بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه المدد التي قدرت هي من قبيل اختلاف المؤرخين، والجمع بينها لا يخلو من تكلف سواء على القول بأن الحساب كان على الشمسية أو القمرية، وكذلك القول بأن نبياً بعث بعد عيسى -عليه الصلاة والسلام- وقبل رسول الله ﷺ هذا كله لا أصل له، ومن أراد أن ينظر في الكلام على هذا من الناحية التاريخية أو من هو خالد بن سنان وما يقال عنه وإلى من أرسل، ومن هم أصحاب الرس، فإنه سيجد هذا في بعض كتب التفسير عند قوله تعالى: وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [سورة الفرقان:38].
وكذلك كتب التواريخ، بل حتى بعض كتب التراجم، بل حتى بعض كتب تواريخ الصحابة مثل كتاب الإصابة، وكذلك كتاب المفصل في تاريخ العرب، وفي مثل كتاب المعارف وإن كان عهدي به قديماً فلا أدري ذكر هذا أم لا لكنه ذكر فيه ترجمة لخالد بن سنان، ويقال أيضاً: إن حنظلة بن صفوان هو نبي أهل الرس، وعلى كل حال هذا لا أصل له، ومعلوم أنه لا يوجد نبي من العرب إطلاقاً إلا النبي ﷺ وهو من ولد إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- والمؤرخون يقولون: إن إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- تعلم العربية من جرهم وإلا فإن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ليس من العرب قطعاً.
قوله: لا يغسله الماء يعني أنه محفوظ في الصدور لم ينزله عليه في كتاب كما هو الشأن في الكتب التي كانت قبله، والتعبير بغسل الماء يعبر به عن الكتب المكتوبة؛ لأنها تكتب بالأحبار ولذلك إذا أرادوا محوها غسلوها.
وقوله: تقرؤه نائماً ويقضان هذا يحتمل معنيين: الأول يمكن أن يكون المراد اليسر والسهولة، أي تقرؤه بسهولة، والمعنى الثاني المحتمل أنه محفوظ في صدرك في حال يقظتك ونومك، يعني أنه ملازم للإنسان بحيث لا يحتاج أن يأتي بالمصحف ويقرأ فيه، ولذلك جاء وصف هذه الأمة بأن أناجيلهم في صدورهم، ولم ينزل على النبي ﷺ شيء من القرآن في حال النوم، حتى إن سورة الكوثر جاء في حديث أنس في الصحيح أنه قال: بينا رسول الله ﷺ بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم تبسم وقال: أنزلت علي آنفاً سورة ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[3] لكن ليس المقصود بذلك: أنه نزلت عليه في حال النوم وإنما هي الحال التي كانت تعتريه عند نزول الوحي، والله تعالى أعلم.
والله قال عن الكفار: إنهم يقولون: أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ [سورة الأنبياء:5]، وكذبهم في هذا ورد عليهم، فالأقرب والأرجح أنه لم ينزل عليه شيء وهو في حال النوم، لكن نزل عليه شيء وهو في فراشه مما يذكره بعض أهل العلم كالسيوطي وغيره ويسمونه الفراشي، وقد جاء في حديث عائشة -ا- وحديث أم سلمة في قصة الثلاثة الذين خلفوا أنها نزلت في ثلث الليل الآخر وهو عند أم سلمة.
يعني يشدخوه ويهشموه كما تكسر الخبزة إذا سمعوا بهذا الأمر.
قوله: واغزهم نُغْزِك أي نعينك ونأيدك وننصرك.
قوله: ورجل عفيف فقير ذو عيال متصدق هذه ليست في المطبوع من مسند الإمام أحمد، والحديث هنا ساقه من طريق الإمام أحمد وفي مسند الإمام أحمد: ورجل فقير فلعله في نسخة أخرى.
قوله: الضعيف الذي لا زَبْر له يعني الضعيف الذي لا عقل يزبره أي يمنعه من مقارفة ما لا يليق، يعني ليس عنده مشكلة إذا تاقت نفسه إلى شيء وصار له هوى في عمل من الأعمال أن يعمله ولا يرعوي، وليس له مروءة ولا دين يمنعانه ويكفانه عن مقارفة الدنائس، وهو ضعيف بمعنى أنه تابع للناس يتبعهم من أجل أن يجد عندهم طعاماً ومأوى كما قال الله : أَوِ التَّابِعِينَ [سورة النــور:31] وقيدهم بغير ذوي الإربة من الرجال، ونحو ذلك، يعني الذين لا إرب لهم في النساء أي أنه لا يتفطن لمفاتن النساء، وهو الذي يقولون له: المخبَّل، أما إذا كان له إرب في النساء فإنه لا يجوز دخوله على النساء، فهذا الآن عكس ذاك، فهو ضعيف لا زَبْر له يتبع الناس ويدخل معهم من أجل أن يأكل عندهم، فمرة عند هذا ومرة عند هذا لأنه ليس عنده مأوى ولا بيت ولا زوجة ومع ذلك هو سيئ لا عقل له ولا مروءة ولا دين، فيطلب أموراً يتخونهم بها بحيث يدخل عليهم في بيوتهم ليعطفوا عليه ولكنه ذئب أطلس فهذا نسأل الله العافية منه.
قوله: "شك يحيى" يعني شك الراوي يحيى بن سعيد شيخ الإمام أحمد.
قوله: لا يبتغون أهلا ولا مالاً يعني أنهم كما يقال الآن: ليس عندهم تكوين أسرة ولا يطلبون المال بجمعه وتحصيله بالتكسب فهم يريدون أن يأكلوا عيشاً عند الناس وفقط.
قال: والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه كلمة "يخفى" من الأضداد أي من الكلمات التي تطلق على معنيين متضادين، فمعنى لا يخفى له طمع أي لا يظهر له طمع وإن دق إلا خانه، يعني بمجرد ما تتبدى له فرصة فإنه ينتهزها ولا يبالي، كما أن كلمة "يخفى" هي من الخفاء الذي هو عكس الظهور، والأضداد كثيرة وأُلف فيها مصنفات وهذا من سعة اللغة العربية.
مثل هؤلاء الذين يدورون على مدارس البنات وفي الأسواق، وعبر البلوتوث يفتن النساء بأقبح ما يمكن أن يرسل من المشاهد والصور لعله يصطاد أحداً، فهو يعمل جاهداً في تطلب عورات الناس فهو إن جلس في بيته فبالهاتف أو الإنترنت، وإن خرج فهو شيطان يطارد كل سوادة، نسأل الله العافية.
وذكر البخل أو الكذب والشِّنْظير الفاحش والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله: وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل[4].
على كل حال الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وفي لفظ مسلم: من أهل الكتاب وكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمداً ﷺ فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء، ولهذا قال تعالى: أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ [سورة المائدة:19] أي: لئلا تحتجوا وتقولوا: -يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه- ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [سورة المائدة:19] يعني محمداً ﷺ.
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة المائدة:19] قال ابن جرير: معناه إني قادر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [سورة المائدة:20-26].
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران فيما ذكّر به قومه من نعم الله عليهم وآلائه لديهم في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة، فقال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء [سورة المائدة:20] أي: كلما هلك فيكم نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده، وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى ابن مريم ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل على الإطلاق محمد بن عبد الله المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- وهو أشرف من كل من تقدمه منهم ﷺ.
وقوله: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا روى عبد الرزاق عن ابن عباس -ا- في قوله: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا قال الخادم والمرأة والبيت.
الله قال: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء ولم يقل: جعلكم أنبياء ولما ذكر الملك قال: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا فلماذا فرق بينهما؟
هذا التفريق جعل أهل العلم يحملون المعنى على بعض المحامل وإن كانت على خلاف الظاهر المتبادر، فبعضهم يقول هو على تقدير حذف حرف الجر، وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا: أي: جعل منكم ملوكاً، وقالوا: لأنه من المعلوم أنهم ليسوا جميعاً ملوكاً، وإنما فيهم الملوك.
ومن أهل العلم من يقول: إن النبوة لا يمكن أن تنسب إلى غير من اتصف بذلك وتفضل الله عليه بها، أي أنه لا يمكن أن تقول لقوم نبي من الأنبياء: أنتم أنبياء، أما الملك فيمكن أن يضاف إلى القوم وإن لم يكن الواحد منهم كذلك، كما تقول قرابة الملك مثلاً: نحن الملوك، أي قد يقولون هذا ولا يكون ذلك معيباً في كلام العرب، يعني أن وجه قولهم: نحن الملوك صحيح في اللغة، وكذلك أيضاً يمكن أن يضاف إلى القوم أو القبيلة، فيقال: القبيلة الفلانية هم الملوك، أي أن الملوك منهم، ويكون ذلك عزاً وظهوراً لهذه القبيلة، فعلى هذا يكون إضافة الملك إلى بني إسرائيل بهذا الاعتبار.
وقد قيل بهذا الاعتبار وأنهم وصفوا بأنهم ملوك بظهورهم وما لهم مما أعطاهم الله من الإمكانات والقدر والتصرف الذي هو حقيقة الملك، فالمقصود أنه يمكن أن يفسر بهذا، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: أي أنهم ملكوا أنفسهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، أي يستخدم النساء في الخدمة ويبقي الرجال من أجل أن يقوموا بالأعمال المهينة التي يتنزه عنها الفراعنة، ولهذا أمر الله تعالى موسى وهارون -صلى الله عليهما وسلم- أن يأتيا فرعون ويقولا له: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [سورة طـه:47] يعني خلِّ بيننا وبين بني إسرائيل، ولذلك لما أرادوا الخروج إلى الشام خرجوا مستخفين، فتبعهم فرعون ولم يتركهم إلا أن الله نجاهم منه؛ فملكوا أنفسهم بعد أن كانوا مملوكين فوصفوا بهذا، وهذا على أحد أقوال أهل العلم، وقيل: إن الواحد منهم صار لا يُدخَل عليه إلا بإذن، فبهذا الاعتبار قيل لهم: ملوك، وهذا القول فيه بعد، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: أي أنه يملك خادماً وزوجة وعنده ربما ما يكفيه من قوته أو نحوه، فهو بهذا الاعتبار يكون ملكاً، كما جاء في بعض الآثار ووردت بعض الأحاديث التي تدل على أن من ملك مثل هذه الأشياء فكأنما حيزت له الدنيا[5]، كما صح أيضاً عن بعض الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص لما سأله رجل وقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له: هل لك زوجة؟ فقال: نعم، قال له: هل لك مسكن؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء! فقال: ولي خادم، قال: فأنت إذاً من الملوك.
وقد قال كثير من السلف: إن المراد بالآية: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا أي أن الواحد منهم له محل يسكنه وله خادم، ومن كان كذلك فإنه يقال له: ملك.
وجاء عن ابن عباس: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار سمي ملكاً، يعني أن هذا اصطلاح عندهم أو عُرف بينهم، والخطاب في الآية موجه إليهم: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا [سورة المائدة:20].
ولعل الظاهر المتبادر من المعنى -والله تعالى أعلم- أن الله -تبارك وتعالى- يمتن عليهم بأن جعل فيهم النبوة وجعل فيهم الملْك فكان لهم الظهور من بين سائر الأمم، ولا يعني هذا أن كل واحد منهم يكون ملكاً، وإنما المعنى أنهم كانوا ظاهرين، كما قال تعالى: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ [سورة غافر:29] فهذا الرجل المؤمن خاطب قومه بقوله: لَكُمُ الْمُلْكُ وإن لم يكن كل واحد منهم ملكاً، ولهذا يمكن أن يخاطب العرب بهذا أو يوصفون به حينما امتن الله عليهم بالإسلام فكان لهم الظهور، فبعد أن كانوا يلقبون بذباب الصحراء صاروا ملوكاً بهذا الاعتبار، والله اعلم.
وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس -ا- قال: المرأة والخادم.
وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20] قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ.
الأمر كما قال "الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ" ولا حاجة للتكلف في تفسير قوله تعالى: وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20] فهي كقوله : وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:122] أي على عالمي زمانهم ولا يعني أنهم أفضل من هذه الأمة؛ لأن الله بعد ذلك لعنهم وطردهم وقطعهم في الأرض أمماً ومقتهم، فهذه الأمة أشرف وأكمل لكن في عالم زمانهم من اليونان أو الرومان أو سائر الأمم المكذِّبة، كان هؤلاء -بنو إسرائيل- أشرف وأكمل ففيهم الأنبياء وفيهم أهل الإيمان، ثم بعد ذلك صار الأمر كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] فبعد أن كانت النبوة في بني إسرائيل انتقلت إلى هذه الأمة، فقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] هم هذه الأمة بطوائفها الثلاث، قال تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة فاطر:32].
على كل حال وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20] يدخل فيه هذا، ويدخل فيه غيره مما أعطاهم الله فهو ظللهم بالغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وفرَق بهم البحر، وأعطاهم أموراً كثيرة لم يُعطِها أحداً من عالمي زمانهم.
وقد ورد في الحديث: من أصبح منكم معافىً في جسده آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها[6].
وقوله: وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20] يعني عالمي زمانكم فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة الجاثية:16] وقال تعالى إخباراً عن موسى لما قالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:138-140]، والمقصود أنهم كانوا أفضل زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم وأفضل عند الله وأكمل شريعة وأقوم منهاجاً وأكرم نبياً وأعظم ملكاً وأغزر أرزاقاً وأكثر أموالاً وأولاداً وأوسع مملكة وأدوم عزاً، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143] وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ من سورة آل عمران [سورة آل عمران:110].
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء – باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3258) (ج 3 / ص 1270).
- سيأتي تخريجه عند تمامه.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (400) (ج 1 / ص 300).
- أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (2865) (ج 4 / ص 2197).
- سيأتي ذكره وتخريجه.
- أخرجه الترمذي في كتاب الزهد – باب 34 حديث رقم (2346) (ج 4 / ص 574) وابن ماجه في كتاب الزهد - باب القناعة (4141) (ج 2 / ص 1387) والبخاري في الأدب المفرد (300) (ص 112) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6042).