السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {حم} الآية:1 إلى قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} الآية:8
تاريخ النشر: ١٤ / جمادى الآخرة / ١٤٣٤
التحميل: 4385
مرات الإستماع: 2011

بسم الله الرحمن الرحيم

حم ۝ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ۝ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ۝ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ۝ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ ۝ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ [سورة الزخرف:1-8].

يقول تعالى: حم ۝ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ أي: البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ؛ لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس.

نعم هو كتاب مبين، سماه كتابًا كما سبق في قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2]، بعض أهل العلم يقولون: فيه إشارة إلى ما يصير إليه أمر هذا القرآن من الكتابة، وذكرنا هناك أن هذا يدل عند بعض أهل العلم على أن كتابة القرآن لم تكن من المصالح المرسلة لمّا كتب في صحف في عهد أبي بكر وجمع في عهد عثمان.

والمشهور من كلام أهل العلم أنهم يقولون: هذا من المصالح المرسلة، يعني ما كتب في مصاحف ولا في صحف في عهد النبي ﷺ، فاقتضت الحاجة إلى كتابته في عهد هؤلاء الخلفاء ، وكان ذلك من قبيل المصلحة المرسلة، يعني التي لم يرد فيها نص، ومن نظر إلى هذه الألفاظ ذَلِكَ الْكِتَابُ وهنا: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ سماه كتابًا قالوا: فيه إشارة إلى ما يصير إليه أمره، فقالوا: كتابة القرآن في مصاحف أو جعله في كتاب هذا دل عليه القرآن، فليس من قبيل المصلحة المرسلة؛ لأن المصلحة المرسلة لم يرد فيها دليل خاص.

سماه كتابًا قالوا: فيه إشارة إلى ما يصير إليه أمره، فقالوا: كتابة القرآن في مصاحف أو جعله في كتاب هذا دل عليه القرآن، فليس من قبيل المصلحة المرسلة؛ لأن المصلحة المرسلة لم يرد فيها دليل خاص.

ولهذا قال: إِنَّا جَعَلْنَاهُ أي: أنزلناه قُرْآنًا عَرَبِيًّا أي: بلغة العرب فصيحًا واضحًا، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تفهمونه وتتدبرونه، كما قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سورة الشعراء:195].

قوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا قال: أي أنزلناه، هذا قال به بعض السلف فسر الجعل بالإنزال كما يقول السدي.

وبعضهم يقول: إِنَّا جَعَلْنَاهُ يعني سميناه ووصفناه، ويقولون: لهذا تعدى بعده إلى مفعولين، جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا هذا الأول، عَرَبِيًّا هذا الثاني، وبعضهم يقول: إِنَّا جَعَلْنَاهُ يعني قلناه كما يقول مجاهد -رحمه الله، وبعضهم يقول: بيناه كما يقول الثوري، كل هذا باعتبار تفسير الجعل، جعل تأتي بمعنى خلق كما قال الله : جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [سورة فاطر:1].

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1]، وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [سورة النحل:72] فهذا بمعنى خلق، ما ذكره ابن كثير إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا: يمكن أن يكون بمعنى أنزلناه، أو قلناه، أو نحو ذلك من العبارات التي قالها السلف، وليس معناه خلق، فإن جعل تأتي بمعنى خلق، وتأتي بمعنى صيّر، وتأتي بمعنى قال، أو حكم، أو نحو ذلك، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بعض أنواع هذا الاستعمال.

يعني وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [سورة الزخرف:19] فجعل تأتي لمعانٍ، ولهذا يقال في تعريف التوحيد: مصدر وحّد يوحد توحيدًا فهو موحِّد، يقال: وهو من النسبة لا من الجعل، يعني أن الموحِّد ليس هو الذي جعل الله واحدًا، فالله واحد وحدّه الناس أو لم يوحدوه، ولكن أنت تنسبه إلى الوحدانية فقط.

وقوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ بين شرفه في الملأ الأعلى، ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى: وَإِنَّهُ أي: القرآن فِي أُمِّ الْكِتَابِ أي: اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس، ومجاهد.

أم الكتاب يعني اللوح المحفوظ، أم الكتاب يعني أصل الكتاب، فأم الشيء أصله كما سبق في أم القرى، ويقال للراية التي يسير خلفها الجيش: أم، وهذا معناه معروف سبق الكلام عليه، فأصل كل شيء أمه، يعني أن القرآن موجود مكتوب في اللوح المحفوظ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ إنه في أم الكتاب: يعني القرآن في أم الكتاب في اللوح المحفوظ.

لَدَيْنَا أي: عندنا، قاله قتادة وغيره.

هنا لَدَيْنَا يحتمل أنه متعلق بأم الكتاب وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا، أي أنه في الكتاب الذي عندنا وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا، أم الكتاب لدينا، ما الذي لدينا؟ أم الكتاب، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا يعني الذي لدينا، فيكون "لدينا" متعلقًا بأم الكتاب، وَإِنَّهُ أي: القرآن فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا، أم الكتاب لدينا، حتى تفهم المعنى أو تتصور: أم الكتاب التي عندنا، أو الذي لدينا، الذي عندنا، وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس -رضي الله عنهما.

ويحتمل أنه من صلة الخبر، أي: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ وإنه أي: القرآن في أم الكتاب لدينا تكون متصلة بالتي بعدها لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ، يعني وإن كذب به الكفار، أو قالوا: سحر، وأساطير الأولين، اختلاق، يقول: هو عندنا ليس كذلك، بل هو منزلة ومرتبة عالية شريفة، عليٌّ حكيم.

لَعَلِيٌّ أي: ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل، قاله قتادة، حَكِيمٌ أي: مُحكم بريء من اللبس والزيغ.

وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله.

"حكيم" هنا يكون مِن معنى الإحكام، يعني لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [سورة فصلت:42]، فيكون كما قال الله -تبارك وتعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [سورة هود:1] فليس فيه تناقض، وليس فيه خطأ ولا تضارب.

كما قال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۝ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ۝ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ۝ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الواقعة:77-80] وقال: كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ۝ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ۝ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:11-16].

وقوله: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ أي: أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به؟ قاله ابن عباس، وأبو صالح، والسدي، واختاره ابن جرير.

وقال قتادة في قوله: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا: والله لو أن هذا القرآن رفُع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته، وكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة، أو ما شاء الله من ذلك.

وقول قتادة لطيف المعنى جدًّا، وحاصله أنه يقول في معناه: إنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير والذكر الحكيم -وهو القرآن- وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي من قَدّر هدايته.

هنا أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا قال: ضربت عنه، وأضربت عنه، فإن هذا يعني الترك، الإمساك عنه، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ، ولذلك يقال: فلان أضرب عن كذا، الإضراب ما معناه؟ الإمساك عن الشيء، تقول: أضرب عن الطعام، يعني أمسك عن الطعام، أضرب عن مكالمة زيد أو عن مخالطته، بمعنى أعرض عن ذلك.

أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا "صفحًا" منصوب على المصدرية، أو على الحال أي أفنضرب عنكم الذكر صافحين، وأصل ذلك من إعطاء صفحة العنق كما سبق، تقول: أعرض عنه صفحًا يعني لم يقف عند إساءته، مثلاً: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ [سورة البقرة:109]، لا تقف عند الإساءة ولا تعاتب، فالصفح بمعنى الإعراض، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا نعرض عن ماذا؟

هنا المعنى الأول الذي نقله عن هؤلاء من السلف واختاره ابن جرير يعني نعرض عن معاقبتكم، نترككم لا نعذبكم ولا نعاقبكم مع سوء حالكم، وفعالكم، وإعراضكم، وكفركم بهذا القرآن والوحي، هذا معنى، أو الإعراض عن ماذا؟ أو الإعراض ليس عن المعاقبة، وإنما عن التذكير بالقرآن، والأمر، والنهي، والمخاطبة بالإيمان، يعني كونكم كذبتم وأعرضتم هل هذا يقتضي أن نعرض عن مخاطبتكم بالإيمان، ودعوتكم إليه؟ أخاطبكم بهذا القرآن فلا توعظون ولا تؤمرون لكونكم أهل تكذيب وكفر وجحود، ولهذا تجد عبارات السلف متقاربة في هذا المعنى، كقول قتادة: أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم؟

فهذا يرجع إلى هذا المعنى الذي أشار إليه ابن كثير واستحسنه، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا لا نأمركم ولا ننهاكم، لا يحصل لكم تذكير ومخاطبة بالإيمان، وهذا يشبه أيضًا قولًا أو رواية أخرى عن قتادة: أفنمسك عن إنزال القرآن لكونكم لا تؤمنون به؟ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا يعني نترك إنزال القرآن ومخاطبتكم بالقرآن لكونكم قلتم فيه هذه الأقاويل الباطلة أنه سحر وما أشبه ذلك؟

وعلى كل حال أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ الذكر هنا يمكن أن يكون بمعنى القرآن أو التذكير، لا نذكركم، لا نأمركم ولا ننهاكم، فصار هذا يرجع الآن عندنا إلى أحد معنيين: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا يعني أتظنون أن نترك محاسبتكم وأن لا نعذبكم؟ هذا الذي اختاره ابن جرير، لماذا اختار ابن جرير هذا القول؟

ابن جرير يقول: فيه قرينة عندنا أن الله -تبارك وتعالى- قال: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ ۝ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ، يقول: تظنون أننا نترككم لا نعذبكم ولا نعاقبكم لتكذيبكم؟

ابن جرير يقول: هذه هي القرينة على هذا القول، والذي استحسنه ابن كثير من كلام قتادة -رحمه الله، أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ كأنه أقرب أو كأنه المتبادر من اللفظ.

أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ هذه القراءة التي نقرأ بها "أن كنتم قومًا مسرفين" وهي قراءة الجمهور أَن كُنتُمْ فيكون هنا "أن كنتم" كأنه يفسر ذلك، كأنه على سبيل التعليل، يعني أفنضرب عنكم الذكر صفحًا لماذا؟ لكونكم على هذه الحال من الإسراف في التكذيب.

والقراءة الثانية قراءة حمزة والكسائي ونافع بالكسر إِن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَفـ"إنْ" هنا شرطية أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا إِن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ ويكون الجزاء -جواب الشرط- محذوفًا أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا إِن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ نترك تذكيركم، وعلى قول ابن جرير نترك معاقبتكم، والله أعلم.

بل أمر به ليهتدي من قَدّر هدايته وتقوم الحجة على من كتب شقاوته.

ثم قال تعالى مسليًا لنبيه ﷺ في تكذيب من كذبه من قومه، وآمرًا له بالصبر عليهم: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ أي: في شِيع الأولين، وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أي: يكذبونه ويسخرون به.

وقوله: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا أي: فأهلكنا المكذبين بالرسل وقد كانوا أشد بطشًا من هؤلاء المكذبين لك يا محمد، كقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً [سورة غافر:82] والآيات في ذلك كثيرة.

البطش ما معناه؟ شدة الفتك، الأخذ بقوة بشدة يقال له: بطش قد يكون فتكًا وقد لا يكون فتكًا، يقول النبي ﷺ في حديث النفخ في الصور والبعث: فإذا موسى باطش بجانب العرش[1]، الأخذ بقوة، ويأتي بمعنى المعاقبة والمؤاخذة الشديدة، شدة المعاقبة إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [سورة البروج:12].

وقوله: وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ قال مجاهد: سنتهم، وقال قتادة: عقوبتهم، وقال غيرهما: عبرتهم، أي: جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله في آخر هذه السورة: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ [سورة الزخرف:56]، وكقوله: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ [سورة غافر:85]، وقال: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا [سورة الأحزاب:62].

وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ نحن عرفنا أن أصل المثل في اللغة يرجع إلى معنى الشبه، وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ تكون العلاقة هنا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ باعتبار أن الله يذكر أخبار الأولين، وذكرنا -على قول شيخ الإسلام: أن قصص الأنبياء والأمم داخلة في جملة أمثال القرآن، وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ بعضهم يقول: مثلهم يعني ذكر الأولين في القرآن غير مرة، يعني تكرر ذكرهم، وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ يعني ذكرهم وخبرهم.

وهكذا قول من قال: مضت صفتهم أي صفة الأولين التي هي إهلاكهم المستأصل بسبب تكذيبهم للرسل -عليهم الصلاة والسلام، قالوا: المثل يأتي بمعنى الصفة، ومنه قوله تعالى: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [سورة الرعد:35]، و[سورة محمد:15] يعني صفة الجنة.

وقد مضى الكلام على هذا في الأمثال في القرآن هل يأتي المثل بمعنى الصفة أو لا، وأن شيخ الإسلام أرجعه إلى معنى الشبه، وأن منهم من أنكر مجيئه بمعنى الصفة، وبعضهم أثبته، وقلت هناك: إن إنكار مجيء المثل بمعنى الصفة ولو قليلاً هذا لا يخلو من تكلف، وإنما قد يأتي بمعنى الصفة وهو الأوفق -والله أعلم- في تفسير "مثل الجنة".

فهنا بناء عليه وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ أي: مضت صفتهم وما حل بهم مما أنزله الله من العذاب المستأصل، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، واعتبر أن القول الآخر الذي هو بمعنى مضى عقوبة الأولين أنه يرجع إليه، وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ يعني صفة الإهلاك التي حصلت، فمن قال: "عقوبتهم" كذلك، مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ [سورة الأنفال:38] سنة الأولين ما هي؟ ما هي سنة الله فيهم؟ الإهلاك المستأصل.

فكل هذه الأقوال ترجع إلى هذا المعنى، فمن قال: مَثَلُ الأوَّلِينَأي: سنة الأولين، ومن قال: عقوبة الأولين وما إلى ذلك كصفة الأولين فهذا متقارب، وهكذا من قال: عبرة الأولين، باعتبار أن المثل يرجع إلى الشبه، وأن القصص هذه وجه الشبه أنها ذُكرت للاعتبار، وأن العبرة أن ينتقل من حال غيره وما حصل له إلى نفسه، وهذا المعنى أيضًا صحيح، فمن قال: إنها سنتهم إلى آخره فإنما ذكر ذلك من أجل العظة والعبرة ومن أجل الاعتبار.

  1. رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى وذِكْره بعدُ، برقم (3408)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى ﷺ، برقم (2373).

مواد ذات صلة