بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [سورة المائدة:96-99].
قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرهم في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ يعني ما يصطاد منها طريًا وَطَعَامُهُ ما يتزود منه مليحًا يابسًا.
وقال ابن عباس -ا- في الرواية المشهورة عنه: صيده ما أخذ منه حيًا وَطَعَامُهُ ما لفظه ميتًا.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ [سورة المائدة:96] البحر معروف ولا نحتاج أن نقول: إنه الماء الكثير المستبحر، ولكن نبهت على هذا؛ لأن كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- فسره في هذا الموضع بالأنهار، وهذا فيما أظن -والله أعلم- لا حاجة إليه لسببين:
السبب الأول: أن البحر إذا أطلق فأول ما يتبادر منه الماء الكثير المالح المعروف الذي يقال له البحر، ويُلحق به الأنهار وما يعيش في الماء بالنسبة لهذا الحكم في صيد البحر، يعني لو وجد شيء من البحيرات أو المستنقعات أو الآبار التي يوجد فيها أسماك فإنه يحل صيدها.
الأمر الثاني: أن الأنهار لا وجود لها في جزيرة العرب، والكلام عن الإحرام، فمن أين يحرم الإنسان، لا يحرم من بلاد فيها أنهار، فالحاصل أن البحر هنا هو البحر المعروف ويحلق به غيره مما يصطاد منه.
ونقل عن سعيد بن جبير -رحمه الله- أنه قال في صيد البحر: "ما يصطاد منه طريًا" وهذا القيد لا حاجة إليه أيضًا، فصيد البحر يبقى على ظاهره، وهو ما يصطاد منه أي من البحر.
وقوله: وَطَعَامُهُ قال هنا: "ما يتزود منه مليحًا يابسًا" يعني جعل صيد البحر هو الطري وجعل طعامه من المليح المجفف الذي يتزودونه معهم وينقلونه معهم مما ليس بطري، ويمكن أن يقال: في حكمه اليوم المبرد أو المثلج، لكن هذا غير مراد -والله تعالى أعلم؛ لأن هذا المليح -يعني المملوح أو المجفف أو المبرد أو نحو ذلك- في الواقع إن كان مما صيد فهو من جملة صيد البحر، ولهذا يقال: إن هذا التفسير فيه بعد، والعلم عند الله -تبارك وتعالى، وابن جرير -رحمه الله- أرجعه إلى ما ذكرت، أي أن هذا المليح إن كان مما صيد فهو من جملة صيد البحر.
وبعضهم قال: إن طعامه هو ما ينعقد فيه من الملح، وبعضهم يقول: طعامه هو ما يؤخذ منه من النباتات ونحوها، وهذا لا حاجة إليه، وإنما يقال: صيد البحر ما صيد منه فإنه حلال للمحرم، ومن باب أولى للمحل، وَطَعَامُهُ ما طفا أو ألقاه ميتًا فإنه يحل؛ لأن النبي ﷺ قال: أحلت لنا ميتتان ودمان[1].
وأما قوله -تبارك وتعالى: لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [سورة النحل:14] يعني: أنه يستخرج منه اللحم الطري وغير الطري لكنه ذكر أشرف النوعين وأحسن النوعين؛ لأن المقام مقام امتنان لا يذكر فيه إلا الأشرف.
وبعض أهل العلم يقول: هذا من الاكتفاء كقوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] يعني والبرد فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] أي وإن لم تنفع، فذكر أشرف القسمين، وهناك أمثلة معروفة في هذا، والله أعلم.
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاري - وأرضاهم- وعكرمة وأبي سلمة بن عبد الرحمن وإبراهيم النخعي والحسن البصري.
وقوله: مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [سورة المائدة:96] أي: منفعة وقوتًا لكم أيها المخاطبون.
وَلِلسَّيَّارَةِ وهم جمع سيَّار، قال عكرمة: لمن كان بحضرة البحر والسفر، وقال غيره: الطري منه لمن يصطاده من حاضرة البحر.
القول بأن طعامه أي ما لفظه ميتًا هو الذي عليه الجمهور، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- وهو القول الذي لا ينبغي العدول عنه.
قوله: مَتَاعًا لَّكُمْ [سورة المائدة:96] يعني أنه متاع لمن كان مقيمًا منكم فينتفع به غاية الانتفاع، وقوله: وَلِلسَّيَّارَةِ أي: وللمسافرين يحملونه معهم مليحًا مجففًا يأكلون منه في أسفارهم ويتنقلون به وما أشبه ذلك.
وقد روي نحوه عن ابن عباس -ا- ومجاهد والسدي وغيرهم.
وروى الإمام مالك بن أنس عن جابر بن عبد الله -ا- قال: بعث رسول الله ﷺ بعثًا قِبَل الساحل فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة وأنا فيهم، قال: فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فنِيَ الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر، قال: فكان يقوتنا كل يوم قليلًا قليلًا حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمـرة، فقلت: وما تغني التمرة؟، فقال: قد وجدنا فقدها حين فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظَّرِب.
قوله: "فإذا حوت مثل الظَّرِب" يعني حوت مثل الجبل الصغير.
فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ثم أمر براحلة فرحلت ومرت تحتهما فلم تصبهما، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين[2].
وروى مالك عن أبي هريرة قال: سأل رجل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله ﷺ: هو الطهور ماؤه الحل ميتته[3] وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل، وأهل السنن الأربع، وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وغيرهم، وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النبي ﷺ بنحوه.
وقوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [سورة المائدة:96] أي في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد، ففيه دلالة على تحريم ذلك.
قال: "يحرم عليكم الاصطياد" هذه اللفظة "صيد" في قوله: صَيْدُ الْبَحْرِ أو صَيْدُ الْبَرِّ [سورة المائدة:96] مصدر، والمصدر تارة يراد معناه المصدري، وتارة يراد معنى المفعول، فالمعنى المصدري لصيد البر أو صيد البحر يعني الاصطياد، مثل ما يقال في الكلام والكتابة وما أشبه ذلك فتقول مثلًا: هذا الذي أفعله كلام، أي تكلُّم، فهذا مصدر، وتقول: هذا كلام زيد، يعني ما تكلم به، هذا كلام الله تعني به القرآن، وتقول للأخ وهو يقرأ: هذه قراءة، ويقال للمقروء أيضًا قراءة، يقال: أكْل لعملية الأكل -بالمعنى المصدري- ويقال أكْل للمأكول، ويقال: شرْب لنفس عملية الشرب، ويقال: شرْب للمشروب.
وهكذا الصيد هل المراد به هنا المعنى المصدري، أي: حُرِّم عليكم الاصطياد بحيث إذا لم تصده أنت حلَّ لك، أو أن المراد بقوله: صَيْدُ الْبَرِّ [سورة المائدة:96] ما صيد في البر بحيث تكون الصيود محرمة على المحرمين سواء صادوها هم أو صادها غيرهم؟
خلاصة ذلك أن من أهل العلم من جعله بمعنى المفعول فقال: صَيْدُ الْبَرِّ [سورة المائدة:96] يعني جميع أنواع ما صيد منه –أي الصيود- بمعنى المفعول، فهي محرمَّة على المحرم سواء صادها أو صادها غيره له أو لم تصد له، ويحتجون بحديث الصعب بن جثامة لما أهدى للنبي ﷺ حمارًا وحشيًا، فرده النبي ﷺ عليه فلما رأى ما بوجهه من الكراهة بيّن له أنه إنما رده لكونه محرمًا فقال: إنا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم[4].
وكذلك جاء عن علي أنه كان يرى تحريم ذلك كما في القصة المعروفة حينما وضع بين يدي عثمان بن عفان حين استقبله أمير مكة في الطريق، وضع له لحم الصيد فعليٌّ امتنع من الأكل وأخبر أن هذا لا يحل، فالحاصل أنه مذهب معروف لبعض السلف وهو أنه لا يجوز أكل لحم الصيود سواء صيدت للمحرم أو لم تصد له، صادها أو صادها غيره.
ومنهم من يقول: إنما يحرم عليه ما صاده هو، فجعلوا الصيد بالمعنى المصدري، يعني يحرم عليهم الاصطياد فإذا حرم عليهم الاصطياد فإن ما نتج عنه فهو حرام، والأعدل في هذا -والله تعالى أعلم- أنه يفرق بين ما إذا صاده المحرم أو صيد له أو كان بإشارته أو إعانته، فهذا لا يجوز، وأما ما صاده المحل لنفسه أو صاده لغيره من المحلين فإنه يجوز للمحرم أن يأكل منه، ولذلك جاء عن النبي ﷺ في حديث أبي قتادة حينما صاد أيضًا حمارًا وحشيًا ثم سألوا عنه النبي ﷺ فسألهم: هل معكم منه شيء؟ [5]
فالحاصل أنه أباحه، فالجمع بينه وبين حديث الصعب أن الصعب بن جثامة صاده لهم، وأما حديث أبي قتادة فهو لم يصده لهم، ولهذا سألهم النبي ﷺ: عما إذا كانوا أعانوه على ذلك أو أشاروا إليه، أو نحو هذا، فأجابوا بالنفي.
وقد حمل ابن جرير -رحمه الله- هذه اللفظة صَيْدُ الْبَرِّ على ذلك جميعًا إلا ما صاده المحل لنفسه أو لمحل مثله فجعل صَيْدُ الْبَرِّ بالمعنى المصدري -هكذا ظاهر كلامه- أي أنه جعلها بمعنى المفعول، وهذا الذي عليه كثير من المحققين، والله تعالى أعلم.
على كل حال يحرم على المحرم صيد البر فلا يشتريه ولا يبيعه ولا يأكله ولا يقتله ولا غير ذلك سوى ما ذكرنا، والله تعالى أعلم.
أما كون أنه يصطاد أو يقتل الصيد وهو مخطئ فالأقرب أنه لا غرم عليه؛ لأن مفهوم المخالفة هنا معتبر من قتله منكم متعمدًا فمن قتله غير متعمد فلا جزاء.
وأما إذا صاد حلال صيدًا فأهداه إلى محرم فإن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد لم يجز للمحرم أكله لحديث الصعب بن جثامة أنه أهدى للنبي ﷺ حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء -أو بوَدّان- فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم[6] وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة.
قالوا: فوجهه أن النبي ﷺ ظن أن هذا إنما صاده من أجله فرده لذلك، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه؛ لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش وكان حلالًا لم يحرم، وكان أصحابه محرمين، فتوقفوا في أكله ثم سألوا رسول الله ﷺ فقال: هل كان منكم أحد أشار إليها أو أعان في قتلها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا وأكل منها رسول الله ﷺ وهذه القصة ثابتة أيضًا في الصحيحين بألفاظ كثيرة[7].
وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة المائدة:96] قد ذكر الحافظ ابن كثير هنا أربع آيات هي السادسة والتسعون والسابعة والتسعون والثامنة والتسعون والتاسعة والتسعون، ثم فسر أكثر الآية الأولى منها فقط إلى هذا الموضع، ولم يذكر تفسير آخرها ولا الثلاثة بعدها، وهذا هو الثابت في كل الأصول المخطوطة والمطبوعة، والظاهر أنه سها عن ذلك -رحمه الله- فمن البعيد جدًا أن يكون ذلك سهوًا من الناسخين يتفقون عليه في جميع النسخ على اختلاف مصادرها، فرأيت تكميل هذا النقص بإثبات تفسيرها من تفسير إمام المفسرين ابن جرير الطبري بشيء من الاختصار والتصرف والاقتصار على التفسير نفسه مراعيًا الدقة في المحافظة على العبارة العالية ما استطعت إن شاء الله وبه الاستعانة.
تكميل بقلم الشيخ أحمد شاكر:
هذا كتب هنا في الأصل: سقط من هذا الموضع تفسير الثلاث الآيات -السابعة والتسعين والثامنة والتسعين والتاسعة والتسعين- وتُرك لها بياض في النسخة المكية، وليس فيه هذا التكميل [الناشر].
وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة المائدة:96] يقول تعالى: واخشوا الله أيها الناس واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه وفيما نهاكم عنه في هذه الآيات التي أنزلها على نبيكم ﷺ من النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وعن إصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم فإن لله مصيركم ومرجعكم فيعاقبكم بمعصيتكم إياه ويجازيكم فيثيبكم على طاعتكم له.
جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ [سورة المائدة:97] يقول تعالى: صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قِوامًا للناس الذين لا قِوام لهم من رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم ومسيئهم عن محسنهم.
قيل للكعبة كعبة؛ لأنها مكعبة، وبعض أهل العلم يقول: لأنها ناتئة فكل ناتئ يقال له ذلك، ولهذا يقال: الكواعب جمع كاعب وهي الفتاة التي تكعب ثديها مع أن شكله ليس مكعبًا، وكذلك كعب الرِّجل سمي كذلك لنتوئه وبروزه.
قوله تعالى: قِيَامًا لِّلنَّاسِ يقول: "قوامًا للناس الذين لا قوام لهم من رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم ومسيئهم عن محسنهم وظالمهم عن مظلومهم" والمعنى جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ كل ذلك قيامًا للناس، وهذا القيام للناس يحصل بصور متعددة، ومن ذلك أنه يحجز بين القوي والضعيف؛ لأن العرب لم يكن لهم رئيس مطاع وكانوا يأنفون من ذلك غاية الأنفة، والشريعة التي عندهم بين هذه القبائل هي شريعة الغاب، القوي يأكل الضعيف، فالكعبة المراد بها الحرم فهذا يحرم عليهم التعدي فيه والظلم حتى إن الرجل كان في الجاهلية -على عتوهم وتمردهم فلا أمن ولا قوة تمنع هذا من هذا- كان يرى قاتل أبيه في الحرم ولا يحرك ساكنًا مع قوة دوافع الثأر عنده، وكذلك الأمر بالنسبة للشهر الحرام والهدي والقلائد.
فالحاصل أنهم في الأشهر الحرم كانوا يعظمونها ولا يتعدون فيها فيحصل لهم بذلك ألوان المصالح، فكانوا يتنقلون في هذه الأشهر الحرم ويسافرون فيها يقصدون البيت الحرام ويأمنون فيها على أنفسهم وتجارتهم وما أشبه ذلك، فكأنها بمثابة قوة تمنع القوي من التعدي على الضعيف، فتقوم نفوسهم وأمنهم وحياتهم ومعايشهم بهذا.
وكذلك الهدي والقلائد حيث كانوا يعلقون على هذا الهدي -وقد يكون كثيرًا يغري من رآه- يعلقون عليه القلائد أو يشعرون البدن فإذا رآها من رآها عرف أنها مقدمة مهداة للبيت الحرام فلا يقربها أحد، وربما أيضًاَ هم قلدوا على نفوسهم من لحاء شجر الحرم يطلبون بذلك الأمان فلا يتعرض لهم أحد، إضافة إلى ما يحصل لهم بسبب ما أقامه الله لهم من بيته الحرام من قيام الدين، فهو مظهر لقيام الدين يجتمعون فيه لعبادة الله ويحصل فيه أيضًا ألوان من المصالح الدنيوية من التجارة فيأتون من أنحاء مختلفة يجلبون معهم ما يجلبون من بضائعهم وسلعهم، وتقوم أسواقهم وتزدهر من البوادي ومن القرى، ولهذا قال الله : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة التوبة:28] لذلك فبسبب منع المشركين من دخول الحرم حُرموا مصدرًا كبيرًا في الاقتصاد فحصل بسبب ذلك كساد خافوا منه فوعدهم الله بإغنائهم من فضله.
فالمقصود أن البيت الحرام وما جعل أيضًا من الهدي ومن القلائد كل ذلك كان سببًا لقيام دينهم وقيام مصالحهم ومعايشهم، والله تعالى أعلم.
وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ [سورة المائدة:97] يقول: وجعل هذه أيضًا قيامًا للناس كما جعل في قوله تعالى: جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ [سورة المائدة:97] نحتاج هنا إلى تقدير والمقدر ينبغي أن يكون أليق بالسياق، فما هو الأليق هنا أن يقال: جعل الله نُصب الكعبة قيامًا للناس، أو جعل الله حرمة الكعبة قيامًا للناس وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ؟ [سورة المائدة:97].
عند التقدير ينبغي أن يُتخير الأليق والأنسب بالسياق، والأليق والأنسب بالسياق هنا حرمة الكعبة ليكون موافقًا لما بعده يعني جعل الله حرمة الكعبة وحرمة الشهر الحرام والهدي والقلائد قيامًا للناس.
فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض إذ لم يكن لهم قيام غيره، وجعلها معالم دينهم ومصالح أمورهم، وجعل تعالى الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قِوامًا -لمن كان يحرم ذلك من العرب ويعظمه- بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تُبَّاعه، وأما الكعبة فالحرم كله، وسماها الله حرامًا لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها أو يعضد شجرها وكذلك كانت الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قوام أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية وهي في الإسلام معالم حجهم ومناسكهم ومتوجههم لصلاتهم.
ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة المائدة:97] يقول تعالى: صيرت لكم أيها الناس ذلك قيامًا كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث مما به قوامكم علمًا منه بمنافعكم ومضاركم أنه كذلك يعلم جميع ما في السماوات والأرض مما فيه صلاح عاجلكم وآجلكم، ولتعلموا أنه بكل شيء عليم لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم وهو محصيها عليكم حتى يجازي المحسن منكم بإحسانه والمسيء منكم بإساءته.
اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:98] يقول تعالى: اعلموا أن ربكم الذي يعلم ما في السماوات والأرض ولا يخفى عليه شيء من سرائر أعمالكم وعلانيتها شديدٌ عقابه من عصاه وتمرد عليه وهو غفور لذنوب من أطاعه وأناب إليه، رحيم به أن يعاقبه على ما سلف من ذنوبه بعد إنابته وتوبته منها.
مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [سورة المائدة:99] وهذا من الله تهديد لعباده ووعيد، يقول: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم إلا أن يؤدي إليكم رسالتنا ثم علينا الثواب على الطاعة وعلينا العقاب على المعصية، وغير خفي علينا المطيع منكم القابل رسالتنا من العاصي الآبي رسالتنا؛ لأنا نعلم ما عمله العامل منكم فأظهره بجوارحه ونطق به بلسانه وما تخفونه في أنفسكم من إيمان وكفر أو يقين وشك ونفاق، فمن كان كذلك لا يخفى عليه شيء من ضمائر الصدور وظواهر أعمال النفوس مما في السماوات والأرض وبيده الثواب والعقاب فحقيق أن يُتقى وأن يطاع فلا يعصى.
قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ [سورة المائدة:100-102].
يقول تعالى لرسوله ﷺ: قل يا محمد لا يستوي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ أي: يا أيها الإنسان كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يعني أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار كما جاء في الحديث: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى[8].
قوله تعالى: لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [سورة المائدة:100] هنا قال: النافع والضار، وعلى كل حال فالآية تحمل على أعمِّ معانيها، فالله لم يحدد شيئًا، وبالتالي نقول: لا يستوي الخبيث والطيب من الذوات، فالمؤمن لا يستوي مع الكافر، والمطيع لا يستوي مع العاصي، وصاحب السنة لا يستوي مع المبتدع.
وكذلك أيضًاَ في المعاني والأعمال والمكاسب وما إلى ذلك لا يستوي الخبيث والطيب، ولا يستوي المال الخبيث والمال الطيب ولا يستوي الكلام السيئ مع الكلام الطيب، ولا يستوي العمل الصالح مع العمل السيئ، ولا يستوي الكفر مع الإيمان، والطاعة مع المعصية، وما أشبه هذا، هذا هو الذي يناسب ظاهر القرآن، والله تعالى أعلم، وظاهر كلام ابن جرير -رحمه الله- أنه حملها على أعم معانيها.
وكذلك الأمر في قوله تعالى -مع الفارق: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [سورة النــور:26] فبعضهم يقول: هذا في الذوات أي النساء الطيبات للطيبين من الرجال والعكس، وكذا الخبيثات من النساء للخبيثين، يعني الزواني لأمثالهم وما أشبه هذا، وبعضهم يقول: هذا في الأقوال، فالأقرب -والله أعلم- حمل ذلك على ما هو أعم، وهو الذي فسره به أيضًا ابن جرير -رحمه الله- هناك، أي الخبيثات من النساء والأقوال والأعمال والأوصاف للخبيثين من الناس فهي تناسبهم وتشاكلهم وهم المحل القابل لها، ثم إن الخبيثين والخبيثات تصدر منهم الأقوال والأفعال الخبيثة، والطيبات والطيبين تصدر منهم الكلمات الطيبة وتناسبهم الذوات الطيبة والأعمال الطيبة فهم أهل لذلك ومحل قابل له، والعلم عند الله .
فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة المائدة:100] أي: يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة، وتجنبوا الحرام ودعوه واقنعوا بالحلال واكتفوا به لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:100] أي في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101] هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشقَّ عليهم سماعها.
المراد بقوله تعالى: لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء [سورة المائدة:101] يحمل على معنيين: السؤال عن الأشياء الشرعية التي لا يسوغ السؤال عنها، والسؤال عن الأمور القدرية التي لو كشفت لهم لساءهم ذلك، وهذا الذي مشى عليه بعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- أي: لا تسألوا عن أشياء قدرية أو شرعية من شأن السؤال عنها أنه يسوءكم ما تسمعونه من الجواب.
ومثال السؤال عن الأشياء القدرية: سؤال عبد الله بن حذافة حين قال: من أبي؟ فإنه سأل عن شيء قدري، فلو أُخبر بغير أبيه الذي ينسب إليه لكانت فضيحة له ولأمه ولذريته، ولهذا لامته أمُّه على هذا السؤال، فالحاصل أن هذا سؤال عن أمر قدري، وكذلك لا ينبغي السؤال عن الأشياء الشرعية التي فيها تكلف؛ فهذا أمر مذموم، كالسؤال عن الأمور التي لا ينبني عليها عمل، ومثال ذلك أن يسأل سائل: هل أصل اللغات توقيفي أم ليس توقيفيًا؟ وهل الاسم هو المسمى أو ليس هو المسمى؟
ومن أمثلة ذلك السؤال عن مسائل لا تقع إلا نادرًا، وكذلك تتبع صعاب المسائل، فكل هذا مذموم، ومن ذلك الإكثار من الأسئلة، فمن الناس من إذا رأى عالمًا فكأنه لا يعرف عن الإسلام شيئًا، حيث تجدهم يأتون بالأسئلة المكررة المعادة المعروفة وكأن المهم عندهم أنهم يسألون، وهذا خطأ فلا يكون السؤال تفكهًا، ومن الأسئلة المذمومة السؤال عن الأمور التي أعرض عنها الشارع وسكت عنها بحيث يكون السؤال عنها سببًا لتحريم أشياء عُفي عنها، ومثال ذلك لما قال النبي ﷺ: قد فرض الله عليكم الحج فحجوا قام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ [9].
المقصود أن ما سكت عنه الشارع فهو عفو، ولهذا قال تعالى: عَفَا اللّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101] أي فما تركها من نسيان.
ومن الأمثلة الواضحة سؤال بني إسرائيل الذين قيل لهم: اذبحوا بقرة، فسألوا عن سنها، ثم سألوا عن لونها، ثم سألوا عن عملها، فوضع لهم من الأوصاف والقيود ما ضاق بسببه عليهم هذا الأمر غاية الضيق فما كادوا يجدون هذه البقرة، فمثل هذه الأسئلة مذمومة، وليس المقصود بذلك أن الإنسان لا يسأل عما هو بصدده مما يعنيه ويحتاج إليه، فهذا أمر مطلوب، والله يقول: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:43] وجبريل سأل النبي ﷺ السؤالات المعروفة والصحابة سألوه، لكن إنما يسأل الإنسان عما يعنيه وما هو بصدده مما لا يكون تكلفًا، فالسؤال وقت نزول الوحي عن أمور سكت عنها الشارع قد يكون سببًا لتحريمها أو لفرض أمور على الناس نتج هذا الفرض عن هذا السؤال، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث المخرج في الصحيحين: إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته[10].
وقوله تعالى: وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [سورة المائدة:101] فمعنى ذلك أنه وقت التنزيل وليس المقصود الوقت المقارن لنزول الآية، وإنما المقصود ذلك العصر فقد تنزل أحكام جديدة يضيق الأمر على الناس معها بسبب الأسئلة فأدبهم بهذا الأدب، أي أن يتلقوا عن الله ولا ينقروا ولا يتكلفوا ولا يبحثوا عما سكت عنه الشارع وعفا عنه.
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الأطعمة – باب الكبد والطحال (3314) (ج 2 / ص 1102) وأحمد (5723) (ج 2 / ص 97) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1118).
- أخرجه البخاري في كتاب الشركة - باب الشركة في الطعام والنهد والعروض (2351) (ج 2 / ص 879) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان – باب إباحة ميتات البحر (1935) (ج 3 / ص 1535).
- أخرجه أ[و داود في كتاب الطهارة – باب الوضوء بماء البحر (83) (ج 1 / ص 31) والترمذي في أبواب الطهارة - باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور (69) (ج 1 / ص 100) والنسائي في كتاب الطهارة – باب ماء البحر (59) (ج 1 / ص 50) وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها – باب الوضوء بماء البحر (386) (ج 1 / ص 136) وصححه الألباني في المشكاة برقم (479).
- أخرجه البخاري في أبواب الإحصار وجزاء الصيد - باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل(1729) (ج 2 / ص 649) ومسلم في كتاب الحج - باب تحريم الصيد للمحرم (1193) (ج 2 / ص 850).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير – باب اسم الفرس والحمار (2699) (ج 3 / ص 1048) ومسلم في كتاب الحج – باب تحريم الصيد للمحرم (1196) (ج 2 / ص 851).
- سبق تخريجه.
- أخرجه البخاري في أبواب الإحصار وجزاء الصيد - باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال (1728) (ج 2 / ص 648) ومسلم في كتاب الحج (1196) (ج 2 / ص 851).
- أخرجه أحمد (21769) (ج 5 / ص 197) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (947).
- أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب فرض الحج مرة في العمر (1337) (ج 2 / ص 975).
- أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه (6859) (ج 1 / ص 2658).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4345) (ج 4 / ص 1689) ومسلم في كتاب الفضائل - باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك (2359) (ج 4 / ص 1832).