الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } الآية:24، إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ٢٨ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 4303
مرات الإستماع: 11474

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله: ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ۝ تظن أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [سورة القيامة:24، 25] هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة، قال قتادة: كالحة، وقال السدي: تُغيَّر ألوانها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما ذكر الله ما أعطى أهل الإيمان من النضارة والبهجة والضياء في وجوههم، وما يظهر عليها من أثر النعيم والسرور ذكر وجوه أعدائه كيف تكون في ذلك اليوم، فقال: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، فما ذكر هنا في تفسيرها من أنها كالحة أو متغيرة هو بمعنى واحد، لأن كلوحها -كون هذه الوجوه كالحة- أي أنها تضرب إلى السواد، مسودة، فهذا معنى متغيرة.

وهذا مما يسميه العلماء كما مر في مقدمة أصول التفسير، يسمونه باختلاف التنوع، بمعنى أنا لا نحتاج أن نرجح بين هذه الأقاويل، فكلها حق، هي متغيرة تميل إلى السواد، أو مسودة، وذلك لشدة ما يعانيه أصحابها من المذلة والمهانة، فتسود وجوههم كما قال الله : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة آل عمران:106]، أي: يقال لهم: أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، والعرب تقول لمن وقع في شر فعله يقولون له: اسود وجهه، ويدعون عليه بسواد الوجه.

ومن الوجوه التي تذكر في معنى باسرة أنها من شدة إحراقها وتعذيبها في النار تبدو الأسنان لتقلص الشفاه، وذلك شيء مشاهد، إذا أحرق رأس البهيمة على النار مثلاً فإن أسنانها تبدو، تظهر، فبعضهم يقول: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ أي: أن أسنانها تظهر من شدة التعذيب أو من شدة الإحراق، أو لِمَا يحصل للوجه من الانقباض بسبب الحرارة والنار والإحراق فتبدو أسنان هذا الإنسان.

والقول الأول أقرب -والله تعالى أعلم؛ لأن الله يتحدث عن أحوال القيامة، وعن أهوالها، فذكر نظر أهل الإيمان وما يحصل له من الإشراق في ذلك اليوم، وذكر حال هؤلاء بما يحصل لهم من سواد الوجوه، ومعنى بَاسِرَةٌ أي: أنها كالحة مسودة متغيرة، والله تعالى أعلم.

تَظُنُّ أي: تستيقن.

تَظُنُّ أي: تستيقن؛ لأن الظن يأتي بمعنى اليقين، كما قال الله : الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:46]، فليس المعنى أن هؤلاء غير متيقنين، وكذلك قول الجن: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا [سورة الجن:12]، فالظن هنا ليس معناه الطرف الآخر -وهو طرف الرجحان- الذي يقال له: غلبة الظن، حيث تقسم المعرفة أو تقسم الأمور من هذه الحيثية إلى العلم الذي يسمونه اليقين، ثم غلبة الظن، يسمونه الظن الغالب أو الظن -إذا أطلق، ثم بعد ذلك الشك وهو مستوِي الطرفين، ثم الوهم وهو ما دونه -الطرف المرجوح، فليس الطرف الأعلى هو الظن هنا، وإنما المقصود به اليقين، فالظن يطلق على اليقين، ويطلق على طرف الرجحان في القسمة التي ذكرتها آنفاً، القسمة الرباعية.

أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ قال مجاهد: داهية، وقال قتادة: شر، وقال السدي: تستيقن أنها هالكة، وقال ابن زيد: تظن أنْ ستدخل النار.

هذه الأقوال كلها مما يسمى بخلاف التنوع، لا نحتاج إلى أن نرجح قولاً على قول، فـتَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ، الفاقرة: الداهية العظيمة، تقول: هذه فواقر، وتقول: فواقر الدهر أي دواهيه العظام، وما أشبه ذلك، فـ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌدخولها للنار فاقرة، وتعذيبها فاقرة، وحصول الداهية وقوع الدواهي والأمور العظيمة لا شك أن هذا منها، والشر دخول النار أعظم الشر، فهي تعلم وتستيقن أنه يفعل بها، وهذا مما يرجح القول الذي ذكرته آنفاً بأن باسرة بمعنى كالحة؛ لأنها تنتظر الدخول في النار، تنتظر العذاب، لم تحرق بالنار بعد.

وهذا المقام كقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران:106]، وكقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ۝ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ۝ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ۝ ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [سورة عبس:38-42]، وكقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ۝ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً إلى قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ۝ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ۝ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [سورة الغاشية:2-10] في أشباه ذلك من الآيات والسياقات.

كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ۝ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ۝ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ۝ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ۝ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ۝ فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ۝ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ۝ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ۝ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ۝ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ۝ أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ۝ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ۝ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ۝ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ۝ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [سورة القيامة:26-40].

يحصل اليقين عند الاحتضار:

يخبر تعالى عن حالة الاحتضار وما عنده من الأهوال -ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت- فقال تعالى: كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ إن جعلنا كَلا رداعة فمعناها: لست يا ابن آدم تُكذِّب هناك بما أُخبرت به، بل صار ذلك عندك عيانا، وإن جعلناها بمعنى "حقا" فظاهر، أي: حقا إذا بلغت التراقي، أي: انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك، والتراقي: جمع تَرقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق، كقوله تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [سورة الواقعة:83-87]، وهكذا قال هاهنا: كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ.

هؤلاء الذين كذبوا بما بعد الموت وكذبوا، فعلى الوجه الأول يقول: عندئذ لا تكذيب؛ لأنهم عند ذلك يعرفون حقيّة ما جاء به الرسول ﷺ، إذ إنهم يرون ملائكة العذاب أو يرون ملائكة الرحمة، إذا بلغت الروح الحلقوم هنا فهذه هي التراقي، هذه ثغرة النحر وهذه هي العظام، هذه التي يقال لها التراقي، فإذا بلغت الروح هنا في هذا المكان فعندئذ يكون الجسد جثة هامدة والروح تغرغر توشك أن تخرج، فعند ذلك لا تنفع التوبة، ولا ينفع الندم، ولا ينفع الإيمان؛ لأن الإنسان يكون قد عاين مصيرة وما يئول إليه، وعرف الحقيقة، فلا تكذيب عندئذ، هذا إذا قلنا: إنها للجحد "كلا"، وإذا قلنا: إنها بمعنى حقاً، حقاً إذا بلغت التراقي عرف الإنسان عندئذ حاله ومآله.

وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قال عكرمة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: أي مَن راقٍ يَرقِى؟ وكذا قال أبو قلابة: وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ أي: مَن طبيبٌ شافٍ.

هذا كله لا إشكال فيه؛ لأن الرقية لون من الطب، والطب يقال له: رقية، فالرقية تطلق على الرقية بما يقال من التعاويذ والكلام والأدعية والتلاوة وما أشبه ذلك مما يقال مما اشتهر عند الناس من أنه رقية، وكذلك تطلق الرقية على التطبب، فالرقية لون من ألوان الطب.

وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ أي: مَن طبيبٌ؟ هل مِن طبيب يشفيه؟ سواء كان ذلك قيل على سبيل الاستبعاد، يعني مَن يشفي مِن هذا؟ مَنْ رَاقٍ من يشفيه؟ من يرفع ما به؟ مثل إذا قيل لك: هذا الإنسان داوِه تقول: من يداوي هذا؟ من يداوي علته؟ لكن هذا أبعد.

والمعنى الآخر أقرب، وهو أن المراد مَنْ رَاقٍ أي: أنهم يطلبون له من يداويه ويرقيه، وهذا هو الأقرب المتبادر -والله تعالى أعلم- خلافاً لمن قال: مَنْ رَاقٍ أي أن هذا السؤال يتوجه في تلك الحال أي: من يَرقَى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟

فهذا سواء قيل: إن القائل به هو ملك الموت أو أن القائل به هم من عند الميت، فهذا أمر بعيد، ولا حاجة لذكره أصلاً هنا على هذا المعنى، الكلام على خروج الروح وما يلاقيه الإنسان عندئذ، ومعاينة الحقائق، وما يعظه الله به، فالناس عادة في ذلك الموقف يبحثون له عن الرقية، يبحثون له عن العلاج، فيرقونه، ويبحثون عمن يرقيه، هذه العادة الجارية في حياة الناس، وتصرفاتهم، ولكنهم لا يسألون يقولون: يا ترى من سيَرقَى بروحه أملائكة الرحمة أم العذاب؟ الروح لم تخرج أصلاً.

وأما إن كان ذلك من قول ملك الموت فهذا أمر لا ندريه ولا نطلع عليه، وهل فعلاً ملك الموت يقول له مثل هذا الكلام؟ فمثل هذا مستبعد في التفسير، وإنما وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ على ظاهره، من يرقيه؟ وقول من قال: هل من طبيب يداويه؟ ليس بخارج عما ذكر، إذ أن الرقية باب من الطب، يبحثون له عن العلاج، يبحثون له عن الشفاء، ولا ينفعه شيء من ذلك.

وإذا أردنا أن نتأمل في أوجه رجحان هذا المعنى نجد أنها كثيرة جداً، بل إن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أوصلها إلى عشرة أوجه في ترجيح هذا المعنى، مَنْ رَاقٍ أي: أنهم يقولون ذلك عند موته من أجل البحث عن شفاء له، من يرقيه فيرفع ما به من ضر واعتلال؟ ولذلك ذكر بعده قال: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ اجتمعت عليه الأهوال والشدائد والكروب.

وكذا قال قتادة، والضحاك، وابن زيد.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ يقول: آخر يوم في الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله.

ما فسر به ابن كثير -رحمه الله- هو المعنى الراجح، الساق بمعنى الشدة، فمن أهل العلم من حمله على ظاهره المتبادر من معنى الساق وهي ساق الإنسان، فهؤلاء منهم من قال: إن المراد وَالْتَفَّتِ السَّاقُ أي: ساق الميت، وهذا كناية عن كونه صار مواتاً لا حراك فيه فرجلاه كانتا تنقلانه في حياته، وفي ذلك الحين يبقى لا حراك به، ولا تنفعه هذه الأرجل فهو لا يتحرك ويمشي ويخطو بها.

ومنهم من قال: إن ذلك يكون في حال الكفن حيث تلف هذه الساق فتلتف مع الأخرى، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي: في حال الكفن، وبعضهم يقول: ساق الميت وساق الغاسل وهذا بعيد، وبعضهم يقول: ساق الميت وساق الكفن، فهؤلاء كلهم أرادوا حمل الساق على معناها الظاهر المتبادر.

والمعنى الآخر للساق وهو معنى مشهور في كلام العرب أن الساق تطلق على الشدة والكرب، فالمعنى: اجتمعت عليه الكروب والشدائد، وتنوعت أقاويل السلف في بيان هذه الكروب، فمنهم من قال: ساق الدنيا بساق الآخرة، وبعضهم قال: إنه يجتمع عليه أمران: أهله يفكرون في تجهيزه وكفنه، والناس حوله، والملائكة في نقل روحه وأخذها، ويفعلون بها ما أمر الله ، وهذا فيه بعد، وبعضهم يقول: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي: أنه يعاني الموت وسكرات الموت، وخروج الروح وما سيلقاه بعد خروجها من عذاب ونكال.

فالمقصود وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ الساق بمعنى: الشدة، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي: الكروب والشدائد اجتمعت على هذا الإنسان، فراق الدنيا والأحبة ومعاناة سكرات الموت وأيضاً ما يلاقيه من الأهوال والأوجال والشدائد العظام التي لم تخطر له على بال ولم يرَ شيئاً منها قبل ذلك، عالم آخر جديد ينتقل إليه.

وقال عكرمة: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِالأمر العظيم بالأمر العظيم.

العرب مثلاً يقولون: شمرت العرب عن الساق، وتقول: فلان شمر عن ساقه، أي: أخذ بالجد وتأهب تأهباً عظيماً، فهذا معروف في كلام العرب، وبعضهم فسر بذلك قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [سورة القلم:42]، وأخذوا ذلك أيضاً من قول ابن عباس -رضي الله تعالى عنه، وهذا المعنى وإن كان معروفاً في اللغة إلا أنه لا تفسر به آية يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ [سورة القلم:42]؛ لأن الحديث يفسرها: فيكشف عن ساقه[1]، لما ذكر سجودهم، فيكشف عن ساقه، فهنا لا يمكن أن يكشف عن شدته فيسجدون، وإنما الساق الذي هو صفة لله تليق بجلاله وعظمته، فيفرق بين المقامين؛ لأن هناك عندنا قرينة -دليل مرجح- وهنا لا يوجد، بل القرائن تدل على أن المراد هو الشدة والأمر العظيم والكرب وما أشبه ذلك.

وقال مجاهد: بلاء ببلاء، وقال الحسن البصري في قوله: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ هما ساقاك إذا التفّتا. وفي رواية عنه: ماتت رجلاه فلم تحملاه، وقد كان عليها جوّالاً.

وقوله: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ أي: المرجع والمآب، وذلك أن الروح ترفع إلى السماوات، فيقول الله : ردوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. كما ورد في حديث البراء -رضي الله تعالى عنه- الطويل، وقد قال الله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ۝ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [سورة الأنعام:61، 62].

ذكر حال المكذب:

وقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذبا للحق بقلبه، متوليا عن العمل بقالبه، فلا خير فيه باطناً ولا ظاهراً، ولهذا قال تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي: جَذِلاً، أشِراً، بَطِراً، كسلانا، لا همة له ولا عمل، كما قال تعالى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [سورة المطففين:34]، وقال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي: يرجع بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [سورة الانشقاق:13-15].

وقال الضحاك عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي: يختال، وقال قتادة وزيد بن أسلم: يتبختر.

هذه المعاني لا منافاة بينها، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أصل ذلك من التمطّط والتثاقل، ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ أي: يمشي مشية متثاقلة، هذه المشية المتثاقلة لها دلالات تدل على التعاظم، تدل على التبختر، تدل على عدم الاكتراث، أنه غير مكترث بما سمع، أو بما هو بصدده، أو بما خوطب به وما دُعي إليه، فيقوم جذِلاً في حال من الأشَر والبطَر والتثاقل وقلة الاكتراث والمبالاة، هذا معنى ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، فلا يمشي المشية التي تدل على همة متوثبة، وتدل على تواضع وسكينة، وإنما يمشي هذه المشية، فالمشية تدل على صاحبها غالباً كما هو معروف، ولهذا ذكرها الله في أول صفات أهل الإيمان في سورة الفرقان وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63]، وفي سورة الإسراء وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [سورة الإسراء:37].

قال الله تعالى: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ۝ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى وهذا تهديد ووعيد أكيد منه تعالى للكافر به المتبختر في مشيته، أي: يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [سورة الدخان:49].

هذه الكلمة أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى تدل على التخويف والتهديد، قد تقال لمن أشرف على الهلكة؛ من أجل أن يحترز، وتقال لمن وقع في الهلكة فيزجر عن الوقوع، أو يؤنب على وقوعه فيها، فيقال له: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، تقال لهذا، وتقال لهذا، وهي تدل على التخويف والوعيد والتهديد، وغالباً ما تذكر مكررة أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ۝ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى.

وهي تدل على حثٍّ، أو تُشعر أو تحث على التأمل والنظر والتفكر في العاقبة وما يصير إليه الإنسان أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، قف وتفكر وتأمل ولا تكن مسترسلاً مع غيك وغفلتك وإعراضك، ولهذا قال بعده: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى، هلا تفكر ونظر ويله!.

وكقوله تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [سورة المرسلات:46]، وكقوله تعالى: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [سورة الزمر:15]، وكقوله : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [سورة فصلت:40]، إلى غير ذلك.

الأقاويل فيها غير هذا كثير، يعني بعضهم يقول: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، أولى لك يعني العذاب والنكال والعاقبة السيئة، وبعضهم يقول: أَوْلَى لَكَ بمعنى وَلِيَكَ، يعني: ولِيَكَ ما تكره، وهذا -والله أعلم- فيه بُعد، أو ولِيَك الويل، أو أولاك الله ما تخافه وما تكرهه وتخشاه وما أشبه ذلك على أن اللام زائدة –أي في "أولى لك"، وبعض الألفاظ إذا سمعها الإنسان لأول وهلة فهم المراد بها، وإذا أراد أن يفكك هذه اللفظة صارت مشكلة، وهذا له نظائر كثيرة في القرآن، والمقصود بهذه الكلمة أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أن العرب تستعمل ذلك في الوعيد والتخويف والتهديد، فيفهم ذلك العربي بمجرد الخطاب به، فإذا أردت أن تشق الشعرة والشعيرة ففي هذه المقامات يشكل عليك كثير من الألفاظ.

وروى أبو عبد الرحمن النسائي عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ۝ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى؟ قال: قاله رسول الله ﷺ لأبي جهل ثم أنزله الله .

روى ابن أبي حاتم عن قتادة قوله: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ۝ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى وعيد على أثر وعيد كما تسمعون، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نبيُّ الله بمجامع ثيابه، ثم قال: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ۝ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، فقال عدو الله أبو جهل: أتُوعِدُني يا محمد؟

يمكن أن تكون أتَوَعَّدُني من الوعيد بمعنى الوعد بالمكروه.

فقال عدو الله أبو جهل: أتُوعِدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً، وإني لأعز من مشى بين جبليها.

لا يترك الإنسان هملاً:

وقوله تعالى: أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى قال السدي: يعني: لا يبعث.

وقال مجاهد، والشافعي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني لا يُؤمر ولا يُنهى.

والظاهر أن الآية تعم الحاليْن، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يُؤمر ولا يُنهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة.

الله يقول: أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [سورة المؤمنون:115]، وكذلك ما ذكر الله قبل ذلك، أو ما ذكر بعده من أنه خلقه من نطفة ثم من علقة، ثم جعله في هذه الأطوار حتى صار إلى هذا الخلق المركب السوي، المركب هذا التركيب العجيب فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4]. 

فهذا يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان قد خلق عبثاً من غير حكمة أرادها الله ، وهي أن يُؤمر ويُنهى ويُبتلى كما سيأتي إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ۝ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [سورة الإنسان:2، 3]، ثم يبعث إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا [سورة الإنسان:4]، فيجازى على عمله الصالح أو عمله السيئ، فالإنسان لا يترك سدى أي مهملاً في الدنيا من غير خطاب، من غير أمر ونهي وتكليف، كما أنه أيضاً لا يكون أمره في الآخرة كذلك سدى؛ لأنه لابد أن يكون إلى دار النعيم أو إلى دار الجحيم، والله أعلم.

والمقصود هنا إثبات المعاد، والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد؛ ولهذا قال مستدلا على الإعادة بالبداءة فقال: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى أي: أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين، يمنى: يراق من الأصلاب في الأرحام؟

النطفة هي الماء القليل الذي يكون في الوعاء، ويمنى أي يراق، ولذلك قيل في سبب تسمية "مِنى" لماذا سميت بذلك؟ أحد الأقاويل في وجه تسميتها: إن ذلك لما يُمنى فهيا من الدماء، أي يراق فيها من الدماء –الهدي، فهو كان من هذه النطفة يعني الماء القليل، يقولون: نطَفَت القربةُ، هذا ينطِف ماءً، فيخرج منه هذا الماء القليل، ويراق في الأرحام، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى أي: يراق.

ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى أي: فصار علقة، ثم مضغة، ثم شُكّل ونفخ فيه الروح، فصار خلقا آخر سَويًا سليم الأعضاء.

وهذا كما فصله الله  في مواضع أخرى، والعلقة هي قطعة الدم الجامد، قيل لها ذلك لأنها تعلق في جدار الرحم.

فصار خلقاً آخر سوياً سليم الأعضاء ذكراً أو أنثى بإذن الله وتقديره؛ ولهذا قال تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى.

ثم قال تعالى: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى أي: أمَا هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ وتناولُ القدرة للإعادة إما بطريق الأولى بالنسبة إلى البداءة، وإما مساوية على القولين في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27].

والأول أشهر كما تقدم في سورة الروم بيانه وتقريره، والله أعلم.

يعني بمعنى أن وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أن أهون هنا صيغة تفضيل على وزن أفعل، وصيغة التفضيل تأتي تارة يراد بها التفضيل لاثنين، تقال في اثنين اشتركا في صفة فزاد أحدهما على الآخر، تقول: فلان أكرم من فلان، كلاهما كريم لكنْ فلان أكرم، وفلان أعلم من فلان، ولا يقال ذلك لمن كان عادماً للصفة.

ألم ترَ أنّ السيفَ يَنقُصُ قدرُهُ إذا قيل إنّ السيفَ أمضى من العصا

أقطع من العصا، هل العصا تقطع؟! فإذا قارنت بين السيف والعصا كان ذلك لا وجه له، وإنما يقال ذلك لمن اشتركا في صفة، وأما ما جاء من قول الله  في بعض المواضع أن الله أحكم الحاكمين، وأن الله  أعلم فلا شك أنه لا مقارنة بين ذلك، يعني بين صفة الله وصفة المخلوق إطلاقاً، ولذلك يحمل هذا كثيرٌ من أهل العلم على المعنى الآخر، وهو أن المراد بذلك الاتصاف، وهذا معروف في كلام العرب.

تمنّى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمتْ فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوحدِ

أي بواحدِ، وعلى هذا فسر من فسر قول الله -تبارك وتعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [سورة الليل:17]، أي: التقي، خلافاً لمن قال: إن المراد بالأتقى أفعل التفضيل، والأتقى بعد النبي ﷺ هو أبو بكر الصديق ، فلا شك أن أبا بكر هو أتقى الأمة -رضي الله عنه وأرضاه، وأنه سيجنب النار، ولكن ذلك لا يختص به، وإنما كل من كان متصفاً بذلك.

فقوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ على أن المراد بها التفضيل هل بالنسبة لله يوجد هين وأهون؟ هل الإعادة أهون بالنسبة لله ؟ كيف والله على كل شيء قدير وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون؟

فالجواب عن هذا: أن هذا الخطاب خرج بالنظر إلى حال المخاطبين، وهذا كثير جداً في القرآن، أن يخاطب السامع أو المخاطب، يوجه إليه الخطاب باعتبار نظره هو، كما قال : فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44]، و"لعل" للترجي على أحد المعنيين المشهورين لها، وكيف يترجى الله وهو عالم أنه يؤمن أو لا يؤمن؟ أبداً، ولكن المراد بذلك لَّعَلَّهُ أي: على رجائكما، فوجّه الخطاب بحسب نظر المخاطب.

والمعنى الآخر أن "لعل" هنا -وهو المشهور- بمعنى التعليل، أي: من أجل أن يتذكر أو يخشى، وكذلك في وصف الله لقول المشركين، وما عندهم من الشبهات أحياناً يسميها حجة حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ [سورة الشورى:16] وما هي بحجة، من قال: إنها حجة؟! كيف تكون حجة؟! لكن الله وصفها بذلك باعتبار نظر هؤلاء الناس الذين هم أصحابه، هم يقولون: إنها حجة، يزعمون أنها حجة، فقال: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ.

وكذلك سمى هذه المعبودات التي يعبدونها أرباباً وآلهة، وهي ليست بأرباب ولا بآلهة، يوسف -عليه الصلاة والسلام- قال: أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [سورة يوسف:39]، وكذلك النبي ﷺ قال لحُصين: كم إلهاً تعبد؟[2]، وهذا أيضاً في القرآن: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ [سورة طه:97]، وهو ليس بإله ولا يستحق ذلك إطلاقاً لا لفظاً ولا معنى، ولكن بالنظر إلى حال عابديه، فهم جعلوه إلهاً.

ولهذا استعمل الله معها من الصيغ في بعض المواضع ما يصلح للعقلاء، أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا [سورة الأعراف:195] ما قال: ألها أيدٍ تبطش بها؟ جمادات أصنام وخشب وحجر، الأصل في التعبير أن يقال: ألها أيدٍ تبطش بها؟ أم لها أرجل تمشي بها؟ أم لها أعين تبصر بها؟ وللعقلاء يقال: يمشون، يبصرون، يبطشون، فاستعمله مع هذه باعتبار أنهم جعلوها آلهة، فلهذا عاملهم القرآن وخاطبهم بحسب اعتقادهم.

هذا وجه إذا قيل: إن "أهون" أفعل تفضيل، وإلا فكل ذلك مستوٍ بالنسبة لله ، والمعنى الثاني: أن "أهون" هي صيغة تفضيل من حيث اللفظ، ولكنها في المعنى بمعنى "هين" أي وهو هين، صيغة تفضيل بمعنى الصفة، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27] بمعنى هين، الله أكرم وأعلى وأجل: الله هو الكريم العالي الجليل، الله أعز من زيد: الله هو العزيز، الله أعز من خلقه، لا مقارنة بين عزة الله وعزة المخلوقين، فيراد بذلك مطلق الاتصاف، هذان الوجهان، والله أعلم.

روى أبو داود -رحمه الله- عن موسى بن أبي عائشة قال: "كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى قال: سبحانك فبلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله ﷺ"[3]، تفرد به أبو داود ولم يسم هذا الصحابي، ولا يضر ذلك.

من السنة إذا قرأ الإنسان أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى أن يقول: سبحانك فبلى، ولا يصح غيره، بمعنى أنه إذا قرأ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [سورة التين:8] ما يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، فإن الحديث لم يصح في هذا، إنما غاية ما صح هو هذه فقط، وكذلك إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [سورة الأعلى:1] قال: سبحان ربي الأعلى، هذا ثابت.

آخر تفسير سورة القيامة، ولله الحمد والمنة.
  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22، 23]، برقم (7439).
  2. رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، برقم (3483)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (396)، والألباني في ضعيف الجامع برقم (4098).
  3. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء في الصلاة، برقم (884)، وقال الألباني: "إسناده صحيح"، في صحيح أبي داود، برقم (827).

مواد ذات صلة