الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا} الآية:44 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ١٨ / ربيع الآخر / ١٤٣٤
التحميل: 6546
مرات الإستماع: 13406

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قال المؤلف -رحمنا الله وإياه- في قوله تعالى:

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيد ۝ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ [سورة فصلت:44، 45]

لما ذكر الله تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته وإحكامه في لفظه ومعناه ومع هذا لم يؤمن به المشركون نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت، كما قال : وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ۝ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء:198، 199]، وكذلك لو أُنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا على وجه التعنت والعناد: لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [سورة فصلت:44] أي: لقالوا: هلا أنزل مفصلًا بلغة العرب ولأنكروا ذلك فقالوا: أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أي: كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه، هكذا رُوي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم.

ثم قال : قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء أي: قل يا محمد: هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ أي: لا يفهمون ما فيه، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أي: لا يهتدون إلى ما فيه من البيان، كما قال : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء:82]، أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ، قال مجاهد: يعني بعيد من قلوبهم، قال ابن جرير: معناه كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول.

قلت: وهذا كقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [سورة البقرة:171].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [سورة فصلت:44] يعني كيف نفهمه؟ كيف يَنزل قرآن أعجمي على عربي المراد منه أنه يفهمه؟ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء هنا قال: هُدًى وَشِفَاء ولم يقل: دواء، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [سورة الإسراء:82]، فالدواء قد يصيب وقد يخطئ، وقد يحصل المقصود منه، وقد يلائم بعض الناس، وقد لا يلائم آخرين، ولكن الشفاء يكون المقصود منه حاصلًا إذا وجد المحل القابل؛ ولهذا قال الله : وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ.

والوقر هو الصمم، وقد مضى الكلام على هذا، قال: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى -نسأل الله العافية، يعني كما قال الله : فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:125] فمن الناس من لا يزيده سماع القرآن إلا ضلالًا وكفرًا ونفاقًا، وفي قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:2، 3] ثم بعد ذلك لما ذكر أهل النفاق قال: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18].

وهكذا أيضًا مضى قوله -تبارك وتعالى- كما في هذه الآية: أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ، إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ۝ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ [سورة النمل:80، 81]، فإن هؤلاء الصم لربما يفهمون بالإشارة، ولكنهم إذا ولوا مدبرين هم لا يسمعون عبارة، ولا يتفطنون لإشارة، يعني أنهم لا يصل إليهم من ذلك قليل ولا كثير.

فهنا في قوله -تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ يقول: بعيد من قلوبهم، قاله مجاهد، وما ذكره ابن جرير -والله تعالى أعلم- هو الأقرب، وهو الذي عليه الأكثر، لكن ابن جرير -رحمه الله- ما ذكره اختيارًا، وإنما ذكر قولين في الآية هذا هو الأول منهما، فابن جرير لم يذكر هذا المعنى على أنه مرجح، وإنما قال: لأن ذلك يحتمل معنيين، أو قال: فيه قولان، فذكر هذا المعنى منهما، وفرق بين أن يذكره كما تعلمون على أنه اختيار له وبين أن يُذكر من جملة الأقوال، يقول: معناه كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول، وهكذا عبارات من عبر عن هذا المعنى: كأنهم ينادون من السماء مثلًا أو نحو ذلك، هذا يرجع إليه، أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ومن ينادَى من مكان بعيد لا يصل إليه كالذي ينعق بما لا يسمع.

وقوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي: كُذب وأوذي، فاصبر كما صبر أولي العزم من الرسل، وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [سورة الشورى:14] بتأخير الحساب إلى يوم المعاد لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: لعجل لهم العذاب، بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا [سورة الكهف:58]، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ أي: وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا بل كانوا شاكين فيما قالوه غير محققين لشيء كانوا فيه، هكذا وجهه ابن جرير، وهو محتمل -والله أعلم.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وهو التوراة، فَاخْتُلِفَ فِيهِ كون الضمير يرجع إلى أقرب مذكور هذا معلوم، فهنا هل يرجع الضمير إلى الكتاب الذي هو التوراة؟ أو أنه يرجع إلى موسى ﷺ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ من هو المحدَّث عنه؟ هل هو موسى أو الكتاب؟ يعني هنا سيقت الآية لبيان أن موسى أوتي الكتاب؟ أو لتقرير نبوة موسى ﷺ وما لقي كما ذكر الله في مواضع: وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [سورة البقرة:92]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [سورة الأحزاب:69]، فأحيانًا يكون المقصود بيان ما لقي موسى ﷺ، وأحيانًا يكون المراد الكتاب وما حصل منهم إزاءه.

فهنا فَاخْتُلِفَ فِيهِ لاحظ هنا قول ابن كثير: أي: كُذب وأوذي هذا يرجع إلى موسى ﷺ، وهذا قال به بعض المفسرين، والقول الآخر أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي: الكتاب، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وهو الأقرب -والله أعلم، هذا أرجح من الأول، والأول يحتمل وإلا فقد يختلفون في نبيهم ويرتابون به.

مثلًا: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا [سورة غافر:34]، هذا في الفراعنة، وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ [سورة البقرة:89] كفروا بالرسول الذي جاءهم، فتارة يراد هذا، وتارة يراد هذا، ولكن السياق يبين، ولهذا كان الاحتمال قائمًا في هذه الآية.

ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أن الضمير هنا يرجع إلى الكتاب، ولا يخفى أن بين الكتاب والرسول الذي جاء به ملازمة، فإذا كانوا اختلفوا في الكتاب الذي جاء به فذلك يرجع إلى الرسول الذي جاءهم؛ لأن إيمانهم به كان ضعيفًا، كان عندهم تردد في هذا فَاخْتُلِفَ فِيهِ قال: أي: كُذب وأوذي، وإذا قلنا: الكتاب فيكون اختُلف في الكتاب، قال: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى يعني أن لا يعذبهم قبل يوم القيامة مثلًا؛ لأن الله كما ذكر أهل العلم لم ينزل عذابًا مستأصلًا لأمة بعد أن أنزل التوراة، يعني العقوبات العامة، وقد مضى الكلام على هذا قوم نوح وهود وصالح وقوم لوط أهلكوا بالعذاب المستأصل، فهذا لم يحصل بعد ذلك لأمة كاملة بعد موسى -عليه الصلاة والسلام.

قال: لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا [سورة الكهف:58]، قال: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ الآن هنا أيضًا الضمير يرجع إلى من؟ إذا قلنا: إن الأول يرجع إلى موسى ﷺ فهم في شك من نبيهم، يقول: أي: وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم بما قالوا بل كانوا شاكين فيما قالوه هل هذا يرجع إلى موسى -عليه الصلاة والسلام- أو يرجع إلى الكتاب؟

إذا قلنا: إن الأول يرجع إلى موسى ﷺ فهذا أيضًا كذلك، وإذا قلنا: إن الأول يرجع إلى الكتاب فهذا أيضًا كذلك، يعني يكون المعنى أن اليهود في شك من كتابهم، وعبارة ابن جرير -رحمه الله- أنهم في شك مما قالوه فيه أي في كتابهم، وإذا كانوا في شك مما قالوه في كتابهم فهم أيضًا في شك من كتابهم، قالوا كلامًا، قالوا شيئًا في كتابهم وهم في شك من قولهم هذا، وذلك يرجع إلى هذا الكتاب أصلًا وإلى إيمانهم به أنه لم يكن عندهم يقين.

وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ، لاحظ هذه الآية في اليهود، وكما قال : وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ فهذه الآيات على هذا المعنى توضح أمرًا في داخل نفوسهم، حقيقة غير ظاهرة، ولكن الله أخبر عما يدور في هذه النفوس التي هي في مرية وفي ريب وفي شك من كتابهم، إذا كانوا في شك من كتابهم فذلك يعني أنهم في حال من التردد والضعف، هم على غير يقين، إذاً الكفر إليهم أسرع، والإلحاد أقرب، ومن ثمّ إذا عرف أهل الإيمان مثل هذا أن هؤلاء وهم من أشد الناس عداوة لأهل الإيمان، ولربما ظهروا من أكثر الناس تعصبًا لدينهم، ومعلوم أن اليهود لا يدعون إلى دينهم، ويرون أن هذا شرف لا يستحقه البشر من غير اليهود، فأراح الله منهم ومن شرهم، وليت النصارى صاروا مثلهم.

فالمقصود أن أقول: إذا كان اليهود في شك وهم من أكثر الناس تحيرًا ومن أكثر الناس تعصبًا لمبادئهم ودينهم كما يظهر للناس فهذا يدل على أنهم لا يقفون على أرض صلبة، هذه قضية مهمة جداً في معرفة العدو والحرب مع الأعداء، هم في مرية، وهم في شك، وهم في ريب، وإذا كان هذا في اليهود فالنصارى أشد شكًّا وريبًا من اليهود، وهذا معلوم، إذا كان اليهود كذلك وهم أهل غضب عرفوا الحق وخالفوه فكيف بالنصارى الذين هم أهل ضلال أصلًا، وإذا ذكر أهل الكتاب دخل اليهود والنصارى، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ.

ولما ذكر الله الصلب وهي العقيدة الكبرى عند النصارى مع التثليث ماذا قال الله ؟ قال: وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ [سورة النساء:157]، فعلى المعنيين المشهورين اللذيْن سبقا، "ولكن شبه لهم" ذُكرت لهم قضية، شبهة، دعوى لما يتحققوا منها، فانطلى ذلك عليهم، حتى إن بعض المفسرين كما سبق يقول: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا يعني أنهم ما محصوا هذه القضية ودرسوها، تقول: قتلتُ هذه المسألة بحثًا، قتلتها دراسة، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا هكذا قال بعضهم، وإن كان القول الآخر أقرب أي أنهم ما قتلوا عيسى ﷺ وليس ما قتلوا الأمر، أو البحث أو هذا القول، وهذا من الأمور المهمة في مجادلة اليهود، وفي مخاطبتهم، وفي الحرب معهم، أن هؤلاء يقفون على أرض هشة، هم في شك من كتابهم، وإذا قيل: إنهم في شك أيضًا من نبيهم فكذلك أيضًا سيعود هذا الشك على الكتاب الذي جاء به -نسأل الله العافية، يعني إذا كان أهل الإيمان من هذه الأمة وهم على يقين ثابت ومع ذلك الذين أخذوا الإسلام بالوراثة يتسلل إلى نفوسهم التشكيك، ويتلاعب بكثير منهم شياطين الإنس والجن كما نشاهد هذه الأيام عبر وسائل الاتصال، فلربما بعضهم اعتنق الإلحاد، فكيف بأولئك الضُّلال أو الذين يدورون بين الغضب والضلال وكلهم في شك؟

قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۝ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ۝ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ [سورة فصلت:46-48].

يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ أي: إنما يعود نفع ذلك على نفسه وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا أي: إنما يرجع وبال ذلك عليه، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ أي: لا يعاقب أحدًا إلا بذنبه، ولا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه.

هذه الآية تصلح موعظة للناس يوعظون بها، يعني من الناس من إذا وُجهت إليه الدعوة وخوطب بها -سواء كان خوطب بالدعوة الإسلامية يعني الدخول في الإسلام، أو خوطب ببعض ذلك يعني ببعض شرائعه- فكأنما يراد منه أن يحسن إلى ربه -تبارك وتعالى، وأن يلين بجانبه، ويتنازل عن بعض رغباته، فكأن المسألة منة أحيانًا كما قال الأعراب: آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ...إلى قوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم [سورة الحجرات:14-17] .

فبعض الناس إذا خوطب بالدعوة أو خوطب ببعض شرائع الدين كأنما يراد منه أن يحسن إلى ربه، وأن يلين بجانبه، وأن يخفض جناحه، ويتنازل عن بعض حقوقه، أو رغباته أو شهواته، فكأنه يمتنّ على ربه، أو يُدل على الله بهذه الطاعة أو التوبة أو الاستقامة، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا فهذا الذي يجمع الأوزار ويقترف القبائح والموبقات إنما يضر نفسه، فيقال للناس هذا في الدعوة: من شكر فإنما يشكر لنفسه، الله غني عن عباده، نحن نقدم لأنفسنا إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة إبراهيم:8].

استعمال صيغة المبالغة في قوله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ"ظلام" صيغة مبالغة، ويرد هنا سؤال وهو هل مفهوم المخالفة مراد في وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ "ظلام" كثير الظلم فإذا نفي عنه كثرة الظلم فهذا قد لا ينفي الظلم القليل، تقول: فلان ليس بضراب للنساء، لكنه قد يضرب، فلان ليس بظلام لكنه قد يحصل منه الظلم، فلان ليس بكذاب، ولكنه قد يحصل منه الكذب قليلًا، والله منزه عن الظلم قليله وكثيره، فلماذا جاء النفي بصيغة المبالغة؟ ولم يقل: وما ربك بظالم؟ نفيُ الظلم الكثير لا ينفي الظلم القليل، فهذا عنه أجوبة للعلماء معروفة:

والشنقيطي -رحمه الله- ذكر جملة منها، فقال -رحمه الله: وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن لفظة بِظَلَّامٍ فيها صيغة مبالغة، ومعلوم أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله.

فقولك مثلا: زيد ليس بقتال للرجال لا ينفي إلا مبالغته في قتلهم، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال.

ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة في الآيات المذكورة هو نفي الظلم من أصله.

والجواب عن هذا الإشكال من أربعة أوجه:

الأول: أن نفي صيغة المبالغة في الآيات المذكورة قد بينت آيات كثيرة أن المراد به نفي الظلم من أصله.

ونفي صيغة المبالغة إذا دلت أدلة منفصلة على أن يراد به نفي أصل الفعل فلا إشكال؛ لقيام الدليل على المراد.

والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة، كقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا الآية [سورة النساء:40]، وقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة يونس:44]، وقوله تعالى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49]، وقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًاالآية [سورة الأنبياء:47]، إلى غير ذلك من الآيات، كما قدمنا إيضاحه في سورة الكهف والأنبياء..."[1].

خلاصة هذا الجواب أن ذلك يفهم على ضوء النصوص الأخرى، فدلت النصوص الأخرى على أن الظلم منتفٍ عن الله قليله وكثيره لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.

وقال -رحمه الله: الوجه الثاني: أن الله -جل وعلا- نفى ظلمه للعبيد، والعبيد في غاية الكثرة، والظلم المنفي عنهم تستلزم كثرتهم كثرته، فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة المنفي التابعة لكثرة العبيد المنفي عنهم الظلم، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ولو قليلا كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة، كما ترى.

وبذلك تعلم اتجاه التعبير بصيغة المبالغة، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم عن كل عبد من أولئك العبيد، الذين هم في غاية الكثرة، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحدًا شيئًا، كما بينته الآيات القرآنية المذكورة، وفي الحديث: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي[2] الحديث..."[3].

هذا الجواب مفاده أنه عبر بصيغة المبالغة بالنظر إلى المتعلق، يعني الذي ينزل عليه أو يقع عليه الظلم، فلكثرة العباد لو وقع لكل واحد مظلمة واحدة أو وقع عليه الظلم مرة واحدة فمع كثرة العباد يكون ذلك كثيرًا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [سورة فصلت:46].

وقال -رحمه الله: "الوجه الثالث: أن المسوغ لصيغة المبالغة أن عذابه تعالى بالغ من العظم والشدة أنه لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم ومعاصيهم لكان معذِّبهم به ظلّامًا بليغ الظلم متفاقمه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيراً.

وهذا الوجه والذي قبله أشار لهما الزمخشري في سورة الأنفال..."[4].

هذا الوجه الثالث باعتبار صفة العذاب الواقع على الكافرين والمجرمين أنه عذاب لا يقادَر قدره، فلو كان ذلك من غير استحقاق لكن من أعظم الظلم أن يُفعل بهؤلاء هذا، ويخلدون في النار أبداً بألوان من العذاب الذي -نسأل الله العافية- وصفه الله -تبارك وتعالى: يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ۝ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [سورة الحج:19، 20]، نحن لو نرى واحداً عند هؤلاء المجرمين في بلاد الشام يصب عليه الأسيد لتمزقت قلوبنا ونحن نشاهد هذا، صُوَر عذاب يوم القيامة لكنه بحق، فلو كان بغير حق لكان أعظم الظلم، فجيء بالنفي بصيغة المبالغة.

وقال -رحمه الله: "الوجه الرابع: ما ذكره بعض علماء العربية، وبعض المفسرين من أن المراد بالنفي في قوله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ نفي نسبة الظلم إليه; لأن صيغة فعّال تستعمل مرادًا بها النسبة، فتغني عن ياء النسب، كما أشار له في الخلاصة بقوله:

وَمَعَ فَاعِلٍ وَفَعَّالٍ فَعِلْ فِي نَسَبٍ أَغْنَى عَنِ الْيَا فَقُبِلْ

ومعنى البيت المذكور أن الصيغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم، وفعَّال كظلَّام، وفعِل كفرِح كل منها قد تستعمل مرادًا بها النسبة، فيُستغنى بها عن ياء النسب، ومثاله في فاعل قول الحطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي:

دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي

فالمراد بقوله: الطاعم الكاسي النسبة، أي: ذو طعام وكسوة.."[5].

يعني لستَ بالذي تُطعِم، وإنما "الطاعم الكاسي" ينسبه إلى ذلك أي أنت مُطعَم مكسو.

وقال -رحمه الله: "وقول الآخر وهو من شواهد سيبويه:

وَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ لَابِنٌ فِي الصَّيْفِ تَامِرْ

أي: ذو لبن وذو تمر.

وقول نابغة ذبيان:

كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ

قوله: ناصب أي: ذو نصب.

ومثاله في فعّال قول امرئ القيس:

وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ فَيَطْعَنُنِي بِهِ وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ وَلَيْسَ بِنَبَّالِ

فقوله: وليس بنبال أي: ليس بذي نبل، ويدل عليه قوله قبله: وليس بذي رمح، وليس بذي سيف، وقال الأشموني بعد استشهاده بالبيت المذكور: قال المصنف -يعني ابن مالك: وعلى هذا حمل المحققون قوله تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ أي: بذي ظلم انتهى، وما عزاه لابن مالك جزم به غير واحد من النحويين والمفسرين، ومثاله في فَعِلٍ قول الراجز وهو من شواهد سيبويه:

لَسْتُ بِلَيْلِيٍّ وَلَكِنِّي نَهِرْ لَا أُدْلِجُ اللَّيْلَ وَلَكِنْ أَبْتَكِرْ

فقوله: نَهِر بمعنى نهاري، وقد قدمنا إيضاحَه معنى الظلم بشواهده العربية في مواضع متعددة من هذا الكتاب، والعلم عند الله تعالى"[6].

خلاصة هذا الجواب الرابع أن المقصود بقوله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ أي: بذي ظلم، لأن العرب تعبر بصيغة المبالغة وزن فعّال وتقصد به النسبة أي بذي ظلم، وهذا معنى معروف سمعتم كلام العرب والشواهد عليه.

وهناك أجوبة أخرى: من الأجوبة التي لها وجه أيضًا لا يقل عن هذه الأوجه التي ذكرها هو أن الظلم لو وقع من الله ولو قليلا منه فإن ذلك يكون كثيرًا، فالله -تبارك وتعالى- هو العظيم الأعظم له الأسماء الحسنى البالغة في الحسن غايته، وله صفات الكمال من كل وجه، فلو وقع منه ظلم ولو كان قليلًا، ولو على واحد من العباد فإن ذلك يكون مستكثرًا، يكون كثيرًا، يعني هناك في بعض الأجوبة نظر إلى المتعلق من جهة من يقع عليه الظلم، وفي هذا مَن صدر منه الظلم، ومن كان كامل العدل لو صدر منه الظلم فإن ذلك يُستكثر ويستعظم، والله أعلم.

ثم قال: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: لا يعلم ذلك أحد سواه، كما قال محمد ﷺ، وهو سيد البشر لجبريل وهو من سادات الملائكة حين سأله عن الساعة، فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل[7]، وكما قال : إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [سورة النازعات:44]، وقال : لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ [سورة الأعراف:187].

وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ أي: الجميع بعلمه، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وقد قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا [سورة الأنعام:59]، وقال -جلت عظمته: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [سورة الرعد:8]، وقال تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [سورة فاطر:11].

وقوله: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي أي: يوم القيامة ينادي الله المشركين على رءوس الخلائق: أين شركائي الذين عبدتموهم معي؟ قَالُوا آذَنَّاكَ أي: أعلمناك، مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي: ليس أحد منا اليوم يشهد أن معك شريكًا، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي: ذهبوا فلم ينفعوهم، وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍأي: وظن المشركون يوم القيامة، وهذا بمعنى اليقين، مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي: لا محيد لهم عن عذاب الله، كقوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [سورة الكهف: 53].

قوله -تبارك وتعالى: وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا "ما" هذه نافية، يعني إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ هذه جملة تامة، وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا هذه جملة جديدة مستأنفة، وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ فتكون "ما" نافية، ويحتمل أن تكون "ما" هذه موصولة وتكون معطوفة على الساعة أي إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ يعني والذي تخرج، أي إليه يرد علم هذه الأشياء ما هي؟ الساعة، والذي يخرج من الثمرات من أكمامه كل ذلك مرده إلى الله، فهو وحده الذي يعلمه، والأول -والله تعالى أعلم- أقرب، أنها نافية.

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ هذه جملة تامة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا [سورة الأعراف:187] متى الساعة؟ ما المسئول بها بأعلم من السائل، ثم بعد ذلك تأتي جملة جديدة مستأنفة وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ.

وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَاالأكمام جمع كِم، وبعضهم يجوِّز فيه الضم كُم، فهذه الأكمام للثمرات هي الغلاف الذي يغطي الثمرة أو يغطي أصلها عند بدوِّها ثم بعد ذلك ينفلق عنها، أو عن النَّوْر لهذه الثمار، يعني الآن مثلًا النخيل تخرج منه هذه الأكمام ثم تنفلق بعد ذلك فيخرج هذا النَّوْر، ثم بعد ذلك يُؤبَّر، الذي يخرج من النخيل ما هو في هذه الأيام؟ الطلع الذي يتحول إلى الثمر والرطب، فهذا الطلع الذي يخرج يكون مغلفًا، هذه الأغلفة هي الأكمام.

وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا يعني الله يعلم ذلك تفصيلًا، فالجنين في بطن أمه وهذا كالجنين تغلفه هذه الأكمام والله يعلم مقادير ما فيها، ويعلم متى تنفلق، وحينما تبدأ تنشق كل ذلك يعلمه تفصيلًا، لا يخفى عليه منه خافية وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى سواء كانت تحمل بيضًا أو تحمل جنينًا أيًّا كانت هذه الأنثى؛ لأن هنا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى "ما" نافية، و"أنثى" نكرة في سياق النفي، وسُبقت بمِن فصار ذلك نقلًا لها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، بمعنى أنه ما تخرج أنثى أبداً عن هذا العلم، فكل ذلك بعلمه ، والعباد لا يعلمون من ذلك شيئًا، هم يوم عرفوا أن يصوروا الجنين وهل هو ذكر أو أنثى أقاموا الدنيا ولا أقعدوها وصاروا يسألون عن الآية!

قَالُوا آذَنَّاكَ أي: أعلمناك، والأذان يقال: الإعلام، نفسر الأذان بالإعلام في اللغة، وكما في قول الشاعر:

آذنتْنا ببينِها أسماءُ  

 يعني أعلمتنا، وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [سورة التوبة:3]، فهنا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ هذا من قول هؤلاء المشركين، وبعضهم يقول: إنه من قول الآلهة حينما يتبرءون من العابدين، والأول أشهر، وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي فهذا خطاب للمشركين، قَالُوا آذَنَّاكَ فالأصل أن يكون الجواب صادرًا من هؤلاء الذين وجه السؤال إليهم.

وقوله: وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ هنا قال: الظن بمعنى اليقين، مثلالَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [سورة البقرة:46] وهذا كثير في القرآن، وهو أيضًا كثير في كلام العرب، ويأتي الظن مرادًا به طرف الرجحان يعني ما كان غير متيقن، فقد يطلق الظن كما هو معلوم على الطرف الراجح، وقد يطلق على التخمين، وهذا الذي ورد فيه الذم في القرآن إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [سورة الجاثية:32].

فالمواضع التي ورد فيها الذم لاتباع الظن المراد بها هذا المعنى، إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ [سورة الأنعام:116]؛ لأن النسبة هكذا في مسألة الظن على ثلاث أنحاء: ما توسط فيه التردد يقال له: شك، يعني ما تَرجح شيء، النسبة خمسون وخمسون، إذا كانت مثلًا ثمانين وعشرين فالطرف الذي بالثمانين يقال له: ظن، يعني لم يصل إلى مرحلة اليقين، ولكنه ظن أيْ راجح، ويقال للتخمين يعني ما لم يكن متيقَنًا إنما هو يتبع الظنون ولم يحقق ذلك، وليس هذا هو طرف الرجحان فهذا يقال له: ظن، هذا الذي ورد ذمه في القرآن، وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ المحيص هو المهرب، يعني أنه لا فكاك لهم ولا نجاة ولا خلاص من هذا العذاب، أيقَنوا.

قال تعالى: لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ۝ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ۝ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ [سورة فصلت:49-51].

يقول تعالى: لا يمل الإنسان من دعاء ربه بالخير وهو المال وصحة الجسم وغير ذلك، وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ وهو البلاء أو الفقر، فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ أي: يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير.

قوله -تبارك وتعالى: لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ، يعني: لا يمل من دعاء الخير؛ لأنه كما قال الله وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8]، والخير يأتي بمعنى المال، والمقصود به هنا في هذا الموضع: المال، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20] وهنا قال: لا يمل الإنسان من دعاء ربه بالخير وهو المال وصحة الجسم، وبهذا فسره ابن جرير -رحمه الله، ويدل على هذا المعنى قراءة ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- وهي غير متواترة: لا يسأم الإنسان من دعاء المال تفسير للخير.

قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي أي: إذا أصابه خير ورزق بعدما كان في شدة ليقولن هذا، أي: إني كنت أستحقه عند ربي، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، أي: يكفر بقيام الساعة أي لأجل أنه خُوِّل نعمة يبطَر ويفخر ويكفر كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7].

هو يقول: "هذا لي" يعني: لي عند الله ، يعني عن استحقاق، وهذا أيضًا يشبه قول قارون: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [سورة القصص:78] على أحد المعاني التي مضى الكلام عليها، وهو أنه على علم من الله أنه يستحقه، "على علم عندي" على علم من الله أني أستحق هذا المال، والمعنى الآخر على علم عندي بوجوه المكاسب، يعني بذكائي وحذقي ومهارتي.

قوله تعالى: وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى أي: ولئن كان ثَمّ معاد فليحسنن إليّ ربي كما أحسن إليّ في هذه الدار، يتمنى على الله مع إساءته العمل وعدم اليقين، قال الله -تبارك وتعالى: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال، ثم قال تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ أي: أعرض عن الطاعة واستكبر عن الانقياد لأوامر الله كقوله : فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ [سورة الذاريات:39].

وَنَأى بِجَانِبِهِ الجانب هو الناحية، وبهذا فسره ابن جرير -رحمه الله- يعني هذا أصل معناه، وَنَأى بِجَانِبِهِ يعني أعرض كما قال: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ.

وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ أي: الشدة، فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ، أي: يطيل المسألة في الشيء الواحد، فالكلام العريض هو ما طال لفظه وقل معناه، والوجيز عكسه وهو ما قل ودل.

يقال: فلان يدعي دعاوى عريضة، العرب تعبر بالعريض عن الشيء الواسع الكثير الطويل، دعوى عريضة يراد بها هذا.

وقد قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ الآية [سورة يونس:12].

قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ۝ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ [سورة فصلت:52-54].

يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن: أرأيتم إن كان هذا القرآن من عند الله ثم كفرتم به، أي: كيف ترون حالكم عند الذي أنزله على رسوله؟ ولهذا قال : مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ أي: في كفر وعناد ومشاقة للحق ومسلك بعيد من الهدى.

ثم قال : سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ أي: سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقًّا منزلًا من عند الله على رسول الله ﷺ، بدلائل خارجية فِي الْآفَاقِمن الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان، قال مجاهد والحسن والسدي: ودلائل في أنفسهم قالوا: وقعة بدر وفتح مكة ونحو ذلك من الوقائع التي حلت بهم نصر الله فيها محمدًا ﷺ وصحبه، وخذل فيها الباطل وحزبه.

ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع -تبارك وتعالى، وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة من حسن وقبح وغير ذلك، وما هو متصرِّف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يجوزها ولا يتعداها.

قوله -تبارك وتعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ الآفاق جمع أفق وهو الناحية، وهنا يقول في الآفاق: من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان، الآن هذا المعنى قال به جماعة من السلف كمجاهد، واختاره ابن جرير -رحمه الله، في الآفاق يعني في النواحي مما يقع لغيرهم من ظهور دين الإسلام وفتوحات المسلمين فيعرفون أن هذا الدين هو الحق الذي كتب له الانتشار والثبات والبقاء، على هذا المعنى يكون ما يذكره أصحاب الإعجاز العلمي من الكلام الكثير في أن الآفاق المقصود بها اكتشاف مجرات جديدة وأشياء، وما يذكرونه في الإعجاز العلمي ويحملونه على هذه الآية: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ أن هذا الكلام يكون غير مراد.

الآن يقول: قال مجاهد والحسن والسدي: ودلائل في أنفسهم ما هذه الدلائل في أنفسهم؟ أصحاب الإعجاز يقولون: ما يعرف بعلم التشريح من قضايا تتصل بالخلايا بجسم الإنسان، ومجاري الدم والعروق، وما أشبه هذا من دقائق وتفاصيل الخلق.

هنا على تفسير مجاهد والحسن والسدي: دلائل في أنفسهم قالوا: وقعة بدر وفتح مكة، كون المراد وقعة بدر هذا قاله قتادة والضحاك، وبعضهم يقول: وقعة بدر وفتح مكة، وابن جرير -رحمه الله- حمله على فتح مكة، يعني على هذا القول لهؤلاء السلف واختيار ابن جرير أن الآيات التي فِي الْآفَاقِ هي ما يشاهدونه في غيرهم مما حل في ساحتهم من ظهور المسلمين عليهم، وَفِي أَنفُسِهِمْ ما يقع لهم كما حصل في يوم فتح مكة فظهر الإسلام وقام بلال يؤذن -رضي الله عنه وأرضاه، ارتفعت كلمة التوحيد وشهادة أن محمدًا رسول الله فهذا في أنفسهم هذا حصل لهم هم، يكون على هذا المعنى.

ابن جرير -رحمه الله- يعلل هذا الاختيار يقول: لو كان المقصود في الآفاق يعني في السماوات ما يشاهده من الشمس والقمر إلى آخره، يقول: هذه لا تكون وعدًا في المستقبل هم يشاهدونه فكيف قال: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ؟ هذا وجه الترجيح عنده؛ أن هذه أمور ستقع في المستقبل وأن الله سيريهم هذا، هؤلاء خوطبوا بالقرآن، فماذا شاهدوا؟ شاهدوا جيوش المسلمين تشرق وتغرب والفتوحات تتتابع، هذا في غيرهم في الآفاق النواحي المختلفة والبلاد والأقاليم، وَفِي أَنفُسِهِمْ يعني ما حل بهم وفتحت مكة وانتهت هذه الحكاية الطويلة، وانتهى أبو جهل وأولئك الذين كانوا يُذكرون حينما يُذكر الأذى الواقع على رسول الله ﷺ وعلى المسلمين، فهذا في أنفسهم.

وابن كثير يرى أن هذا القول هو الراجح، وكما سبق هو اختيار ابن جرير، يقول ابن كثير: ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة إلى آخره، يعني هذا في قوله: وَفِي أَنفُسِهِمْ يعني ما يعرف بعلم التشريح من دقائق الخلق، بل بعضهم ذكر شيئًا ظاهرًا قال: مسلك البول والغائط، لكن إذا فُسر الأول فِي الْآفَاقِبما يقع في النواحي إلى آخره، وَفِي أَنفُسِهِمْ يعني ما يقع لهم فهذا هو المناسب في المقابلة بين هذا وهذا، هذا هو المناسب.

لكن من السلف من قال: إن المراد بـ فِي الْآفَاقِ يعني في السماء كما قاله ابن زيد، وَفِي أَنفُسِهِمْ حوادث الأرض، يعني ما يقع في العالم العلوي والسفلي فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ، كذلك يقول عطاء: إن الْآفَاقِ يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات والبحار والأشجار وغير ذلك، وَفِي أَنفُسِهِمْ من لطيف الصنعة وبديع الحكمة.

الآن هذا قاله بعض السلف، وإذا قيل: فِي الْآفَاقِ يعني هذا العالم العجيب مثلًا في دقته، ويُرى لربما في مكبرات وفي مراصد وما إلى ذلك فهذا في الآفاق يعني في هذه المسارات للكواكب والمجرات وفي حركتها ودقتها وانتظامها وكثرتها وأحجامها العجيبة الهائلة، وَفِي أَنفُسِهِمْدقائق هذا الخلق، وما في صنع الله  في الإنسان من عجائب، فهذا قاله بعض السلف.

إذاً هؤلاء الذين يتكلمون في الإعجاز العلمي أو نحن حينما نتكلم عن هذه الآية مثلًا لو جلسنا نتكلم عن بعض دقة الخلق، ونعرض أشياء من الكواكب وسير الكوكب صور حقيقية مما يدل على عظمة الله وأنه الواحد الأحد وما يتعلق مثلًا بقوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا... [سورة يــس:38]، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يــس:40]، في مثل هذه المواضع في القرآن وجئنا بصور فلكية وصور من أقمار صناعية رأيتم لعلكم بعض المقاطع كيف أن الليل يمشي، يعني بطريقة تصوير تسرع البطيء بحيث إنك ترى الليل وهو يمشي صورة حقيقية ووجدت وتداولها الناس، الليل وهو يتحرك على الكرة الأرضية يمشي فهذه من الآيات في الآفاق، فلو ذكر مثل هذا هل يكون هذا من قبيل الخطأ؟

الجواب: لا، لماذا نقول: هذا لا إشكال فيه؟ لأنه لا يعود على أقوال السلف بالإبطال، إنما هو زيادة في التفصيل، تفاصيل تقرب لك هذا المعنى، وهكذا وَفِي أَنفُسِهِمْ إذا جلسنا نتحدث عن الخلايا التي في الدماغ، أو نتكلم عن قضايا الخلايا في الجسم أو عدد الكريات البيضاء، وبدأنا نتحدث عن دور هذه الكريات وكيف أنها تعمل وكذا القلب، ونبضات القلب وكم ينبض وكم يضخ من الدم، وكل هذه التفاصيل هذا لا إشكال فيه؛ لأن الآية تحتمل ذلك، ولو قيل: إن قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ يدخل فيه هذا وهذا، وَفِي أَنفُسِهِمْ يدخل فيه ما يقع لهم، وما يشاهدونه أيضًا في أنفسهم من عجيب صنع الله ، فهذا كله يتعرف به على أنه الخالق وحده وأنه المعبود وحده، وأنه الإله الواحد ، وأن ما جاء به الرسول ﷺ حق.

وقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: كفى بالله شهيدًا على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد أن محمدًا ﷺ صادق فيما أخبر به عنه كما قال: لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [سورة النساء:166] الآية.

وقوله تعالى: أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أي: في شك من قيام الساعة، ولهذا لا يتفكرون فيه، ولا يعملون له ولا يحذرون منه بل هو عندهم هدر لا يعبئون به، وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه، ثم قال تعالى مقررًا أنه على كل شيء قدير وبكل شيء محيط، وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه -تبارك وتعالى: أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ أي: المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته وتحت طي علمه وهو المتصرف فيها كلها بحكمة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا إله إلا هو.

قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، يقول: أي: كفى بالله شهيدًا على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد أن محمدًا ﷺ صادق فيما أخبر به، هنا جمع بين بعض الأقوال، كقول بعضهم: إنه شهيد على كل الأشياء، أو إنه شهيد مثلًا على أن القرآن حق، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ هذا مما كما يقال:

وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ

وإن الله -تبارك وتعالى- يُستدل به -جل وعلا- على ما يجري في هذا العالم، ويُتعرف على أحكام هذه الأشياء بما يُعرف من صفته -تبارك وتعالى، وكما قالت خديجة لما جاءها النبي ﷺ مذعورًا حين نزل عليه الوحي قالت: "كلا، والله لا يخزيك الله"[8]، فهذه طريقة في الاستشهاد والاستدلال عالية لا يصل إليها أكثر الناس، وذلك بما عرف من كمال الله وصفاته يقال: هذا لا يحصل، هذا لا يقع، هذا لا يكون، وكذلك فيما يتصل بالتوحيد الطريقة المعهودة في القرآن الكثيرة وهي التي لا يفقه أكثر الناس سواها، وهي أنه يستدل على وحدانيته -تبارك وتعالى- بهذه الأشياء المشاهدة من خلق السماوات والأرض إلى آخره؛ ولهذا يقال: إن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية.

لكن الطريقة الثانية هي أن يكون الاستدلال به -تبارك وتعالى- وما عُرف من صفاته وكماله على أنه واحد بحيث لا يحتاج معه إلى نظر في هذه الأمور، الاستدلال بالطريقة الأولى أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة إبراهيم:10]؛ ولذلك الذين عندهم تردد وشك الله يأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا في عاقبة المكذبين، لكن من ليس عنده شك هو لا يحتاج إلى هذا، فيرى أن وحدانية الله أبين وأظهر من أن يُستدل لها -بالنسبة إليه هو- بشيء آخر.

يعني هذه للكمّل من الناس، أبو بكر كان بهذه المثابة.

ولهذا قال بعضهم: إن قوله: لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ "منه" الضمير يرجع إلى القرآن، هكذا قال بعضهم، لكن السياق السابق في القرآن لا يُشكل على التفسير؛ لأن الضمير واضح أنه يرجع إلى موسى أو إلى التوراة، لكن الله يسلي نبيه ﷺ كما قال: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ فذكر له هذا على سبيل التسلية، يقول: هذا موسى ﷺ وهو كبير أنبياء بني إسرائيل لقي منهم ما لقي، وحصل منهم الشك والتردد.

  1. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 31، 32).
  2. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
  3. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 32).
  4. المصدر نفسه (7/ 32، 33).
  5. المصدر نفسه (7/ 33).
  6. المصدر نفسه (7/ 33، 34).
  7. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، برقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله برقم (8).
  8. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [سورة الضحى:3]، برقم (4953)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (160).

مواد ذات صلة