الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[1] من بداية السورة إلى قوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} الآية:7
تاريخ النشر: ٠٨ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 4216
مرات الإستماع: 9392

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال صاحب المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير -رحمهما الله تعالى:

تفسير سورة الذاريات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۝ فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ۝ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ۝ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ۝ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ۝ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ۝ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ۝ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ۝ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ۝ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ۝ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ۝ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ۝ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [سورة الذاريات:1-14].

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى، ولا عن سنة عن رسول الله ﷺ إلا أنبأتكم بذلك، فقام إليه ابن الكَوّاء فقال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قوله تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا؟ قال علي -رضي الله تعالى عنه: الريح: فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا؟ قال -رضي الله تعالى عنه: السحاب، قال: فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا؟ قال -رضي الله تعالى عنه: السفن، قال: فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا؟ قال: الملائكة.

وقال بعضهم: فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا هي: النجوم تجري يسراً في أفلاكها، ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى إلى ما هو أعلى منه، فالرياح فوقها السحاب، والنجوم فوق ذلك، والمقسمات أمراً الملائكة فوق ذلك، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه السورة هي من السور النازلة بمكة، ومعلوم أن عامة السور التي نزلت بمكة تتحدث عن قضايا الاعتقاد، التوحيد والمعاد، وما إلى ذلك، ولهذا فإن هذه السورة تحدثت عن البعث وصحة وصدق ما جاء به محمد ﷺ، وتحدثت عن جزاء المصدقين، وجزاء المكذبين، وما وقع لهم من العقوبات العامة المستأصلة، وما ينتظرهم بعد ذلك من عذاب الله ، والله -تبارك وتعالى- أقسم في صدر هذه السورة بهذه الأمور، الذاريات، والحاملات وقراً، وكذلك الجاريات، والمقسمات، أربعة أشياء على صحة البعث والقيامة.

وهذه الأشياء التي أقسم الله -تبارك وتعالى- بها عظيمة تدل على وحدانيته وربوبيته وعظمته، فالذاريات: الرياح، وهي لمن تأملها تدل على قدرة الله ، وعظيم تدبيره وتصريفه، فمنها ما يكون ليناً سهلاً لطيفاً تنعم به الأجسام، ومنها ما يكون عنيفاً شديداً يدمر كل شيء، كما قال الله عن الريح التي أرسلها على قوم عاد: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [سورة الأحقاف:25]، وسماها بالريح العقيم، فهي لا تلقح السحاب ولا النبات، وإنما تستأصل حتى جعلتهم كأنهم أعجاز نخل خاوية، لا تبقي ولا تذر.

ومنها ما يكون حاراً، ومنها ما يكون بارداً، ومنها ما له صوت بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [سورة الحاقة:6]، ومنها ما لا صوت له، ومنها ما يهب من جهة المشرق وهي الصَّبا، ومنها ما يهب من جهة المغرب وهي الدَّبُور، ومن الجنوب، ومن الشمال، والنبي ﷺ يقول: نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدَّبور[1]، فمنها ما يأتي للنصر، وكما فعل الله يوم الأحزاب حيث هزم المشركين الذين تجمعوا حول المدينة بالريح، ومنها ما يسوق السحاب، ومنها ما يلقحه، ومنها ما يلقح النبات، فهي أنواع كثيرة جداً.

وهكذا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا [سورة الذاريات:2]، هذا السحاب الذي نراه معلقاً بين السماء والأرض، فهو كالقرب العظام، وقد صوره الله بالجبال مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ [سورة النور:43]، فهو آية عظيمة تسوقها الرياح ويصرفها الله فتنزل حيث شاء الله، بالقدر الذي أراده الله -تبارك وتعالى- لا يزيد ولا ينقص، مقدر بقدر محدود في كل عام بنفس القدر، ولكن الله يصرفه في كل عام بين المَحالّ وفق حكمته، حتى الذي يتبادر لربما إلى أذهان الكثيرين من أنه لا فائدة منه له غاية النفع، كالذي ينزل على البحر، فإن مياه البحار تتبخر منها كميات كبيرة كما هو معروف بسبب الشمس، فينعقد ملحاً صرفاً وتتضرر منه المخلوقات التي خلقها الله في هذا البحر، ويختل ميزانه فينزل عليه الماء العذب فيحصل له التوازن.

وهكذا ما ذكره جماعة من أهل العلم من أن اللؤلؤ إنما ينعقد مع نزول المطر في موسم معين كالوَسْم الذي يعرفه الناس الذي يُخرج كثيراً من النبات في اليابسة، فالحاصل أن هذا السحاب آية من آيات الله .

وهكذا أيضاً فَالْجَارِيَاتِ إذا فسر بالسفن فهي عظيمة، فهذه الجواري في البحر كما قال الله كالأعلام: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [سورة الشورى:32]، والعلم هو الجبل، كالجبال طوابق هائلة ضخمة كبيرة كما نشاهد، تجري في هذا الماء الرقيق، فتمخر فيه، ويتنقل الناس، وتحمل البضائع التي تعجز عن حملها الدواب، كل هذا آية من آيات الله -تبارك وتعالى.

وهكذا تفسير من فسر ذلك بالنجوم، ومن اطلع على شيء يسير مما جعله الله في هذا العالم، عالم الفلك والنجوم ومساراتها ومحالها، وأوقات طلوعها وأفولها، ومنها ما يقطع الفلك في ثلاثين عاماً، ومنها ما يقطعه في أكثر من هذا، ومنها ما يقطعه فيما دونه، كل هذا من آيات الله .

وهكذا الملائكة التي تنزل بأمر الله من السماء إلى الأرض، تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ [سورة المعارج:4]، يعني: جبريل -عليه الصلاة والسلام- إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، تصعد وتنزل، منها ما ينزل بالأرزاق والأقوات، ومنها ما ينزل بالعذاب، ومنها ما ينزل بالوحي، ومنها من يسوق السحاب، كما جاء في الحديث بأن الرعد ملك من الملائكة، فالبرق سوطه، والرعد صوته يزجر السحاب، وهكذا وكلهم الله بأمور يجري بها تصريف أمر هذا العالم وفق إرادته وحكمته.

هذه السؤالات، هذا الذي سأل "ابن الكواء" وهو رجل من الخوارج سأل عليًّا عن جملة أشياء، سأله عن القمر، ما هذا السواد الذي في القمر؟ فقال له: أعمى سأل عن عمياء، يسأل تكلفاً، وهذه الأسئلة مذمومة، هذه الأسئلة لا تحمد؛ لأنه لا يترتب عليها عمل، والسلف كانوا لا يسألون السؤال عما لا يعني، وهذا من السؤال عما لا يعني، يكرهون المسائل المتكلفة، وتتبع صعاب المسائل، والاشتغال بالأغاليط وما لا طائل تحته، وإنما ينشغل الإنسان بما تحته عمل.

وصَبيغ بن عسل خبره معروف مع عمر ، كان يسأل عن متشابه القرآن ويدور في الأجناد، يسألهم عن هذا، والأجناد منذ ذلك الحين عامتهم ليسوا من أهل العلم، فسمع به عمر ، فقال: اللهم أظفرني به، فدخل الناس يتغدون عند عمر، فجاء رجل عليه عمامة فتغدى مع الناس، ثم قال: يا أمير المؤمنين وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۝ فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا، فقال: أنت هو؟ وفي رواية أنه قال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، فقال عمر : وأنا عبد الله عمر، فضربه، وكان قد خبأ له عراجين، فضربه حتى سقطت عمامته، وأدمى رأسه، ثم عاد أياماً حتى قال الرجل: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد ما بي فوالله قد ذهب، وإن كنت تريد قتلي فأنت وذاك، فأمر عمر به فأخرج إلى البصرة وكتب إلى أميرها أبي موسى الأشعري ، أن لا يُجالَس ولا يكلم، فكان إذا جلس إلى جماعة من الناس -إلى حلقة- فمن يعرفه يقول لمن لا يعرفه: عزمة أمير المؤمنين، يعني ألا تكلموه، فيقومون عنه، فيبقى وحده، حتى شق عليه ذلك وكان عزيزاً في قومه فذل، فصلحت حالته، فكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر أن الرجل قد استقام، فأمر عمر بمكالمته ومجالسته، فلما ظهر الخوارج قالوا له: هذا وقتك، هذا أوانك، فقال: لا، قد نفعني الله بالرجل الصالح، أو بموعظة الرجل الصالح، يعني عمر .

فمن الناس من يحسن معه الجواب والرد والمناظرة والكلام والمحاورة، ومن الناس من لا يصلح معه إلا عراجين عمر، يُضرب على رأسه حتى يذهب ما برأسه من الوساوس والشُّبه والاشتغال بما لا يعني، والتلبيس على الناس وتشكيكهم في كتاباته.

هذه المعاني التي ذكرها عليٌّ -رضي الله عنها- جواباً على هذا السؤال: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا قال علي : الريح، هذا الذي عليه عامة أهل العلم في تفسير الذاريات، والله يقول: فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [سورة الكهف:45]، فالرياح تذرو التراب، وتذرو النبات الذي صار هشيماً، وهي تذرو أيضاً المطر، وقد جاء في وقعة الأحزاب تصوير النبال التي كانت تنهال على المسلمين كأنها مطر تزعزعه الريح، تنشره وتحركه الريح؛ لكثرته، فالحاصل أن هذا المعنى في الذاريات هو الذي عليه أكثر العلماء، الرياح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم.

وقال: فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا، فسره بالسحاب، الحاملات وقراً يعني السحاب، كما قال الله : وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [سورة الرعد:12]، حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً [سورة الأعراف:57]، فالرياح هي التي تحمل السحاب وتسوقه حيث أمر الله -تبارك وتعالى، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم أن الحاملات وقراً أنها أيضاً السحاب، وإن كان هذا ليس كالأول، يعني أن الذاريات تفسر بالرياح بلا إشكال ولا تردد، وأما الحاملات وقراً فالمشهور عند عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً هو أنها السحاب تحمل وقراً حملاً ثقيلاً، فهي وعاء للمطر.

وهذا الذي مشى عليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وعامة المفسرين، لكنه ليس كالأول، فقوله: فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا يحتمل هنا أن المراد به غير السحاب، ويحتمل أن المراد به الرياح أيضاً؛ لأن الرياح تحمل السحاب، فيكون الأول والثاني في الرياح، وَالذَّارِيَاتِ يعني: الرياح، فَالْحَامِلَاتِ أيضاً هي: الرياح، والله  يقول: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً [سورة الأعراف:57]، فالرياح هي التي أقلت سحاباً، حملت سحاباً ثقالاً، فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا على هذا التفسير على هذا المعنى هي الرياح، حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ يعني: الرياح، فهذا يدل عليه القرآن، وهو معنى ليس ببعيد.

ولكن المعنى المشهور هو أنها السحاب، والذي يظهر أنه لا يحتاج إلى ترجيح؛ لأن بينهما ملازمة، وكل ذلك يصدق عليها أنها حاملات، فالرياح دل القرآن على أنها تحمل السحاب، وكذلك أيضاً السحاب تحمل المطر، والآية أو اللفظة إذا كان لها أكثر من معنى وكلها دل عليها القرآن ولا يوجد ممانعة من حملها على هذا وهذا فإنها تحمل عليها جميعاً.

فالحاملات وقراً يصدق على الرياح، ويصدق على السحاب، فكل ذلك حامل لغيره، هذه تحمل السحاب وهذه تحمل المطر، فهما متلازمان، وفسر الجاريات فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا بالسفن، وهذا المشهور وهو الأكثر في الاستعمال في القرآن في الجري، فالله يقول عن السفن: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [سورة الشورى:32]، الجواري، وفي قصة نوح -عليه الصلاة والسلام- إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [سورة الحاقة:11]، سماها الجارية وهي: السفينة تجري في البحر، وقال عن الفلك: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [سورة الحج:65] إلى غير ذلك من الآيات التي يصف فيها السفن بهذه الصفة، بالجري.

فالمشهور في تفسير الجاريات فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا هي: السفن تجري في البحر جرياً يسيراً سهلاً، ولكن هذا المعنى في تفسير الجاريات ليس كاللذيْن قبله، يعني لو أردنا أن نتدرج في التفسير نقول: الذاريات بلا إشكال هي الرياح، والحاملات المشهور أنها السحاب، ولا يبعد أن يكون المراد الرياح، وذكرنا أن بين المعنيين ملازمة، ولا نحتاج أن نرجح.

فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا المشهور أنها السفن، ومن أهل العلم من فسرها بالنجوم تجري في أفلاكها، كما رسم الله لها وقدر، ولو قيل: كل ذلك جاريات، فالله لم يحدد شيئاً دون شيء، كما قال الله فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ [سورة التكوير:15] يعني: أقسم بالخُنّس، فالخُنّس فسرت بالنجوم تخنِس في النهار، وفسرت ببقر الوحش تخنس في الغيطان، وكل ذلك خُنّس، كما قال ذلك بعض السلف -رضي الله تعالى عنهم، فالله لم يحدد شيئاً منها، فالمشهور أن الجاريات هي السفن، وهذا هو الأكثر استعمالاً في القرآن.

ومن أهل العلم من حمله على النجوم، وابن القيم -رحمه الله- وشيخ الإسلام فسروه بالنجوم، وقالوا كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذا كلام شيخ الإسلام وكلام ابن القيم: إن القضية تدرج من الأدنى إلى الأعلى، الرياح وفوق الرياح السحاب، وفوق السحاب النجوم، وفوق النجوم الملائكة، هذا وجه من وجوه الترجيح، ويمكن أن يقال: كل ذلك يقال له جاريات، النجوم جارية، وكذلك السفن يقال لها: جاريات، والأشهر هو تفسير ذلك بالسفن، فمن أراد أن يرجح فيمكن أن يرجح بالأشهر والأكثر استعمالاً في القرآن، هذا وجه الترجيح.

قال: فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا يقول عليٌّ : الملائكة، وهذا بلا إشكال، تقسم أمر الله ، منها ما هو موكل بالرزق، ومنها ما هو موكل بالعذاب، ومنها ما هو موكل بالوحي، إلى غير ذلك، وكبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- مشى على هذا في هذه الأمور الأربع، يعني: على ما قاله علي -رضي الله تعالى عنه، فسر هذه الأشياء الأربع بهذه التفسيرات، ومن أهل العلم من يقول: إن المقسمات أمراً يعني: السحاب، وهذا بعيد، والله يقول: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [سورة النازعات:5]، والمدبرات أمراً ليست هي السحاب قطعاً، وإنما هم الملائكة، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا مفسَّر بقوله: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا، وقال بعضهم: فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا هي: النجوم، وبعضهم يقول: هي الرياح، وبعضهم يقول: هي السحاب، ومن أهل العلم من يقول: المراد بالأربع الرياح، فهي تذرو المطر والتراب وغير ذلك، وهي تحمل السحاب وتنشره وتقسمه حيث أراد الله .

وهذا قسم من الله  على وقوع المعاد؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [سورة الذاريات:5].

إي نعم، يعني هذا هو المقسم عليه، والمقسم به الجاريات والذاريات...، هذه الأمور الأربع هي المقسم بها، والله  يقسم مِن خلقه بما شاء، وليس لمخلوق أن يقسم بغير الله ، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ أي: لخبر صدق، ووصْفُه بأنه صادق أبلغ من وصفه بأنه صدق، تقول: هذا خبر صدق، وهذا خبر صادق، كما تقول: زيد صادق، وتقول: رجل صدق، فهذا تفسيره، كون صادق أبلغ من صدق معروف، تقول: يوم صائم، وليل قائم، في عيشة راضية، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ [سورة الحاقة:21].

وَإِنَّ الدِّينَ، وهو: الحساب، لَوَاقِعٌ [سورة الذاريات:6] أي: لكائن لا محالة.

إي نعم، الدين هو الحساب والجزاء، مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] أي: يوم الحساب والجزاء، كما قال الله : يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [سورة النور:25] يعني: جزاءهم الحق، تقول: كما تدين تدان، كما تُجازِي تُجازَى، فالله يقسم إِنَّمَا تُوعَدُونَ من البعث والحساب والجنة والنار والقيامة لَصَادِقٌ خبر صادق، لا مرية فيه، ولا يتطرق إليه الكذب، وَإِنَّ الدِّينَ يعني: الحساب الذي تجادلون فيه والجزاء لَوَاقِعٌ لا بد من وقوعه، كما قال الله : لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [سورة الواقعة:2]، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ [سورة الأنعام:134] لا بد من مجيئه، والله  كما قال: إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [سورة آل عمران:9].

ثم قال: وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ [سورة الذاريات:7] قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: ذات البهاء والجمال والحسن والاستواء، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو مالك، وأبو صالح، والسدي، وقتادة، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، وغيرهم.

هذا مشى عليه كثير من المفسرين، ذات الجمال، كما قال الله إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [سورة الصافات:6]، زيّنا، فهي مزينة، أي: ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء، مكتملة الخلقة، ليس في خلقها تفاوت، كما قال الله : مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ [سورة الملك:3]، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ [سورة الملك:3]، هل ترى من تشقق؟ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ۝ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [سورة الملك:4، 5]، فالله أتقن خلقها وسواه، وجعلها مزينة بالنجوم، وجعلها بهية حسنة، فهذه المعاني قالها كثير من السلف -رضي الله تعالى عنهم.

وقال الضحاك، والمِنْهال بن عمرو، وغيرهما: مثل تجعّد الماء والرمل والزرع إذا ضربته الريح، فينسج بعضه بعضا طرائق طرائق فذلك الحبك.

فذلك الحبك، يعني الحبك كما يقال: كل شيء أحكمته وأتقنته فقد حبكته واحتبكته، وتقول: هذا قد حبك في صناعته مثلاً، وفي الثوب والنسج، وكل شيء أحكمت نسجه فقد حبكته واحتبكته، تقول: هذا محبوك أي: محكم متقن الصنع، والله قد وصف السماء بهذا، وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ يعني: أن خلقها متقن محكم مشدود، ليس فيه تفاوت، وجعلها الله كما نراها بهية حسنة مزينة بالنجوم، فهذا معنى.

والمعنى الثاني الذي ذكره بعده يقول: مثل هذا التموج الذي نراه في الماء الدائم إذا ضربته الريح، الماء إذا جاءت الرياح عليه يكون فيه تمويج، وكثيب الرمل إذا جاءت عليه الرياح يكون فيه تمويج، وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ، فهي سقف كما وصفها الله وأخبر عنها وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا [سورة الأنبياء:32]، وهذا السقف في خلقه جعله الله -تبارك وتعالى- بهذه الصيغة فيه تمويج، فيه تموج كأثر الريح على الرمل، هذا هو المعنى الثاني، يقول: فذلك الحبك، يعني هذا التجعد، فالمتجعد يقال له ذلك.

ومن أهل العلم من يفسر الحبك بالشدة، وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ذات الشدة، شديدة قوية، وهذه المعاني لا اختلاف بينها، وكل ذلك يصدق على السماء، ولا يحتاج إلى ترجيح معها، فيقال: وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ذات الشدة والقوة وهي محكمة الخلق في غاية الزينة والحسن والجمال، وقد خلقها الله بهذه الصفة، فحينما أطلق الله وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ حملنا الحبك على ما نعرفه من المعاني، والله خاطبنا بلغة العرب، ولم يخص معنى دون معنى، وإنما نطلق كما أطلق الله -تبارك وتعالى- وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ.

الله يقول في صفة السماء في موضع آخر: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [سورة النبأ:12]، ذات الشدة، والزينة في قول الله : وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [سورة الملك:5]، وعلى تفسير ذلك بالطرائق -هذا التمويج- يكون وجه الإقسام بالسماء ذات الحبك مناسباً لما بعده من قوله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ [سورة الذاريات:8].

وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ يعني الطرائق، فهم على طرائق شتى، فيما ينسبون إلي النبي ﷺ، وما جاء به من الوحي، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ، مِن قائل: إنه شاعر، أو ساحر، أو أخذ ذلك عن غيره أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سورة الفرقان:5]، مجنون، كذاب، وهكذا الباطل لا يتفق، فالحق واحد لا يختلف، وأهل الحق لا يتفرقون فيه، وأما الباطل فلا أدل على بطلانه من تفرق أهله فيه كما هو مشاهد، يختلفون فيه، فهم لا يتفقون على قول واحد، وهذا يدل على أنهم أهل تخرص وكذب وبهتان، فالشاعر غير الساحر، غير الكذاب، غير المجنون، فمِن قائل بهذا ومِن قائل بهذا، ومِن قائل بهذا، لم يتفقوا فيه على شيء؛ لأن ذلك جميعاً من الاختلاق، افتراء وكذب عليه ﷺ.

وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد وهو الحسن والبهاء، فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة، شديدة البناء، متسعة الأرجاء، أنيقة البهاء، مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات، موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزاهرات.

وهذا من محاسن تفسير الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن كاتبه له بصر في التفسير وذوق وحسن نظر، يستطيع أن يتعامل مع النصوص الواردة عن السلف، ويجمع ما يمكن أن يجتمع تحت معنى الآية دون أن يكثر من ذكر الأقوال ويجعل القارئ في حيرة، ومثل هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير من أن هذه المعاني جميعاً صحيحة مشى عليه جمع من المحققين، من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

  1. رواه البخاري، أبواب الاستسقاء، باب قول النبي ﷺ نصرت بالصبا، برقم (1035)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، برقم (900).

مواد ذات صلة