بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- عند تفسير قوله تعالى:
وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [سورة الأنعام:27-30].
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ورأَوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ [سورة الأنعام:27] أي: إذ حبسوا، حيث يقال: وُقِف الرجل يعني حبس، ومنه قيل للوقف: وقف؛ لأنه تحبيس الأصل مع تسبيل المنفعة، وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا هو الفصيح في كلام العرب، لا أن يقال: أوقف الإنسان بمعنى حبس.
وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ [سورة الأنعام:27] بعضهم يقول: أي حبسوا في النار باعتبار أن "على" بمعنى "في" -فحروف الجر تتناوب كما هو معروف- وهذا الذي مشى عليه ابن جرير -رحمه الله- ويشبه هذا قول من قال: إن قوله إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ أي: أُدخِلوها، فهذا القول راجع إلى المعنى الذي قبله.
وبعضهم يفسر "على" بمعنى الباء، والمعنى: وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ [سورة الأنعام:27] أي: حبسوا قريبًا منها فرأوها يحطم بعضُها بعضًا، ورأوا بأم أعينهم ما فيها من الأهوال والأوجال، فقالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27].
وهذه الآية فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27] فيها ثلاثة أفعال هي: "نرد، ونكذب، ونكون"، وهذه الأفعال في الآية قرأها الجمهور من القراء ما عدا حفص وحمزة برفع الأفعال الثلاثة هكذا: (يا ليتنا نردُّ ولا نكذبُ بآيات ربنا ونكونُ من المؤمنين) [سورة الأنعام:27] وهذه القراءة على أنهم تمنوا تلك الأمور جميعًا، أي: تمنوا الرد وعدم التكذيب وتمنوا أن يكونوا من المؤمنين.
وقرأ حفص وحمزة -قراءتنا هذه: فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27] وعلى هذه القراءة يكون الذي تمنوه هو الرجوع إلى الدنيا، وانتصبت الأفعال التي بعد ذلك بـ"أن" مضمرة بعد الواو هكذا: "وأن لا نكذبَ وأن نكونَ من المؤمنين".
وهناك قراءة ثالثة على أن النصب يكون في الفعل الأخير فقط، هكذا (يا ليتنا نردُّ ولا نكذِّبُ بآيات ربنا ونكونَ من المؤمنين) باعتبار أن الأول والثاني داخلان في التمني، وأما الثالث فغير داخل فيه.
واختار بعضهم أن قولهم: وَلاَ نُكَذِّبَ -بالنصب- مقطوع غير داخل في التمني، والمعنى أنهم يثبتون على ترك التكذيب سواء رُدُّوا أو لم يُرَدوا كما تقول: لن أعود إلى هذا الأمر سواء قبلت عذري أو لم تقبل، فكذلك هؤلاء يقولون: يا ليتنا نردُّ ولا نكذِّبَ سواء حصلت لنا الرجعة أو لم تحصل.
فعند ذلك قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27] يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ليعملوا عملًا صالحًا ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين.
قال الله تعالى: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ [سورة الأنعام:28] أي: بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، كما قال قبله بيسير: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:23-24].
ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، كقوله مخبرًا عن موسى أنه قال لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ الآية [سورة الإسراء:102] وقوله تعالى مخبرًا عن فرعون وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14].
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر معنيين في قوله تعالى: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ [سورة الأنعام:28]:
المعنى الأول: أنه ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يخفونه من الكفر والتكذيب، وحمل إخفاءهم المقصود في الآية على أنه وقع منهم في الدنيا ويقع منهم في الآخرة أيضًا قبل هذا الظهور.
المعنى الثاني: أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، يعني مما عرفوه في الدنيا وجحدوه من صدق ما جاء به الرسول ﷺ وأنهم على باطل وليسوا على شيء في عبادتهم للأصنام.
والقول الأول عليه مأخذ وهو كيف يقال: إنهم أخفوا الكفر والتكذيب في الدنيا وهم قد جاهروا به وحاربوا الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- غاية المحاربة.
وأما القول بأنهم أخفوا ذلك في الآخرة فهذا ممكن باعتبار أن الآخرة على أطوار وأحوال؛ فهم في بداية الأمر عندما يرون الأهوال والعذاب الذي سيحل بهم يكذبون ويجحدون أنهم كانوا مشركين كما قال الله قبله: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23].
والمقصود أنه يمكن حمل إخفائهم الكفر والتكذيب على أنه في وقت من أوقات الآخرة، وأما حمل ذلك على أنه كان في الدنيا فليس سائغًا لما سبق.
وقال بعضهم: إن قوله تعالى: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ [سورة الأنعام:28] أي: من أعمالهم القبيحة كما قال الله : وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [سورة الزمر:47] وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- لكن كيف يقال: إنهم كانوا يخفون أعمالهم القبيحة وأعظم الأعمال القبيحة ذلك الكفر الذي كانوا يجاهرون به ويحاربون في سبيله؟
وقال بعضهم: المعنى بدا لهم ما كانوا يخفونه من جزاء الكفر الذي في الآخرة، أي أن في الآية مقدرًا محذوفًا هو جزاء، والمعنى بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون من قبل، ويرد هذا بأن الأصل عدم التقدير.
وأبعد الأقوال قول من قال: إن المعنى: بل بدا للأتباع ما كان يخفيه عنهم الرؤساء، أي: أن الرؤساء كانوا يعرفون صدق ما جاء به النبي ﷺ وكذب ما كانوا يدَّعونه من أنه سحر وكذب، فبدا للأتباع ما كان يخفيه الرؤساء، وهذا القول في غاية البعد؛ لأن فيه تفريقًا للضمائر من غير حاجة ولا قرينة ولا دليل.
والخلاصة أن المعنى الثاني هو الأقرب، أي أنهم عرفوا حقيقة ما جاء به النبي ﷺ وصدقه وأمانته وردوا ذلك وكذبوه واتهموه -عليه الصلاة والسلام- أو اتهموا الأنبياء عمومًا بأنهم سحرة ومجانين وكذبة على الله -تبارك وتعالى- فهم كما قال الله : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14] فيوم القيامة يعرفون أو يبدوا لهم هذا الأمر الذي كانوا يخفونه من قبل.
وهذا المعنى نصره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بقوة وردَّ على جميع المعاني السابقة وضعّفها، والله تعالى أعلم.
وأما معنى الإضراب في قوله: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ [سورة الأنعام:28] فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان بل خوفًا من العذاب الذي عاينوه جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار، ولهذا قال: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28] أي: في تمنيهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان.
ثم قال مخبرًا عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28] أي: في قولهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27].
يعني إنهم بقولهم هذا لم تتحول حالهم إلى صلاح ومحبة لله ومحبة للخير وما أشبه ذلك، وإنما أرادوا الخلاص -لمّا رأوا العذاب- بذكر مثل هذا الذي ظنوا أنه يخلصهم، فقالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا [سورة الأنعام:27].
وقد مثَّل الحافظ ابن القيم -رحمه الله- قولهم هذا بمثال يوضح المراد مما يوافق كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فقال: هذا مثله كإنسان كان يحب إنسانًا وهو يخفي هذه المحبة، ويعلم أنه لو اطُّلِع على ذلك منه لعوقب أشد العقوبة، يعني كرجل يحب امرأة ويحاول أن يخفي هذا على الناس؛ لأنه لو اطَّلَع وليُّها على هذا لعاقبه أشد العقوبة، فإذا أُخذ قال: دعني ولا أرجع إلى شيء من ذلك، فهو بهذا يريد الخلاص والنجاة من هذا الموقف وإلا فإن حبه لها مستقر في قلبه؛ إذ لو تُرك وحصلت له الفرصة فإنه باق على حاله الذي كان عليه؛ لأن ما قبله من حبها لم يتغير إلى بغض، وهكذا من كان يهوى شيئًا فأُخذ به فإنه قد يقول: دعني ولن أعود، ولكن لما كان هذا الأمر مستقرًا في نفسه متجذِّرًا فيها فإنه إذا تُرِك وحصلت له العافية رجع إلى حالته الأولى، ويكون إنما قال تلك المقولة في ذلك المقام ليعتق نفسه فقط، وكذلك هؤلاء الكفار قد تعمق الكفر في نفوسهم ولن يرجعوا عنه حتى لو رُدُّوا إلى الدنيا، ولهذا قال –تبارك وتعالى: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28].
"إن" في قوله تعالى: وَقَالُواْ إِنْ هِيَ بمعنى "ما" النافية، أي ما هي إلا حياتنا الدنيا، وهذه الآية تابعة لما قبلها فهي ليست جملة جديدة، والمعنى أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولقالوا ما كانوا يقولون من قبل: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، مع أنهم قد عاينوا حقائق الآخرة، وهذا غاية الكفر والإعراض والجحود والانغماس في هذا الوحل، وهذا من أعجب الأشياء -نسأل الله العافية- وإلا كيف يرى حقائق الآخرة أمام عينه وإذا رجع -لو رُدَّ- لقال: إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [سورة الأنعام:29].
هذا المعنى عليه عامة المفسرين بل لا تكاد تجد من يخالف فيه، وهو معنى يفسر كيف أن من أراد الله خذلانه فإنه لو رأى الآيات التي يؤمن بها الجماد ما آمن، والله المستعان.
إنك تستغرب يوم ترى بعضهم يشاهد آية من آيات الله منذرة بعذابه فيستهزئون بها بدلًا من اللجوء إلى الله –تبارك وتعالى- لكشف الضر والتوبة مما وقع منهم من الشرك ونحوه من الذنوب.
وقد حكى الله تعالى عن قوم هود كيف كان جوابهم وهم يرون عذاب الله نازلًا بهم فقال تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الأحقاف:21] إلى أن قال سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا فرد عليهم: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأحقاف:24-25].
ومن العجائب أن يقوم الناس بأداء صلاة الاستسقاء طلبًا لرحمة الله تعالى بإنزال الغيث فينزل المطر، فإذا بالصحفيين يكتبون في الصحف: هؤلاء درسوا الأحوال الجوية وعلموا أنه يوجد منخفض جوي فوقَّتوا للاستسقاء وضحكوا على الناس وقالوا: نزل المطر يوم استسقينا!!
والأعجب من ذلك أنه حدث زلزال في بعض البلاد بعد كسوف الشمس بأيام فيقول بعضهم: دخلنا المسجد وليس فيه أحد والناس في الساحات الضخمة حول المسجد حيث خرجوا في ليلهم شبه عراة، ثم أذَّن المؤذن –كأنه لصلاة الفجر- يقول: ولم يصلِّ إلا أنا وصاحبي والمؤذن والإمام، فالزلزال دمرهم تدميرًا وهم ممن ينتسبون إلى الإسلام ومع ذلك ما قالوا: هذه آية ينبغي أن تكون لنا عبرة فنرجع إلى الله، بل عوقب من خطب أو تكلم فقال: هذه عقوبة من الله؛ أي أنهم أنكر عليهم كيف يسمون ذلك عقوبة؟!
وهكذا لو فتشت عن يمينك وشمالك ومن حولك من البلاد التي أنزل الله عليهم بأسه في ليلة فإنك تجدهم رجعوا إلى أسوأ مما كانوا عليه بعد أن كنَّا نظن أنهم سيتوبون ويرجعون إلى الله مما جرى، فنسأل الله العافية.
إنك إذا رأيت هذه الآيات التي يرسلها الله على عباده من الفيضانات والتدمير ونحوها فإنك تقول: إن هؤلاء الذين نجوا قد رأوا الموت بأم أعينهم ونجاهم الله وأحياهم حياة جديدة وسيكونون من العباد الذين لا يخرجون من المساجد، لكن الواقع أنك تراهم أشد مما كانوا عليه من الضلال –إلا من رحم الله- ولذلك فإن أصحاب هذه النفوس والقلوب الميتة لو قيل لأحدهم: إنك ستموت غدًا لما كان عنده من مزيد خير وطاعة، فالله المستعان.
قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [سورة الأنعام:30] هو كقوله تعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ [سورة الأنعام:27] إذا قلنا: إنه بمعنى حبسوا على النار أو بقربها.
فقوله: وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أي: حُبسوا على حكمه وقضائه فيهم، فهم ينتظرون حكم الله فيهم لدخول النار، هذا معنى والآية تحتمله، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- وقال به جماعة من السلف.
الاستفهام في قوله: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ [سورة الأنعام:30] استفهام تقريع، فهو يقرعهم بهذا فيقول: أليس هذا بالحق الذي أنكرتموه وجحدتموه وكابرتم غاية المكابرة؟ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا [سورة الأنعام:30] لكن لا ينفعهم هذا الاعتراف في ذلك اليوم.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة الأنعام:31-32].
يقول تعالى مخبرًا عن خسارة من كذب بلقائه، وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة، وعن ندامته على ما فرط من العمل، وما أسلف من قبيح الفعل، ولهذا قال: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [سورة الأنعام:31].
قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ [سورة الأنعام:31] الخسارة تكون في البيع والشراء، وأعظم ما تكون الخسارة هي في خسارة الإنسان لحظِّه ونصيبه عند الله -تبارك وتعالى، هذا أعظم الخسار وهو أعظم الغبن، ولهذا سمى الله يوم القيامة بيوم التغابن لما يحصل فيه من الغبن العظيم؛ لأن الله قد أعطى كل إنسان رأس مال في هذه الحياة الدنيا وهي هذه الأنفاس، وهي متقضية لا محالة، فمن الناس من سعى وجدّ واجتهد وقضاها من أجل أن يحجز مقعدًا في النار، ومنهم من جدّ واجتهد واستغلها من أجل أن يشتري مقعدًا في الجنة، فإذا جاء يوم القيامة دخل هؤلاء الجنة ودخل هؤلاء النار التي و طَّئوها لأنفسهم وعملوا من أجل دخولها وقضوا فيها الأعمار، من أجل الوصول إليها -نسأل الله العافية- وعندئذ يتوارث أهل الجنة مقاعد ومنازل أهل النار من الجنة، وأهل النار يتوارثون منازل أهل الجنة التي في النار؛ لأنه كما في الحديث لكل إنسان مقعد في الجنة ومقعد في النار، فهذا في غاية الغبن؛ لأنها صفقة خاسرة بعد أن أنفق أموالًا وجهودًا وأوقاتًا وأعمالًا في هذه الحياة الدنيا، فهو قضى سبعين سنة أو أكثر أو أقل من أجل أن يشتري منزلًا في النار، ولذلك كان هذا اليوم يوم التغابن.
يقول تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ [سورة الأنعام:31] "قد" في الآية للتحقيق، ولهذا يقول: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27].
والمراد بلقاء الله في الآية هي القيامة.
قوله: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [سورة الأنعام:31] من أهل العلم من يقول: إن الساعة سميت بهذا الاسم لسرعة الحساب فيها، ومنهم من يقول: سميت بالساعة لسرعة قيامها، فهي تقوم لحظة كما ورد في الحديث: لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها[1] ولهذا قال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [سورة الحـج:1-2].
وقيل: إنها سميت ساعة؛ لأنها الساعة العظيمة فصار ذلك علمًاَ عليها.
يقول تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [سورة الأنعام:31] يعني نادوا: يا حسرتنا احضري، والحسرة هي الندم الشديد، فغاية الندم يقال له: حسرة.
ذكر –رحمه الله- بشأن الضمير في قوله تعالى عن الخاسرين: عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [سورة الأنعام:31] ثلاثة أقوال وجعلها احتمالات؛ لأن الآية تحتملها فقال: "وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة الدنيا وعلى الأعمال وعلى الدار الآخرة، أي في أمرها" فعلى عود الضمير إلى الحياة الدنيا يكون المعنى يا حسرتنا على ما ضيعنا في الحياة الدنيا حتى صرنا إلى هذه الحال، وعلى عوده إلى الأعمال يكون المعنى يا حسرتنا على ما فرطنا في الأعمال، وعلى عوده إلى الدار الآخرة يكون المعنى يا حسرتنا على ما فرطنا في الآخرة.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذا الخلاف هو من قبيل اختلاف التنوع فلا حاجة للترجيح بين هذه الأقوال؛ لأن التفريط وقع منهم في الدنيا، وكان هذا التفريط في حقيقته هو تضييع للعمل الصالح ومقارفة العمل السيئ، وهذا التفريط كائن وواقع في عمل الآخرة.
وقال بعضهم ككبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله: إن الضمير يعود إلى الصفقة، ويدل على ذلك أنه ذكر الخسارة قبلُ بقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ [سورة الأنعام:31] فهي صفقة حصل فيها خسارة، فيقولون: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها أي: في هذه الصفقة التي صارت خاسرة.
وهذا أيضًا تحتمله الآية فلا حاجة للترجيح أيضًا؛ لأن من فرط في العمل فرط في الحياة الدنيا وفرط في عمل الآخرة فصفقته خاسرة، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ يعني ألا ساء ما يحملون؛ فالأوزار جمع وِزر، وهو الحمل، فيقال للرجل إذا بسط ثوبه ووضع فيه المتاع: احمل وزرك، يعني حملك، ومنه الوزير؛ لأنه يتحمل أعباء المهام التي توكل إليه، والمقصود بالأوزار في الآية الأثقال التي يحملونها من الذنوب، ويشبه هذه الآية قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [سورة العنكبوت:13].
وقال أسباط عن السدي أنه قال: ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون منتن الريح، وعليه ثياب دنسه، حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال: ما أقبح وجهك؟ قال: كذلك كان عملك قبيحًا، قال: ما أنتن ريحك؟ قال: كذلك كان عملك منتنًا؟ قال: ما أدنس ثيابك؟ قال: فيقول: إن عملك كان دنسًا، قال له: من أنت؟ قال: عملك، قال: فيكون عمله في قبره فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات وأنت اليوم تحملني، قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [سورة الأنعام:31].
وقوله: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي: إنما غالبها كذلك وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة الأنعام:32].
هذا الأثر عن السدي لا يقال من جهة الرأي لكن له حكم المرسل، وقد ثبت عن النبي ﷺ ما يدل على هذه المعنى في أصله، أي أن عمل الإنسان يصور له إما بأحسن صورة أو بأسوأ صورة كما في حديث البراء الطويل[2].
يقول تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ [سورة الأنعام:32]: أقوى صيغة من صيغ الحصر هي النفي والاستثناء، فهنا جاء بأسلوب الحصر فقال: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ [سورة الأنعام:32] فهذا أبلغ تصوير لحقيقتها وما يتنافس عليه الناس فيها من الحطام والاستكثار من أحجار الذهب والفضة وكأنهم خلقوا لذلك حيث يتنافسون في البنيان ويتنافسون في الحطام وفي المراكب وما إلى ذلك، ثم لا يمر على ذلك وقت قريب إلا ويتقادم به العهد وتزهد به نفوسهم وتتطلب غيره، وهكذا يجرون خلفها حتى يصبّحهم الموت أو يمسِّيهم ثم بعد ذلك يعرفون أنهم قد ضيعوا الأيام في البحث عن أمور يستكثرون منها استكثارًا لم يأمرهم الله به.
في قوله تعالى: إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ [سورة الأنعام:32] من يقول بوجود الترادف يقول: اللهو واللعب بمعنى واحد، ومن يمنعون من الترادف حاولوا أن يوجدوا فرقًا بين اللهو وبين اللعب، وذكروا في هذا أشياء قد لا تخلو من مناقشة، وهذا من الأمثلة التي قد يصعب بيان وجه الفرق بين اللفظتين فيها، يعني إنه توجد أشياء تتشابه في الألفاظ وتتشابه معاينها أو تتقارب مما يقال عنها إنها مترادفات ويظهر وجه الفرق بينها مثل: أقبل وجاء، حيث تقول: أقبل أي بوجهه وجاء بمعنى حضر، وتقول: الإنسان والبشر، فالأول باعتبار طبيعته وما قيل في ذلك بأنه من الأنس أو نحو ذلك، والبشر باعتبار أن بشرته بادية ظاهرة وهكذا، لكن ما الفرق بين اللهو واللعب؟
الفرق بين اللهو واللعب:
بعضهم يقول: اللهو كل شيء شغلك وألهاك، ويرد على هذا اعتراض فيقال: ألهاه يلهيه لكن لها يلهو كأن المادة أخرى غير مادة ما ذكر.
وبعضهم يقول: اللهو أصله من الصرف عن الشيء، ولهذا قال من قال: اللهو هو صرف الهمّ بما لا يحسن أن يصرف الهم فيه، واللعب هو طلب الفرح بما لا يحسن طلبه فيه، باعتبار أن اللعب فيه شيء من الفرح، لكن يقال: هذا ليس بلازم؛ لأن اللهو قد يكون فيه فرح أيضًا.
ومنهم من يقول -كأبي هلال العسكري: إن اللهو أعم من اللعب باعتبار أن اللعب قد يكون حقًا، كملاعبة الرجل لأهله، وملاعبته لولده، وأما اللهو فإن أكثره باطل، ولهذا قال النبي ﷺ: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثًا، رمية عن قوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق[3] فهذا اللعب استثني من اللهو الباطل وإلا فهو من جملة اللهو، فاللهو يشمل اللعب سواء كان بحق أو بباطل، وهو أعم من اللعب، فهو قد يكون لعبًا وقد يكون بغير اللعب.
وبعضهم يقول: اللهو هو الاستمتاع بلذات الحياة الدنيا، واللعب هو العبث، وبعضهم يقول: اللهو هو الميل من الجد إلى الهزل، واللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع، وبعضهم يقول: اللهو هو الإعراض عن الحق واللعب هو الإقبال على الباطل.
وابن القيم -رحمه الله- فرَّق بينهما بفرق وهو أن اللهو يكون في القلب، تقول: قلبه في لهو، أو لاهٍ ساهٍ، واللعب يكون بالجوارح، ويكون متسببًا عن لهو القلب.
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة الأنعام:33-36].
يقول تعالى مسليًا لنبيه ﷺ في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ أي: قد أحطنا علمًا بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم، كقوله: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8] كما قال تعالى في الآية الأخرى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء:3] فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6].
يقول تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [سورة الأنعام:33] "قد" إذا دخلت على الفعل المضارع فإن الغالب أنها للتقليل، كما يقولون: قد يجود البخيل، وقد يكبو الجواد فهذا للتقليل.
وإذا دخلت في فعل يتعلق بالله كقوله تعالى هنا: قَدْ نَعْلَمُ وكقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ [سورة النــور:64] وكقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ [سورة الأحزاب:18] فليس المراد بها التقليل فهذا لا يمكن أبدًا؛ لأن علم الله متحقق ثابت، فعلمه أحاط بكل شيء، ولذلك يكون المعنى أن "قد" إذا دخلت على الفعل المضارع المنسوب إلى الله فهي للتحقيق دائمًا، فالقاعدة هي أنك إذا رأيت "قد" دخلت على فعل مضارع مضاف إلى الله فهي للتحقيق، فقوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [سورة الأنعام:33] أي: قد علمنا، وقوله: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ [سورة النــور:64] أي: قد علم، وقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ [سورة الأحزاب:18] أي: قد علم.
يقول تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [سورة الأنعام:33]: الحزن هو التأسف على أمر فائت، وأما الخوف فهو الاغتمام من أمر مستقبل، وهذا هو الفرق بين الحزن والخوف، وقد يستعمل الحزن بمعنى الخوف قليلًا.
يقول تعالى: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ هذه قراءة بالتشديد وهناك قراءة أخرى بالتخفيف (لا يُكْذِبُونَك) وهي متواترة أيضًا.
وعلى القراءة الأولى فسرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بقوله: "أي: لا يتهمونك بالكذب" أي: لا ينسبونك إلى الكذب، كما تقول: كذّبته إذا نسبته للكذب أو أخبرت بأنه جاء بالكذب أو إذا قلت له: كذَبت، فيكون بهذا مكذَّبًا وتكون قد كذّبته.
لكن على قراءة (لا يُكْذِبُونَك) هي كما تقول: أكذبتُه أي: وجدتُه كاذبًا، (لا يُكْذِبُونَك) أي: لا يجدونك كاذبًا، وبعضهم يقول: أكذبته أي أخبرت أنه كاذب، أو أن ما جاء به كذب، لكن المقصود أنهم يعرفون أنك صادق لا تكذب وهم لا ينسبونك إلى الكذب ولكنهم يجحدون هذا الذي جئت به لأمر في نفوسهم كما قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ [سورة النمل:14] كما جاء عن أبي جهل عند أصحاب السير أنه ذكر المنافسة بينهم وبين عبد مناف وقال: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا حتى إذا جثونا معهم على الركب وتساوينا -يعني في المكارم- قالوا: منا نبي، فمن أين نأتي بهذه؟ فو الله لا نؤمن به أبدًا، فهذا يبين أنهم لا يكذبونه –عليه الصلاة والسلام- بل يعرفون أنه صادق لكنهم يجحدون هذا مكابرة لغلبة أهوائهم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب خروج النار (6704) (ج 6 / ص 2605).
- أخرجه أحمد (18557) (ج 4 / ص 287) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح.
- أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد – باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله (1637) (ج 4 / ص 174) وأحمد (17375) (ج 4 / ص 148) وقال شعيب الأرنؤوط: حديث حسن بطرقه وشواهده.