبية ثم بعده ذكر الملك فإن هذا في غاية المناسبة، والله تعالى أعلم.

فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وهو الشيطان الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزين له الفواحش، ولا يألوه جهدًا في الخبال، والمعصوم من عصمه الله.

لاحظ الآن قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ يعني هنا كرر هذه اللفظة "الناس" في هذه المواضع، وبصرف النظر هل الشيطان يوسوس في صدور الجنّ أو لا؟ وسيأتي الكلام أيضًا على المراد بالناس هل يدخل فيهم الجنّ أصلًا في هذه السورة قصدًا أو لا يدخلون باعتبار ما سيأتي في آخرها من قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ما المراد به؟ وعلى أي شيء يحمل؟ فهنا كرر لفظ "الناس"، وخص الناس مع أنه رب كل شيء قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ فالله هو رب كل شيء ومليكه، هو الإله المعبود -جل وعلا.

فهنا يمكن أن يقال: إما لشرفهم، أو لكون الاستعاذة قد وقعت من شر ما يوسوس في صدورهم من الوسواس الخناس، أو لكونهم هم الذين يستعيذون، يعني يعلِّمهم الاستعاذة، علِّم الناس، سواء قلنا: إن الناس هم البشر، أو قلنا: إن ذلك يدخل فيه أيضاً الجن، والله أعلم، لكن لا شك أن القضية تتعلق تعلقاً واضحاً بالناس على كلام كثير في هذه المادة، أصل مادة الناس من أي شيء أخذت، وبصرف النظر عن هذا لكن الذين يستعيذون هم الناس، المستهدف بهذه الوسوسة هم الناس.

وقد ثبت في الصحيح أنه: ما منكم من أحد إلا قد وكل به قرينه، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير[1]، وثبت في الصحيحين عن أنس في قصة زيارة صفية للنبي ﷺ وهو معتكف وخروجه معها ليلًا ليردها إلى منزلها، فلقيه رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا، فقال رسول الله ﷺ: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا، أو قال: شرًا[2].

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ قال: الشيطان جاثم على ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس، وكذا قال مجاهد وقتادة، وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: ذُكر لي أن الشيطان الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح فإذا ذكر الله خنس.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: الْوَسْوَاسِ قال: هو الشيطان يأمر فإذا أطيع خنس.

هنا قوله -تبارك وتعالى: مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ لاحظ الآيات الثلاث التي قبلها بهذه الأسماء الثلاثة يستعاذ من شيء واحد، مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ هذا يدل على شدته وخطورته، وعلى صعوبة التحرز من ذلك، فشيطان الجن أو الشيطان من الجن يوسوس في صدور الناس بطريقة لا يشعر بها العبد، وهو يلقي في نفسه الخواطر والوسواس دون أن يراها، أو يشعر به، ويكون بهذه المثابة -بهذه الصفة- التي ذكرها النبي ﷺ: يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، فيختلط عليه الأمر هل هذا من الدوافع النفسية، النفس الأمارة بالسوء، أو أن ذلك هو من قبيل الشيطان الذي يغريه بالمنكر؟

وهذا الإغراء يكون على خطوات، وعلى مراحل، فهو في البداية يلقي الخاطرة في قلبه، ثم بعد ذلك يزين له هذا الفعل، ثم يقيم صورته في نفسه فتتعلق بها وتتبعها، وهو في كل هذا لا يشعر، ثم بعد ذلك ينسيه العواقب السيئة، ويعميه عنها، ثم بعد ذلك يتحول إلى عزم مصمم فيواقع الفعل، فإذا قضى نهمته أفاق بعد ذلك، وأدرك أنه وقع في أمر يضره، ثم قد يندم بعد ذلك، وقد يكون هذا الفعل مما لا يستدرك، فقد يقتل، وقد يطلق طلاقاً بائنًا، وقد يقع في معصية من المعاصي فيوفق للتوبة وقد لا يوفق لها، وقد يتوب ثم يعود إلى ذلك من جديد بعد أن ظن أنه لا يمكن أن يقع في هذا الفعل ثانية، فيزين له ذلك، ثم يقيم صورته أمام ناظر القلب فيغريه به، ثم ينسيه العواقب وينسيه توبته السابقة فتنطمس البصيرة، ثم يقع في هذا بعد أن يتحول إلى عزيمة، ثم يفيق وهكذا.

هذا في غاية الخطورة، فهذا في جانب من جهة الإغراء بالمنكر، وقوع المعاصي والذنوب والجرائم إلى آخره، فكل هذه الشرور من أولها إلى آخرها ترتبط بهذه الأمور التي هي من قبيل الخواطر في أولها، ثم ما تلبث أن تتحول إلى عزيمة، ثم يتبعها الفعل، فتنقاد النفس إليها إما بدافع النفس الشهوانية التي تنطمس معها البصيرة تمامًا فيعمى، أو النفس الغضبية وتنطمس معها البصيرة تمامًا فيعمى لا يرى شيئًا، بل يقوى هذا أحيانًا ويشتد فتنطمس أيضًا عينه الباصرة، فما عاد يبصر يقول: أنا لم أعد أرى شيئًا، فإنه لا يعقل ما قال، يصل به الحال إلى هذا، يسمونه إغلاق العقل، أُغلق العقل تمامًا فهو لا يشعر بما قال، ولربما قيل له: أنت قلت كذا وكذا، وهو لم يشعر بشيء من ذلك، يصل إلى هذا -النفس الغضبية- فيكون ذلك حاجزًا دون العقل.

فهنا هذا في جانب الوقوع في المنكر والمعصية والعدوان على الخلق أو التعدي على حدود الله -تبارك وتعالى، أما ما يتصل بالجانب الآخر وذلك حينما يعجز الشيطان عن إيقاع الإنسان في مثل هذه الموبقات والجرائم، وما أشبه ذلك فإنه يبدأ يقلقه بإلقاء الخواطر السيئة في نفسه، وتشكيكه فيما هو عليه من أعمال ونيات ومقاصد وما إلى ذلك، فيبدأ يقلق دائمًا أن نيته مدخولة، وأنه منافق، وأنه غير مخلص لله ، وأنه مُراءٍ، ولماذا يعمل، ولماذا يجتهد، ولماذا يجدّ في طاعة الله وأعماله غير مقبولة.

وهكذا أيضًا يشغله بالخواطر السيئة المتعلقة بذات الله ، فيلبس عليه، وإذا قرأ القرآن دخل بينه وبين قراءته، وهكذا إذا أراد أن يصلي أو يتوضأ أو يعمل شيئًا من العبادات أشغله بالخواطر والوساوس بثوب الناصح الذي يريد إيقاع العبادة على أكمل الوجوه وأحسنها بزعمه أنه يصحح له طهارته، وأنه لربما لم يبلغ الوضوء مبلغه، وأن صلاته لربما لم تكن على وجه التمام؛ لأنه أخل بالتكبيرة الأولى، أو أخل بالفاتحة، أو بركن من أركانها، فلم يلبث يأمره بالإعادة مرة بعد مرة وثانية وثالثة وعاشرة ومائة حتى يترك الصلاة.

قد رأيت من هذا، وأخبرني بعضهم أنه ترك الصلاة تمامًا، وأخبرني بعضهم أنه كان لا يغتسل من جنابة، وأخبرني بعضهم أنه كان يصلي بلا وضوء؛ لشدة ما كان يجد من هذه الصلاة التي هي انشراح، فصارت هذه الصلاة عذاباً وعناء، يخرج الوقت والوقت الذي بعده وهو لم يصلّ الفرض الأول، تعذيب، ويبقى طول اليوم وهو في عناء مع هذه الصلاة، وكرب وشدة، ويعيا به أهله وتتقطع الأسباب التي يمكن أن يتوصل بها إلى حل ومعالجة لهذه المشكلة، فيقفون عنده ويقولون: أنت كبرت التكبيرة، أنت الآن قرأت سورة الفاتحة، أنت الآن كبرت للركوع، أنت فعلت كذا، وأخبرني بعضهم أنه يضع مسجلاً ثم يسمعه بعد الصلاة، ثم بعد ذلك يعيد المرة بعد المرة بعد المرة فيخرج وقت العصر ويأتي المغرب، ويخرج وقت المغرب، ويأتي العشاء ويخرج وقت العشاء وهو لم يصلّ العصر بزعمه، يعيدها ويرددها ووراءها صلاة المغرب، وصلاة العشاء، فتأتي الساعة الثانية عشرة من الليل وهو لا يزال يعيد صلاة العصر.

فهذا يفعله كما يقول الحافظ ابن القيم حينما يعجز عن إيقاعه في الشرك في الكبائر ونحو هذا، فإن عجز أوقعه في الصغائر، فإن لم يستطع أوقعه في هذه الوساوس وأقلقه وأشغله، فإن لم يستطع سلط عليه جنده يقلقونه، سلط عليه هذا يضلله، وهذا يبدعه، كما يقول ابن القيم، وهذا يكفره، وهذا من أجل أن ينزعج ويقلق ويبقى دائمًا في حال من التأزم، فهذا فعلُ عدوه به، ومن هنا جاءت هذه الاستعاذة بهذه الأسماء الثلاثة مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ فدل ذلك على أن هذا أشد وطأة من الذي قبله، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ۝ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ۝ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ۝ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ.

هذا الذي يدور في داخله أعظم وأشد، ومن رأى في أحوال الناس أو جرب في نفسه هذه الوسوسة في العبادة، أو رأى غير ذلك مما يوقعه الشيطان من ألوان الأوهام في نفوس الناس عرف هذا، تجد الإنسان ليس به علة وليس به بأس، ولربما ظن أنه قد نزل به أدواء أهل الأرض وهو ليس به بأس، ولا يستطيع أن ينتفع بعمل لا لآخرة ولا لدنيا، فهو دائم التوجس والتحسس والتوهم أنه عليل، أنه مريض، ولربما بمخاوف يتوقعها من علل وأمراض، أو مِن قِبل الخلق أنهم يصلون إليه بأذى، أنهم يتربصون به، أنهم يريدون به سوءًا، فهو ينظر إلى هؤلاء الناس وإلى هذه الدنيا كما يقال: بمنظار أسود، يتوقع منهم الشرور والمكاره، وأنهم يتربصون به الدوائر، ثم بعد ذلك لا يستطيع أن يعبد الله كما ينبغي، ويبقى في حال من الحزن، والحسرة، والكآبة.

والنفس لها أحوال من القوة والضعف والإقبال والإدبار، فإذا انتابها حال من الضعف إما بسبب مرض حقيقي، أو علة حقيقية حصلت فيأتي الشيطان ويستغل هذا، فيزيد من اعتلاله في أوقات الضعف هذه، فتشتد وطأته عليه فتكثر خواطره ووساوسه، ثم بعد ذلك تضعف نفسه، وتكون أكثر قابلية للمرض الحسي؛ لأنها ضعفت، ومعلوم أن قوة القلب وحسن الفأل تدفع الأمراض الحسية فضلًا عن العلل المعنوية، وهذا أمر مشاهد في أحوال الناس، ويعرفه الأطباء مع أنهم يتعاملون تعاملًا ماديًا -أعني الطب الحديث- مع مثل هذه القضايا، لكنهم يدركون أثر الروح المعنوية في دفع العلة.

وكذلك أيضًا لربما حصل له ضعف في أمر آخر يعني ليس من قبيل المرض، وإنما من قبيل الضعف البشري الذي ينتاب النفس في حال تحليقها أحيانًا، ثم بعد ذلك تهبط معنويات الإنسان؛ لموقف، لفشل عرض له، إخفاق، ما قُبل في جهة كان يؤملها، ما حصل له كذا، فيأتي الشيطان وتشتد وطأته عليه، فيدخل عليه فأحيانًا تكون هذه مِفرقاً في حياته، فيجد أن أحواله بدأت بالتدهور، وأنه قد أصابه أمور لا يدري ما هي، وحينما يُسأل عن تاريخ هذا المرض، عن تاريخ هذه العلة تجد أن المِفْصل كان هو هذا، هي فترة ضعف، وقت ضعف مر به فاستغل الشيطان هذا، شدّ عليه، ثم بعد ذلك استجاب لهذه الخواطر وصار يتشربها، فأثقلت نفسه، فحصل له بسب ذلك من أنواع الضعف المبنية على أوهام لا حقيقة لها.

تجد هذا الإنسان يقول: بعدما كنت منطلقًا في غاية النشاط والهمة والحيوية والمرح أصبحت بعد ذلك في غاية الفتور والضعف، لا تنهض نفسي بعمل صالح، أو بعمل أنتفع به في أمور الدنيا ولا أمور الآخرة، فيذهب إلى عمله على مضض وتثاقل وتكرّه، ولا يجد إقبالًا على مخالطة الناس والجلوس معهم، وينعزل، فكلما انعزل تسلط عليه الشيطان أكثر، وإذا تراجع عن دراسته وعن عمله وقال: أنا آخذ أجازة، أغيّر، أرتاح، لعلّي.. ازدادت الوطأة، ثم بعد ذلك يحبسه في مكان في زاوية ضيقة يأخذ بخناقه ويتسلط عليه، ويكون قد انفرد به عن الناس، ثم بعد ذلك يفعل به فعله.

وهذه أمور تكون على من ابتلي بها -نسأل الله العافية للجميع- أمثال الجبال، يتمنى الموت، بعدما كانت له آمال، وله طموحات كما يقال وما إلى ذلك أصبح لا يطمح لشيء، وصار الموت أفضل عنده من الحياة، وأن هذه الحياة لا خير فيها، ولا قيمة لها، ولا طعم، ولا يلتذ مثل هذا لا بأكل ولا بشرب، ولا بمخالطة الناس، ولا بأي أمر من هذه الأمور، حتى في أموره الخاصة من معاشرة الزوجة ونحو ذلك، مثل هذا الإنسان يحصل عنده انقباض، ويقبل على هذا بتكرّه شديد حرجًا من هذه المسكينة، ولربما كان بعد أربعة أشهر أو أكثر كما سمعت من بعضهم يحمل النفس على ذلك بغاية الصعوبة؛ لأن ذلك ليس كالأكل الذي يمضغه؛ لأنه لا يجد من نفسه أصلًا إقبالًَا، ومن ثَمّ هو يتوقع الإخفاق كما هو معلوم.

فالمقصود أن الأمر ليس بالشيء السهل، وأكثر ما يعرقل هؤلاء الناس، ويقعدهم عن كثير من الخيرات والمنافع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل الصالح، ونصر الدين هي أوهام قد كبل الشيطان بها أيديهم وأرجلهم، فيقرب لهم المكروه ويجعله أمام ناظر الواحد منهم يترقبه ويتوقعه في كل لحظة، ومن ثَم يقعده عن العمل الصالح، يقعده عن الدعوة، يقعده عن نفع الناس، عن الخير، عن نصر الدين، والسعي في إعزازه، حتى يشعر الإنسان أنه لا يصلح، وأنه لا شيء، ولا يستطيع أن يقدم شيئًا لنفسه فضلًا عن الآخرين، ولا يزال الشيطان به حتى يفشل فشلًا كاملًا من كل وجه، ومن هنا كان لابدّ من هذه الاستعاذة، والتحرز من فعل هذا الشيطان الذي يوسوس.

مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ بالفتح، بعضهم يقول: الوَسواس اسم للشيطان، مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ يعني المقصود به الشيطان، فالوَسواس اسم، والوِسواس يقولون: مصدر، هكذا قال بعضهم كالفراء، وبعضهم يقول: إنه صفة -يعني الوَسواس، أما القول بأنه مصدر فقد رده ابن القيم -رحمه الله- من وجوه متعددة -يعني الوَسواس هكذا بالفتح، فالمقصود به الموسوس في صدور الناس.

وتكرار الحروف كما هو معلوم باللغة يدل على التكرر، فإذا قلت مثلًا: زلزلة: حركة مترددة، جلجل، خلخل، زعزع كل هذا يدل على تكرر وتردد في الشيء، فإذا قلنا: وسوسة هذا يدل على أن القضية لم تقع مرة واحدة ألقى خاطرة وانتهى الأمر، لا، هو يعود ثانية وثالثة ورابعة، ولا يفتر ولا ييأس، يكرر ذلك ويعاوده مع الإنسان؛ لهذا قيل له: الوسواس، وهو لا ينتهي معه إلى حد محدود.

ويقال ذلك أيضًا لحديث النفس، والله يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [سورة ق:16]، فالنفس تحدث صاحبها كما هو معلوم، تحدثه بالخير وتحدثه بالشر، ولهذا فإن أصل الوسوسة هو الصوت الخفي، يقال له: وسوسة، ولهذا يقال: وسوسة الحلي وهو الصوت الذي يصدر منه حينما تحرك المرأة أطرافها فيظهر صوت الحلي، فيقال له: وسواس.

فالمقصود مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ أنه هنا فُسر الوسواس الخناس بالشيطان كما يقول ابن جرير -رحمه الله، بصرف النظر عما سيأتي من قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، هل هذا تفسير لهذا الوسواس أنه يكون من الجن ويكون من الإنس فيلقون الوساوس في صدور الناس، أو أن الذي يوسوس المقصود به هنا هو الشيطان، مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ قال: الْخَنَّاسِ.

هنا يقول ابن كثير -رحمه الله: وهو الشيطان الموكل بالإنسان، الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الذي يصدق عليه هذا الوصف هو شيطان الجن وليس بشيطان الإنس، وهذا يمكن أن يكون قرينة في الآية على أن المقصود بالوسواس الخناس هنا هو الشيطان؛ لأنه هو الذي يخنس إذا استعاذ منه الإنسان، هنا الوسواس يعني ذي الوسواس، الخناس كثير الخنوس، وهو يخنس كثيرًا حينما يستعاذ منه، وأصل ذلك يقال للتأخر، خنس يعني تأخر، وقد يكون هذا التأخر من قبيل التأخر الخاص، أي تأخرٌ مع ضمور مع تلاشٍ مع ضعف، تقول: خنس.

الشيطان إذا استعاذ منه الإنسان خنس، وإذا لعنه الإنسان يتعاظم ويكبر كما أخبر النبي ﷺ، تقول: خنس يخنُس إذا تأخر، وهكذا حينما يستعاذ منه، وإذا ذكر العبد ربه خنس الشيطان وانقبض كما يقول مجاهد، فإذا غفل عن ذكر الله انبسط الشيطان على القلب، ومضى الكلام على قوله -تبارك وتعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ [سورة التكوير:15] سواء قيل: إنها البقر الوحشية ونحو ذلك؛ لأنها تخنس في الغيطان، أو إنها النجوم حيث تغرب وتخنس في النهار، هذا قد مضى الكلام عليه، وإذاً مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ المقصود به هنا الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس.

وقوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ هل يختص هذا ببني آدم كما هو الظاهر أو يعم بني آدم والجن؟ فيه قولان، ويكونون قد دخلوا في لفظ الناس تغليبًا، وقال ابن جرير: وقد استُعمل فيهم رجال من الجن فلا بدع في إطلاق الناس عليهم.

يعني هنا الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ الوسواس الخناس هو الشيطان يوسوس في صدور الناس، هل المراد بالناس هنا الإنس فقط، أو يدخل فيهم الجن؟ هذا يكون أولًا بالنظر إلى صحة الإطلاق في اللغة، يعني هل يقال للجن ناس، أو لا يقال لهم: ناس؟ فإذا كان لا يقال لهم ناس فمن البداية يقال: إن هذا أصلًا لا وجه له؛ لأنهم ليسوا أصلًا من الناس، فهم لا يدخلون تحت هذه اللفظة.

فالعلماء الذين قالوا: إن الناس هم البشر لاحظوا هذا أولًا كابن القيم -رحمه الله، قالوا: إن الناس إنما هم الإنس فقط والجن لا يقال لهم: ناس، إلى غير ذلك من الوجوه التي ردوا بها هذا، يعني مثلًا ابن القيم -رحمه الله- يقول: الآن لو قيل بأنه مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ هذا الذي يوسوس في صدور الناس جن وإنس مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، يعني يوسوس في صدور الناس الجن منهم والإنس، يوسوس في صدور الجن والإنس على القول الآخر في قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أن هذا الذي يوسوس في صدور الناس الجن والإنس على هذا القول مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، يعني أن الموسوس من الجن ومن الإنس يقول: هذا تكرار خارج عن بلاغة القرآن.

يعني يقول: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ يعني الجن والإنس مَن هذا الموسوس؟ موسوس من الجن وموسوس من الناس، يقول كيف يفسر الناس بالناس؟ الذي يوسوس في صدور الناس من هم الناس؟ الجن والإنس، من هذا الموسوس؟ تارة يكون من الجن، وتارة يكون من الإنس على هذا المعنى في قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، فهو يقول: لو قيل: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ جنًا وإنسًا مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ لصار تكرارًا، والذين قالوا: إن قوله: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ المقصود بهم الإنس قالوا: لفظ الناس لا يقال للجن، والذين قالوا: الجن يدخلون فيه قالوا كما قال ابن جرير: إن الله قال في الجن: رجال، واحتجوا ببعض الآثار التي ذُكر فيها لفظ ناس من الجن ثم ناقشوا لفظة الناس من أين أخذت، هل هي من كون الإنسان يأنس، أو أن ذلك مأخوذ من النَّوْس أي الحركة، يتحركون ويختلطون وما إلى ذلك، أو غير ذلك مما يمكن أن يقول به بعضهم؟ وليس هذا من الأمور التي نحتاج إلى بسط الكلام فيها من أين أخذ لفظ الناس، لكن هل العرب تطلق الناس على الجن أو لا؟

بعض العلماء أنكره، ومن ثَم قالوا: إن المقصود هنا بالناس هم الإنس، يوسوس في صدور الناس يعني الإنس، وقالوا: ما عندنا دليل على أن الشيطان يوسوس في صدور الجن، فالله أعلم هل يوسوس أو لا يوسوس، لكن هنا الله -تبارك وتعالى- ذكر الناس، يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، ولا شك أن المتبادر هم الإنس، هذا هو المتبادر، وقال: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ليس عندنا حديث مرفوع يبين هذا، ولا آية في كتاب الله -تبارك وتعالى، وما ذكره ابن جرير من إطلاق الرجال هذا في القرآن وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ [سورة الجن:6] فإذا قيل لهم: رجال هل هذا يصحح الإطلاق الآخر أنه يقال لهم: ناس؟

الجواب: لا، لكن في الصحيح في البخاري عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: "كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن"[3]، بمثل هذا الأثر لو نظرنا إليه من زاوية وهي أن ابن مسعود عربي قُحٌّ، وفي وقت الاحتجاج، يعني هذه القضية قلّ أن ينظر إليها المفسرون، أو أهل اللغة، يعني لو جاءهم كلام لشاعر مجهول في زمن الاحتجاج، شاعر جاهلي أو في صدر الإسلام إلى زمن الاحتجاج، هم يقولون: توقف ذلك يعني وقت الاحتجاج عند إبراهيم بن هرمة، لا يُحتج بقول الشعراء من بعده، يعتبرونهم من المولدين، لا يحتج بشعرهم في العربية، فالمقصود أن ابن مسعود بالاتفاق في زمن الاحتجاج وهو عربي قح، فلماذا لا يحتج بكلامه من جهة أن ذلك من إطلاقات العرب، وهذا أولى من الاحتجاج بقول شاعر مجهول، ولا مقارنة؛ فهذا من علماء الصحابة، ومن أعلم الأمة بالقرآن، وهو أيضًا عربي يحتج بكلامه، فلو نظرنا إلى هذا من هذه الناحية فيمكن أن يقال: إن الناس يقال للجن بهذا الاعتبار، لو أنه وُجد كلام شاعر كما قلت ولو كان مجهولًا لرأيت كثيراً من أهل اللغة والمفسرين يوردون هذا البيت ويقولون: يصح أن يقال الناس للجن والإنس، ومنه قول الشاعر كذا، يتتابعون على ذكر هذا، وابن مسعود ؟! فهذا يمكن أن يحتج به من يقول: إن الناس يدخل فيهم الجن، والله أعلم.

وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ هل هو تفصيل لقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ثم بينهم فقال: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ وهذا يقوي القول الثاني.

هذا الذي اختاره ابن جرير، ويقصد بالقول الثاني أن الناس يصدق على الجن والإنس الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ على هذا التفسير، وهو أحد القولين في الآية، يعني يكون تفسيرًا للناس، من هم الناس الذين يوسوس في صدورهم؟ ينقسمون إلى قسمين: جن وإنس، فيكون ما بعده تفسيرًا له -أي للناس، هذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، يعني الآن على هذا القول الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ هذا هو المفعول به من جهة المعنى، يعني يوسوس في صدور الناس، هؤلاء هم الموسوَس بهم الذين تُلقَى في صدورهم الخواطر والوساوس من الجِن والإنس، يعني الذين يتلقفون الوسواس إنس وجن، من تقع لهم الوسوسة جن وإنس على هذا المعنى، وسيأتي المعنى الآخر.

وقيل: قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ تفسير للذي يوسوس في صدور الناس من شياطين الإنس والجن، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112].

لاحظ هنا الشياطين لا شك أنهم من الجن والإنس، بل أخبر النبي ﷺ أن الكلب الأسود شيطان[4]، فالشياطين يكونون من هؤلاء ومن هؤلاء، من الجن ومن الإنس، فالقول الثاني هنا الآن: أن قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ هذا يكون من قبيل البيان لقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، من هذا الموسوس؟ تارة يكون من الجن وتارة يكون من الإنس، واضح الفرق بين القولين.

القول الذي قبله: هؤلاء هم الموسوَس في صدورهم، يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مَن هؤلاء الناس الذين تقع عليهم الوسوسة؟ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ تارة يكون من الجن ومن الإنس، وعلى القول الآخر: أن هؤلاء هم الذين يوسوِسون، الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس هو إما من الجن، وإما من الإنس هذا المعنى الثاني.

لكن هل يقال لهذا الذي يوسوس من الإنس: إنه وسواس خناس؟ أو أن الذي يخنس هو الشيطان من الجن إذا ذكر الله واستعيذ منه خنس؟ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على معنى هذه الآية بكلام طويل يرجح فيه أن مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ يعني أن هذا الموسوس في صدور الناس يكون من الجن ومن الإنس، وهنا يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، فشياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض، وهذا الإيحاء والإلقاء هو داخل في الوسوسة؛ لأنه أمر خفي، فشيطان الإنس يوسوس في صدور الناس، وشيطان الجن يوسوس في صدور الناس، شيطان الجن بالإلقاء الخفي، وشيطان الإنس بما هو معلوم يزخرف ويزين ويدعوه علانية إلى المعصية والمنكر بأي ثوب كان، يعني سواء كان بثوب ناصح مشفق، أو كان ذلك بطريق المُكاشَرة فيقول له: دعك من هذا، لماذا أنت تضيع شبابك وتبقى على حال من حبس النفس على الطاعات؟ افعل ما بدا لك ولربما عيّره، ولربما آذاه، فهذا كله من فعل شيطان الإنس.

وابن القيم ينتصر لهذا بقوة، وأن شياطين الإنس هؤلاء يزينون المنكر، وأنهم داخلون في ذلك كما قال الله شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ [سورة الأنعام:112]، فقوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ يحتمل هذا، ويحتمل أن يكون متعلقًا بقوله: "يوسوس" يعني يوسوس في صدورهم من جهة الجِنة ومن جهة الناس، فالحاصل أن قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ هذان القسمان عائدان إلى الموسوس في صدور الناس الذي يوسوس فيهم، يعني الفاعل مَن يصدر منه الوسوسة، ويحتمل أن يكون راجعاً إلى من تقع عليه الوسوسة، وكلام أهل العلم في هذا كثير جداً ولكن حاصله ما ذكرتُ، والله تعالى أعلم.

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني لأحدث نفسي بالشيء لَأن أخرّ من السماء أحب إليّ من أن أتكلم به، قال: فقال النبي ﷺ: الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة[5]، ورواه أبو داود والنسائي.

آخر التفسير، ولله الحمد والمنة، والحمد لله رب العالمين

شيخ الإسلام -رحمه الله- له كلام جيد في هاتين السورتين، وكذلك الحافظ ابن القيم، ولكنه كثير جداً، وفيه نفائس، طبعًا يصعب الإتيان عليه كاملًا؛ لأنه كثير جداً، فلا أدري هل تريدون أن نستعرض لكم جملًا منه ولو بالمضمون أو ترجعون إليه أنتم ويُكتفى بما ذُكر؟ لكن الاطلاع عليه على الأقل ولو بطرف أو أطراف منه مهم، لتدرك ماذا قال في هذه القضية، كذلك الحافظ ابن القيم، كلام ابن القيم أكثر بكثير في بدائع الفوائد، نترك المكرر؛ لأن فيه أشياء مكررة من كلام شيخ الإسلام، وأحيانًا استطراد.

ففي قوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ كل ما فلقه الرب فهو فلَق، فهو يحملها على العموم ولا يخص ذلك بالصبح، ومضى الكلام على هذا، ونقل أقوال السلف في ذلك قول الحسن: الفلق كل ما انفلق من شيء كالصبح والحب والنوى إلى آخره، ونقل كلام الزجاج: إذا تأملت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر، وأن بعضهم قال: الفلق الخلق كله، يعني أعوذ برب الفلق من شر ما خلق، أي رب كل شيء من شر كل ذي شر، فيدخل فيه الصبح.

وهكذا معنى "وقب" دخل في كل شيء إذا فُسر الغاسق بالليل، يقول: فالقمر آية الليل، وقال: وكذلك النجوم تطلع فتُرى بالليل، فأمره بالاستعاذة من ذلك، وهذا أمر بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلاماته، والدليل مستلزم للمدلول، يعني هو يربط بين من قال: إنه القمر، أو النجم، أو الليل، يقول: هذه كلها متلازمة، لا تحتاج إلى ترجيح، والنبي ﷺ في حديث عائشة قال: استعيذي بالله من شر هذا الغاسق[6]، شيخ الإسلام يقول: هذا داخل فيه قطعًا، والنبي ﷺ أعلم الأمة بمعاني القرآن، وما ينطق عن الهوى، فهو مما يدخل في هذا العموم.

يقول: فإذا كان شر القمر موجودًا فشر الليل موجود، ثم بدأ يتكلم على القمر، وأن الاستعاذة أيضًا حاصلة منه مقصودة، ويكون هذا كقوله عن المسجد حيث ذكر أحاديث عن النبي ﷺ ذكرتُ بعضها من كون النبي ﷺ يحمل الآية على معنى، والسياق فيما هو أعم من ذلك، فيكون المعنى الذي ذكره النبي ﷺ يدخل فيها دخولًا أوليًا.

يقول: فالقمر أحق ما يكون بالليل من الاستعاذة، والليل مظلم تنتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسحر والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك، فالشر دائمًا مقرون بالظلمة؛ ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار، فيتوسلون بالقمر وبدعوته، ويقول: والقمر وعبادته.

وذكر عن أبي معشر البلخي أن له مصحف القمر، يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه، فشيخ الإسلام يقول: القمر مقصود، والليل كذلك، وكل هذا داخل فيه، يقول: فذكر سبحانه الاستعاذة من شر الخلق عمومًا، ثم خص الأمر بالاستعاذة من شر الغاسق إذا وقب، يقول: وهو الزمان الذي يعمّ شره، ثم خص بالذكر السحر والحسد، فالسحر يكون من الأنفس الخبيثة، لكن بالاستعانة بالأشياء كالنفث في العقد، والحسد يكون من الأنفس الخبيثة أيضًا إما بالعين، وإما بالظلم، وباللسان، واليد، يعني قد لا يكون عائنًا ولكن حسده يفرغه بالظلم، باليد، بالعدوان، بالسطو، وبالكلام والوقيعة في الأعراض، والانتقاص ونحو ذلك.

يقول: وخص من السحر النفاثات في العقد وهنّ النساء، والحاسد الرجال في العادة، ويكون من الرجال ومن النساء، والشر الذي يكون من الأنفس الخبيثة من الرجال والنساء هو شر منفصل عن الإنسان، ليس هو في قلبه كالوسواس الخناس، يعني هذه التي في سورة الفلق أشياء منفصلة خارجة عنه.

يقول: وفي سورة الناس ذكر الوسواس الخناس فإنه مبدأ الأفعال المذمومة من الكفر والفسوق والعصيان، يعني أن مبدأ ذلك من الوسوسة، يقول: ففيها -يعني الناس- الاستعاذة من شر ما يدخل الإنسان من الأفعال التي تضره من الكفر والفسوق والعصيان، وقد تضمن ذلك الاستعاذة من شر نفسه؛ لأن النفس توسوس. 

يقول: وسورة الفلق فيها الاستعاذة من شر المخلوقات عمومًا وخصوصًا؛ ولهذا قيل فيها: برب الفلق، وقيل في هذه: برب الناس، فإن فالق الإصباح بالنور يزيل بما في نوره من الخير ما في الظلمة من الشر، لاحظ هنا المناسبة على قول من قال: إنه الصبح، المناسبة بين الصبح وبين الشر، الشر يكون غالبًا في الظلام، هناك ارتباط بين الظلام والشر، كما أن هناك ارتباطاً بين الصبح والخير وانتشار الخير، يقول: إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] بعد انعقادهما يزيل ما في عقد النفاثات، لاحظ هذا الارتباط، فالق الحب والنوى يزيل ما في عقد النفاثات، فإن فلق الحب والنوى أعظم من حل عقد النفاثات، يعني هذا في غاية المناسبة لرقية المسحور.

يقول: وكذلك الحسد هو من ضيق الإنسان وشحّه لا ينشرح صدره لإنعام الله عليه، فرب الفلق يزيل ما يحصل بضيق الحاسد وشحه، الذي فلق الخلق قادر على إزالة هذا الضيق عند هذا، يقول: وهو سبحانه لا يفلق شيئًا إلا بخير، فهو فالق الإصباح بالنور الهادي والسراج الوهاج الذي به صلاح العباد، وفالق الحب والنوى بأنواع الفواكه والأقوات التي هي رزق الناس ودوابهم، والإنسان محتاج إلى جلب المنفعة من الهدى والرزق وهذا حاصل بالفلق.

هنا يربط بين هذه الألفاظ، المستعاذ به مع المستعاذ منه، يعني وجه المناسبة، يقول: والرب الذي خلق للناس ما تحصل به منافعهم يُستعاذ به مما يضر الناس، فيُطلب منه تمام نعمته بصرف المؤذيات عن عبده الذي ابتدأ بإنعامه عليه، وفلق الشيء عن الشيء هو دليل على تمام المقدرة، وإخراج الشيء من ضده كما يخرج الله الحي من الميت، والميت من الحي، وهذا من نوع الفلق، فهو سبحانه قادر على دفع الضد المؤذي بالضد النافع.

يقول أيضًا: ولا منافاة بين تفسيره بالليل وبالقمر؛ فإن القمر آية الليل، وتكلم على من فسره بأن القمر إذا حصل له شيء من الخسوف ربط بين هذا وبين المعنى المراد، يقول: فوقع ترتيب المستعاذ منه في هذه السورة على كمال الترتيب انتقالًا من الأعم الأعلى الأبعد إلى الأخص الأسفل الأقرب، فجعلت أربعة أقسام:

الأول: من شر المخلوقات عمومًا، والثاني: من شر الغاسق إذا وقب، فدخل فيه ما يؤثر من العلويات في السفليات من الليل وما فيه من الكواكب كالثريا وسلطانه الذي هو القمر، ودخل في ذلك السحر، وذكر نوعًا من السحر الذي هو أعلى السحر وأرفع السحر.

الثالث: شر النفاثات في العقد، وهن السواحر اللواتي يتصورن بأفعال في أجسام.

الرابع: الحاسد وهي النفوس المضرة، يقول: فانتظم بذلك جميع أسباب الشرور، ثم خص في سورة الناس الشر الصادر من الناس والإنس وهو الأرواح المضرة، يقول: وتظهر المناسبة بين السورتين من وجه آخر وهو أن المستعاذ منه هو الشر، كما أن المطلوب هو الخير إما من فعل العبد أو من غيره، ومبدأ فعله للشر هو الوسواس الذي يكون تارة من الجن وتارة من الإنس.

يعني شيخ الإسلام يرى أن الموسوس مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أن هذا يرجع إلى الوسواس، كقول ابن القيم، يقول: وتارة من الإنس، وحسم الشر بحسم أصله ومادته أجود من دفعه بعد وقوعه، فإذا أعيذ العبد من شر الوسواس الذي يوسوس في الصدور فقد أعيذ من شر الكفر والفسوق والعصيان، يقول: فكانت هذه السورة للشر الصادر من العبد، وأما الشر الصادر من غيره فسورة الفلق، فإن فيها الاستعاذة من شر المخلوقات عمومًا وخصوصًا.

ويقول: القول الصحيح الذي عليه أكثر السلف أن المعنى من شر الموسوس من الجِنة ومن الناس، من شياطين الإنس والجن، يعني مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِأي الذين يوسوسون في الصدور سواء كان جنيًا أو إنسيًا، هذا الموسوس فهو يرجح هذا، يعني أن الاستعاذة من شر الموسوس من الجِنة ومن الناس في صدور الناس، أي أنه أمر بالاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن.

ويقول: إن قوله: "من الجنة والناس" لبيان الوسواس أي الذي يوسوس من الجِنة ومن الناس في صدور الناس، فإن الله تعالى قد أخبر بأنه قد جعل لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا يقول: وإيحاؤهم هو وسوستهم وليس من شرط الموسوس أن يكون مستترًا عن البصر بل قد يشاهد، قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا [سورة الأعراف:20]، يقول: يعني أنه جاء لهما بصورة يعرفانها مكشوفة، وليس بخفاء، يقول: وهذا كلام مَن يُعرف قائله، ليس من قبيل الشيء الذي يُلقى في القلب لا يُدرى ممن هو، وإبليس قد أمر بالسجود لآدم فأبى واستكبر فلم يكن ممن لا يعرفه آدم، يقصد أن آدم كان يعرف أن الذي قال له هذا هو الشيطان.

ويقول أيضًا: والنفوس لها وسوسة كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [سورة ق:16]، فهذه توسوس به نفسه لنفسه كما يقال حديث النفس، والنبي ﷺ قال: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها..[7] الحديث، يقول: فالذي يوسوس في صدور الناس نفسُه وشيطانُ الجن وشيطانُ الإنس، يقول: والوسواس الخناس يتناول وسوسة الجِنة ووسوسة الإنس وإلا فأي معنى للاستعاذة من وسوسة الجن فقط مع أن وسوسة النفس وشيطان الإنس هي مما تضره، وقد تكون أضر عليه من وسوسة الجن؟ فالاستعاذة عامة من هؤلاء وهؤلاء.

ثم ذكر قول الفراء: إن المراد من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس يعني الطائفتين من الجن والإنس، وإنه سمى الجن ناسًا كما سماهم رجالًا، يعني الذين تقع عليهم الوسوسة من الجن ومن الإنس، يقول: وسماهم نفرًا، يقول: فهذا ضعيف، يقول: فإن لفظ الناس أشهر وأظهر وأعرف من أن يحتاج إلى تنويعه إلى الجن والإنس، وقد ذكر الله تعالى لفظ الناس في غير موضع، يقصد أنه محمول على الظاهر المعروف المتبادر، يقول: وأيضًا فكونه يوسوس في صدور الطائفتين صفة توضيح وبيان وليست وسوسة الجن معروفة عند الناس، وإنما يعرف هذا بخبر ولا خبر هنا.

وكون الشيطان يوسوس في صدور الجن شيخ الإسلام يقول كما يقول ابن القيم: لا نعرف هل هو يوسوس في صدورهم أو لا؟ ثم قد قال: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ فكيف يكون لفظ الناس عامًا للجنة والناس؟ وكيف يكون قسيمًا للشيء قسمًا منه؟ فهو يجعل الناس قسيم الجن، ويجعل الجن نوعًا من الناس، وهذا كما يقال: أكرم العرب من العجم والعرب، فهل يقول هذا أحد؟

يعني يقول كما يقول ابن القيم، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مَن هؤلاء الذين تقع عليهم الوسوسة؟ من الجن والإنس، فيقول: كيف يقول: يوسوس في صدور الناسِ الناسُ والجنُّ، يعني يفسر الناس بالناس؟

يقول: هذا لا يتأتى وإذا سماهم الله رجالًا لم يكن في هذا دليل على أنهم يسمون ناسًا، ردَّ على ابن جرير ومن قال بقوله، يقول: وإن قدِّر أنه يقال: جاء ناس من الجن -يشير إلى الأثر عن ابن مسعود فذاك مع التقييد، يعني يقصد ناساً من الجن، أما إذا أطلق الناس فلا يكونوا إلا الإنس، يقول: كما يقال: إنسان من طين وماء دافق، ولا يلزم من هذا أن يدخلوا في لفظ الناس، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [سورة النساء:1]، فالناس كلهم مخلوقون من آدم وحواء مع أنه يخاطب الجن والإنس، يقول: والرسول ﷺ مبعوث إلى الجنسين لكن لفظ الناس لم يتناول الجن، لذا يقول: "يا معشر الجن والإنس"، وكذلك قول الزجاج: إن المعنى من شر الوسواس الذي هو الجِنة ومن شر الناس فيه ضعف، وإن كان أرجح من الأول؛ لأن شر الجن أعظم من شر الإنس، فكيف يطلق الاستعاذة من جميع الناس ولا يستعيذ إلا من بعض الجن؟ ما معنى قول الزجاج؟

الزجاج يقول: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ ۝ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ كأنه راعى المعنى الذي ذكرتُ لكم أن الوسواس الخناس هو الجن، الجن هو الذي يخنس إذا ذكر الله، فالزجاج يقول: من شر الوسواس الخناس من الجِنة ثم تقف، ثم: والناس، يعني أنت تستعيذ من شر الوسواس الخناس من الجن، وتستعيذ من شرور الإنس، يعني شرور الإنس هي عائدة إلى ما قبلها -الوسواس الخناس، وإنما هذا يفسره ما بعده من قوله: "من الجنة" ففصل بين الجنة والناس، يعني أنت تستعيذ من شر الوسواس الخناس من الجن وتستعيذ من شرور الناس، يعني كأنه يحتاج إلى تقدير.

يقول: لأن شر الجن أعظم من شر الإنس فكيف يطلق الاستعاذة من جميع الناس ولا يستعيذ إلا من بعض الجن، يعني فقط الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، استعاذ من كل الإنس -"والناس"- لكن الجن فقط ما استعاذ من كل شرورهم، قد تكون شرورهم غير الوسوسة، فهو استعاذ فقط بنوع من شرورهم، هذا على قول الزجاج ورد عليه يقول: كيف يستعيذ من كل الناس والجن فقط بنوع وهو الوسواس الخناس؟

يقول: وما دام هؤلاء عندهم شرور وهؤلاء عندهم شرور استعذ منهم كلهم، من الجن والإنس، يقول: ويكفي أن المسلمين كلهم يقرءون هذه السورة من زمن نبيهم ولم يُنقل هذان القولان إلا عن بعض النحاة، أي قول الزجاج، والقول الآخر الذي رده من أن "من الجنة والناس" هؤلاء هم من تقع عليهم الوسوسة، يقول: والأقوال المأثورة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ليس فيها شيء من هذا، وإنما فيها القول الذي نصرناه كما في تفسير معمر عن قتادة مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، قال: إن في الجن شياطين، وإن في الإنس شياطين، فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فبيّن قتادة أن المعنى الاستعاذة من شياطين الإنس والجن.

ونقل أيضًا عن زيد بن أسلم يقول: قال: الخناس الذي يوسوس مرة ويخنس مرة من الجن والإنس، فبيّن زيد أن الوسواس الخناس من الصنفين، وكان يقول: شياطين الإنس أشدّ على الناس من شياطين الجن، شيطان الجن يوسوس ولا تراه، وهذا يعاينك معاينة، إلى أن قال: والوسواس أصل كل شر يضرهم؛ لأنه مبدأ الكفر والفسوق والعصيان، وعقوبات الرب إنما تكون على ذنوبهم، وإذا لم يكن لأحدهم ذنب فكل ما يصيبه نعمة في حقه وإذا ابتُلي بما يؤلمه فإن الله يرفع درجته ويأجره، وإذا قدر عدم الذنب مطلقًا لكن هذا ليس بواقع منهم، فإن كل بني آدم خطاء إلخ.

يقول: فكان الوسواس مبدأ كل شر، فإن كانوا قد استعاذوا بربهم وملكهم وإلههم من شره فقد دخل في ذلك وسواس الجن والإنس، وسائر شر الإنس إنما يقع بذنوبهم، فهو جزاء على أعمالهم كالشر الذي يقع من الجن بغير الوسواس، وكما يحصل من العقوبات السماوية، وهم لا يستعيذون من شر المخلوقات مطلقًا كما استعاذوا في سورة الفلق، بل من الشر الذي يكون مبدؤه في نفوسهم، وإن كان ذكر رب الناس ملك الناس إله الناس -هنا العبارة فيها شيء- يعني أنهم يستعيذون به ليعيذهم.

الشاهد أنه ذكر كلامًا في هذا يرجع إلى ما سبق، يقول: فإن قيل: فإن كان أصل الشر كله من الوسواس الخناس فلا حاجة إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس فإنه تابع لوسواس الجن، قيل: بل الوسوسة نوعان: نوع من الجن ونوع من نفوس الإنس، يقول: وقد قيل: إنما خص الناس بالذكر؛ لأنهم مستعيذون، -أي هنا لماذا قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ ۝ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ؟- قيل: لأنهم مستعيذون، أو لأنهم المستعاذ من شرهم، ذكرهما أبو الفرج، وليس لهما وجه؛ فإن وسواس الجن أعظم، ولم يذكره بل ذكر الناس؛ لأنهم المستعيذون، فيستعيذون بربهم الذي يصونهم، وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم، وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحول بينهم وبين عبادته.

لاحظ هنا لماذا هذه الأسماء الثلاثة؟ مستعاذ به، يقول: ويستعيذون أيضًا من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس الناس منهم ومن الجنة، فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم، والذي يرد عليهم، يقول: وبهذا يتبين بعض هذه الاستعاذة والتي قبلها كما جاءت بذلك الأحاديث عن النبي ﷺ أنه لم يستعذ المستعيذون بمثلها، فإن الوسواس أصل كل كفر وعصيان، يقول: وهو أصل الشر كله، فمتى وُقي الإنسان شره وقي عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال؛ فإن جميع هذه إنما تحصل بطريق الوسواس، ووُقي عذاب الله في الدنيا والآخرة، فإنه إنما يعذب على الذنوب وأصلها من الوسواس، ثم إنْ دخل في الآية الوسواس وغيره بحيث يكون قوله: مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ استعاذة من الوسواس الذي يعرض له والذي يعرض للناس بسببه فقد وُقي ظلمه، وإن كان إنما يريد وسواسه فهم إنما يسلطون عليه بذنوبه وهي من وسواسه.

يقول: والوسواس من جنس الحديث والكلام، ويقول: وهو نوعان: خبر، وإنشاء، فالخبر إما عن ماض وإما عن مستقبل، يعني الوساوس التي يلقيها الشيطان إما في أشياء ماضية سابقة، وإما في أشياء يترقبها في المستقبل، يقول: فالماضي يذكّره به، والمستقبل يحدثه بأن يفعل أمورًا، أو أن أمورًا ستكون بقدر الله، أو يكون ذلك من فعل غيره، فهذه الأماني والمواعيد الكاذبة، هذا في الأخبار، والإنشاء أمر ونهي وإباحة، والشيطان تارة يُحدث وسواس الشر، وتارة ينشئ الخير -هنا خطأ في العبارة، والظاهر أنها ينسيه الخير، وكان ذلك بما يشغله به من حديث النفس، يعني يجعل هذا الإنسان ينشغل بحديث النفس عما هو بصدده مثلًا فيسهو في صلاته، ينسيه أمورًا كان ينبغي أن يفعلها، وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [سورة الكهف:63]، وينسيه الخير، وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى [سورة الأنعام:68]، فهنا يغفل الإنسان، فقد يقع في موقف كان ينبغي ألا يكون منه، ونحو ذلك.

يقول: وثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط[8]، يعني حتى لا يسمع التأذين، وأن الشيطان يحول بين المرء ونفسه، ويقول له: اذكر كذا في الصلاة، فينسيه كم صلى، ويقول: ويذكره بأمور ماضية يحدث بها نفسه، مما كان في نفسه، من أفعاله ومن غير أفعاله، فينسى المصلى كم صلى، فيشغله بأمور أخرى.

يقول: وأما إخباره بما يكون في المستقبل من المواعيد، والأماني فكما قال الله -تبارك وتعالى- عن قول الشيطان لما قضي الأمر: إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [سورة إبراهيم:22] فهذا وعد الشيطان في أمور مستقبلة، يقول: وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ۝ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ [سورة النساء:119، 120] في المستقبل، وقال: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء [سورة البقرة:268].

ويقول: وقد قال غير واحد من الصحابة كأبي بكر وابن مسعود فيما يقولونه عن اجتهادهم: إن كان صوابًا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، يعني أن الشيطان يلقي في النفس من الاعتقادات التي ليست مطابقة، يعني يقع الإنسان في الخطأ بسبب الشيطان، وإن لم يكن صاحب هذه الاعتقادات آثمًا؛ لأنه استفرغ وسعه، كما لا يأثم بالوسواس الذي يكون في الصلاة من الشيطان، ولا مما يحدث به نفسه، وكما قال الله: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286]، قال الله: قد فعلت.

والنسيان للحق من الشيطان، والخطأ من الشيطان، ويقول: ولما نام النبي ﷺ وأصحابه عن الصلاة في غزوة خيبر قال لأصحابه: ارتحلوا فإن هذا مكان حضرَنا فيه الشيطان[9]، وقال: إن الشيطان أتى بلالًا فجعل يُهدِّئه كما يُهدَّأ الصبي حتى نام[10]، وقيل: النعاس في مجلس الذكر من الشيطان، وكذلك الاحتلام في المنام من الشيطان، والنائم لا قلم عليه، وذكر الرؤيا وأنها ثلاثة، وأن بعضها من الشيطان، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ [سورة الأعراف:201].

فالحاصل أنه يتكلم على هذه المعاني وأثر الشيطان فيها، فيقول هنا: قد عَرف العدو المقهور أن ذلك القاهر يعرف ما يشير به عليه من الشر، فلا يقبله بل يعاقبه على ذلك، فيحتاج لانقهاره معه إلى أنه لا يشير عليه إلا بخير لذلته.. إلخ. والنبي ﷺ قال: إلا أن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير[11]، يقول: وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ [سورة آل عمران:175] أي: يخوفكم أولياءه بما يقذف في قلوبكم من الوسوسة المرعبة، فشيطان الإنس الذي يخوِّف من العدو فيُرجف ويخذِّل، يعني يضخم أولياء الشيطان من الإنس ويخوِّف منهم، يقول: عكس هذا إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ [سورة الأنفال:12]، وقال: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [سورة إبراهيم:27] يعني هذا من الله، وقد يكون بواسطة الملائكة، أما الشيطان فإنه يلقي المخاوف والوساوس والخواطر السيئة، يقول: والتثبيت يعني يثبت الذين آمنوا فيجعل الإنسان ثابتًا لا مرتابًا إلى آخره.

هذا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله، وكان مما قال: "فيكون الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة هو الكتاب والسنة، فإن كان مما ألقي في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنه تقوى لله فهو من الإلهام المحمود، وإن كان مما دل على أنه فجور فهو الوسواس المذموم، وهذا فرق مطرد لا ينتقض"[12].

سؤال: كيف نوفق بين ضعف الشيطان "إن كيد الشيطان كان ضعيفًا" وشدة وطأة الوسوسة على الناس؟

إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء:76]؛ ولهذا كان خناساً فهو يخنس إذا ذكر الله -تبارك وتعالى، وهذا يدل على ضعفه، فلا يكون الخلاص من ذلك إلا باللجأ إلى الله -تبارك وتعالى- والتوكل عليه، وقوة الصلة به، فإذا ضعفت هذه الصلة، وحصلت الغفلة قوي سلطانه وكيده للعبد، أو على العبد، ولهذا قال الله : إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [سورة النحل:100]، فإذا أسلم إليه قياده تمكن منه، وتسلط عليه فاشتدت وطأته على هذا الإنسان.

أما من كان معتصمًا بالله يستعيذ به، ويلجأ إليه، وصلته بربه قوية فـإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة النحل:99]؛ ولهذا في القتال أتباع الشيطان من هؤلاء الكفار والمشركين الله قال: فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء:76]، فهذا يدخل فيه هؤلاء الأتباع، فهم مهما كان عندهم من القوة والإمكانات والقُدَر والسلاح إلى آخره يبقى أنهم لا يثبتون أمام أهل الإيمان حقًا الذين فعلوا ما أمرهم الله به من الصبر والتوكل عليه والاستعداد ما استطاعوا واجتماع الكلمة، ولهذا قال: وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ [سورة آل عمران:111] كيده ضعيف، وأولياء الشيطان مثله لا يثبتون.

إذا كان هؤلاء الذين يمثلون عصابات تقاتل -وهم أوزاع متفرقة- أرعبوا من بأقطارها، انظر إلى حالهم في بلاد الشام هنا وهناك، عصابات متفرقة كيف لو كان هؤلاء عندهم جيش واحد، وعندهم سلاح، وعندهم قوة مادية؟ ستتطاير هذه الدول التي يسمونها الدول العظمى وغير العظمى مثل الكرتون، لا يمكن أن يثبت عند الله أحد، ولكن إنما يؤتون من قبل أنفسهم، فهذا الرعب الذي يعلنه أعداء الله صباح مساء من أهل الإيمان على قلتهم وضعفهم والظلم الواقع عليهم هذا يدل على قول النبي ﷺ: نصرت بالرعب مسيرة شهر[13]، إذا كان هؤلاء يخافون من أعداد قليلة، وقليلة العدة، ومتفرقة، متشتتة ويخافون منها هذا الخوف، كيف لو وُجدت قوة فعلًا متحدة عندها مقومات؟ لا يبقى أمامها أحد لا من الرافضة، ولا من اليهود، ولا من النصارى ولا من غيرهم، هذا معنى كون كيد الشيطان ضعيفاً.

  1. رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأنّ مع كل إنسان قريناً، برقم (2814).
  2. رواه مسلم، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خالياً بامرأة وكانت زوجته أو محرماً له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، برقم (2175).
  3. رواه مسلم، ولفظه: كان نفر من الإنس يعبدون نفراً من الجن...، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [سورة الإسراء:57]، برقم (3030).
  4. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي، برقم (510).
  5. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، برقم (5112)، وأحمد في المسند، برقم (2097)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  6. رواه أحمد في المسند، برقم (24323)، وقال محققوه: "حديث حسن من أجل الحارث وهو ابن عبد الرحمن القرشي، خال ابن أبي ذئب، فقد تفرد بالرواية عنه ابن أبي ذئب، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال ابن معين: هو مشهور، وقال أحمد: لا أرى به بأساً، وانفرد علي بن المديني بتجهيله، ولم يتابعه على ذلك أحد".
  7. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، برقم (127).
  8. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل التأذين، برقم (608)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه، برقم (389).
  9. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم (680).
  10. رواه مالك في الموطأ مرسلاً، برقم (26)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (687).
  11. سبق تخريجه.
  12. مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (17/ 529).
  13. رواه البخاري، أول كتاب التيمم، برقم (335)، ومسلم، أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (523).

مواد ذات صلة