الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[20] من قول الله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم} الآية 46 إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا} الآية 50
تاريخ النشر: ١٤ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 2909
مرات الإستماع: 2255

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ۝ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة المائدة:46-47].

يقول تعالى: وَقَفَّيْنَا أي: أتبعنا عَلَى آثَارِهِم يعني أنبياء بني إسرائيل بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ أي: مؤمناً بها حاكماً بما فيها وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ أي: هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات.

وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ أي: متبعاً لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل مما بيّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [سورة آل عمران:50] ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة.

وقوله تعالى: وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ أي: وجعلنا الإنجيل هدى يُهتدى بها وَمَوْعِظَةً أي: زاجراً عن ارتكاب المحارم والمآثم لِّلْمُتَّقِينَ أي: لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.

وقوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ [سورة المائدة:47] قرئ وَلْيَحْكُمَ أَهْلُ الإِنجِيلِ بالنصب على أن اللام لام كي، أي وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ [سورة المائدة:46] ليحكم أهل ملته به في زمانهم، وقرئ وَلْيَحْكُمْ بالجزم على أن اللام لام الأمر أي: ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد ﷺ والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ الآية [سورة المائدة:68] وقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [سورة الأعراف:157] إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف:157] ولهذا قال هاهنا: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة المائدة:47] أي الخارجون عن طاعة ربهم المائلون إلى الباطل التاركون للحق، وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى، وهو ظاهر من السياق.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فما ذكر من القراءتين في قوله -تبارك وتعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ [سورة المائدة:47] سواء كانت اللام لام كي -أي بمعنى التعليل- يعني أنزلنا الإنجيل من أجل أن يحكم، أو أن اللام لام الجزم بمعنى أنه أمرٌ من الله أن يحكموا به، فإن المعنى في القراءتين يرجع إلى شيء واحد في النهاية، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- إنما أنزل الإنجيل وأنزل سائر الكتب من أجل أن يحكم الناس بها، ولاشك أن الله -تبارك وتعالى- أمرهم بأن يحكموا بين الناس بهذه الكتب، فكل ذلك متحقق واقع، وبناء على ذلك فمعنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد، والله تعالى أعلم.

وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ۝ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ۝ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة المائدة:48-50].

لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه -كما تقدم بيانه- شرع في ذكر القرآن العظيم الذين أنزله على عبده ورسوله الكريم ﷺ فقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [سورة المائدة:48] أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [سورة المائدة:48].

ويمكن أن يكون المراد وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أي: إنزالًا متلبسًا بالحق.

مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [سورة المائدة:48] أي: من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد ﷺ فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [سورة الإسراء:107-108] أي: إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد لَمَفْعُولًا أي: لكائنًا لا محالة ولا بد.

قوله تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [سورة المائدة:48] قال سفيان الثوري وغيره عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس -: أي مؤتمنًا عليه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: المهيمن: الأمين، قال: "القرآن أمين على كل كتاب قبله" ورواه عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخرساني والسدي وابن زيد نحو ذلك.

وهكذا قول من قال: إن المهيمن هو الرقيب، أو قول من قال: إنه الغالب المرتفع أو الحافظ، وعلى كل حال فالمقصود واحد بهذه العبارات، والله تعالى أعلم، ويكون المعنى أن هذا القرآن جعله الله شاهدًا لصحة تلك الكتب، ومقرِّرًا لما فيها مما لم ينسخ، وناسخ لما خالفها، ورقيب عليها وحافظ لما فيها من أصول الشرائع، فهو المرجع في المحكم والمنسوخ، ومؤتمن عليها لكونه يشتمل على ما هو معمول به وما هو متروك منها وما أشبه ذلك، فهذه المعاني التي ذكروها هي من قبيل اختلاف التنوع. 

فإذا قيل: فلان أمين المكتبة، أو أمين المؤسسة أو أمين الجمعية، أو أمين المجلس، أو هذه أمانة هذه الجهة، فمعنى ذلك أن هذه هي الجهة الإشرافية التي يرجع إليها النظر والقرار وما أشبه ذلك من المعاني، هذا هو معنى الأمين، فقوله: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [سورة المائدة:48] يعني هو الأمين، فمن طريق هذا القرآن نعرف الثابت من المنسوخ والحق من الباطل، وما أشبه ذلك من المعاني، وبناء عليه لا نحتاج أن نرجح بين قول من قال: المهيمن هو الأمين أو المؤتمن أو من قال: هو الشاهد أو الرقيب أو العالي أو نحو ذلك، فكل هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد.

وقال ابن جرير: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل.

وهذا يرجع للكلام الذي ذكرته آنفًا، وابن جرير له عبارات أخرى غير هذه العبارة، كقوله: إنه مصدق للكتب قبله، وشهيد عليها أنها حق من عند الله  وأمين عليها وحافظ لها، وذكر أن أصل الهيمنة هي الحفظ والارتقاب، أي أن القرآن رقيبٌ على هذه الكتب، فابن جرير -رحمه الله- يجمع هذه المعاني المنقولة عن السلف وأرضاهم.

وعن الوالبي عن ابن عباس -ا: وَمُهَيْمِنًا [سورة المائدة:48] أي شهيدًا، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي، وقال العوفي عن ابن عباس -ا: وَمُهَيْمِنًا أي: حاكمًا على ما قبله من الكتب.

وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى؛ فإنّ اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذين أنزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأكلمها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر:9].

وقوله تعالى: فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ [سورة المائدة:48] أي: فاحكم يا محمد بين الناس -عربهم وعجمهم أميِّهم وكتابيهم- بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك، هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- قال: كان النبي ﷺ مخيرًا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [سورة المائدة:49] فأُمر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم بما في كتابنا.

وقوله: وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [سورة المائدة:49] أي آراءهم التي اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولهذا قال تعالى: وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ [سورة المائدة:48] أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء.

وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورة المائدة:48] روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً قال: سبيلًا، وعنه: سبيلًا وسنة.

قوله: "سبيلًا وسنة" الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فسر هذه الجملة مما ورد عن ابن عباس -ا- فقال: السبيل هو المنهاج، والسنة هي الشرعة أو الشريعة التي تفصِّل هذا المنهاج، أي أن الشريعة هي تفاصيل المنهاج، والشرعة في أصلها هي الطريق الذي يتوصل به أو منه إلى الماء كما قال بعضهم، ثم استعملت فيما شرعه الله  لعباده، والمنهاج أيضًا هو الطريق الواضحة البينة، وبعضهم يقول: الشرعة هي ابتداء الطريق، والمنهاج هو الطريق المستمر.

ويقول كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله: إن الشرعة هي ما شرعت فيه، وقيل لها ذلك لشروع أهلها فيها بالعمل والتطبيق والامتثال وما أشبه ذلك.

على كل حال قال هنا: سبيلًا وسنة، بمعنى أنه جعل لهم طريقًا -هذا هو المنهاج وهو السبيل- وسنة أي: تشرح هذا السبيل وتوضح معالمه وتفاصيله -وهذه هي الشريعة التي يوجد فيها الأحكام والتشريعات-.

لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورة المائدة:48] أي: لكل أمة من هذه الأمم جعل الله شرعة ومنهاجًا، وهذا المعنى خلافًا لقول من قال: إن معنى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً أي شرعة واحدة هي الإسلام واتباع الرسول ﷺ فهذا المعنى بعيد؛ لأن الله قال بعده: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة المائدة:48] فدل ذلك على أن المراد اختلاف شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة المائدة:48]، وهذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حده، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا ﷺ الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] أي: أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله، وقال عبد الله بن كثير: فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] يعني من الكتاب.

بعض أهل العلم قال: إن هذا التعليل وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] يدل على أن تعدد الشرائع إنما هو ليبلوَ الله  -فيما أعطى- هؤلاء الذين بعث إليهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأنزل عليهم هذه الشرائع هل يعملون ويمتثلون أم يخرجون عنها؟ وقالوا أيضًا –أي بعض أهل العلم: إن ذلك لا يرجع إلى اختلاف المصالح من وقت إلى وقت. 

وهذا القول فيه نظر؛ لأن الشيء قد يعلل بعلل مختلفة، فهنا قال: لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] وهذا لا ينافي أن تكون الشريعة قد جعلها الله ملائمة لأمة أو لوقت من الأوقات، ثم نسخها بشريعة أخرى تلائم في وقت آخر، فالتعليل لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] لا يعني أن العلة قاصرة على هذا فقط، فالشيء الواحد قد يعلل بعلل مختلفة، قد يذكر بعضها وقد يترك البعض الآخر. 

فحينما يقال مثلًا: إن العلة في الوضوء هي الطهارة، أو العلة هي الحدث، فهذا يدل على أن هناك عدة علل للشيء الواحد، أو للفعل الواحد، كما تقول العلة من أداء الزكاة التقرب إلى الله أو تقول: الإرفاق بالمحتاجين، لكن هناك علل أخرى أيضًا لا تتنافى مع هذه العلل، وهكذا توجد لذلك صور كثيرة، والله أعلم.

ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها فقال: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [سورة المائدة:48] وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخًا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله.

ثم قال تعالى: إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ [سورة المائدة:48] أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة، فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [سورة المائدة:48] أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة والحجج البالغة والأدلة الدامغة، وقال الضحاك: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [سورة المائدة:48] يعني أمة محمد ﷺ والأول أظهر.

وقوله: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [سورة المائدة:49] تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن خلافه، ثم قال: وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ [سورة المائدة:49] أي: واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه إليك من أمور فلا تغتر بهم، فإنهم كذبة كفرة خونة، فَإِن تَوَلَّوْاْ [سورة المائدة:49] أي عما تحكم به بينهم من الحق، وخالفوا شرع الله فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، أي: فاعلم أن ذلك كائن عن قدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم.

وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [سورة المائدة:49] أي: إن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103] وقال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ الآية [سورة الأنعام:116].

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا- قال: قال كعب بن أسد وابن صلوبا وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله ﷺ فأنزل الله فيهم: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ [سورة المائدة:49] إلى قوله: لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة المائدة:50] [رواه ابن جرير وابن أبي حاتم].

ورواه كذلك البيهقي في الدلائل -دلائل النبوة-، والشيخ محمد بن إسحاق مجهول كما قال الحافظ ابن حجر، وبناء عليه فهذه الرواية لا تصح.

وقوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة المائدة:50] ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها بمجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكِّم سواه في قليل ولا كثير.

كلام ابن كثير هنا صريح وواضح ليس فيه أي شبهة بأن تبديل شرائع الإسلام كفر يخرج من الملة بخلاف من غلبه هواه في مسألة، وهذه المسألة تكلمنا عليها في الدرس الماضي، فهذا ذكره الحافظ ابن كثير لما وُجد لأول مرة في هذه الأمة في زمان التتار، وذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبيّن أن هذا كفر مخرج من الملة، وألَّف فيه الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي هذه البلاد رسالة تحكيم القوانين، وهي موجودة ومطبوعة ومتداولة، وتكلم عليه الشيخ أحمد شاكر بكلام جيد في مواضع شتى من كتبه حتى إنه جُمع في كتاب خاص، وغير هؤلاء من العلماء الذين بينوا هذه القضية كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، والشيخ محمد الأمين في دروسه التي كانت في المسجد النبوي، كان كثيرًا ما يقرر هذه القضية ويكررها، وهؤلاء ليسوا بخوارج وإنما هؤلاء هم علماء الأمة وهم محل الثقة. 

ولا يجوز لأحد أن يصادر أقوال أهل العلم لهوىً في نفسه ويرمي من خالفه بأنه من الخوارج، فمذهب الخوارج أن من خالف في مسألة حكم فيها لغلبة هوى فهو كافر كفرًا مخرجًا من الملة، هذا هو مذهب الخوارج، وقد ناظروا أبا مجلز -من التابعين- في هذه القضية، فرد عليهم، وبالنسبة لقول ابن عباس: "كفر دون كفر" إلى آخره، فهو يتحدث عن شيء يقع في زمانه من غلبة هوى من قِبل القاضي أو نحو ذلك في مسألة، لكن لو قيل لابن عباس: تُزال الشريعة بكاملها، ويوضع قانون الفرس أو الروم، فهل سيقول: كفر دون كفر؟ سيقول: هذا كفر مخرج من الملة قطعًا.

ويبقى أن هذه المسألة مسألة اختلف فيها أهل السنة، وبناء عليه فمن قال: إنه كفر دون كفر؛ لأنه فهم ذلك من كلام ابن عباس فإنه لا يُبدَّع ولا يضلَّل ولا يرمى بالإرجاء، ومن قال: إن هذا كفر مخرج من الملة فهذا أيضًا قول تشهد له النصوص، ولا يجوز لأحد أن يرمي هذا القول بأنه قول الخوارج، وفي الوقت الذي تُقرر فيه مثل هذه القضايا لا يعني أن ينزل ذلك على المعيَّن، كما هو معروف من مذهب أهل السنة والجماعة، فابن القيم -رحمه الله- وغير ابن القيم ذكر هذا في النونية، ونقل قول من قال: إن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وقد نُقل ذلك عن خمسمائة من العلماء، ومع هذا النقل الذي نقلوه في نفس الوقت لا الإمام أحمد ولا غير الإمام أحمد كفر المأمون ولا المعتصم ولا الواثق ولا المتوكل الذين تناوبوا على الخلافة من بني العباس حتى إن الإمام أحمد -رحمه الله- عفا عن المعتصم لما فتح عمورية. 

فالمقصود أن هناك فرقًا بين أن يقال: هذا كفر مخرج من الملة وبين أن يقال: فلان كافر، وهذه المفارقة للأسف يضيعها كثيرون، فإذا سمع أن هذا كفر مخرج من الملة ظن أن معنى ذلك: أن فلانًا كافر وفلانًا كافر، مع أن ذلك ليس مرادًا إطلاقًا، وإنما الواجب أن تُعطَى الأشياء حكمها الصحيح، وتبيّن حقائق الدين، ويحذَّر الناس من الشر ومن الأسباب الموصلة إليه دون أن يفترى على الله -تبارك وتعالى- أو أن يكتم الحق أو نحو هذا، وإنما تبيّن هذه الأشياء ليحذر المسلمون من الوقوع فيها.

ولكمال علم السلف ولكمال فقههم ما كان يقع عندهم الجدل إطلاقًا، هل فلان يكفر أو لا يكفر؟ وإنما كانوا يحذرون من الوقوع في هذه الأشياء، فلما قلَّ العلم وبعُد زمان الناس عن شمس النبوة تركوا كثيرًا من العمل، وصار جُلُّ اشتغالهم هل فلان يكفر أو لا يكفر؟

وهكذا للأسف الشديد تجد الإنسان الناشئ في طلب العلم ربما حمل دفترًا يدور به على فلان وفلان، ففلان كذا وفلان كذا وفلان كذا، ولا شأن له بذلك أصلًا، ولهذا أنا أقول دائمًا: إن هذه المسائل إذا رُجع فيها إلى غير العلماء حصل في الأرض فساد كبير، ولذلك فإن طالب العلم ينبغي أن يبدأ بمبادئ العلم ويعرف أصوله، ويجعل هذه المسائل من آخر ما يدرس لا من أول ما يدرس؛ لأن طالب العلم إذا بدأ بهذه المسائل وهو لا يفقه مبادئ العلوم فإن هذا خطأ وخطير ويؤدي به إلى شر كثير، فمثل هذه الأمور يجب التفطن لها، فضلًا عن الذين يقومون بممارسات بناء على أحكامهم فيحصل بسبب ذلك ما لا يخفى مما لا تحمد عواقبه.

وينبغي أن نعتبر بما يجري حولنا في أرض الله  فقبل عشرات السنين حصل في بعض البلاد أن يأتيك من يجتهد ويحكم بهذه القضايا ويفتي فيها ولا يقف عند حد حتى ظهرت طوائف التكفير والهجرة، فأقرب مثال لمنهج الخوارج في العصر الحديث هم أهل التكفير والهجرة، ومثل هؤلاء ومن قاربهم ومن داناهم ومن شاكلهم استحلوا الدماء والأموال ثم بعد ذلك إذا ابتلي الواحد منهم بهذا سرعان ما ينقلب إلى الجهة الأخرى تمامًا، فالمقصود أن الأصل في مثل هذه القضايا أن يرجع فيها إلى العلماء وأن لا يتكلم فيها الجهال، وأن لا يكون اشتغال طلاب العلم بمسائل التكفير وإنما يكون اشتغالهم بمبادئ العلم، وإتقان أصوله وفهمه والتفقه فيه، ثم بعد ذلك يدرسون المسائل الدقيقة لا أن يُبدأ بدراسة المسائل الدقيقة في أول الأمر.

وعودة إلى مسألتنا نقول: إن الذي يحكم بغير ما أنزل الله والذي يبدل شرائع الإسلام عمله هذا كفر مخرج من الملة لكن ليس معنى ذلك أن ينزل الحكم على المعين؛ لأن تنزيل الحكم على المعين والحكم بأن فلانًا عاصٍ أو فاسق أو كافر لا بد فيه من توفر الشروط وانتفاء الموانع، وشرح مسألة الشروط والموانع يطول، لكن الذي ينبغي أن يراعيه المسلم دائمًا هو أن لا يكون شغله في دقائق العلم وهم لم يتقن أصوله، هذه قضية مهمة، والقضية الأخرى هي أن يفرق بين الحكم العام وبين تنزيل الحكم على المعين، كمن قال مثلًا: القرآن مخلوق فهو كافر، فكل علماء السلف قالوا هذا، ومع ذلك لم يكن اشتغالهم بهذا هل فلان يكفر أو فلان لا يكفر؟ وإنما يقولون هذا تحذيرًا لئلا يقع الناس في مثل هذا الانحراف.

كما أن من الانحراف الذي يقع اليوم وللأسف اختلاط الأهواء مع الآراء وذلك بسبب الجهل فتجد بعض الناس ممن يعتقد كفر من حكم بغير شرع الله تجده يرمي من خالفه في هذا بالإرجاء، وهذا غير صحيح، فهذه المسألة مختلف فيها بين أهل السنة، وإنما الذي يستحق أن يرمى بالإرجاء هو الذي يقول: مهما عمل الإنسان من عمل فإنه لا يكفر إلا أن يكون مستحلًا، فمن قال بهذا فهو مرجئ ومن هنا يلاحظ الفرق، لكن مسألة من ترك الصلاة فقد كفر، هذه مسألة مختلف فيها بين السلف هل هو كفر يخرج من الملة أو لا يخرج؟

وأما مسألة الحكم بغير ما أنزل الله فهذه مسألة مختلف فيها هل هو كفر دون كفر أو كفر ينقل من الملة؟ ولذلك لا يقال لمن خالف في ذلك: إنه مرجئ، والقول بأنه يكفر لا يجوز أن يرمى بأنه قول الخوارج، ولذلك لا بد من الحذر من الهوى والبغي والجهل فإن الهوى والبغي والجهل يجعل الإنسان لا ينضبط في مواضع الاختلاف بحيث إذا خالفه غيره سارع إلى رميه بالبدعة أو نحو ذلك، والله المستعان.

قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [سورة المائدة:50] أي: يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة المائدة:50] أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء.

وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: أبغض الناس إلى الله مبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية وطالب دم امرئ بغير حق ليريق دمه[1]، وروى البخاري عن أبي اليمان بإسناده نحوه بزيادة[2].

  1. أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب من طلب دم امرئ بغير حق (6488) (ج 6 / ص 2523).
  2. أخرجه الطبراني في الكبير (10771) (ج 10 / ص 308) وأصله في البخاري كما سيأتي.

مواد ذات صلة