السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} الآية:8 حتى نهاية السورة
تاريخ النشر: ٢٣ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 3961
مرات الإستماع: 4721

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ [سورة البروج: 19]، بعد أن توعد الله المكذبين الكافرين مع ما نوّع لهم من العِبر، وما ذكر من المَثُلات، قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، فهم منغمسون في التكذيب، وليس بهم أنهم لم يأتهم ما تقوم عليهم به الحجة.

وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [سورة البروج:20] أي: محيط بأعمالهم محصيها عليهم، محيط بهم من كل وجه، لا يفوتونه، ولا يعجزونه، فهو قادر على أخذهم في الدنيا -كما وقع لمن قبلهم من أصحاب الأخدود، وغيرهم، وعلى محاسبتهم، وعقابهم في الآخرة.

بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [سورة البروج:21] أي: قرآن كثير البركات، كامل الصفات، لا تنقضي عجائبه، كله هدى وعظات، فهو أصل العلوم، ونبع الهداية، وعرفنا أن المجد يدل على السعة، وكثرة الأوصاف الكاملة.

فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [سورة البروج:22] أي: هذا القرآن في لوح محفوظ، وهو: اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء، وعلى القراءة الأخرى: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٌ يعني: أن القرآن محفوظ في لوح، فالمحفوظ على القراءة الأولى يرجع إلى اللوح، أي: هذا اللوح محفوظ، وعلى القراءة الثانية يرجع إلى القرآن، أي: هذا قرآن مجيد محفوظ.

وقوله -تبارك وتعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [سورة الطارق:1] يقسم الله بالسماء، هذا المخلوق الهائل الكبير الذي يدل على قدرة الله ، وبالطارق، وهي: النجوم التي تظهر ليلاً، وتختفي نهارًا.

قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ۝ النَّجْمُ الثَّاقِبُ [سورة الطارق:2، 3]، أي: الذي يضيء إضاءة قوية، فهو: شديد الإضاءة.

إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [سورة الطارق:4]، هذا هو جواب القسم، يعني: ما كل نفس إلا عليها حافظ، على هذه القراءة، يعني: لا تخلو نفس من حافظ، إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا يعني: إلا عَلَيْهَا حَافِظٌ، وعلى القراءة الأخرى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ يعني: أن الشأن أن كل نفس عليها حافظ، والمعنى في القراءتين في النهاية واحد، وهو إثبات وجود الحافظ على النفس، كل نفس لا تخلو من حافظ يحفظ عليها، ويحصي أعمالها، قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18]، وقال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ [سورة الانفطار:10، 11].

قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ [سورة الطارق:5]، أي: هذا الإنسان المخلوق الضعيف المُكَذِّب بالآيات عليه أن ينظر مما خلق، حتى يعرف قدرة الله -تبارك وتعالى- عليه، وكيف صرفه هذا التصريف حتى صار خلقًا سويًّا، فالذي فعل به ذلك قادر على إعادته ثانيًا.

خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ  [سورة الطارق:6] يعني: أنه ذو دفق، أو أنه مدفوق، والدفق قلنا: هو صب الماء.

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [سورة الطارق:7] فيه قولين على ما ذكرنا: أن ذلك يرجع إلى الرجل، يخرج من بين صلبه، وهو: العمود الفقري، وترائبه، وهي: عظام الصدر، أو موضع القلادة منه، وعلى القول الآخر أنه يخرج ما بين صلب الرجل، وترائب المرأة، وهي: عظام الصدر، أو العظام العليا من الصدر.

وهذا كلام ابن القيم -رحمه الله- في الطرق الحكمية الذي أشرنا إليه سابقاً:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى: "وأما قولهم إنه يَعتمد الشبه، فنعم، وهو حق..."[1].

هنا يتكلم ابن القيم عن حديثين: الحديث الأول وهو: إذا علا ماء الرجل ماء المرأة[2]، والثاني: إذا سبق[3]، هذان الحديثان جاء فيهما: مسألة الشبه، ومسألة الإذكار والإيناث، فعندنا: سبْق، وعندنا: علوّ، وعندنا: إذكار، وعندنا: إيناث.

وهو يتكلم على موضوع القافة، ومعرفة الشبه، والحكم بها من ناحية الحكم والقضاء وإلحاق الولد بالشبه.

قال: "قالت أم سلمة: يا رسول الله، أوتحتلم المرأة؟ قال: تربت يداك، فبم يشبهها ولدها؟، متفق عليه[4]"[5].

هنا أثبت الشبه من أنه يخلق مما يكون منها أيضاً.

قال: "ولمسلم من حديث أنس بن مالك عن أم سليم -رضي الله عنها- قالت: وهل يكون هذا يعنى: الماء؟ فقال نبي الله ﷺ: نعم، فمن أين يكون الشبه؟ إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمِن أيِّهما علا أو سبق يكون منه الشبه[6].

وعن عائشة -رضي الله عنها: أن امرأة قالت لرسول الله ﷺ: هل تغتسل المرأة إذا هي احتلمت وأبصرت الماء؟ فقال: نعم فقالت لها عائشة: تربت يداك، فقال لها رسول الله ﷺ: دعيها، وهل يكون الشبه إلا من قِبل ذاك؟ رواه مسلم[7].

وله أيضا من حديث أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان قال: كنت قائمًا عند رسول الله ﷺ فجاء حبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك -الحديث بطوله- إلى أن قال: جئت أسألك عن الولد، فقال: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله[8].."[9].

يعني: يأتي المولود ذكرًا أو أنثى، إذا علا يعني: صار هو الأعلى.

قال: "وسمعت شيخنا -رحمه الله.."[10].

أي: شيخ الإسلام ابن تيمية.

قال: "يقول: في صحة هذا اللفظ نظر.."[11].

يعني: إذا علا ... أذكرا.

قال: "قلت: لأن المعروف المحفوظ في ذلك إنما هو تأثير سبق الماء في الشبه، وهو الذي ذكره البخاري من حديث أنس: أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي ﷺ المدينة، فأتاه فسأله أشياء، قال النبي ﷺ: وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد [12].."[13].

قوله: نزع يعني: في الشبه.

قال: "فهذا السؤال الذي سأل عنه عبد الله بن سلام، والجواب الذي أجابه به النبي ﷺ هو نظير السؤال الذي سأل عنه الحبر، والجواب واحد، ولاسيما إن كانت القصة واحدة، والحبر هو: عبد الله بن سلام، فإنه سأله وهو على دين اليهود، فأُنسي اسمه، وثوبان قال: "جاء حبر من اليهود"، وإن كانتا قصتين والسؤال واحد فلابد أن يكون الجواب كذلك، وهذا يدل على أنهم إنما سألوا عن الشبه؛ ولهذا وقع الجواب به، وقامت به الحجة، وزالت به الشبهة.

وأما الإذكار والإيناث فليس بسبب طبيعي، وإنما سببه الفاعل المختار الذي يأمر الملك به، مع تقدير الشقاوة والسعادة والرزق والأجل؛ ولذلك جمع بين هذه الأربع في الحديث: فيقول الملك: يا رب ذكر، يا رب أنثى، فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك[14]، وقد رد سبحانه ذلك إلى محض مشيئته في قوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ۝ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [سورة الشورى:49، 50].

والتعليق بالمشيئة -وإن كان لا ينافي ثبوت السبب بذلك- إذا عَلم كون الشيء سببًا دل على سببيته بالعقل وبالنص، وقد قال ﷺ في حديث أم سليم: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر فمِن أيِّهما علا أو سبق يكون الشبه، فجعل للشبه سببين: علو الماء وسبقه.

وبالجملة: فعامة الأحاديث إنما هي تأثير سبق الماء وعلوه في الشبه، وإنما جاء تأثير ذلك في الإذكار والإيناث في حديث ثوبان وحده، وهو فرد بإسناده، فيحتمل أنه اشتبه على الراوي فيه الشبه بالإذكار والإيناث، وإن كان قد قاله رسول الله ﷺ فهو الحق الذي لا شك فيه، ولا ينافي سائر الأحاديث، فإن الشبه من السبق، والإذكار والإيناث من العلو، وبينهما فرق، وتعليقه على المشيئة لا ينافي تعليقه على السبب، كما أن الشقاوة والسعادة والرزق معلقات بالمشيئة، وحاصلة بالسبب، والله أعلم.."[15].

خلاصة هذا الكلام: أن شيخ الإسلام وابن القيم يرون أن المحفوظ هو لفظ: إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، يعني: صار يشبهه، والعكس بالعكس، يعني: في مسألة الشبه، وأن اللفظ الآخر وهو: إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرا: غير محفوظ، ثم الحافظ ابن القيم بعد ذلك يقول: إن الله -تبارك وتعالى- يبعث الملك فيؤمر بأربع كلمات، منها: هل هو ذكر أو أنثى؟ وقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [سورة الشورى:49]، قال: هذا يرجع إلى مشيئته، وغير معلق على سبب مادي كهذا.

يقول: ولو كان ذلك اللفظ محفوظًا فهذا لا ينافي التعليق على المشيئة: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ لكون هذا المعلق على المشيئة قد ربط بسبب، وهذه الأسباب كما هو معلوم لا تخرج عن مشيئته -تبارك وتعالى، ولكن الله أجرى هذا الكون على سنن، وكل ذلك يرجع إلى مشيئته، وإرادته .

فكل هذه الأحاديث تدل على أن ذلك يحصل من مجموع الأمرين، سواء كانت مسألة الإذكار والإيناث إن كان ذلك محفوظًا، أو كان مما يتعلق بالشبه، والأكثر على أن قوله: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ: صلب الرجل، وترائب المرأة، والآية تحتمل المعنيين: تحتمل أن يرجع ذلك إلى الرجل جميعًا، فإن الترائب توجد في الرجل، وتوجد في المرأة، لكن إنما اشتهرت الترائب لدى المرأة؛ لكثرة ما يرِد ذلك في كلام العرب شعرًا ونثرًا؛ لأن ذلك موضع الجِيد أو القلادة منها، فيرد في الأشعار، وإلا فالرجل له ترائب أيضاً، وتحتمل الآية أن ذلك يرجع إلى الرجل والمرأة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا، وللحاضرين، وللمسلمين أجمعين.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ: إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق، أي: إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر؛ لأن من قدر على البدء قدر على الإعادة، وقد ذكر الله هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع.

إِنَّهُ أي: الله -تبارك وتعالى، فالله هو الخالق، فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ۝ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ۝ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ۝ إِنَّهُ يعني: الذي خلقه، عَلَى رَجْعِهِ هذا الضمير يرجع إلى الإنسان، أي: على رجع الإنسان مرة ثانية، فهذا احتجاج على البعث، وقدرة الله على بعثه، فالذي خلقه من هذه النطفة ثم جعله إنسانًا سويًّا قادر على إعادته ثانيًا، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يعني: البعث بعد الموت، والفناء، والاضمحلال، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، هو الذي عليه الجمهور من السلف فمن بعدهم، والسياق يدل عليه؛ لأن السياق إنما هو في بيان قدرة الله .

انظر ماذا قال في هذا السياق؟ قال: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ۝ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ يعني: يوم القيامة، فإن هذا الظرف متعلق بما قبله، فهذا يوم القيامة بلا إشكال، مع أن بعض أهل العلم قال بخلاف ذلك، لكن الجمهور على هذا، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله- بهذه القرينة: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وهو الذي رجحه ابن القيم أيضاً، مع أنه جاء عن مجاهد في قوله: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ۝ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ۝ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ يعني: هذا الماء، على رجع الماء، إلى أين؟

مجاهد يقول: في الإحليل، وهذا وإن كان يحتمله اللفظ -يرد الماء في الإحليل- لكنه بعيد؛ لأن الآية في قدرة الله على بعث هذا الإنسان، وعلى إحاطته به. 

وقد رد ابن القيم على هذا القول من أوجه كثيرة، يقول: ولم تجرِ العادة في القرآن على بيان القدرة في مثل هذا، وإنما يُحتج بنشأة الإنسان من نطفة أو بخلقه من تراب على أن الله قادر على إعادته ثانيًا، أي: أن الذي خلق أولاً قادر على الإعادة، ولا يعجزه ذلك، وراجعوا كلام ابن القيم -رحمه الله- في رده على هذا من أوجه متنوعة، ومنها: السياق يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فهذا يدل على المراد وهو: أن ذلك يوم القيامة، وجاء عن عكرمة والضحاك: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ أي: الماء، لكن إلى أين؟ إلى الصلب، إلى موضعه: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ۝ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ أي: إلى موضعه الذي خرج منه، لكن هذا أيضاً كالذي قبله.

ولهذا قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ أي: يوم القيامة تبلى فيه السرائر، أي: تظهر وتبدو، ويبقى السر علانية، والمكنون مشهورًا.

وقد ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر -رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: يُرفع لكل غادر لواء عند استه، يقال: هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان[16].

قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ: هذا يوم القيامة، تبلى السرائر، والسرائر هي: ما يسر في القلوب من العقائد والنيات والمقاصد والأعمال، كل ذلك يظهر، وكذلك الشرك والرياء والنفاق والتعلق بغير الله ، وما إلى ذلك، كل هذا يظهر، وتبلى السرائر.

وبعضهم يقول: الأعمال، ونشر الصحف؛ لأنها سرائر، فتظهر يوم القيامة، وتكون بادية، فيفتضح من يفتضح، مع أنه قد يكون على حال أمام الناس في الدنيا مواتية، ولكن يوم القيامة تظهر المخبآت من أعمال الناس، وما كانوا يخفونه، فهذا القول أعم من الذي قبله، فقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ على الأول: أنه تظهر مخبآت النفوس، ومكنونات القلوب، والثاني: أن الجميع يظهر يوم القيامة، فلا يخفى من ذلك شيء، كل شيء يكون باديًا ظاهرًا، فيفتضح هذا الإنسان الغادر مثلاً، يجعل له هذا اللواء تشهيرًا، وتشنيعًا عليه، وفضيحة؛ ولهذا يقول ابن كثير هنا: "تظهر وتبدو، ويبقى السر علانية، والمكنون مشهوراً".

وظاهر كلام ابن كثير مع الحديث الذي ذكره: أن السرائر هي كل المكنونات، والأعمال، والمخبآت، والتي قد تخفى على الناس، سواء كانت مما يكنه في نفسه وصدره، أو كانت من مزاولاته وأعماله.

وقوله: فَمَا لَهُ أي: الإنسان يوم القيامة، مِنْ قُوَّةٍ أي: في نفسه، وَلا نَاصِرٍ أي: من خارج منه، أي: لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله، ولا يستطيع له أحد ذلك.

وهو كما قال الله -تبارك وتعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [سورة البقرة:48]، أي: لا يستطيع أحد أن يقدم لأحد نافعة، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [سورة البقرة:48]، أي: لا يوجد وساطات، يأتي أحد فيتكلم في حقه ويشفع له، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ، لا يقبل الفداء، لا بمال، ولا بذوات، يقول: أنا أدخل مكانه، وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، لا أحد يستطيع أن يخلصه بالقوة، فكل هذه الطرق التي يحصل بها الخلاص، أو يُرجى فيها الخلاص قد قُطع الطريق دونها، وأغلق الباب، فلا أحد يستطيع أن ينفع أحداً، ولا يستطيع أن يقدم في ذلك فدية، ولا يستطيع أن يشفع فيه، ولا أن يخلصه بالقوة، إنما يكون مأسورًا بعمله، فيطلقه عمله، أو يعتقه، بخلاف الدنيا فالناس تحصل منهم مثل هذه الأمور، أن يتخلص الإنسان من بعض ما ينزل به بهذا أو ذاك، أما في الآخرة فليس الأمر على هذا.

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ۝ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ۝ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ۝ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ۝ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا ۝ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [سورة الطارق:11-17].

قال المؤلف -رحمه الله تعالى: قال ابن عباس: الرجع: المطر، وعنه: هو السحاب فيه المطر، وعنه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ تمطر ثم تمطر، وقال قتادة: ترجع رزق العباد كل عام، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم.

ابن القيم-رحمه الله- له كلام على قوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، يقول -رحمه الله تعالى: "ونبه على هذا بقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ أي: تُختبر، وقال مقاتل: تظهر، وتبدو، وبلوت الشيء: إذا اختبرته؛ ليظهر لك باطنه، وما خفي منه، والسرائر: جمع سريرة، وهي: سرائر الله التي بينه وبين عبده في ظاهره وباطنه لله، فالإيمان من السرائر، وشرائعه من السرائر، فتختبر ذلك اليوم حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها، وما كان لله مما لم يكن له.

وقال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما: يبدي الله يوم القيامة كل سر، فيكون زينًا في الوجوه، وشينًا فيها، والمعنى: تختبر السرائر بإظهارها وإظهار مقتضياتها من الثواب والعقاب والحمد والذم.

وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة، وهو: أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحًا..."[17].

هو تكلم عن السرائر بأنها مخبآت النفوس، ثم وسع المعنى، قال: "وفي التعبير عن الأعمال بالسرائر"، يعني: ليست فقط هي مخبآت النفوس ومكنوناتها مما لا يطلع عليه، وإنما أيضاً الأعمال، فقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ أي: تبلى مخبآت النفوس، وأعمال الناس، فالتعبير عن الأعمال بالسرائر يقول: لأنها ناتجة عنها.

يقول: "فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحًا، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة وشينًا، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها، قال الشاعر:

فإنّ لها في مضمرِ القلبِ والحشا سريرةَ حبٍّ يوم تُبلى السرائرُ "[18].

لا شك أن السر خلاف العلانية، وأن ذلك ما يخفى على الناس، وإنما يكون هذا أول ما يكون في المقاصد، والنيات، وما يضمره الإنسان من نفاق وإيمان، وما إلى ذلك، هذه كلها مما لا يطلع عليه الناس، ولكن تبدو لهم العلانية في الآخرة، ويظهر كل شيء، ويبدو، ولا يخفى، وتبتلى سرائر الناس، فيظهر ما كان خافيًا، ويلقى العبد جزاءه على ما كان عليه من حقيقة ينطوي عليها قلبه في الدنيا، وهذا يدعو إلى تصحيح النيات، وتصحيح المقاصد، فلربما إذا عمل الإنسان عملاً يفني فيه عمره ونيته فيه مدخولة، فيكون ذلك نقصًا، وشينًا، ويورثه ذلك أيضاً حسرة، وعذابًا؛ لأن الإنسان يحاسب ويعذب على هذه الأعمال، والمقاصد الفاسدة، كالرياء والسمعة، فهي من الشرك، فيحاسب عليها، ولا يخرج الإنسان كفافًا لا له ولا عليه، فينقضي عمر الإنسان، وتذهب جهوده وأعماله وسعيه وتعبه من جراء ما يتحدث عنه، ويبديه بطريقة أو بأخرى للناس، كصيام أو قيام أو اعتكاف أو قراءة أو طلب علم أو جهاد أو غير ذلك، فيكون ذلك نقصًا في حقه، فلا يكون كمالاً، ولا يكون كفافًا لا له ولا عليه، فمثل هذه الآيات تدعو إلى المحاسبة الشديدة للنفس؛ لئلا تضيع الأعمال، ثم تنقلب إلى حسرات وجرائم يحاسب عليها العبد، وهي في لبوس طاعات في الدنيا، والله المستعان.

وقوله -تبارك وتعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ، يقسم بالسماء الموصوفة بهذه الصفة.

يقول ابن كثير هنا: "قال ابن عباس: الرجع: المطر"، وهذا قال به كثيرون من أهل اللغة، وأصحاب المعاني، والمفسرين كالزجاج، وقال به الخليل بن أحمد أيضاً، وعزاه الواحدي إلى المفسرين جميعًا، مع أن هذا ليس محل اتفاق بين المفسرين، لكن قال به كثيرون، وهذا قول الجمهور، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ يعني: المطر، لماذا قيل له: الرجع؟ بعض العلماء يقولون: لأنه يرجع ثانية، يعني: يقولون: لكون المطر في أصله -وهو السحاب- يتبخر من البحار، ثم يرجع إلى الأرض ثانية، هذا ليس من الاكتشافات الجديدة التي عرفها الناس اليوم، هذا يعرفونه في الجاهلية، كما يقول أبو ذؤيب الهذلي:

شربنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعتْ متى لُجَجٍ خُضرٍ لهنّ نئيجُ

وهي: السحب الثقيلة المليئة بالماء، من أين شربن؟ شربن بماء البحر، هذا شاعر جاهلي.

فإذاً: المطر يسمى: رجعًا باعتبار أنه يرجع ثانية بعد أن كان مصدره من هذه الأبخرة بإذن الله ، أو أنه يرجع مرة بعد مرة، يعني: المطر يتكرر، وهذا هو الأشهر من أقوال أهل العلم، فقيل له: رجع من الرجوع، فهو ينزل مرة بعد مرة، ويتكرر نزوله.

وقال ابن كثير أيضا: وعنه: هو السحاب فيه المطر، وهذا ليس ببعيد، يعني: هذا قريب من الذي قبله، بأي اعتبار؟ باعتبار ما سبق: أنه يتكون من الأبخرة الصاعدة من البحر، ثم يرجع، أي: السحاب يتكون من البخار، ثم بعد ذلك ينزل المطر.

وقال: "وعنه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ: تمطر ثم تمطر"، يعني: هذا تفسير للتسمية، وهكذا علل بذلك بعض أصحاب معاني القرآن، مثل الزجاج: أن ذلك لتكرار المطر، ولرجوعه ثانية، وعبارة ابن جرير -رحمه الله- قريبة من هذا، باعتبار أن السماء ترجع بالغيوم، وأرزاق العباد كل عام، يعني: هذا بمعنى قول من قال: إن المطر يرجع مرة بعد مرة،وابن جرير يقول: هذا وصف للسماء: أنها ذات الرجع، أي: ترجع بالغيوم، وترجع بأرزاق العباد كل عام، ويلاحظ أن قول ابن جرير يشبه قول قتادة، وابن القيم -رحمه الله- له تعليق على هذا المعنى.

يقول -رحمه الله تعالى: "والتحقيق أن هذا على وجه التمثيل..."[19].

يقصد بالتمثيل: أنه حينما يقال: المطر مثلاً، والآخر يقول: السحاب.

يقول: "ورجْع السماء هو: إعطاء الخير الذي يكون من جهتهاحالاً بعد حال، على مرور الأزمان، ترجعه رجعاً أي: تعطيه مرة بعد مرة، والخير كله من قبل السماء يجيء، ولمّا كان أظهر الخير المشهود بالعيان المطر فُسر الرجع به، وحسن تفسيره به، ومقابلته بصدع الأرض عن النبات، وفسر الصدع بالنبات؛ لأنه يصدع الأرض أي: يشقها، فأقسم سبحانه بالسماء ذات المطر، والأرض ذات النبات، وكلٌّ من ذلك آية من آيات الله تعالى الدالة على ربوبيته"[20].

يعني: ابن القيم -رحمه الله- عمم المعنى في قوله: ذَاتِ الرَّجْعِ، فإن ما ينزل على العباد من الخيرات والبركات إنما هو من قِبل ما ينزله الله من السماء، ومن ذلك المطر، فيرى ابن القيم أن هذا من قبيل التفسير بالمثال، وأنه أحد الصور الداخلة تحت هذا المعنى الكبير.

وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات، وكذا قال سعيد بن جُبَير، وعكرمة، وأبو مالك، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد.

أيضاً هو اختيارابن جرير -رحمه الله، فهو: ما تتصدع عنه الأرض من الأشجار والنباتات والثمار، وهذا مقابل للرجع، فإذا نزل المطر انشقت الأرض بالنبات، وأصل الصدع هو: الشق؛ لأن الأرض تنشق عن مسمار النبات، فقيل لها ذلك، وبعضهم كمجاهد يقول: ذَاتِ الصَّدْعِ: ذات الطرق التي تشقها وتصدعها المياه، وبعضهم يقول: ذات الأموات؛ لانصداعها عنهم عند البعث، والمشهور هو الأول.

يقول ابن كثير -رحمه الله: "قال ابن عباس: انصداعها عن النبات"، وقد يعبر بذلك عن النبات نفسه، كأنه يقول: والأرض ذات النبات، أو عن الشق الذي يكون نتيجة لخروج النبات، وبينهما ملازمة، أي: والأرض ذات الشق الذي يخرج منه النبات.

هذا قسم أقسم الله به، بالسماء ذات الرجع، وبالأرض ذات الصدع، وعلى ماذا أقسم؟ على: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ هذا هو جواب القسم.

وقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ قال ابن عباس: حق، وكذا قال قتادة، وقال آخر: حكم عدل.

وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ أي: بل هو جِد حق.

قوله: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي: حق، وهكذا أيضاً: عدل، فهو يفصل بين الحق والباطل، وحق ثابت في نفسه، كل هذا من معناه، والله أعلم.

ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به ويصدون عن سبيله، فقال: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا أي: يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن.

قوله: يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن هذا معنى عام، أي: يكيدون لإبطال القرآن، ولتكذيبه، ولصد الناس عنه، يكيدون للإسلام، يكيدون للمسلمين، فهم يفعلون كل ما من شأنه إضعاف هذا الدين، وإضعاف أهله، فيمكرون بكل مستطاع.

قوله: يَكِيدُونَ كَيْدًا الكيد: يكون بكل ما يكون من المزاولات والأفعال التي يتوصل بها إلى إلحاق الأذى والضرر بطرق مختلفة متنوعة قد تخفى، قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا، فهؤلاء يمكرون، ويكيدون، ويخططون، ويتآمرون، ويفعلون كل ما استطاعوا من أجل القضاء على هذا الدين، أو من أجل إضعافه، أو من أجل الكيد بأتباعه، ويقابل هذا الكيد ليس كيد أهل الإيمان، ما قال: إنهم يكيدون كيدًا وتكيدون كيدًا، إنما قال: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا، فالذي يقابل كيد هؤلاء الكُبَّار كما قال الله : وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [سورة إبراهيم:46]، فهو مكر كبير، وقال: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [سورة نوح:22]، فهذا المكر نُكّر هنا، فهو مكر عظيم، ومكر الله أعظم، وأفعل التفضيل ليس على بابه.

فالمقصود: أن الذي يقابل مكر هؤلاء هو: مكر الله -تبارك وتعالى، وليس مكر أهل الإيمان، والذي يقابل كيدهم هو: كيد الله، فهل يعلم الكائدون لهذا الدين ولأهله أنهم إنما يقابلون ويواجهون كيد الله ومكره؟ وهل يطيقون هذا؟ لو حبس عنهم النفس فقط لصاروا كذر ألقيته على صاج محماة بلحظة، فهذا الذي يكيد لدين الله ولأوليائه إنما يضر نفسه، كما قال الله : وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة الأنعام:123]، فمكرهم في الواقع إنما هو بأنفسهم، والله كما قال: يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحج: 38]، فمن كان يدافع عنه ربه -تبارك وتعالى- فكيف يضره كيد العبيد؟

وأما حقيقة هذا الكيد وأثره فلا شيء، كما قال الله : يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [سورة التوبة:32]، فنور الله لا يمكن لمخلوق أن يطفئه، وبماذا؟ بفيه، وماذا عسى أن يفعل فوه؟ وما أثره حتى يطفئ نور الله؟ فلو أن هذه الأفواه للخلائق من أولهم إلى آخرهم وقفوا في صعيد واحد ينفخون على مخلوق وهو الشمس لمَا تحرك لها وهج، فضلاً عن أن تنطفئ، ما تحرك وهج، لو جلسوا ينفخون من أولهم إلى آخرهم حتى تنقطع أنفساهم ما يتحرك لها وهج فقط حركة، ولا يتأثر، ولا يصل إليها، ولا إلى قريب منها، وهذا مخلوق، فكيف بنور الله -تبارك وتعالى؟!

قال الله : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [سورة التوبة:33]، فهذا حُكمٌ حَكَم الله به لابدّ أن يتحقق، لكن المسكين كل المسكين هو من كان في الجهة المقابلة، من جند إبليس وحزبه، فهذا يجني على نفسه، ويسعى في هلكته -والله المستعان.

ثم قال تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أي: أنظرهم، ولا تستعجل لهم.

أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا أي: قليلا، أي: وسترى ماذا أُحِل بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان:24].

آخر تفسير سورة الطارق، ولله الحمد والمنة.

قوله: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا أي: أمهلهم قليلاً، يكفي هذا القدر، ومن أراد أن ينظر فيما يحتمله هذا اللفظ من وجوه الإعراب فيمكن أن يرجع إلى كلام ابن القيم -رحمه الله، أو إلى غيره.

والكيد صفة ثابتة لله ، ولا يشترط فيها ما يقوله بعض أهل العلم: إن ذلك لا يكون إلا بمقابل، يعني: مقابل كيد الكائدين أو الكافرين، بعض العلماء يقولون: الكيد لا يكون إلا مقابل كيد، يعني: يكيدون وأكيد، وهذا ليس بلازم، يعني هنا قال: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، فقابل كيدهم بكيده فقال: وَأَكِيدُ كَيْدًا، ولكن هذا ليس بشرط، قال الله : وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة القلم:45]، فما ذكر كيدهم، فتجدون بعض أهل العلم من أهل السنة إذا تكلموا عن مثل هذه الصفة قالوا: هذا لا يكون إلا بمقابل، وهذا ليس بلازم، فالكيد صفة ثابتة تكون كمالاً حيث كان هذا الكيد محمودًا، وهذا هو الذي يثبت لله منها، فالكيد صفة لا تكون من صفات المدح والكمال بإطلاق، وإنما قد تكون صفة كمال، وقد تكون صفة نقص، فيرجع إلى الله منها ما كان كمالاً.

يعني: الكيد بمن يستحق ذلك، فبعض أهل العلم كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يقول: لو أن مفسدًا يتعدى على دماء الناس، وعلى أموالهم، وعلى أعراضهم، ولا يسلم منه أحد، وتأذى الناس منه غاية الأذية، فجاء من توصل بطرق خفية حتى أوقعه في مغبة فعله، فإن هذا يكون محمودًا، فهذا الكيد الذي يكون محمودًا.

وانظر إلى قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة القلم:45]، فهذا يوضح لك المراد بالكيد، يعني: هذا الكيد يكون بأمور منها: الإملاء لهؤلاء، يعني: يعطيهم المال، ويعطيهم الصحة، ويطيل في أعمارهم؛ ليزدادوا إثمًا، فيأتي الواحد منهم إلى الله -تبارك وتعالى- وقد حمل الأحمال التي تكون زادًا له إلى النار، فهو حينما يرى العطاء متتابعًا، والعمر مديدًا يغتر بذلك، ويمعن في غيه، وما علم أنه بهذا مثل القط الذي يلحس مِسن الجزار، فهو يجد فيه بعض بغيته من بقايا اللحم، وبقايا الدم، ثم ما يلبث أن يتشقق لسانه فينزف على هذا المسن ويلعقه حتى يهلك، وهو يظن أن هذه هي البقايا التي كانت في المسن، فحال هؤلاء كهذا تمامًا، ويكون هذا العطاء مثل الطعم لهم، فيمعنوا ويرتعوا فيه المرعى الوخيم، حيث يستهويهم، ويستلذونه، وما علموا أنه السم الفتاك.

وهذا مثل الذي يقدِّم لشيء من المؤذيات طعامًا فيه السم مما تحبه هذه الهوام، أو الدواب، فتقبل عليه بشراهة، وهو حتفها، فهؤلاء كهذه الهوام، فهذا العطاء الذي يكون لهذه النفوس العليلة التي تريد أن تطفئ نور الله -تبارك وتعالى- هو مجرد كيد وإملاء لهم، قال الله : وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [سورة آل عمران:178]، قوله: لِيَزْدَادُوا اللام للتعليل.

وقد يستغرب الإنسان ويقول: هؤلاء يفعلون هذه الأفاعيل، ومع ذلك هم في عافية، أقول: هي عافية مؤقتة يعقبها ليل طويل بلا انقضاء، وحسرات ما تنتهي، فهذا هو الطعم الذي يلعقونه الآن، وهذا الطعم قد تكون مدته عشر سنوات، عشرين سنة، فهذه المدة -أي: مدة اللعق- بالنسبة إلى مدة الحياة المديدة الطويلة من أول ما خلق الله الدنيا إلى ما لا نهاية في الجنة أو النار، مدة اللعق هذه ولا شيء، فيقومون يوم القيامة ويُقسمون: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [سورة الروم:55]، فهذه المتع والعطاء لمثل هؤلاء هو إملاء وكيد لهم.

وأما ما يقوله بعضهم من أن ذلك من قبيل المشاكلة في اللفظ، فالواقع أن هذا غير صحيح، وأن المشاكلة نوع من أنواع المجاز، يعني يقول: عبّر بالكيد مشاكلة للعبارة الأخرى، وهي: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا [سورة الطارق:15]، فأضاف الكيد إليهم، فسمى ما أضاف إلى نفسه كيدًا، من باب المشاكلة اللفظية فقط، وهذا غير صحيح؛ لأن المشاكلة نوع من المجاز، يعني: أنه لا حقيقة لهذه الصفة بالنسبة لله ، والله لا يوصف بهذا، وإنما هي فقط تعبير لفظي لمشاكلة اللفظ الذي قبله، مثلما قال الشاعر:

قالوا اقترحْ شيئًا نُجدْ لك طبخَه قلتُ اطبخوا لي جُبّةً وقميصًا.

فالجبة والقميص لا يطبخان، لكن هم لمّا سألوه عن طعام يصنعونه له، وقالوا: اقترح شيئًا نجد لك طبخه، وهو بحاجة إلى لباس، ولم يكن بحاجة إلى طعام، قال: قلت: اطبخوا لي جبة وقميصًا، فهذه مشاكلة، فهذه الصفات التي يذكرها الله ليست كذلك -والله أعلم.

  1. الطرق الحكمية (ص: 184).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (314).
  3. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [سورة البقرة:97]، رقم: (4480)، واللفظ له، ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (311).
  4. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، رقم: (130)، ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (313).
  5. الطرق الحكمية (ص: 184).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (311).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (314).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (315).
  9. الطرق الحكمية (ص:184-185).
  10. المصدر السابق (ص:185).
  11. المصدر السابق.
  12. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [سورة البقرة:97]، رقم: (4480).
  13. الطرق الحكمية (ص:185).
  14. أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، رقم: (2645).
  15. الطرق الحكمية (ص:185، 186).
  16. أخرجه البخاري، كتاب الجزية، باب إثم الغادر للبر والفاجر، رقم: (3186)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، رقم: (1735).
  17. التبيان في أقسام القرآن (ص: 105).
  18. المصدر السابق (ص: 105، 106).
  19. المصدر السابق (ص:106).
  20. المصدر السابق (ص:106، 107).

مواد ذات صلة