بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [سورة المائدة:35-37].
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات.
وقد قال بعدها: وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ قال سفيان الثوري: حدثنا أبي عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس -ا: أي القربة، وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.
وقرأ ابن زيد: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [سورة الإسراء:57] والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة أيضاً علَم على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله ﷺ وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة[1].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -ا- أنه سمع النبي ﷺ يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة[2].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ [سورة المائدة:35]، ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن التقوى إذا ذكرت مع العمل الصالح فمعناها يتوجه إلى أحد شقيها؛ لأنها في الأصل تدل على ترك ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه، وفعل ما أمر به، فإذا ذكرت مع العمل الصالح فهذا هو الشق الثاني، فتحمل عندئذ على ترك ما نهى الله عنه، وهكذا إذا ذكرت مع البر، كما في قوله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى [سورة المجادلة:9] فالبر هنا هو العمل بطاعة الله، والتقوى ترك معصيته، والمعاني التي ذكرها هنا في الوسيلة -سوى المعنى الأخير- كل ذلك يرجع إلى شيء واحد، فهو من باب اختلاف العبارة، فالوسيلة: كل ما يتوصل ويتوسل به إلى مرضات الله ، فيدخل فيه ألوان القرب من الأعمال الصالحة.
وأما المعنى الأخير -أي أنها منزلة في أعلى الجنة كما في حديث عبد الله بن عمرو وحديث جابر -رضي الله عن الجميع- فإن هذا ليس هو المراد قطعاً في قوله: وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ [سورة المائدة:35]، فتكون الوسيلة بهذا الاعتبار من قبيل المشترك اللفظي الذي يحمل معانيَ متعددة، والمشترك في الأصل يمكن حمله على جميع معانيه إن لم يوجد مانع يمنع من ذلك، وهنا يوجد مانع يمنع من هذا قطعاً؛ لأن هذه الوسيلة -في المعنى الأخير في حديث الأذان- لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، فلا يمكن أن تكون مراد قوله: وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ [سورة المائدة:35] أي اطلبوا هذه المنزلة التي لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، والنبي ﷺ يقول: وأرجو أن أكون أنا هو[3] فمن طلب هذه المرتبة وقصدها بالوسيلة فهذا من قبيل الاعتداء في الدعاء؛ إذ لا يجوز له أن يطلب ما ليس له أو ما لا يمكن تحصيله شرعاً أو ما كان من الممتنع عقلاً كما يقال، فطلب الوسيلة طلب لممتنع شرعاً؛ لأن الله حكم بهذا.
قول: "لعل" من الله واجبة، وكذلك "عسى"؛ لأنها في أصل معناها في كلام العرب بمعنى الترجي، وهذا إنما يكون ممن يتوقع حصول الشيء لكنه لا علم له بما سيكون وهذا ممتنع عن الله ؛ لأنه علام الغيوب، فقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:35] أي: من أجل أن تفحلوا، فهي تُفسَّر بالتعليل، وعلى كل حال حتى لو فسرت بمعنى الترجي، فيقال: إن "لعل" من الله واجبة، فالجهاد في سبيل الله سبب أكيد محقق للفلاح إذا كان لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى، والفلاح هو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب، وقد يطلق على البقاء، ومنه قول الشاعر:
لو أن عبداً مدرك الفلاح | لناله ملاعب الرماح |
فلو كانت الحياة توهب لأحد على سبيل الدوام لوهبت للمجاهد في سبيل الله ، ولهذا قال خالد : "فلا نامت أعين الجبناء" وعلى كل حال فالمجاهدون يحصّلون أيضاً النعيم المقيم الذي لا ينقطع ولا يزول.
ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة:36] أي: لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهباً وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به وتيقن وصوله إليه ما تُقبل ذلك منه، بل لا مندوحة عنه ولا محيص ولا مناص، ولهذا قال: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة:36] أي: موجع.
يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [سورة المائدة:37] كما قال تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا الآية [سورة الحـج:22] فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسِّه، لا سبيل لهم إلى ذلك، وكلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانية بمقامع الحديد فيردوهم إلى أسفلها، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ أي: دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له: يا ابن آدم، كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع، فيقال: هل تفتدي بقراب الأرض ذهباً؟ قال: فيقول: نعم يا رب، فيقول الله: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل، فيؤمر به إلى النار رواه مسلم والنسائي[4].
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة المائدة:38-40].
يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يد السارق والسارقة وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقُرِّر في الإسلام، وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
في بعض الآيات السابقة ذكر الله حكم من يأخذ المال جهاراً نهاراً، وهم المحاربون الذين يسطون على الناس في سبلهم ويأخذون أموالهم بقوة السلاح، ثم ذكر -بعد ذلك- هنا حكم من يأخذ المال خفية -أي السارق- فهذه هي المناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها، والله أعلم.
القسامة معروفة وقد كانوا يفعلونها في الجاهلية وأقرها الإسلام، وذلك أنه حينما يقتل قتيل ويتدافعه الناس فتُتَّهم فيه قرية أو ناحية أو قبيلة مثلاً فلا يُعرف من قاتله فيقسم خمسون أن دمه عند هؤلاء، وأولئك يقسمون مثلهم.
والقراض هو المضاربة، فالمضاربة في الشركات تسمى بلغة الحجاز قراض، وفي لغة العراق يقال لها: مضاربة، وقد كانت معروفة في الجاهلية، والنبي ﷺ كان يتاجر بمال خديجة، ويسمى كذلك إن كان على سبيل الاشتراك بنسبة معينة.
طبعاً هذا الحديث له توجيه؛ لأنه ورد في الحديث الآخر أنه لا يُقطع في أقل من ربع دينار، ومعلوم أن البيضة لا تبلغ ربع دينار، وهذا إذا حملت البيضة في الحديث على البيضة المعهودة فالأصل في الألفاظ أن تحمل على المعنى المتبادر، والمعنى المتبادر في البيضة معروف، فبعض أهل العلم قال: إن ذلك ذُكر على سبيل التنفير من السرقة وتقبيح فعل السارق، يعني أنه يقطع بشيء يسير وإن لم يكن هذا القدر مقصوداً في تقرير الحكم، كما تقول: إنه يقطع في الشيء التافه، وهذا الشيء التافه جاء تحديده بأنه لا يقطع في أقل من ربع دينار.
ومن أهل العلم من حمل البيضة هنا على ما يوضع على رأس المقاتل، وهذه تبلغ قيمتها ربع دينار وتزيد عليه، ولكن ليس هذا هو المتبادر؛ لأنه ذكر معه الحبل، فالحبل شيء يسير لا قيمة له، فالذي يظهر -والله أعلم- أن هذا لا يحمل على معنىً يناقض حديث ربع الدينار، وإنما يقال: لا يؤخذ القدر الذي يحصل فيه القطع من هذا الحديث، وإنما هذا الحديث ورد على سبيل الزجر فحسب، والله أعلم.
الذين قالوا: البيضة هي ما يوضع على رأس المقاتل، قالوا في الحبل إنه حبل السفينة مثلاً، وحبل السفينة يزيد على ربع دينار، لكن هذا فيه تكلف، لذلك فالأصل حمله على المعنى المتبادر؛ لأنه لن يخطر في بال أحد أن المراد بالحبل حبل السفينة، فهذا المعنى بعيد، والله أعلم.
ولمسلم عن عائشة -ا- أن رسول الله ﷺ قال: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً[7] فهذا الحديث فاصل في المسألة، ونصٌّ في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه، وحديث: ثمن المجن وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا؛ لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً، فهي ثمن ربع دينار، فأمكن الجمع بهذا الطريق.
ويروى هذا المنهج عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب - وأرضاهم- وبه يقول عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه، وإسحاق بن راهويه في رواية عنه، وأبو ثور وداود بن علي الظاهري -رحمهم الله.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه -في رواية عنه- إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة الدراهم مرد شرعي فمن سرق واحداً منهما أو ما يساويه قطع.
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر وكذا سفيان الثوري رحمهم الله فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة.
والثابت هو القول الأول، وهو القطع في ربع دينار فصاعداً، وإنما ناسب في باب السرقة أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار؛ لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال: جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة المائدة:38] أي: مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك، نَكَالاً مِّنَ اللّهِ أي: تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك، وَاللّهُ عَزِيزٌ أي: في انتقامه حَكِيمٌ أي: في أمره، ونهيه وشرعه وقدره.
ثم قال تعالى: فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:39] أي: من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه.
طبعاً هذا يختلف عن المحاربين؛ لأن التوبة لا تسقط الحد، وهذا على قول عامة أهل العلم، فالجمهور من أهل العلم سلفاً وخلفاً على أن الإنسان إذا فعل ما يوجب الحد فإن توبته لا تنفعه في إسقاط الحد، فإذا بلغت الحدود السلطان فإنها لا تسقط بحال من الأحوال، لا بشفاعة ولا تسقطها توبة هذا الإنسان، إنما التوبة تنفعه عند الله -تبارك وتعالى، فقوله: فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:39]، هذا في إنسان لم يُعثر له على سرقة ولم يوقف له على جرم فوقعت توبته بينه وبين الله ولم يطلع المخلوق على ذلك، فهذا يرجع السرقة إلى صاحبها فإن هذا من توبته.
فإن لم يتمكن من هذا بأن لم يجده أو لم يعرفه فيتصدق عنه بها أو بقيمتها أو نحو ذلك إن لم تكن في يده، فهذا تنفعه التوبة، فأما إذا أقيم عليه الحد فإن الحدود كفارات تكفر له ذلك، لكن لو أنه بقي مصراً على السرقة فإن عزمه عليها معصية إن هو استمر على العزم بتكرار هذا الفعل بعد القطع، ومن تاب من ذلك وأقلع وترك هذا الصنيع الفاسد فإن الله يتوب عليه.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -ا- أن امرأة سرقت على عهد رسول الله ﷺ فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله، إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها، فقال رسول الله ﷺ: اقطعوا يدها فقالوا: نحن نفديها بخمسمائة دينار، فقال: اقطعوا يدها فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فأنزل الله في سورة المائدة: فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:39][8].
من الإصلاح أن يرجع السارق ما سرق إلى صاحبه إن لم يُقَم عليه الحد، والعلماء مختلفون في الذي أقيم عليه الحد، هل يطالب بإعادة ما سرق ويغرم، كأن يكون إنسان سرق قبل عشر سنوات وسرق قبل سنة وسرق قبل خمس سنوات واعترف بهذه السرقات كلها، هل يطالب بأن يرجع هذه الأشياء جميعاً مع القطع، أم أنه يقطع وما وجد بيده من مال إن عُرف لصاحبه بعينه فإنه يعطى له وما عدا ذلك لا يطالب به؟ المقصود أن العلماء مختلفون في هذا.
وبالنسبة لهذا الحديث في سنده ابن لهيعة، فإن صح الحديث فإن قوله: أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك يعني أن الحد يكفر الخطيئة والسيئة التي وقعت منها كما يدل على ذلك أيضاً الأحاديث الأخرى، فالحدود كفارات، والله أعلم.
وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة عن عائشة -ا- أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي ﷺ في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ﷺ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليها إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ﷺ فأتى بها رسول الله ﷺ فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلوّن وجه رسول الله ﷺ فقال: أتشفع في حد من حدود الله ؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشيُّ قام رسول الله ﷺ فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد: فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها، قالت عائشة: "فحسنت توبتها بعدُ وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله ﷺ" وهذا لفظ مسلم[9].
وفي لفظ له عن عائشة -ا- قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي ﷺ بقطع يدها[10].
ثم قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة المائدة:40] أي: هو المالك لجميع ذلك، الحاكم فيه، الذي لا معقب لحكمه، وهو الفعال لما يريد، فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:284].
طبعاً هذه القضية -قضية قطع يد السارق- أكثَرَ أعداء الله من الكلام فيها والطعن في الإسلام، وهذا الحكم بالنسبة لمن وقع عليه ربما يبدو لأول وهلة أن فيه قسوة وشدة، ولا شك أن هذا مطلوب لردع المجرمين، وهو بالنسبة لعموم الأمة عين الرحمة والرفق والرعاية والحفظ لهم؛ لأن هذه الحدود كلها تدور على الضرورات الخمس حفظاً لها من جانب العدم، بمعنى أنها كالسياج عليها لئلا ينتابها ويؤثر عليها ويفسدها أو يضعفها شيء من الأمور المخلة.
فالدين قال عنه النبي ﷺ: من بدل دينه فاقتلوه[11]، والنفوس شرع لحفظها القصاص للنفس وللأعضاء والأطراف والأبعاض، قال تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [سورة المائدة:45] ولحفظ المال شرع القطع لمن جنا على المال، وشرع لحفظ العرض الجلد والرجم، وشرع الجلد لحفظ العقل، فجميع الحدود تدور على الضرورات الخمس -الدين والنفس والعقل والعرض والمال- ولا يوجد شيء من الحدود خارجاً عنها، وحتى حد المحاربين شرع لأنهم يجنون على النفوس والأموال وهي من الضرورات الخمس.
فهذه الضرورات الخمس لو أنها اختلت في حياة الناس لصارت حياتهم في فساد ولم تعد حياة صالحة للآدميين، حيث تضيع النفوس بأن يقتل المقتول ولا يوجد له طالب، وبالتالي لا يأمن الناس في بيوتهم على أنفسهم، وهكذا تضيع الأعراض، وتضيع الأموال، ويضيع الدين كما هو مشاهد الآن في العراق، حيث يقتل الناس هناك أكثر مما تقتل الأنعام ثم يُحملون بالشاحنات مكدسين فوق بعض مثل جلود الأضاحي، وترى الدماء في السيارات، والجثث ترمى في كل مكان، وهكذا ضاعت أموال الناس حينما احتلت البلد، وإذا جاءوهم وداهموهم ليلاً لا يتركون شيئاً إلا أفسدوه، حتى الستائر حتى النوافذ يكسرونها، وما عجزوا عن تكسيره لطخوه بالنجاسات، وهكذا لا يتركون شيئاً يمكن أن ينتفع به، وكذلك ترى انتهاك بالأعراض، فالنساء يبتن الآن بالعباءة لا تدري في أي لحظة يدخل عليها في بيتها، ولا تدري من الذي يدخل وماذا يريد، والله المستعان.
فالحاصل أن هذه اليد التي تقطع بربع دينار ستبقى آثارها حيث ستتعطل مصالح هذا الإنسان عندما تقطع يمناه، وستبقى أيضاً لوثة نفسية بسبب هذا القطع؛ فتصور كيف هي حال هذا الإنسان الذي صارت يده مقطوعة بالسرقة لا يفارقه النظر إليها أبداً ما دام حياً؟ وكلما نظر إليها تذكر جنايته، والناس كلما نظروا إليه تذكروا الجناية، فهذه المرأة مع أنها تابت وتزوجت لكن تصور هل تستطيع أن تنسى هذا الموضوع ويدها مقطوعة، وزوجها يعاشرها أو يضاحكها، أو يكلمها أو تصنع له طعاماً أو تأكل معه شيئاً؟!
لن تنسى أبداً وإنما يسيطر عليها هذا الشعور ما دامت حية؛ لأنه إذا كان بعض الناس يتأثر من كلمة ويقول: جرحت مشاعر هذا وآذيته وسببت له انعكاسات نفسية ولا بد من تعويضات ولا بد من كذا وخاصة في الدول الغربية، فكيف لا يسيطر القطع على مشاعره ونفسه؟!
فالمقصود أن هذا الحد يردع صاحب هذه اليد التي أرادت أن تجني على ما تكتسبه ملايين الأيدي الشريفة، وتقطع لأنها عضو فاسد يريد أن يفسد على المجتمع نظامه فيرتدع الآخرون، ويسْلم المجتمع في ضرورية من ضرورياته وهو المال، الذي هو عصب الحياة، فإذا اعتدي على المال أو أُفسد فحينها تباع الأعراض وربما اختل دينهم أيضاً، ولهذا قالوا: كاد الفقر أن يكون كفراً، وإن كان هذا القول لا يصح عن النبي ﷺ لكن المعنى له وجه من الصحة، ومن جربوا الفقر الشديد عرفوا آثاره المدمرة في سلوك الناس، ولذلك تجد أكثر الجرائم والمشكلات والفساد الأخلاقي تقع في الأحياء الفقيرة، فهذه اليد الجانية إذا قُطعت سلِم كسب الأيدي الشريفة، واليد غالية من جنا عليها فإنه يدفع نصف الدية لكن إذا تلوثت بالسرقة صارت خائنة وحينها تكون رخيصة فتقطع في ربع دينار، فالأمانة شرفتها ورفعتها، وأعلت منزلتها وقيمتها، والخيانة هبطت بها، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه البخاري في كتاب الأذان - باب الدعاء عند النداء (589) (ج 1 / ص 222).
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي ﷺ ثم يسأل الله له الوسيلة (384) (ج 1 / ص 288).
- سبق تخريجه.
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء – باب قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] (3156) (ج 3 / ص 1213) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهباً (2805) (ج 4 / ص 2160).
- أخرجه البخاري في كتاب الحدود - باب لعن السارق إذا لم يسم (6401) (ج 6 / ص 2489) ومسلم في كتاب الحدود - باب حد السرقة ونصابها (1687) (ج 3 / ص 1311).
- أخرجه البخاري في كتاب الحدود - باب قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا [سورة المائدة:38] وفي كم يقطع (6407) (ج 6 / ص 2492) ومسلم في كتاب الحدود - باب حد السرقة ونصابها (1684) (ج 3 / ص 1311).
- صحيح مسلم في كتاب الحدود - باب حد السرقة ونصابها (1684) (ج 3 / ص 1311).
- أخرجه أحمد (6657) (ج 2 / ص 177) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف.
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء – باب قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [سورة الكهف:9] (3288) (ج 3 / ص 1282) ومسلم في كتاب الحدود - باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (1688) (ج 3 / ص 1311).
- أخرجه مسلم في كتاب الحدود - باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (1688) (ج 3 / ص 1311).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب لا يعذب بعذاب الله (2854) (ج 3 / ص 1098).