السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
[1] من أول السورة إلى قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} الآية:16
تاريخ النشر: ٠٥ / جمادى الأولى / ١٤٣٥
التحميل: 8644
مرات الإستماع: 9482

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد.

قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ۝ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ۝ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ۝ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۝ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ۝ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [سورة القلم:1-7].

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول "سورة البقرة"، وأن قوله تعالى: ن كقوله: ص، ق ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه السورة، "سورة ن" قال: إنها مكية، وهذا على قول طائفة من السلف ، وهو مروي عن عائشة، وجابر، والحسن وعكرمة، ولكن جاء عن ابن عباس القول: إنها مكية، هكذا بإطلاق.

وروي عنه أيضًا: أن منها ما نزل بمكة، ومنها ما نزل بالمدينة، وقد جاء أيضًا مثل هذا الأخير عن قتادة، يعني: أنها من أولها إلى قوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [سورة القلم:16] مما نزل بمكة، ومن بعد ذلك إلى أواخر السورة إلى الآية رقم 50 إلى قوله: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة القلم:50] أن هذا نازل في المدينة، والباقي مكي، يعني أن وسط السورة نازلة بالمدينة.

والسورة يقال لها: مكية، باعتبار صدر السورة على الأرجح -والله أعلم، إذا نزل صدرها بمكة، أو بالمدينة قيل لها: مكي، أو مدني وإن نزل باقيها في موضع آخر.

والأصل أن السورة النازلة في مكة أن جميع الآيات كذلك، هذا الأصل، إلا بدليل، وعكسه أيضًا، ولا يُنظر في هذا إلى المعاني، لا ينظر إلى المعنى، ثم يلجأ إلى القول بأن هذه الآية أو هذه الآيات نزلت بموضع آخر، والله أعلم.

وقد مضى الكلام على مثل هذا.

أما ما يتعلق بالحروف المقطعة فقد مضى الكلام عليها، وأن الأقرب أنها حروف تهجٍّ لا معنى لها في نفسها، ولكنها تشير إلى الإعجاز؛ لأنها لا تكاد تذكر إلا ويذكر القرآن، أو الوحي، أو ما يدل على ذلك بعدها، إلا في مواضع يسيرة جدًّا، وقد تكلف بعض أهل العلم لربطها بالوحي.

فهنا لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ذلك: ن قال: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وهذه النعمة هي: الوحي والنبوة، وكذلك على قول من فسر القلم: وَمَا يَسْطُرُونَ -كما سيأتي- بأنه القلم الذي يكتب فيه مقادير الخلائق، الذي كتب فيه أول ما خلق الله القلم، فهذا وحي، ويكون: وَمَا يَسْطُرُونَ على أحد الأقوال يعني الملائكة، هذا على أحد الأقوال.

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- له كلام مفيد جدًّا، قال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ: "الصحيح أن ن وق وص، من حروف الهجاء التي يفتتح بها الرب سبحانه بعض السور، وهي أحادية وثنائية وثلاثية، ورباعية وخماسية، ولم تجاوز الخمسة، ولم تذكر قط في أول سورة إلا وعقبها بذكر القرآن، إما مقسماً به، وإما مخبراً عنه، ما خلا سورتين: سورة: كهيعص ون؛ كقوله: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:1، 2]، الم ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [سورة آل عمران:1-3]، المص ۝ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:1، 2]، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [سورة يونس:1].

وهكذا إلى آخره، ففي هذا تنبيه على شرف هذه الحروف، وعظم قدرها، وجلالتها، إذ هي مباني كلامه، وكتبه التي تكلم سبحانه بها، وأنزلها على رسله، وهدى بها عباده، وعرّفهم بواسطتها نفسه، وأسماءه وصفاته، وأفعاله وأمره ونهيه، ووعيده ووعده، وعرفهم بها الخير والشر، والحسن والقبيح، وأقدرهم على التكلم بها، بحيث يبلغون بها أقصى ما في أنفسهم بأسهل طريق وقلة كلفة ومشقة، وأوصله إلى المقصود، وأدله عليه، وهذا من أعظم نعمه عليهم كما هو من أعظم آياته، ولهذا امتن على عباده بأن أقدرهم على البيان بها بالتكلم، فكان في ذكر هذه الحروف التنبيه على كمال ربوبيته، وكمال إحسانه وإنعامه، فهي أولى أن يقسم بها من الليل والنهار والشمس والقمر والسماء والنجوم، وغيرها من المخلوقات، فهي دالة أظهر دلالة على وحدانيته وقدرته وحكمته وكماله وكلامه، وصدق رسله.

وقد جمع سبحانه بين الأمرين: أعني القرآن، ونطق اللسان، وجعل تعليمها من تمام نعمته وامتنانه؛ كما قال: الرَّحْمَنُ۝ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ۝ خَلَقَ الإنْسَانَ ۝ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [سورة الرحمن:1-4].

فبهذه الحروف علم القرآن، وبها علم البيان، وبها فضل الإنسان على سائر أنواع الحيوان، وبها أنزل كتبه، وبها أرسل رسله، وبها جمعت العلوم وحفظت، وبها انتظمت مصالح العباد في المعاش والمعاد، وبها يتميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وبها جمعت أشتات العلوم، وبها أمكن تنقلها في الأذهان، وكم جلب بها من نعمة، ودفع بها من نقمة، وأقيلت بها من عثرة، وأقيمت بها من حرمة، وهدي بها من ضلالة، وأقيم بها من حق، وهدم بها من باطل، فآياته سبحانه في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان، ولولا عجائب صنع الله ما ثبتت تلك الفضائل في لحم ولا عصب، فسبحان مَن هذا صنعُه في هواء يخرج من قصبة الرئة، فينضم في الحلقوم وينفرش في أقصى الحلق، ووسطه وآخره وأعلاه وأسفله، وعلى وسط اللسان وأطرافه وبين الثنايا وفي الشفتين والخيشوم، فيُسمع له عند كل مقطع من تلك المقاطع صوت غير صوت المقطع المجاور له، فإذا هو حرف.

فألهم سبحانه الإنسان بضم بعضها إلى بعض، فإذا هي كلمات قائمة بأنفسها، ثم ألهمهم تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعض، وإذا هي كلام دال على أنواع المعاني أمراً ونهياً، وخبراً واستخباراً، ونفياً وإثباتاً، وإقراراً وإنكاراً، وتصديقاً وتكذيباً، وإيجابًا واستحبابًا، وسؤالاً وجواباً، إلى غير ذلك من أنواع الخطاب نظمه ونثره، ووجيزه ومطوله، على اختلاف لغات الخلائق، كل ذلك صنعه -تبارك وتعالى- في هواء مجرد خارج من باطن الإنسان إلى ظاهره في مجارٍ قد هيئت وأعدت لتقطيعه وتفصيله، ثم تأليفه وتوصيله، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين، فهذا شأن الحرف المخلوق.

وأما الحرف الذي به تكون المخلوقات، فشأنه أعلى وأجل.

وإذا كان هذا شأن الحروف، فحقيق أن تفتتح بها السور، كما افتتحت بالأقسام، لما فيها من آيات الربوبية، وأدلة الوحدانية، فهي دالة على كمال قدرته سبحانه، وكمال علمه، وكمال حكمته، وكمال رحمته وعنايته بخلقه، ولطفه وإحسانه، وإذا أعطيت الاستدلال بها حقه استدللت بها على المبدأ والمعاد، والخلق والأمر والتوحيد والرسالة، فهي من أظهر أدلة شهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن القرآن كلام الله تكلم به حقًّا، وأنزله على رسوله وحياً، وبلغه كما أوحي إليه صدقاً، ولا تهمل الفكرة في كل سورة افتتحت بهذه الحروف، واشتمالها على آيات هذه المطالب وتقريرها، وبالله التوفيق"[1].

هذا كلام في غاية الإفادة، ولا يخرج عما سبق من أن هذه الحروف لا معنى لها في نفسها، ولكنها تشير إلى معنى، وهو الإعجاز، القرآن مكون مركب من هذه الحروف، وأنتم عاجزون عن الإتيان بمثله، ثم أضاف معنى، وهو: أن كلام الناس مركب من هذه الحروف، فلها شأن، فهي حقيقة بأن يفتتح بها كما افتتح بالأقسام، من هذا الباب، هذا حاصل الكلام الذي ذكره.

وفيما يتعلق بموضوع السورة فهي في مجملها تدور حول موضوع واحد، وهو ما يتعلق بوحي الله لنبيه ﷺ، فهي نعمة أنعم بها عليه، وكانت هذه النعمة حرية بأن تُتلقى بالقبول، ولكن قومه كذبوا وكفروا بهذه النعمة، فتوعدهم وضرب لهم مثلاً بأصحاب الجنة الذين كفروا بنعمة الله عليهم بتلك الجنة، وما فيها من الثمار، وكذلك أيضًا ذكر ما للمؤمنين المصدقين بذلك.

موضوع السورة في مجمله يدور حول هذا، وذكْرُ أصحاب الجنة هو من باب ذكر نظير فعل هؤلاء من الكفر بهذه النعمة.

وقوله: وَالْقَلَمِ الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به، كقوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ۝ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق:3 - 5].

فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم؛ ولهذا قال: وَمَا يَسْطُرُونَ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يعني: وما يكتبون.

وقال السدي: وَمَا يَسْطُرُونَ يعني الملائكة، وما تكتب من أعمال العباد.

وقال آخرون: بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر، حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف سنة.

وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم.

روى ابن أبي حاتم عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: دعاني أبي حين حضره الموت، فقال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، وما هو كائن إلى الأبد وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق، وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي به، وقال: "حسن صحيح غريب"[2].

قوله -تبارك وتعالى: وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ أقسم بشيئين: الأول: القلم، وأقوال السلف تبين المراد به.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- حمل ذلك على الجنس، جنس القلم الذي يكتب به، وعلى هذا القول يدخل فيه ما عداه، يعني هذا القول أشمل الأقوال، يدخل فيه القلم الذي جاء في الحديث، كتب فيه مقادير الأشياء: أول ما خلق الله القلم فهو من جملة الأقلام، بل هو أجل هذه الأقلام.

ويدخل فيه الأقلام التي بأيدي الملائكة التي يكتبون فيها أقدار الله ، وكذلك ما يكتب فيه أعمال العباد، ويدخل في ذلك أيضًا سائر الأقلام، كالأقلام التي يكتب فيها وحي الله تعالى إلى أنبيائه -صلى الله عليهم وسلم، والأقلام التي يكتب بها العلم، والأقلام التي يكتب بها ما ينفع الناس في أمورهم الدنيوية، كالطب والحساب، وما إلى ذلك.

كل هذه الأقلام داخلة فيه، ما يكتب به، فهذا القلم شأنه عجيب، به حفظت العلوم، وبه بلغت الأجيال، ولولا فضل الله ورحمته بالناس لضاعت علومهم وأموالهم وحقوقهم، ولم يصل إليهم من ذلك شيء يذكر، هذه العلوم التي كانت عبر الأجيال تصل من الأولين للآخرين عن طريق هذه الكتابة، وهذا القلم، فهذا القول أشمل الأقوال، وهو الذي ذهب إليه الحافظ ابن القيم، وفصله تفصيلاً نفيسًا، لعلنا نأتي عليه -إن شاء الله- بعد قليل.

وكذلك هنا قال: وقال آخرون: بل المراد هنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر، حين كتب مقادير الخلائق، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله: أنه القلم الأول.

وهنا في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا يَسْطُرُونَ هذا القسم الثاني: وَمَا يَسْطُرُونَ "ما" هذه تحتمل أن تكون موصولة، أي والذي يسطرون، أقسم بالقلم، وبالذي يكتبون، هؤلاء الذين يكتبون من هم؟

إذا قلنا: إنها الأقلام التي بأيدي الملائكة فهم الملائكة.

وإذا قلنا: إن القسم بجنس القلم، فيدخل فيه الملائكة وغير الملائكة من الكاتبين.

ويحتمل أن تكون "ما" هذه مصدرية: وَمَا يَسْطُرُونَ أي: وسطرهم، فيكون أقسم بالقلم وبالكتابة، أو المكتوب.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "ثم أقسم سبحانه بالقلم وَمَا يَسطرُونَ، فأقسم بالكتاب وآلته، وهو القلم الذي هو إحدى آياته، وأول مخلوقاته الذي جرى به قدره وشرعه، وكتب به الوحي، وقيد به الدين، وأُثبتت به الشريعة، وحفظت به العلوم، وقامت به مصالح العباد في المعاش والمعاد، فوُطدت به الممالك، وأُمنت به السبل والمسالك، وأقام في الناس أبلغ خطيب وأفصحه وأنفعه لهم وأنصحه، وواعظاً تشفى مواعظه القلوب من السقم، وطبيباً يبرئ بإذنه من أنواع الألم، يكسر العساكر العظيمة على أنه الضعيف الوحيد، ويخاف سطوته وبأسه ذو البأس الشديد، وبالأقلام تدبر الأقاليم، وتساس الممالك، والعلم لسان الضمير يناجيه بما استتر عن الأسماع، فنسج حلل المعاني في الطرفين، فتعود أحسن من الوشي المرقوم، ويودعها حكمه فتصير بوادر الفهوم، والأقلام نظام الأفهام، وكما أن اللسان يريد القلب فالقلم يريد اللسان، وتولد الحروف المسموعة عن اللسان كتولّد الحروف المكتوبة عن القلم، والقلم يريد القلب ورسوله، وترجمانه، ولسانه الصامت.

والأقلام متفاوتة في الرتب فأعلاها وأجلها قدراً: قلم القدر السابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق"[3].

وقال -رحمه الله: "فهذا القلم أول الأقلام وأفضلها وأجلها، وقد قال غير واحد من أهل التفسير: إنه القلم الذي أقسم الله به.

القلم الثاني: قلم الوحي، وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله، وأصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم، والعالم خدم لهم وإليهم الحل والعقد، والأقلام كلها خدم لأقلامهم، وقد رفع النبي ليلة الإسراء إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله -تبارك وتعالى- من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسفلي.

والقلم الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله، وهو قلم الفقهاء والمفتين، وهذا القلم أيضاً حاكم غير محكوم عليه، فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق، وأصحابه مُخبِرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده، وأصحابه حكام وملوك على أرباب الأقلام، وأقلام العالم خدم لهذا القلم.

القلم الرابع: قلم طب الأبدان التي تحفظ بها صحتها الموجودة وترد إليها صحتها المفقودة، وتدفع به عنها آفاتها وعوارضها المضادة لصحتها، وهذا القلم أنفع الأقلام، بعد قلم طب الأديان، وحاجة الناس إلى أهله تلتحق بالضرورة.

القلم الخامس: التوقيع عن الملوك ونوابهم وسُيّاس المُلك، ولهذا كان أصحابه أعز أصحاب الأقلام، والمشاركون للملوك في تدبير الدول، فإن صلحت أقلامهم صلحت المملكة، وإن فسدت أقلامهم فسدت المملكة، وهم وسائط بين الملوك ورعاياهم.

القلم السادس: قلم الحساب، وهو القلم الذي تضبط به الأموال مستخرجها ومصروفها ومقاديرها، وهو قلم الأرزاق، وهو قلم الكم المتصل والمنفصل، الذي تضبط به المقادير، وما بينها من التفاوت والتناسب، ومبناه على الصدق والعدل، فإذا كذب هذ القلم وظلم فسد أمر المملكة.

القلم السابع: قلم الحكم الذي تثبت به الحقوق، وتنفذ به القضايا، وتراق به الدماء، وتؤخذ به الأموال والحقوق من اليد العادية، فترد إلى اليد المحقة، ويثبت به الإنسان، وتنقطع به الخصومات، وبين هذا القلم وقلم التوقيع عن الله عموم وخصوص، فهذا له النفوذ واللزوم، وذاك له العموم والشمول، وهو قلم قائم بالصدق فيما يثبته، وبالعدل فيما يمضيه وينفذه.

القلم الثامن: قلم الشهادة، وهو القلم الذي تُحفظ به الحقوق، وتصان عن الإضاعة، وتحول بين الفاجر وإنكاره، ويُصدق الصادق، ويُكذب الكاذب، ويُشهد للمحق بحقه، وعلى المبطل بباطله، وهو الأمين على الدماء والفروج والأموال والأنساب والحقوق، ومتى خان هذا القلم فسد العالم أعظم فساد، وباستقامته يستقيم أمر العالم، ومبناه على العلم وعدم الكتمان.

القلم التاسع: قلم التعبير، وهو كاتب وحي المنام وتفسيره، وتعبيره، وما أريد منه، وهو قلم شريف جليل مترجم للوحي المنامي، كاشف له، وهو من الأقلام التي تصلح للدنيا والدين ...

القلم العاشر: قلم تواريخ العالم ووقائعه، وهو القلم الذي تضبط به الحوادث وتنقل من أمة إلى أمة ومن قرن إلى قرن فيحصر ما مضى من العالم وحوادثه في الخيال وينقشه في النفس، حتى كأن السامع يرى ذلك ويشهده، فهو قلم المعاد الروحاني، وهذا القلم قلم العجائب، فإنه يعيد لك العالم في صورة الخيال، فتراه بقلبك وتشاهده ببصيرتك.

القلم الحادي عشر: قلم اللغة وتفاصيلها من شرح معاني ألفاظها ونحوها وتصريفها، وأسرار تراكيبها، وما يتبع ذلك من أحوالها ووجوهها، وأنواع دلالتها على المعاني، وكيفية الدلالة، وهو قلم التعبير عن المعاني باختيار أحسن الألفاظ وأعذبها وأسهلها وأوضحها، وهذا القلم واسع التصرف جدًّا بحسب سعة الألفاظ، وكثرة مجاريها وتنوعها.

القلم الثاني عشر: القلم الجامع، وهو قلم الرد على المبطلين، ورفع سنة المحقين، وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم وتهافتهم، وخروجهم عن الحق، ودخولهم في الباطل، وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل، المحاربون لأعدائهم وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل، وعدو لكل مخالف للرسل، فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن.

فهذه الأقلام التي فيها انتظام مصالح العالم، ويكفي في جلالة القلم أنه لم تكتب كتب الله إلا به، وأن الله سبحانه أقسم به في كتابه، وتعرّف إلى غيره بأن علم بالقلم، وإنما وصل إلينا ما بُعث به نبينا بواسطة القلم"[4]، ثم ذكر أبياتًا لأبي تمام في القلم.

وبعد هذا يتكلم عن جواب القسم: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ فيقول -أي ابن القيم -رحمه الله تعالى: "والمقسم عليه بالقلم والكتابة في هذه السورة تنزيه نبيه ورسوله عما يقول فيه أعداؤه، وهو قوله تعالى: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ".

تأمل سيتكلم عن المطابقة بين المقسم به، والمقسم عليه، وابن القيم يعتني بهذا كثيرًا، "وأنت إذا طابقت بين هذا القسم والمقسم به وجدته دالاً عليه أظهر دلالة وأبينها، فإن ما سطر الكاتب بالقلم من أنواع العلوم التي يتلقاها البشر بعضهم عن بعض لا تصدر من مجنون، ولا تصدر إلا من عقل وافر، فكيف يصدر ما جاء به الرسول من هذا الكتاب الذي هو في أعلى درجات العلوم، بل العلوم التي تضمنها ليس في قوى البشر الإتيان بها، ولاسيما من أميٍّ لا يقرأ كتاباً، ولا يخط بيمينه، مع كونه في أعلى أنواع الفصاحة، سليماً من الاختلاف، بريًّا من التناقض، يستحيل من العقلاء كلهم لو اجتمعوا في صعيد واحد أن يأتوا بمثله، ولو كانوا في عقل رجل واحد منهم، فكيف يتأتى ذلك من مجنون لا عقل له يميز به ما عسى كثير من الحيوان أن يميزه، وهل هذا إلا من أقبح البهتان، وأظهر الإفك؟!.

فتأمل شهادة هذا المقسم به للمقسم عليه ودلالته عليه أتم دلالة، ولو أن رجلاً أنشأ رسالة واحدة بديعة منتظمة الأول والآخر، متساوية الأجزاء، يصدّق بعضها بعضاً، أو قال قصيدة كذلك، أو صنف كتاباً كذلك لشهد له العقلاء بالعقل، ولما استجاز أحد رميه بالجنون مع إمكان -بل وقوع- معارضتها ومشاكلتها، والإتيان بمثلها أو أحسن منها، فكيف يرمى بالجنون من أتى بما عجزت العقلاء كلهم قاطبة عن معارضته ومماثلته، وعرّفهم من الحق مالا تهتدي عقولهم إليه، بحيث أذعنت له عقول العقلاء، وخضعت له ألباب الأولياء، وتلاشت في جنب ما جاء به بحيث لم يسعها إلا التسليم له، والانقياد والإذعان طائعة مختارة، وهي ترى عقولها أشد فقراً وحاجة إلى ما جاء به، ولا كمال لها إلا بما جاء به، فهو الذي كمل عقولها كما يكمل الطفل برضاع الثدي، ولهذا فإن أتباعه أعقل الخلق على الإطلاق، وهذه مؤلفاتهم وكتبهم في الفنون، إذا وازنت بينها وبين مؤلفات مخالفيه ظهر لك التفاوت بينها، ويكفي في عقولهم أنهم عمروا الدنيا بالعلم والعدل، والقلوب بالإيمان والتقوى، فكيف يكون متبوعهم مجنوناً، وهذا حال كتابه وهديه وسيرته، وحال أتباعه، وهذا إنما حصل له ولأتباعه بنعمة الله عليه وعليهم، فنفى عنه الجنون بنعمته عليه"[5].

قال ابن كثير -رحمه الله تعالى: وقوله: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أي: لست ولله الحمد بمجنون، كما قد يقوله الجهلة من قومك، المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين، فنسبوك فيه إلى الجنون.

قوله -تبارك وتعالى: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ هذا كلام في الوسط، يعني ما أنت بمجنون، قال: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ بعضهم يقول: أي: انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما تقول: أنت بفضل الله في عافية، أنت بنعمة الله عليك في عافية.

مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ يعني بما أنعم الله عليك أنت في كامل العقل، لستَ بمجنون وهذا بفضل الله عليك ونعمته.

وبعضهم يقول: إن هذه "الباء": بِنِعْمَةِ رَبِّكَ متعلقة بمضمر وهو حال، يعني يكون المعنى: أنت بريء من الجنون متلبسًا بنعمة الله التي هي النبوة.

مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَيكون هذا يتعلق بمقدر محذوف، أعني "الباء" تتعلق بمقدر محذوف يعرب حالاً، أنت برئ من الجنون حال كونك متلبسًا بنعمة الله عليك بالوحي والنبوة.

وبعضهم يقول: إن هذه "الباء" للقسم، وهذا فيه بعد، يعني أن الله يقسم بنعمته على نبيه ﷺ أنه ليس بمجنون: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ كأنه يقول: ما أنت ونعمةِ ربك بمجنون، أنه قسم، هذا لا يخلو من بعد، وليس هذا هو المتبادر.

وبعضهم -وكأن هذا هو المتبادر، ويدل عليه القرآن والله تعالى أعلم- يقول: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ من الوحي والنبوة بمجنون، فإنهم اتهموه بالجنون، لما جاءهم بهذا الوحي وأخبرهم أن الله أرسله إليهم قالوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [سورة الحجر: 6].

طبعًا هم لا يعتقدون أنه نزل عليه الذكر، لكن يقولون هذا بحسب قوله ودعواه، أو على سبيل الاستهزاء، وهذه أحد وجوه ورود الخطاب في القرآن -كما ذكرنا في بعض المناسبات- أنه قد يرد مراعى فيه حال المخاطب -السامع- كما في قوله: إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [سورة هود:87] على أحد المعاني في توجيهه، يعني بحسب اعتقادك.

فالشاهد: أن هذا المعنى كأنه هو المتبادر، ما أنت بهذا الوحي الذي أوحاه الله إليك والنبوة بمجنون، كما يقولون؛ لأنه لما جاءهم به اتهموه بالجنون، فالله ينزه نبيه ﷺ عن هذا كله.

فهذا هو جواب القسم: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ.

وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ أي: بل لك الأجر العظيم، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد، على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق، وصبرك على أذاهم.

ومعنى: غَيْرَ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع كقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود:108]، فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [سورة التين:6] أي: غير مقطوع عنهم.

وقال مجاهد: غَيْرَ مَمْنُونٍ أي: غير محسوب، وهو يرجع إلى ما قلناه.

هو يرجع إلى هذا بأي اعتبار؟ المقطوع بخلاف ما ذُكر: غير محسوب.

إذا كان غير محسوب فهذا كثير متتابع، وإنما الذي يحسب هو الشيء القليل المحصور، ولهذا مضى الكلام في عدد من المناسبات حينما يذكر الله جزاء المؤمنين، وأنه يوفيهم أجورهم بغير حساب.

وذكرنا أن ذلك يدل على الكثرة، وأن الذي يحسب ويحصى هو القليل، وأما الكثير، فهو يكون كما قيل: حثوًا بلا كيل ولا ميزان لكثرته: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة النور: 38] على أحد المعاني في تفسيره.

فهنا حينما يقول: غير محسوب، يعني معناه كثير متتابع، فهذا غير مقطوع، فيرجع إلى معنى ما سبق.

وبعضهم يقول غير هذا، يعني بعضهم يقول مثلاً: غير ممنون: لا منة فيه.

لكن بعض أهل العلم يعترض على هذا، يقول: المنة لله ، والله يمن على عباده بما يعطيهم في الدنيا والآخرة، ومنته لا يلحقهم فيها معرة أو نقيصة، فكيف يقال: غير ممنون من المن، فالله يمن على العباد بما أعطاهم وحباهم؟

لكن هؤلاء لا يقصدون هذا، وتجد عند التتبع في ثنايا كلامهم ما يدل على مرادهم، يقصدون غير ممنون من الناس، لا منة فيه لأحد من الخلق، فيحصل بذلك التأذي، يعني أجراً لا تنغيص فيه، ليس معه ما يكدره، يقصدون هذا، ففسروه بالمن المعروف.

لكن الأشهر هو تفسيره بما سبق: غير مقطوع وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ أي: أجرًا كثيرًا متتابعًا، لا انقطاع فيه، غير محسوب.

وقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال العوفي، عن ابن عباس: أي: وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام.

وكذلك قال مجاهد، وأبو مالك، والسدي، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ذكر لنا: أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خُلق رسول الله ﷺ، فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله ﷺ كان القرآن.

وروى نحوه عبد الرزاق، وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث قتادة بطوله[6].

ومعنى هذا: أنه صار امتثالُ القرآن أمرًا ونهيًا سجيةً له، وخلقًا تَطَبَّعَه، وترك طبعه الجِبِلِّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه.

هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة، والصفح والحلم، وكل خلق جميل؛ كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: "خدمتُ رسولَ اللهِ ﷺ عشر سنين فما قال لي: "أف" قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟[7].

وكان ﷺ أحسن الناس خلقًا، ولا مَسسْتُ خزًّا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله ﷺ، ولا شَمَمْتُ مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول الله ﷺ"[8].

وروى البخاري عن البراء يقول: كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وجهًا، وأحسن الناس خلقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير[9].

والأحاديث في هذا كثيرة، ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب: "الشمائل".

روى الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما ضرب رسول الله ﷺ بيده خادمًا له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما، حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله -عز وجل [10].

وروى الإمام أحمد: عن أبي هُرَيرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخلاق[11] تفرد به.

هنا قوله -تبارك وتعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ هذا الخلق كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما: لعلى دين عظيم، وهو الإسلام.

ثم ذكر من قال بهذا من السلف، وهذا الذي عزاه الواحدي لأكثر المفسرين: على دين عظيم، وهو دين الإسلام.

وحقيقة الخُلق هو ما يأخذ الإنسان به نفسه من الأدب، هذا هو الخلق بما يقرب معناه، ما يأخذ الإنسان به نفسه من الأدب.

هذا القول: إنه على دين عظيم هو الإسلام، وقول عائشة -رضي الله عنها: إن خلقه القرآن، وهكذا قول قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله، وينتهي عما نهاه الله عنه.

كل هذه الأقوال بالإضافة إلى قول من قال: إنه طبع على الطبع الكريم، كما يقوله بعض المفسرين، واختاره الماوردي.

هذه الأقوال غير متنافية، يعني من يقول: إن ذلك يعني الإسلام، أو القرآن، فإن القرآن هو الذي فيه تفاصيل وأحكام شرائع الدين.

وهكذا قول من قال: ما كان يأتمر به مما أمره الله به، وينتهي عما نهاه الله عنه، فهذا هو الامتثال للقرآن، والتطبيق لشرائع الإسلام، فكل هذا يرجع إلى شيء واحد، فإذا تخلق بهذا وامتثل فإنه لا يصدر عنه إلا كل فعل جميل، وكل قول جميل، لا يصدر عنه إلا هذا، فهذا لا يخرج عن معنى الخُلق المعروف، وحينما تجد أن ذلك يعني القرآن، أو شرائع الإسلام، أو نحو هذا فهذا هو الخلق، الخلق من أين يؤخذ؟

يؤخذ من الإسلام، وشرائع الإسلام، من القرآن، فهذا لا إشكال فيه، فهذه الأقوال ليست خارجة عن هذا المعنى، ولهذا عبارة ابن كثير -رحمه الله- واضحة، يقول: ومعنى هذا: أنه -عليه الصلاة والسلام- صار امتثالُ القرآن أمرًا ونهيًا -تأمل العبارة كيف تنتظم الأقوال- قال: صار سجيةً له وخلقًا تطبَّعه، وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة، إلى آخره، فهذا الخلق الذي يتبادر إلى الذهن هو المراد، لكن حينما يقال: هو الإسلام؛ فلأن الخلق إنما هو ما قرره الإسلام وشرعه، فيكون بفعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه، وهذا هو امتثال القرآن، العمل به واتباعه.

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على هذا المعنى كلامًا جيدًا، وربطه بموضوع القسم، قال ابن القيم-رحمه الله تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته لمن منحه الله فهمًا، ولقد سئلت أم المؤمنين عن خلقه ﷺ، فأجابت بما شفى وكفى، فقالت: "كان خلقه القرآن" فهمّ سائلها أن يقوم لا يسألها شيئًا بعد ذلك، ومن هذا قال ابن عباس وغيره: أي على دين عظيم.

وسمي الدين خلقًا؛ لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة، وإيرادات زاكية، وأعمال ظاهرة وباطنة، موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإيرادات، فتكتسب النفس بها أخلاقًا، هي أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها، فهذه كانت أخلاق رسول الله ﷺ المقتبسة من مشكاة القرآن، فكان كلامه مطابقًا للقرآن تفصيلاً له وتبيينًا، وعلومه علوم القرآن، وإرادته وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه وتركه لما منع منه القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه في تنفيذ أوامره، وتبليغه والجهاد في إقامته، فترجمت أم المؤمنين لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول ﷺ، وحسن تعبيرها عن هذا كله بقولها: "كان خلقه القرآن" وفهم هذا السائل لها عن هذا المعنى، فاكتفى به واشتفى.

فإذا كانت أخلاق العباد وعلومهم وإراداتهم وأعمالهم مستفادة من القلم وما يسطرون، وكان في خلق القلم والكتابة إنعام عليهم، وإحسان إليهم، إذ وصلوا به إلى ذلك، فكيف ينكرون إنعامه وإحسانه على عبده ورسوله الذي أعطاه أعلى الأخلاق، وأفضل العلوم والأعمال والإرادات التي لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها من غير قلم ولا كتابة؟ فهل هذا إلا من أعظم آيات نبوته، وشواهد صدق رسالته؟

وسيعلم أعداؤه المكذبون له أيّهم المفتون هو أم هم؟

وقد علموا هم والعقلاء ذلك في الدنيا، ويزداد علمهم في البرزخ، وينكشف ويظهر كل الظهور في الآخرة، بحيث تتساوى أقدام الخلائق في العلم به.

وقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ أي: فستعلم يا محمد، وسيعلم مخالفوك ومكذبوك: من المفتون الضال منك ومنهم.

وهذا كقوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ [سورة القمر:26]، وكقوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سورة سبأ:24].

قال ابن جريج: قال ابن عباس في هذه الآية: ستعلم ويعلمون يوم القيامة.

وقال العوفي، عن ابن عباس: بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ أي: المجنون.

وكذا قال مجاهد، وغيره.

ومعنى المفتون ظاهر، أي: الذي قد افتتن عن الحق، وضل عنه، وإنما دخلت "الباء" في قوله: بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ لتدل على تضمين الفعل في قوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ وتقديره: فستعلم ويعلمون، أو: فستُخْبَر ويُخْبَرون بأيكم المفتون، -والله أعلم.

قوله -تبارك وتعالى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ أي: ستعلم ويعلمون.

تعلمون ذلك متى؟

بما يظهره الله من دلائل صدقه، حينما تتجلى، وتتبين حقيقة ما جاء به -عليه الصلاة والسلام.

هنا ما نقله عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أن ذلك يكون يوم القيامة، حينما تحق الحقائق، ويصير الغيب شهادة، عند ذلك يعلمون؛ كما قال: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [سورة القمر:26].

وقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ هذا كأنه من باب التنزل، يعني معلوم أنهم المفتونون بلا مرية، لكن كما قال الله : وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سورة سبأ:24] ومعلوم أنهم هم على ضلال، وهو ﷺ على هدى.

فهنا يقول: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ ونقل عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أن المفتون بأي اعتبار؟  

باعتبار أنهم رموه بالجنون، فبرأه الله عن ذلك.

مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ۝ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ۝ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۝ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ من هو الأحق بهذا الوصف، ومن ضيع آخرته وأطاع عدوه، فهذا الذي لا عقل له، قال: وكذا قال مجاهد وغيره، وبه قال الأخفش من أصحاب المعاني وأبو عبيدة معمر بن المثنى، واختاره ابن جرير.

كأنهم نظروا إلى هذه القرينة، اتهموه بالجنون فبرأه الله، قال: وستعلمون غدًا من الأحق بهذا الوصف.

وهذا يدل على أن المفتون يأتي بمعنى المجنون، فإن ذلك من الفتْن، حينما يصاب الإنسان في عقله.

ابن كثير -رحمه الله- يقول: أي: الذي قد افتتن عن الحق، وضل عنه، وهذا هو المتبادر من إطلاق هذه اللفظة.

لكن كأن أولئك نظروا إلى السياق والقرينة، فالمفتون هو الذي فتن باتباعه هواه، فأعرض عن الحق وتركه، يقول: وإنما دخلت "الباء" في قوله: بِأَييِّكُمُ التي تدل على تضمين الفعل في قوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ يعني تضمين ماذا؟

بالعلم، أو ستخبَر ويخبَرون، فـ"علم وأخبر" تتعديان بـ"الباء" علمت بكذا، أخبرته بكذا، أخبرني بكذا، تعدية، يعني بدلاً من أن يقال: إن "الباء" هذه زائدة.

هنا يقول: لا، جاءت التعدية بـ"الباء"؛ لأن قوله: فَسَتُبْصِرُ مضمن معنى فعل آخر يتعدى بـ"الباء"، "فستبصر" مضمن معنى أنك ستخبَر: بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُستعلم ويعلمون: بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ.

فـ"علم" و"أخبر" تتعديان بـ"الباء" فعدي تبصر بـ"الباء" لهذا التضمين، وإلا فإن "ستبصر" لا تتعدى بـ"الباء" تقول: أبصرت كذا، تتعدى بنفسها، أبصرت الحق، ولا تقول: أبصرت بالحق، إلا إذا ضمنته معنى فعل آخر.

فهذا توجيه جيد لهذا الموضع، بعيد عن التكلف، والمفسرون والمعربون ذكروا في هذا أشياء، لكن هذا من أوضحها وأحسنها، وإلا فإن بعض أصحاب المعاني -مثل الفراء- قال: إن التضمين هو في الحرف، يعني بدلاً من أن يكون في الفعل، وقد ذكرنا من قبل في مناسبات شتى: أن تضمين معنى الفعل أبلغ وأكثر في المعاني، وأن هذا كما يقول ابن القيم: "طريقة فقهاء النحاة" وهذا الذي يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، فتضمين الحرف معنى الحرف أسهل، ولكن لا جديد فيه من جهة المعنى.

فالفراء يقول: إن "الباء" بمعنى "في" فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ يعني في أي الفريقين الذي أنت فيه أم في الفريق الآخر، بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ في أيكم المفتون.

وكأنهم يحتجون على هذا بقراءة شاذة: "في أيكم المفتون" يعني في أي الفريقين يكون هذا الوصف، "فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون"، في أي الفريقين يكون المفتون.

وكما سبق أن ابن عباس -رضي الله عنهما- حمل ذلك على يوم القيامة: أن هذا الإبصار يتجلى يوم القيامة.

وجاء عن قتادة: أن هذا يوم بدر، حينما قتل من قتل منهم، وأسر من أسر، وهزموا شر هزيمة.

لكن الأول أشهر.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "وقوله تعالى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ فقال أبو عثمان المازني: هو كلام مستأنف، والمفتون عنده مصدر، أي: بأيكم الفتنة؟

والاستفهام عن أمر دائر بين اثنين قد علم انتفاؤه عن أحدهما قطعاً، فتعين حصوله للآخر.

والجمهور على خلاف هذا التقدير، وهو عندهم متصل بما قبله، ثم لهم فيه أربعة أوجه:

أحدها: أن "الباء" زائدة، والمعنى: أيكم المفتون، وزيدت في المبتدأ كما زيدت في قولك: بحسبك أن تفعل. قاله أبو عبيد.

الثاني: أن المفتون بمعنى الفتنة، أي: ستبصر ويبصرون بأيكم الفتنة، و"الباء" على هذا ليست بزائدة. قاله الأخفش.

الثالث: أن المفتون مفعول على بابه، ولكن هنا مضاف محذوف تقديره بأيكم فُتون المفتون، وليست "الباء" زائدة. قاله الأخفش أيضاً.

الرابع: أن "الباء" بمعنى: في، والتقدير: في أي فريق منكم النوع المفتون، و"الباء" على هذا ظرفية.

وهذه الأقوال كلها تكلف ظاهر، لا حاجة إلى شيء منه.

وفَسَتُبْصِرُ مضمن معنى: تشعر وتعلم -تأمل كما ذكر الحافظ ابن كثير أي مضمن معنى فعل يصح تعديته بـ"الباء" تشعر، تعلم- فعدى بـ"الباء" كما تقول: ستشعر بكذا، وتعلم به، قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [سورة العلق:14].

وإذا دعاك اللفظ إلى المعنى من مكان قريب فلا تجب من دعاك إليه من مكان بعيد"[12].

قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي: هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي، ويعلم الحزب الضال عن الحق.

قال تعالى: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ۝ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ۝ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ۝ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ۝ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ۝ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ۝ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ۝ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ۝ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [سورة القلم: 8-16].

يقول تعالى: كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم، والخلق العظيم: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ۝ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ، قال ابن عباس: لو تُرَخِّص لهم فَيُرَخِّصون.

وقال مجاهد: ودوا لو تركن إلى آلهتهم، وتترك ما أنت عليه من الحق.

قوله -تبارك وتعالى: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ من هؤلاء؟

الكفار يدخلون في ذلك دخولاً أوليًّا أصليًّا، لا تطع الكفار، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [سورة الأحزاب:1] فالكفار في الظاهر والباطن، والكفار في الباطن -وهم أهل النفاق- لا تطعهم: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ لا تطعهم فيما يشيرون به، ولا تطعهم فيما يطلبون من التنازل عن الحق، والتخلي عنه، أو عن بعضه، فهم لا يفتئون يحاربون من دعا إلى الحق، أو اتبعه، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، وقال: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [سورة البقرة:217].

فالقتال جعله لغاية: حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ القتال إلى الردة.

وأما الرضا فلا يتحقق إلا باتباع ملة هؤلاء الكفار، فهما غايتان: ترك القتال بأن يرتد المسلمون عن دينهم، ولا يتحقق بهذا رضاهم حتى تتبع ملة هؤلاء، يتبع ملة من؟

اليهود والنصارى.

إذا اتبع ملة اليهود لن ترضى النصارى، وإذا اتبع ملة النصارى لن ترضى اليهود.

فقوله: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ۝ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَهذا يشير إلى قرينة تدل على معنى ما ذكر من قول مجاهد: "تركن إلى آلهتهم، وتترك ما أنت عليه من الحق" وهكذا ما نقله عن ابن عباس: "لو ترخص لهم فيرخصون" يعني تتنازل عن بعض الحق، وهم بالمقابل يقدمون تنازلاً، تلتقون معه في منتصف الطريق، فيترك المؤمن ما أمره الله به طلبًا لرضاهم، وللالتقاء معهم.

وهذه طريقة أهل النفاق، فهم يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، ويزعمون في هذا الإفساد أنهم يريدون الإصلاح وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11]، يقولون: إِن أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [سورة النساء: 62] نوفق بين هؤلاء وهؤلاء، نلتقي في حل وسط.

والوسط ليس دائمًا يكون محمودًا، وإنما لزوم الحق هو الوسط، وإلا فالوسط قضية نسبية، لا يقال دائمًا: إن الوسط هو الصواب والحق، فالتوسط بين المؤمنين والكافرين هذا سبيل المنافقين، فهم يأخذون من هذا بطرف، ومن هذا بطرف، فيكونون كالغنم العائرة بين الغنمين.

فهذا المعنى الذي ذكر هنا في "تدهن" لا منافاة فيه.

وأصل الإدهان هو الملاينة.

وابن جرير -رحمه الله- لما تكلم على معناه ربط ذلك بالدهن؛ لأن الدهن يلين الشيء: لَوْ تُدْهِنُ تلين معهم.

ولهذا فسر بالمسامحة والمداراة، ويقصدون بها التنازل، والتغاضي عن الحق، وعباراتهم تدور حول هذا، كقول الفراء: "لو تلين، فيلينوا لك".

وقول الضحاك والسدي: "ودوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر فيدهنون".

وقول الربيع: "لو تكذَّب فيكذِّبون".

وقول قتادة: "لو تذهب عن هذا الأمر، فيذهبون معك".

وقول الحسن: "لو تصانعهم في دينك، فيصانعوك".

وقول مجاهد: لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمالونك".

وهكذا قول ابن قتيبة: "أرادوه أن يعبد آلهتهم مدة، ويعبدوا الله مدة".

وبنحوه قال ابن جرير -رحمه الله.

هذا كله يرجع إلى شيء واحد، ولهذا جاءت سورة التوحيد والإخلاص: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [سورة الكافرون:1، 2] هذه في توحيد الإلهية، تبرأ منهم، ومن آلهتهم، ومن معبوداتهم وعباداتهم: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون:3- 6].

هذه مفاصلة كما ذكرنا في الكلام على هذه السورة، قول من قال: إن الجملتين الأوليين: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أي: في الحاضر الآن، ولا أنا في المستقبل سأتحول إلى عبادة آلهتكم: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.

وبعضهم عكس المعنى، قال: إن الأُوليين في المستقبل، والأُخريين في الحاضر.

وقد سبق الكلام على هذا.

فالمقصود: أن قوله -تبارك وتعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ يعني تترك ما أنت عليه، تتنازل، تركن إليهم، فهم أيضًا في المقابل يمالئونك، بمعنى أنهم عندها سيقابلونك بالقبول والممالأة والموافقة، فيكون ذلك من الطرفين، يعني تكون مقبولاً عندهم إذا تركت الحق، أو بعض الحق الذي دعوتهم إليه.

ممكن أن تتنازل وتقدم لهم دعوة لا تضايقهم، ليس فيها دعوة إلى توحيد الله والإيمان، وليس فيها إبطال للشرك، ولمعبوداتهم، فهذا الذي أقامهم وأقعدهم، ممكن أن تدعوهم إلى أمور مشتركة يوافقونك عليها، من الكلام على قضايا من الكرم، وصلة الرحم، وترك الفواحش، وما إلى ذلك؛ مثل الآن ما يسمى بـ"دعوة القيم"، القضية مشتركة بين الجميع، لا تنبع من التوحيد والإيمان، يمكن أن تقدَّم في البلاد الشيوعية، تقدم عند اليهود، عند النصارى، والطوائف، عند الوثنيين، سيتقبلون هذا، ويرفعون هذا الشعار، لكن حينما يُدعون إلى التوحيد الذي ينبع منه كل قول كريم، وكل فعل كريم، هذه هي دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام.

لكن هؤلاء الذين يدعون إلى القيم يزعمون أن التوحيد من القيم، هم يقولون هذا.

و"القيم" أصلاً ليس لها أصل في اللغة، اجرد كتب القواميس والمعاجم لن تجد لها أصلاً، ولا في كلام أهل العلم المعتبرين، وإنما هي لفظة كأنها مولدة في العصر الحديث، غير واضحة المعنى.

فالقيم ما هي؟

فكل أناس لهم قيم، كل أمة لها قيم، كل ديانة، كل أهل ملة لهم قيم تخصهم، فإذا قالوا: إن التوحيد هذا من القيم، الإيمان من القيم، فتكون غاية ما هنالك أننا استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير الإيمان بضع وسبعون شعبة[13] -والله أعلم.

ثم قال تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلها.

قال ابن عباس: المهين: الكاذب.

تأمل هنا لما قال: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ من الكفار والمنافقين، قال: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ.

الحلاف هو كثير الحلف، وإنما يُكثر الحلف؛ لأنه مهزوز، ضعيف، لا يثق بنفسه، ولا أنه يصدق، ولا يقبل ما يقول، فيضطر إلى تأكيد كل ما يقول بالحلف، فهو كثير الحلف، وهذا لا شك أنه يؤدي إلى ابتذال اسم المعبود ، ولهذا جاء في كتاب التوحيد: "باب ما جاء في كثرة الحلف"؛ لأن كثرة الحلف فيه نوع استخفاف وابتذال.

فهنا لما ابتذل اسمَ الله ، وجعله على طرف لسانه جوزي بعقوبة تليق بمثله، أو وُصف بما يليق بمثله: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ.

ووصفه هنا بذلك: مَّهِينٍ؛ لأنه أهان اسم الله بكثرة جريه على لسانه، يحلف على ما يستحق وما لا يستحق: قسمًا بالله، والله، في لحظات، وليس في الساعة الواحدة، في لحظات تحسب له أيمانًا متتابعة متعاقبة على قضايا تافهة، بين كل جملة وجملة قسم وهو يتكلم مع الناس، فهذا ابتذال لاسم الله .

وكما جاء عن النخعي: أنهم كانوا يؤدبون الصبيان على الحلف.

يؤدب الصبي، ويضرب، ليعظم اسم الله ، ولا يكون ذلك خفيفًا على لسانه.

والذين يكثرون الحلف في القرآن، يعني ما جاء من ذكر قوم يكثرون الأيمان في القرآن إنما كان ذلك في صفة المنافقين: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ[سورة المنافقون:1] هنا الشهادة هذه بمعنى القسم نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ.

وكذلك: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [سورة المنافقون:2] فصار ذلك عادة متكررة لهم، راسخة فيهم، حتى إنهم يبعثون يوم القيامة يحلفون: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18] استمرءوا هذا الأمر، فيقومون من قبورهم يوم القيامة يحلفون، وهذا في غاية القبح.

كيف صار هؤلاء بهذه المثابة؟ ويحسبون أن هذه الأيمان الكاذبة تنفعهم، وتُنفِّقهم عند الله في الآخرة؟!

فهذا يؤخذ منه عبرة وعظة: أن لا يكثر الإنسان الحلف، وأن لا يحلف إلا على شيء يستحق، ولا يستخف باسم الله .

وكثير الحلف فعله هذا مؤذن بأنه غير مطمئن لما يقول، وغير مطمئن إلى تصديق الناس لكلامه، فيضطر إلى توكيده بالحلف.

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ۝ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ، مهِينٍ من المهانة، وبعضهم يفسرها بالقلة في الرأي، وضعف الرأي، والتمييز.

وبعضهم -كمجاهد- يقول: الكذاب هو المهين.

وبعضهم يقول: المكثار من الشر" كما يقوله قتادة والحسن.

وبعضهم يقول: هو العاجز الفاجر.

وبعضهم يقول: هو الحقير عند الله.

وقول من قال: الذليل بمعناه.

وبعضهم يقول: الوضيع.

وهذا يرجع إلى معنى متقارب، فإن الكذاب وضيع.

كثير الحلف بالكذب هذا مكثار من الشر، فعله هذا مؤذن بأنه لا عقل له ولا قدر، ولا تمييز ولا رأي، فهو ذليل فاجر عاجز، يلجأ إلى الحلف.

وقوله: هَمَّازٍ قال ابن عباس وقتادة: يعني الاغتياب.

مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يعني: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين، وهي: الحالقة.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: مر رسول الله ﷺ بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة[14] الحديث.

وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم، من طرق عن مجاهد، به.

روى الإمام أحمد أن حُذَيفة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يدخل الجنة قَتَّات[15] رواه الجماعة، إلا ابن ماجه.

قوله -تبارك وتعالى- في صفة هذا الحلاف المهين: هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ.

هَمَّازٍ قال ابن عباس وقتادة: يعني الاغتياب، وإلى هذا ذهب ابن جرير -رحمه الله.

وقد سبق الحديث عن الهمز وعن اللمز في مواضع من آخرها: قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [سورة الحجرات:11]، وفي قوله -تبارك وتعالى: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ [سورة الهمزة:1].

وذكرنا أن الهمز يدل على فعل، ولهذا فسره بعضهم بالفعل، وأن اللمز يكون بالقول، وهذا ليس محل اتفاق، فبعضهم يعكس هذا.

وهنا تفسير الهماز بالمغتاب، وهو قول قريب.

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ۝ هَمَّازٍ فذكَرَه مع النميمة، فهو غيّاب يغتاب الناس، ويسعى في الإفساد.

وبعضهم يقول: إن الهماز -كثير الهمز- الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز هو الذي يذكرهم في غيبتهم، يلمزهم، ولكن هذا وإن قال به جماعة من السلف كأبي العالية والحسن وعطاء بن أبي رباح فإنه ليس محل اتفاق، بل بعضهم عكس هذا، كما قال مقاتل، والله يقول: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [سورة التوبة:79] هنا لا يشترط أن يكون ذلك في غيبتهم، فإذا جاءوا بالصدقة -وهؤلاء حضور- وكانت كثيرة قالوا: هذا مُراءٍ، وإن كانت قليلة قالوا: الله غني عن هذا وعن صدقته.

وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [سورة التوبة:58] يعيب عطاء النبي ﷺ، وقسْمه بين الناس.

هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ يمشي بين الناس بالنميمة على سبيل الإفساد، هذا النمام، فذكْرُ المغتاب مع النمام لا شك أنهما مقترنان، فهذا الذي يغتاب الناس ويتكلم في أعراضهم هو أيضًا حينما يكون مقارفًا للنميمة هو يفعل ذلك أيضًا من باب الغيبة وزيادة، يعني يذكرهم بما يكرهون على سبيل السعي فيهم وبينهم في الإفساد، فيسعى في الإفساد.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] ذكرنا هناك أن القفو الاتباع، ففسرها بعضهم بالغيبة أو بالنميمة؛ لأنها تقال من خلف الإنسان، من القفا، في قفاه، ليس في وجهه.

وذكرنا أن هذا من المعاني الداخلة في الآية، فهذا الذي يغتاب الناس يقفو ما ليس له به علم، وهذا الذي يسعى بالنميمة يقفو ما ليس له به علم، وهكذا كل من اشتغل بالباطل اعتقادًا أو قولاً أو عملاً، فهو ممن قفا ما ليس له به علم، فهؤلاء الذين يقعون في أعراض الناس، ويسعون بينهم في الإفساد، يحرشون بينهم، وهي سوق مستعرة لها ضرام، عبر هذا الإعلام الجديد، الوقيعة في أعراض الناس، لا يترك أحداً إلا يُوسم بأقبح الأوصاف، بالكذب والبهت البين، فالله حسيبهم.

هؤلاء كم فرقوا من شمل، وكم هدموا من بناء، وكم أوقدوا من فتنة وشر بين الناس، وكم أفقدوا من ثقة بأهل الصلاح والخير وأهل العلم، فلا يتركون أحدًا إلا بهتوه.

فهؤلاء من يُنشئون هذا البهتان والكذب والغيبة، ومن يسعون فيه، ومن ينشرونه، كل هؤلاء يشتركون في هذا.

وهؤلاء أبعد ما يكونون عن التربية القرآنية، وعن الأخلاق الإسلامية، فضلاً عن أن يكون مثل هؤلاء يشتغلون أو يصلحون لإقامة دنيا، أو دين، مثل هؤلاء الكذبة، هؤلاء السعاة والدعاة إلى الفتن والشرور، الذين لا يسلم أحد من كتاباتهم وألسنتهم -عليهم من الله ما يستحقون- هؤلاء لا يمكن أن يقيموا عدلاً، ولا دينًا، ما أقاموه في أنفسهم، فكيف يقيمونه لغيرهم؟!.

فهؤلاء لا شك أنهم أغواهم الشيطان واستزلهم، وصاروا بهذه المثابة، أسوأ الأخلاق، وأسوأ الكلام، وأسوأ العبارات، وأسوأ الأفعال تصدر عنهم، والله المستعان.

وقوله: مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [سورة القلم:12] أي: يمنع ما عليه وما لديه من الخير.

مُعْتَدٍ في تناول ما أحل الله له، يتجاوز فيها الحد المشروع.

أَثِيمٍ أي: يتناول المحرمات.

مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِيقول هنا: يمنع ما عليه وما لديه من الخير، يعني من حقوق الله، وحقوق الناس.

والخير يأتي بمعنى: المال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] يعني المال، كما قال الله : وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20].

فهذا كثير المنع للخير، بخيل بالمال، لا ينفقه في وجهه. وبعضهم فسر الخير هنا بالمعنوي، يقول: هو الذي يمنع الناس من الدخول في الإسلام، يمنع أهله وقومه وعشيرته من الإيمان، يصدهم عن ذكر الله -تبارك وتعالى، واتباع الحق مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ.

بعضهم فسر الخير هنا بالمعنوي، يقول: هو الذي يمنع الناس من الدخول في الإسلام، يمنع أهله وقومه وعشيرته من الإيمان، يصدهم عن ذكر الله -تبارك وتعالى، واتباع الحق مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ.

والآية عامة، فيدخل فيها هذا، ويدخل فيها منع الحقوق المالية لله ولخلقه: مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ.

ويدخل في ذلك أيضًا منع الخير من الدعوة إلى الله، وتعليم الناس العلم، نشر الخير بين الناس، دخول الناس في دين الله -تبارك وتعالى، إلى غير ذلك مما تحتمله الآية، -والله تعالى أعلم.

مُعْتَدٍ يقول: في تناول ما أحل الله له، يتجاوز فيها الحد المشروع.

مُعْتَدٍ في هذا، يعني ما يتعلق بأخذ المال، يأخذه من غير حله.

مُعْتَدٍ على الناس في حقوقهم وأموالهم وأعراضهم؛ لأنه نمام هماز مغتاب، معتدٍ لحدود الله .

مُعْتَدٍ كثير الآثام، لا شك أن صاحب هذه المقارفات هذا الحلاف المهين الهماز المشاء بنميم، هو يحمل أوزارًا على ظهره، كثير الآثام؛ لأنه لا يبالي، قد خفت عليه المعصية، فهو مجترئ على الله . مُعْتَدٍ على حدوده، صاحب عدوان على الخلق.

وقوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أما العتل فهو الفظ الغليظ الصحيح الجَموع المَنُوعُ.

وروى الإمام أحمد: عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مُتَضَعَّف لو أقسم على الله لأبره، ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عُتل جَوّاظ مستكبر وقال وَكِيع: كل جَوَّاظ جَعْظَريّ مستكبر[16]، أخرجاه في الصحيحين، وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث سفيان الثوري وشعبة، كلاهما عن معبد بن خالد، به.

قال أهل اللغة: الجَعْظَريّ: الفَظُّ الغَليظ.

والجَوّاظ: الجَمُوع المَنُوع.

عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ "العتل" فسره ابن كثير -رحمه الله- بالفظ الغليظ، الصحيح، الجموع المنوع.

يقصد "بالصحيح" يعني معافى، صاحب عافية، نحن عندنا لا زال الناس يقولون ذلك، أحيانًا عندما تشتط الأم في الدعاء لولدها تقول: اللهم أعطه عافية كافر؛ لأن المؤمن يبتلى، وتكثر علله؛ لأن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فتقول: اللهم أعطه عافية كافر، هذا قصْده بأنه صحيح، يعني أنه مكتمل العافية، وصحة البدن، والله -تبارك وتعالى- يمتعهم بهذا قليلاً، وكلام عامة المفسرين في معنى هذه اللفظة "العتل" يقولون: هو الشديد الخَلق، الفاحش الخُلق.

عُتُلٍّ وما ذُكر كأنه يرجع إليه، كما قال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل، فهذا بمعنى شديد الخُلق، أي إنسان صعب المراس، صعب الخُلق، يصعب التفاهم والتعامل معه.

ولهذا قال الزجاج: هو الغليظ الجافي، ويقال: عتلتُ الرجل أعتله إذا جذبته جذبًا عنيفًا.

فاللفظة تدل على الشدة، ولهذا فسره ابن جرير -رحمه الله- بالجافي الشديد في كفره، يقول: كل شديد قوي فالعرب تسميه بذلك، يقولون له: "عتل" فهذا إذًا عتل، يعني أنه شديد جافٍ قاسٍ صلف.

المؤمن يألف ويؤلف، ومثل من كان بهذه المثابة لا يألف ولا يؤلف، وشر الناس من أحسن الناس إليه اتقاء شره.

هذا العتل الجواظ المستكبر، هذه صفات أهل النار.

وأما الزنيم فروى البخاري: عن ابن عباس: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ قال: رجلٌ من قريش له زَنمة مثل زَنَمة الشاة.

ومعنى هذا: أنه كان مشهورًا بالشر، كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها.

وإنما الزنيم في لغة العرب: هو الدّعِيُّ في القوم، قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة.

عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ يعني هو بعد ما فيه من هذه المعايب: حلاف، مهين، هماز، مشاء بالنميمة، وهو فوق ذلك: زَنِيمٍ يعني "حشفة وسوء كيل"، على هذه الأوصاف القبيحة، منظومة من القبائح، وفوق ذلك هو زنيم.

فالزنيم على المشهور من كلام المفسرين وأهل اللغة في معناه: أنه الدعي الملصق بالقوم، وليس منهم.

الذين ذكروا الزّنَمة وهي تكون في رقبة الشاة، أو المعز، يعني بمعنى أن في بعض الشياه أو المعز شيئًا متدليًا في رقبتها، أليس كذلك؟

هنا تتدلى كالأصبعين، لكن لا عظم فيها، من رقبة الشاة، أو المعز، وليس في كلها، يقال لها: زنمة، لأنها زائدة، فهذا المعنى مشهور، ومنه قول حسان -رضي الله تعالى عنه:

زنيمٌ تداعاه الرجالُ زيادةً كما زِيد في عَرض الأديمِ الأكارعُ

هذا معنى صحيح، وهو ثابت في اللغة.

ولهذا فإن قول من قال: هو رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة، هذا فسره بمعنى حسي، وهذا يحتاج إلى دليل.

وبعضهم فسره: بالمعروف بالشر، أو بالظلوم، لكن المشهور هو الأول.

عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا في الأخير لما ذكر قول من قال: إنه رجل من قريش له زنمة مثل زنمة الشاة، وجه هذا القول توجيهًا آخر، فقال: ومعنى هذا أنه كان مشهورًا بالسوء، كشهرة الشاة ذات الزنمة.

يعني ابن كثير يوجه ذلك أنه لم تكن له زنمة حقيقية، وإنما عرف واشتهر بهذا، وتميز به.

ثم ذكر: أن الزنيم في لغة العرب هو الدعي في القوم، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

وأظن هذه اللفظة مستعملة إلى اليوم، يقولون: الزلمة، وهذه اللفظة يقولها أهل الشام: زلمة، ويقصدون بها الرجل.

لكن "زنمة" بالنون، هذه تعتبر سبة، "زنمة" فهذا معناه قذف لهذا الإنسان أنه دعي، قذف له في عرضه، أنه ابن زنا مثلاً، أو نحو ذلك.

وقوله: أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ۝ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ.

يقول تعالى: هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين، كفر بآيات الله وأعرض عنها، وزعم أنها كَذب مأخوذ من أساطير الأولين؛ كقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا۝ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا ۝ وَبَنِينَ شُهُودًا ۝ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ۝ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ۝ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ۝ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ۝ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّر ۝ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ نَظَرَ ۝ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ۝ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ۝ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ۝ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ۝ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ۝ وما أدراك ما سقر ۝ لا تبقي ولا تذر ۝ لواحة للبشر ۝ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [سورة المدثر:11-30].

قوله -تبارك وتعالى: أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ يقول: هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين أن كفر بآيات الله ، وأعرض عنها.

أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ بعض أهل العلم يقول: إن قوله: أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ متعلق بقوله: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ۝ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ يعني لا تطع من كانت هذه أوصافه لكونه ذا مال وبنين، لكونه صاحب مال، لا تطعه وهو يحمل هذه الأوصاف القبيحة لكونه يملك مالاً، وله بنون، فإن هذا لا يرفع صاحبه، ولا يستحق معه الاستجابة والطاعة والقبول لما يدعو إليه، فهو يحمل أحط الأوصاف.

أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ يعني لا تطعه لماله وبنيه، لئن كان ذا مال وبنين، لا تطعه لأن هذا هو مؤهله، غاية ما هنالك هذا التحصيل الدنيوي الفاني الذي لا يقرب صاحبه عند الله، ولا يرفعه، لا تطعه لمجرد كونه يملك أموالاً، وعنده أبناء، وهو يحمل تلك القبائح، والأوصاف الوضيعة، وهذا الذي ذهب إليه الفراء والزجاج، واختاره ابن جرير -رحمه الله، لا تطعه لكونه بهذه المؤهلات.

وهذا الموضع فيه قراءات متواترة: أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ: "آن كان ذا مال وبنيين" في قراءة ابن عامر همزة واحدة بالمد.

والقراءة الأخرى قراءة حمزة: "أأن كان ذا مال وبنين".

وقراءة الباقين بهمزة واحدة على الخبر: "أن كان ذا مال وبنين".

على قراءة الاستفهام: "آن كان ذا مال وبنين" أو "أأن كان ذا مال وبنين" بعض أهل العلم حمل ذلك على أنه على معنى التوبيخ له، يعني أن كان كذلك حمله هذا على التكذيب ومقابلة نعمة الله بالكفران؟ حمله هذا التحصيل على الكفر بنعمة الله : "آن كان ذا مال وبنين" "أأن كان ذا مال وبنين".

وعلى قراءة الجمهور: أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ أي: لا تطعه لكونه يملك مالاً، وله أبناء.

وتأمل هنا في هذا الموضع -وفي كثير من المواضع- يُذكر البنون الأبناء دون البنات؛ لأنه يتقوى بهم، ويتعزز بهم ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ۝ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا ۝ وَبَنِينَ شُهُودًا.

وقال تعالى هاهنا: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ قال ابن جرير: سنبين أمره بيانًا واضحًا، حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم، كما لا تخفى السمة على الخراطيم.

وقال آخرون: سَنَسِمُهُ سمةَ أهل النار، يعني نسود وجهه يوم القيامة، وعبر عن الوجه بالخرطوم.

تأمل في هذين المعنيين، فسر ذلك بأمر معنوي لا حسي: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ.

سَنَسِمُهُ بعضهم يقول: إن ذلك بشيء حسي في الدنيا.

بعضهم قال: بالكي على الخرطوم.

وبعضهم يقول: بالسيف يضرب على أنفه، فيقطع أنفه، أو يكون عليه سمة من أثر السيف.

والخرطوم: الذي عليه الجمهور هنا: أن المراد به الأنف، هكذا قال جماعة، كأبي عبيدة والمبرد، وبه قال أبو زيد، وكثيرون في ثنايا كلامهم وتفسيرهم ما يدل على أنهم فسروه بهذا الأنف، بصرف النظر عما ذكروا في هذه السمة ما المراد بها، فإن بعضهم فسره بأمر معنوي، كما ذكر ابن كثير هنا في القولين السابقين، ولهذا جاء عن مقاتل: سنسمه بالسواد على الأنف.

هنا الخرطوم هو الأنف، ولكن بعضهم يقول: إنه عُبر بالبعض عن الكل، يعني الوجه، ولهذا نفس قول مقاتل يبينه، يقول: وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار، يعني بسواد الوجه، ولهذا فإن الفراء يقول: إن الخرطوم هنا وإن خُص بالسمة: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ فإنه في مذهبٍ الوجه؛ لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض، وهكذا قول الزجاج أيضًا بأنه سيجعل له في الآخرة علامة، العلامة التي يعرف بها أهل النار وهي سواد الوجوه، جعلوا ذلك في الآخرة.

وبعضهم قال قولا عامًا مطلقًا، كقول قتادة: سنُلحق به شيئًا لا يفارقه، وهذا اختاره ابن قتيبة، يقول: باعتبار أن العرب تقول: قد وسمَه مَيْسم سوء، يعني ألحق به عارًا لا يفارقه، قالوا: المعنى أن الله ألحق به عارًا لا يفارقه كالوسم على الخرطوم، يعني العلامة التي تكون على الأنف تلوح، لا يخطئها النظر، بخلاف ما لو كانت باليد مثلاً، أو الرجل.

ابن جرير ذكر هذه الأقوال، والذي رجحه: أن المعني سنبين أمره بيانًا واضحًا، حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخرطوم.

ابن جرير يميل إلى هذا القول، مثل قول قتادة: سنلحق به شيئًا لا يفارقه، فنبين أمره بيانًا واضحًا.

ثم لمّا ذكر هذا القول وذكر الأقوال قال: ويمكن أن يكون ذلك أيضا بسمة تكون عليه حسية على أنفه، كجدع أنفه أو نحو ذلك بالسيف، يقول: لا مانع من هذا، أن يجتمع عليه هذا وهذا، هذا ذكره احتمالا، ما قاله مرجحًا له، قال: "ويمكن" لمّا ذكر هذا القول الذي تشير إليه الآية.

وطبعا تكلم المفسرون من المراد بهذا، ولا حاجة إليه؛ لأن الله تعالى يقول: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ، فيشمل كل من هذه صفته: هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ إلخ، ولهذا قول من قال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ علامة لا تفارقه بمعنى سواد الوجه، أو نحو ذلك يوم القيامة، هذا يصدق على من كان بهذه المثابة، يعني ليس شخصًا معينًا، فيجدع أنفه مثلاً، أو تحصل له علامة على الأنف.

  1. التبيان في أقسام القرآن، ص (203- 206).
  2. رواه ابن أبي حاتم في  تفسير القرآن العظيم، رقم (18936) وأبو داود، كتاب أحاديث أبي موسى الأشعري -رحمه الله، باب أحاديث عبادة بن الصامت -رحمه الله، رقم (578)، والترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ، رقم (3319)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2017).
  3. التبيان في أقسام القرآن، ص (206-207).
  4. المصدر السابق ص: (208- 212).
  5. المصدر السابق ص: (213- 215).
  6. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، رقم (746).
  7. كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل، رقم (6038)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقا، رقم (2309).
  8. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، رقم (3561)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب طيب رائحة النبي ﷺ ولين مسه، رقم (2330).
  9. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، رقم (3549)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في صفة النبي ﷺ وأنه كان أحسن الناس وجهًا، رقم (2337).
  10. رواه أحمد، رقم (25956) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  11. رواه أحمد، رقم (8952) وقال محققو المسند: "صحيح، وهذا إسناد قوي، رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عجلان، فقد روى له مسلم متابعة، وهو قوي الحديث".
  12. التبيان في أقسام القرآن، ص: (218- 219).
  13. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، رقم (35).
  14. رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول، رقم (218)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم (292).
  15. رواه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة، رقم (6056)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة، رقم (105).
  16. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، رقم (4918)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، رقم (2853).

مواد ذات صلة