السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
[1] من أول السورة إلى قوله تعالى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} الآية:8
تاريخ النشر: ٠٦ / رجب / ١٤٣٤
التحميل: 4256
مرات الإستماع: 2248

بسم الله الرحمن الرحيم

حم ۝ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ۝ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ۝ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ۝ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ۝ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [سورة الدخان:1-8].

يقول تعالى مخبرًا عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر كما قال : إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1]، وكان ذلك في شهر رمضان كما قال -تبارك وتعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة:185]، وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وقوله : إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ أي: معلنين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعًا لتقوم حجة الله على عباده.

قوله -تبارك وتعالى: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ الكتاب هنا الأكثر على أن المراد به القرآن، أقسم الله بالقرآن، وفسره بعضهم بالكتب أي أنه جنس يشمل سائر الكتب، وَالْكِتَابِ أقسم بجنس الكتاب، ولكنهم لم يختلفوا في أن الضمير في قوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ أنه يرجع إلى القرآن وليس سائر الكتب فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ

وقوله -تبارك وتعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ بعضهم يقول: هذا هو جواب القسم كما مضى في سورة الزخرف، فما ذُكر هناك يقال هنا، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ أين جواب القسم؟ بعضهم يقول: جواب القسم هو إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ.

وبعضهم يقول: ليس هذا جواب القسم؛ لأن هذا صفة للمقسم به الذي هو الكتاب "والكتاب المبين" ثم وصفه بقوله: "إنا أنزلناه" يعني ليس هذا جواب القسم، فأين الجواب؟

بعضهم يقول: "إنا كنا منذرين" أي وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، وهذا الذي مشى عليه واختاره ابن عطية -رحم الله الجميع، وبعضهم يقول: لا، هذا جواب آخر، أي هو الجواب الثاني، أما الجواب الأول فهو قوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ هذا الجواب رقم واحد، والجواب رقم اثنين إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، وبعضهم يقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ جملة مستأنفة في حكم العلة -والله تعالى أعلم.

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ هذا جواب القسم، وإِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ يعني من أجل الإنذار، فهذا ليس بجواب آخر، وإنما هو كالتعليل لما قبله، والله أعلم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ۝ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ هذه الليلة المباركة هنا قال: ليلة القدر، في بعض الليالي في رمضان تكلمت على ليلة القدر، ولماذا سميت بليلة القدر، وأن المشهور أن ذلك من التقدير فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ يقدّر فيها ما يكون في السنة، وهذا بنص القرآن، وبعضهم يقول: إن القدر بمعنى المنزلة، يعني لما لها من القدر والمكانة.

ومن أهل العلم من جمع بين هذا وهذا فقال: كل هذا صحيح فهي ليلة خير من ألف شهر، لها منزلة ومكانة تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم [سورة القدر:4]؛ لشأنها وعظم مكانتها، وهي أيضًا يقدّر فيها، فسميت بهذا لمجموع هذه الأمور، والله أعلم.

يقول هنا: كما قال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة:185] هذا من تفسير القرآن بالقرآن، وهو من أوضح أمثلته، وذلك أن تفسير القرآن بالقرآن يكون على مراتب من حيث القوة والوضوح، فهناك أشياء يقطع بها مثل هذا المثال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ، ما هذه الليلة المباركة؟ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، في شهر رمضان شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.

وكما أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2]، قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [سورة الشعراء:23، 24] فهذا تفسير للعالمين، هذا واضح.

ومن تفسير القرآن بالقرآن ما يكون محتملاً، ومنه ما يكون بعيدًا، يعني يتوهم المفسر أن الآية تفسر الآية وليس بينهما ارتباط، وذكرت في أصول التفسير في مناسبات شتى أنه حينما يقال: إن تفسير القرآن بالقرآن هو أفضل طرق التفسير فالمقصود من حيث الجنس لا من حيث الأفراد، فالأفراد يدخلها اجتهاد المفسر، وقد تكون صحيحة وقد تكون غير صحيحة، قد يوفق للصواب وقد لا يوفق، لكن من حيث الجنس تفسير القرآن بالقرآن هو أفضل أنواع وطرق التفسير، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ كون الليلة هذه مباركة بأي اعتبار؟

باعتبارات متعددة يعني هي خير من ألف شهر، هذا وحده يكفي، فإن البركة تعني الكثرة في الخير، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [سورة القدر:3]، وكذلك تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا، وكذلك أيضًا هي "سلام" سالمة من الآفات والشرور.

فهذه الليلة يقال لها: الليلة المباركة، هذا مما سماها به بعض أهل العلم، ليلة القدر، والليلة المباركة، ويذكرون لها أسماء أخرى، بعضهم يقول: ليلة البراءة.

وقوله: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي: في ليلة القدر يُفصَل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمرُ السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها، وهكذا روي عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف.

هذا القول الذي ذكره ابن كثير فِيهَا يُفْرَقُ يفرق يعني يُحكم ويفصل كل أمر حكيم، قال: يفرق يعني يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، هذا الكلام الذي ذكره ابن كثير هو كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه يفصل من اللوح المحفوظ، فيكون "يُفرق" يعني يفصل من اللوح المحفوظ.

وبعضهم يفسره "يفرق" أي: يحكم، ولكن ينبغي أن نتذكر هنا أن قدر الله -تبارك وتعالى- على أنواع، عندنا القدر الأزلي، قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، هذا التقدير الأزلي الذي في اللوح المحفوظ لا يتبدل ولا يتغير، وهناك تقدير عمري، يرسل الملك إلى الجنين وهو في بطن أمه فيؤمر بأربع كلمات رزقه وأجله وعمله شقي أم سعيد، هذا عمري، وهناك تقدير حولي وهذا المراد هنا، والتقدير الحولي يعني يقدر فيها أمر السنة، "يفرق" أي: يُحكم، يُفصل ما يكون في الحول.

طيب الله قدره قبل أن يخلق السماوات والأرض، يقال: هذا يكون لما في أيدي الملائكة، ابن كثير قال: يفصل من اللوح المحفوظ، فلا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا الله، يفصل ما يكون في السنة من اللوح المحفوظ ثم يكون في صحف عند الملائكة، وهذا الذي يحصل فيه المحو والإثبات يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [سورة الرعد:39].

يعني: اللوح المحفوظ، هذا الذي ورد فيه أنه فيما يتعلق بصلة الرحم يُنسأ له في أثره، وما يتصل بالدعاء وما إلى ذلك، هذا التغيير الذي يحصل في الصحف التي بأيدي الملائكة، أن هذا يصل الرحم فيزاد في عمره مثلاً، أن هذا يتصدق فيدفع عنه بلاء، أو يدعو الله فيرفع عنه أو يدفع عنه بلاء، فالداعي يكون له إحدى ثلاث: إما أن يعجل، وإما أن يدخر في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر، فيكون الله في اللوح المحفوظ قد قدر عليه أن يدعو فيكون ذلك صرفًا لبلاء يقع له، فالذي في أيدي الملائكة من الصحف أن فلانًا هذا يقع له كذا فيدعو الله ، يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ

فالمقصود هنا أنه لو راجعتم عبارات السلف لوجدتم العلماء -رحمهم الله- يذكرون أنه في هذه الليلة يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وليس في ليلة النصف من شعبان، يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ يعني يقولون: يكتب فيها أسماء كل شيء، أسماء الحجاج الذين يحجون ذلك العام، ومن يموت في أثناء العام كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، والمراد بالأمر الحكيم: حكيم على وزن فعيل وهو يأتي بمعنى فاعل ويأتي بمعنى مفعول، هنا يقول: حكيم أي: مُحكَم لا يبدل ولا يغير، هذا هو الذي ذكره ابن كثير.

وبعضهم يقول: حكيم هنا يعني أنه ذو حكمة بالغة، فأفعال الله مبنية على الحكمة، والحكيم من أسمائه يتضمن صفة الحكمة، هذا الذي مشى عليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، فسره بهذا، الحكيم يعني ذو حكمة، قال: وهذا لا يعارض قول من قال: إنه محكم كقول ابن كثير، قال: فهو محكم لا يتطرق إليه خلل، وهو أيضًا ذو حكمة، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

ولهذا قال أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا أي: جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي: إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات.

قال: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا أمراً هنا منصوب، بعضهم يقول: إنه منصوب بيُفرق، يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا يعني هو بمعنى فرقًا لكنه غاير في اللفظ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا فيكون بمعنى فرقًا، يعني يُفرق فرقًا، وهذا قال به جماعة من أصحاب المعاني كالزجاج والفراء، أي منصوب على المصدرية، وبعضهم يقول: النصب هنا على الحال، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا يعني آمرين من عندنا، حال كوننا آمرين، وبعضهم يقول: منصوب على الاختصاص، أي أعني بهذا الأمر أمرًا حاصلاً من عندنا، هذا قاله صاحب الكشاف، والأمين كأنه استحسن هذا القول.

ونحن لا نشتغل بالإعراب لكن أحيانًا لا يتبين المعنى إلا به، يتوقف المعنى عليه، وإلا فالكلام كثير في مثل هذه القضايا، يعني مثل هذا الموضع ذكر فيه بعضهم اثني عشر قولاً في إعراب أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا، فلا تفهمها إلا أن تعرف إعرابها، أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا يُفرق فرقًا، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا بمعنى فرقًا من عندنا، فيكون النصب على المصدرية أو على الحال، ذكرُ الإعرابات أحيانًا قد لا يستسيغه، أو يستثقله بعض الإخوان، وما أذكر هنا إلا ما تدعو الحاجة إليه. 

وبعضهم يقول: إنه أيضًا حال لكن ليس من يفرق، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ بعضهم يقول: حال من أمر، كل أمر حكيم أمرًا، حال كونه أمرًا من عندنا، هذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، مع أنه استحسن كلام صاحب الكشاف.

قوله: أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، بعضهم يقول: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدل من قوله: إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، يعني: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ۝ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أنه بدل من قوله: إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، وبعضهم يقول غير هذا، بعضهم يقول: هذا جواب ثالث للقسم على اعتبار أن الجواب الأول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ، والجواب الثاني: إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، والجواب الثالث: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وبعضهم يقول: هذه أصلاً جملة مستأنفة.

فإن الحاجة كانت ماسة إليه، ولهذا قال تعالى: رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي: الذي أنزل القرآن هو رب السماوات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما، إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ أي: إن كنتم متحققين.

ثم قال تعالى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ.

قوله: إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات فإن الحاجة كانت ماسة إليه، ولهذا بعضهم كصاحب التفسير الكبير يقول: إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، قال: ولهذا قال تعالى: رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ رحمة: بعضهم يقول: إن رحمة هنا منتصب للعلة، يعني: أن هذه تعليلية، يعني أنزله للرحمة كما يقوله الزجاج من أصحاب المعاني، أنزلناه للرحمة، رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ أنزلناه رحمة، من أجل الرحمة، وبعضهم يقول: هذا مفعول لمُرسِلين، مرسلين رحمة كما يقوله المبرد، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ۝ رَحْمَةً، والرحمة هو محمد ﷺ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً [سورة الأنبياء:107] فإرساله -عليه الصلاة والسلام- رحمة للناس، وبعضهم يقول: رحمة هذا مصدر في موضع الحال، يعني حال كونك، أو يعني راحمين، والله أعلم.

يقول: رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هذه القراءة هي قراءة الكوفيين بالجر رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِباعتبار أنه بدل من "ربك" "رحمة من ربك رب السموات والأرض"، أو أنه نعت له أو بيان، والمعنى واضح لكن على قراءة الجمهور بالرفع رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بعضهم يقول: إنه معطوف على السميع العليم فإنهما مرفوعان، هذه من جملة أوصافه، فيكون ذلك من قبيل عطف الأوصاف، وعطف الأوصاف تارة يكون مع ذكر الحرف، وتارة بإسقاطه، هذا في حال تعاقبها، وتتابعها كما في قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:1-4] جاء بهذا وهذا، وقوله:

إلى الملِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحم

فجاء بالواو، ويحتمل أن يكون على الرفع جملة جديدة مبتدأ، وخبره "لا إله إلا هو"، أو أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض، هذا كله على الرفع، وَمَا بَيْنَهُمَا فالذي أنزل القرآن هو رب السماوات والأرض وما بينهما.

وهذه الآية كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ [سورة الأعراف:158] الآية.

قوله -تبارك وتعالى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ، بعضهم يقول: هذا على الاستئناف، يعني هو ربكم، جاءت مرفوعة هو ربكم، أو أنه بدل من "ربُّ السماوات" على قراءة الجمهور بالرفع، أو نعت له أو بيان يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِإلى آخره.

مواد ذات صلة