بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمنوا وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة المائدة:68، 69].
يقول تعالى: قل يا محمد : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ أي: من الدين حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ أي: حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء وتعملوا بما فيها، ومما فيها الأمر باتباع محمد ﷺ والإيمان بمبعثه والاقتداء بشريعته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ [سورة المائدة:68] قال الحافظ هنا: "أي: حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء وتعملوا بما فيها، ومما فيها الأمر باتباع محمد ﷺ... " إلى آخره.
وقوله تعالى: حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ يعني العمل بها والتحاكم إليها.
وقوله: وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ يحتمل أن يكون المراد: ما أنزل إليهم مما أوحاه الله إلى أنبيائهم مما ليس في التوراة والإنجيل، ويحتمل معنىً آخر أي: سوى التوراة والإنجيل وهو القرآن، والفرق بين المعنيين ظاهر، وهذا الأخير هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- أي أن قوله: وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ المراد به القرآن؛ باعتبار أن النبي ﷺ مبعوث للأحمر والأسود، فبعثته ﷺ موجهة لأهل الكتاب ولغيرهم.
والمعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- يلزم منه هذا المعنى فإن مما أنزل إليهم من ربهم أن يؤمنوا بمحمد ﷺ وأن يتبعوه.
وقوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة المائدة:68] تقدم تفسيرُه.
فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة المائدة:68] أي فلا تحزن عليهم، ولا يَهيدنَّك ذلك منهم.
ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ آمنوا وهم المسلمون وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69] وهم حملة التوراة.
وَالصَّابِئُونَ [سورة المائدة:69] لما طال الفصل حسن العطف بالرفع، والصابئون طائفة من النصارى والمجوس ليس لهم دين، قاله مجاهد.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69] الذين آمنوا قال هنا: هم المسلمون، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- وهو الأقرب وهو المتبادر، وقيل غير ذلك فبعضهم حملها على المنافقين، يعني الذين آمنوا في الظاهر، وهذا بعيد.
قوله: وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69] يعني اليهود؛ لأنهم قالوا: هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] أي رجعنا إليك، والهَوْد بمعنى الرجوع، وقد سبق الكلام على هذا المعنى.
ثم قال: وَالصَّابِئُونَ الصابئون سبق بيان المراد بهم، وقال هنا: إنهم طائفة من النصارى، يعني فرقة من النصارى على التوحيد، وهذا الاسم يطلق على طوائف متعددة، فهو يطلق على طائفة من النصارى، ويطلق على قوم ليس لهم دين يعني ليسوا من اليهود ولا من النصارى ولا من المسلمين وإنما هم على أصل الفطرة لم يقعوا في الإشراك، ويطلق أيضًا على قوم من عبدة الكواكب الذين يتقربون إليها ويقدمون لها القرابين، وما أشبه ذلك، ويقال: إنهم هم الذين اجتاز بهم إبراهيم ﷺ حينما هاجر إلى الشام، وناظرهم المناظرة المعروفة لما رأى الكوكب وقال هذا ربي، والصابئة طائفة لا زالت موجودة إلى اليوم في العراق وهم قوم من المشركين.
وعلى كل حال فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الصابئين هنا لا يراد بهم عبدة الكواكب ولا يراد بهم طائفة من أهل الإشراك وإنما يمكن أن يحمل -والله تعالى أعلم- على أنهم قوم من أهل التوحيد، يعني من أهل الفطرة ممن ليسوا من اليهود ولا من النصارى؛ لأن الله وعدهم بهذا الوعد، ولو كانوا من المشركين لما حصل لهم ذلك؛ لأنه قال: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة المائدة:69] مع أنه لقائل أن يقول: إن الله ذكر هذه الطوائف ووعد من آمن منهم، وهذا التعقيب في الآية: مَنْ آمَنَ هو الذي جعل بعض المفسرين يقول: إن المراد بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ هم أهل النفاق، يعني المنتسبين للمسلمين وإلى الإسلام لكنهم كفار في الباطن، فإن صححوا إيمانهم وتابوا فهم موعودون بما ذُكر: فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة المائدة:69] والأقرب -والله تعالى أعلم- أنها في أهل الإيمان وليست في أهل النفاق.
وعلى كل حال هذه الآية مقيدة بخاتمتها مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا [سورة المائدة:69] ولا يصح إيمان أحد حتى يؤمن برسول الله ﷺ بعد أن بُعث، فهذه تصدق على هذه الطوائف فمن كان محققًا للإيمان قبل مبعث النبي ﷺ فهو موعود بهذا، وأما بعد مبعثه ﷺ فلا ينفعهم إيمانهم بل هم كفار إن لم يؤمنوا به -عليه الصلاة والسلام، وفي الحديث يقول –عليه الصلاة والسلام: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار[1].
ولهذا لا يجوز لأحد أن يأتي ويحتج بهذه الآية على تصحيح الأديان سوى دين الإسلام، ويقول: نحن لا نكفِّر هؤلاء اليهود ولا النصارى ولا غيرهم؛ لأن الله ذكرهم في سياق واحد مع المسلمين وقال: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ومن كان منهم يؤمن بالله واليوم الآخر فقد حصل المقصود، وهؤلاء يكونون من الناجين عند لله بل الصواب أن هؤلاء لا يكونون من الناجين وإنما هم من حطب جهنم، والنصوص في هذا كثيرة وواضحة، وقد تكلمتُ على هذه الآية في جملة الآيات التي يفهمها الناس على غير وجهها فالله المستعان.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ [سورة المائدة:69] المتبادر أن يقال: والصابئين؛ لأن هذه متعاطفات على اسم "إن" وهو منصوب لكنه قال: وَالصَّابِئُونَ فلماذا ارتفعت بين المنصوبات؟
يقول ابن كثير: "لما طال الفصل حسن العطف بالرفع" والقاعدة في هذا الباب أن العرب تقطع في صفة الواحد أو في الأوصاف المتعاطفة إذا استطالت في مقام المدح أو الذم بالرفع أحيانًا وبالنصب أحيانًا، وذلك أبلغ في المدح أو الذم؛ لدفع السآمة وتنشيط السامع وهذا من التفنن في الكلام، ويوجد له نظائر في كلام العرب وهو أسلوب معروف.
وتوجيه ذلك من جهة الإعراب تعددت فيه أقوال أهل العلم، فمنهم من قال هذا الذي ذكرته وهو راجع إلى كلام ابن كثير -رحمه الله، ومنهم من يقول: إن قوله: وَالصَّابِئُونَ مرفوع على الابتداء وليس اسم "إنَّ"، ومنهم من يقول: إن الكلام فيه تقديم وتأخير، وهذا الذي مال إليه سيبويه والخليل بن أحمد وقالوا: تقدير الكلام إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك، يعني أن الكلام فيه تقديم وتأخير، والقاعدة أن الكلام إذا دار بين التقديم والتأخير والترتيب فالترتيب أولى، ولذلك فالمعنى الأول الذي ذكرته أقرب -والله تعالى أعلم- وهو أوضح، وقيل غير ذلك في توجيهه وإعرابه.
وأما النصارى فمعروفون، وهم حملة الإنجيل، والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله واليوم الآخر، وهو الميعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملًا صالحًا، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين، فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا على ما تركوا وراء ظهورهم، ولا هم يحزنون، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة المائدة:70-71].
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه، ولهذا قال تعالى: كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:70-71] أي: وحسبوا أن لا يترتب لهم شرٌّ على ما صنعوا فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وصموا.
لاحظ كلام ابن كثير في قوله تعالى: وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:71] إذ يقول: "أي: وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وصموا" يعني ابن كثير حمله على أن ذلك من قبيل العقوبة التي وقعت لهم، لذلك تجد أنه لم يفسر الفتنة وكأنه يريد أن يقول: وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ أي عقوبة، فعاقبهم الله بأن عموا وصموا، وهذا معنىً تحتمله الآية.
وقد تفسر بما هو أحسن من هذا، وذلك بجعل قوله: فَعَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:71] أنه من نتيجة حسبانهم هذا لا على أنه عقوبة، وإنما على أن ذلك من قبيل أنه تفريط وقع لهم بسبب سوء حسبانهم وظنهم كما قال الله عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16] أي: أنهم لما استمرءوا هذه الأيمان ورأوا أنها تخلصهم من المواقف الصعبة وما يوجه إليهم من التهم نتج عن ذلك الصدود، أي أنهم قالوا: نستمر على هذه الحال وإذا سُئلنا عن شيء حلفنا فبقوا في صدود في أنفسهم وبقوا يصدون غيرهم عن سبيل الله بالتثبيط والتعويق، وإذا قيل لهم حلفوا أنهم ما فعلوا، فهذه نتيجة ليست من باب العقوبة وإنما من باب أنهم استمرءوا هذا، وهكذا هؤلاء حسبوا أن لا تكون فتنة فبسبب هذا الظن الفاسد وقع منهم هذا الإعراض الكامل.
والمراد بقوله: وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة المائدة:71] من أهل العلم من فسره بأن المراد أنهم حسبوا ألا يكون لهم ابتلاء، مع أن الله وعد بالابتلاء كما قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186] وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء [سورة البقرة:214] إلا أن هؤلاء -على هذا المعنى- حسبوا ألا تكون فتنة.
وأصل الفتنة الفتن من عرض المعدن أو الذهب على النار لتخليصه من شوائبه وتنقيته وتصفيته، فيقال للإحراق بالنار كما قال الله -على أحد المعنيين بل المعاني فيه متلازمة: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [سورة البروج:10] بمعنى أحرقوهم بالنار، وكذلك المعنى الآخر بفتنهم أي بصرفهم عن دينهم، فهم صرفوهم بالإحراق، فعلى كل حال الفتنة تقال لهذا وتقال للاختبار، وهو راجع إلى هذا المعنى؛ لأن الذهب إذا عرض على النار فإنه يختبر بذلك ويتبيّن الزائف من المنقود، فيكون هنا حسبوا ألا تكون لهم فتنة، أي أنهم حسبوا أن لا يكون لهم ابتلاء؛ لأنهم يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه لهم منزلة عنده فلا يوقِع بهم أمرًا مكروهًا، وهذا المعنى وإن كانت الآية تحتمله إلا أن غيره قد يكون أولى منه.
وقوله: أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة المائدة:71] فيه قراءة متواترة وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي، أَلاَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ) بضم النون على أنَّ "أنْ" مخففة من الثقيلة، وحَسِبَ: بمعنى علم، والمعنى أن هذا الاعتقاد الفاسد عندهم -أنهم أبناء الله وأحباؤه فلا يبتليهمَ- نزَّله منزلة العلم فعبر هنا بالحسبان، فيكون حسب بمعنى علم.
فالمقصود: أن هذه الآية وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ يمكن أن تفسر -والله تعالى أعلم- بأن هؤلاء ظنوا ألا يترتب على فعلهم عقوبة فنتج عن هذا الظن الفاسد أنهم استمرءوا السير في الباطل وبقوا على ضلالهم وإعراضهم فعموا وصموا، فيكون عموا وصموا ليس من قبيل العقوبة الناتجة عن حسبانهم بل هو تصرف منهم بنوه على هذا الظن الفاسد، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير -رحمه الله- وأظنه هو الأقرب في معنى الآية، والله أعلم.
قوله تعالى: فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:71] يعني عموا وصموا مرتين، ولم يبيّن هذا العمى والصمم في كل مرة، فمن أهل العلم من يقول: إن الأول فَعَمُواْ وَصَمُّواْ إشارة إلى تركهم العمل بالتوراة وقتلهم شعيبا -كما في الروايات الإسرائيلية- ثم تابوا فتاب الله عليهم، ثم حصل منهم عمىً وصمم وذلك بقتلهم يحيى -عليه الصلاة والسلام- ومحاولتهم قتل المسيح، وهذا الكلام كله لا دليل عليه.
ومن أهل العلم -مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- من فسر هذه الآية بآية الإسراء: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [4سورة الإسراء:] فهذا الإفساد مرتين يفسر به عموا وصموا الأولى وعموا وصموا الثانية.
وبعبارة أخرى يقول: إن الإفساد الأول الذي وقع منهم هو المراد بقوله: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ [سورة الإسراء:4، 5] أي سلط الله عليهم عبادًا -قيل: إنه بختنصر- ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [سورة الإسراء:5، 6] أي أن هذا لما تابوا من الإفساد الأول وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [سورة الإسراء:6] ثم قال: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا [سورة الإسراء:8] وهذا هو الإفساد الثاني، لكن هذا التفسير قد لا يخلو من إشكال وبُعد، والله تعالى أعلم.
ولذلك يحسُن أن يقال في تفسير الآية: إن الله ذكر منهم إفسادًا مرتين ولم يبيّن هذا الإفساد فيُترك على هذا الإجمال والإبهام ولا يُتعرض له بتحديد معين إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وليس عندنا دليل لا من الكتاب ولا من السنة نستطيع أن نجزم به بحيث نقول: الإفساد الأول هو كذا، والإفساد الثاني هو كذا، لكن حصل منهم غفلة وإعراض وعمىً وصمم ثم حصلت منهم توبة، ثم بعد ذلك حصل منهم عمىً وصمم، وما أكثر ما يقع منهم هذا فقد عبدوا العجل ثم تابوا، وقالوا لموسى ﷺ: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] ثم عفا الله عنهم، وكذلك قالوا لموسى: إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24]، وكذلك قالوا له: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف:138] فكل هذه الأمور وقعت منهم فقد يكون المراد بعض ذلك وقد يكون المراد غير ذلك، والعلم عند الله .
وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة المائدة:71] أي: مطَّلعٌ عليهم وعليمٌ بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة المائدة:72-75].
يقول تعالى حاكمًا بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنسطورية ممن قال منهم بأن المسيح هو الله -تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوًا كبيرًا.
قد سبق الكلام على هذه الطوائف وعلى اختلافهم في الأقانيم وتفسيرهم لذلك وعقيدة التثليث عندهم، وما المراد بالثلاثة، هل هو الله والمسيح ومريم أو أنه الله والمسيح وجبريل، فليراجع ذلك.
هذا وقد تقدم إليهم المسيح بأنه عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [سورة مريم:30] ولم يقل: أنا الله ولا ابن الله، بل قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [سورة مريم:30] إلى أن قال: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [سورة مريم:36]، وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمرًا لهم بعبادة ربه وربهم وحده لا شريك له، ولهذا قال تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ [سورة المائدة:72] أي فيعبد معه غيره فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [سورة المائدة:72] أي: فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [سورة النساء:48] وقال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الأعراف:50].
وفي الصحيح أن النبي ﷺ بعث مناديًا ينادي في الناس: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة[2] وفي لفظ: مؤمنة[3].
ولهذا قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [سورة المائدة:72] أي: وما له عند الله ناصرٌ ولا معينٌ ولا منقذ مما هو فيه.
وقوله: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ [سورة المائدة:73] إنها نزلت في النصارى خاصة قاله مجاهد وغير واحد.
وقال السدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمَّه إلهين مع الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، قال السدي: وهي كقوله تعالى في آخر السورة: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ الآية [سورة المائدة:116].
قال الله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ [سورة المائدة:73] أي: ليس متعددًا بل هو وحده لا شريك له إله جميع الكائنات وسائر الموجودات، ثم قال تعالى متوعدًا لهم ومتهددًا: وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ [سورة المائدة:73] أي: من هذا الافتراء والكذب لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة:73] أي: في الآخرة من الأغلال والنكال.
ثم قال: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:74] وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه.
وقوله تعالى: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [سورة المائدة:75] أي: له سوية أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام كما قال: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الزخرف:59].
وقوله: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [سورة المائدة:75] أي: مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها فدلَّ على أنها ليست بنبية.
قوله -تبارك وتعالى: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [سورة المائدة:74] هذه من أعظم الآيات ترجية في القرآن؛ لأن الله تلطف بهؤلاء الذين نسبوا إليه الصاحبة والولد وعبدوا معه غيره وجاءوا بما لم يأت به أحد قبلهم مما هو شنيع في القول، حتى قيل: إن عقيدة النصارى وصمة عار على البشرية، فهو قول يندى له الجبين إذ كيف يُنسب لله الولد، ويقال: إن الله -تبارك وتعالى- تمثل بالمسيح وحل اللاهوت بالناسوت، وأنه قد قتل ليكفِّر خطيئة ابن آدم وما أشبه ذلك، فهذا قول في غاية البشاعة، ومع ذلك يتلطف الله بهم فيقول: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [سورة المائدة:74] مع عظيم جرمهم.
وقوله -تبارك وتعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [سورة المائدة:75] الصدِّيق هو من كمُل صدقه وتصديقه، وفي الحديث: وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا[4] وممن كمُل تصديقهم: أبو بكر حيث كان إذا قال النبي ﷺ شيئًا، قال: صدق، فلُقِّب بالصدِّيق، فمن كان هذا حالهم فإنهم من أهل الكمال في الصدق والتصديق، فهم يبلغون هذه المرتبة بصدق الإيمان وصدق القول وصدق العمل وصدق الحال وهي من أعلى مراتب أهل الإيمان، كما قال الله : وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [سورة النساء:69] فعطفهم على النبيين ثم ذكر بعدهم الشهداء والصالحين فقال: وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69] وأم عيسى –عليهما السلام- صدِّيقة كما قال تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [سورة المائدة:75].
قوله: "واستدلوا بهذا على أنها ليست نبية فهذا أعلى مقاماتها" يشير الحافظ ابن كثير إلى أنها ليست نبية، وأن أعلى مقاماتها أنها بلغت مرتبة الصديقية ولم تبلغ مرتبة النبوة، هذا معنى كلام الحافظ، ولذلك فإن القول الذي لا ينبغي العدول عنه، هو أن الله تعالى لم يبعث امرأة نبيةً، قال الله : وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ [سورة الأنبياء:7] ومعلوم أن من ألفاظ العموم ما يختص بجماعة الذكور ولا يدخل فيه الإناث كلفظ "الرجال" ومنها ما يطلق على الذكور ويدخل فيه النساء بحكم التبع مثل "القوم" ومنها ما يشترك فيه الرجال والنساء مثل الاسم الموصول وأسماء الشرط "مَن" وما أشبه ذلك، ومنها ما يختص بجماعة النساء مثل "النساء" فالله لم يبعث امرأة نبيةً أبدًا.
يعني أنهما كانا يأكلان الطعام كغيرهم من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فعيسى -عليه الصلاة والسلام- كغيره من الأنبياء، كما قال الله : وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20] ومن هذا حاله لا يكون متصفًا بصفة الألوهية.
ثم قال تعالى: انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ [سورة المائدة:75] أي نوضحها ونظهرها.
ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة المائدة:75] أي: ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون، وبأي قول يتمسكون، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون؟
الأفك هو القلب، ويؤفكون أي: يصرفون عن الحق، فقوله: أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة المائدة:75] أي: كيف يصرفون عن الحق مع وضوح براهينه ودلائله؟
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134).
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب كيف الحشر (6163) (ج 5 / ص 2392) ومسلم في كتاب الإيمان - باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة (221) (ج 1 / ص 200).
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ (3092) (ج 5 / ص 276) والنسائي في كتاب مناسك الحج – باب قوله : خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31] (2958) (ج 5 / ص 234) وأحمد (594) (ج 1 / ص 79).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (2607) (ج 4 / ص 2012).