بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [سورة الأنعام:46-49].
يقول الله تعالى لرسوله ﷺ قل لهؤلاء المكذبين المعاندين: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ أي: سلبكم إياها كما أعطاكموها، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ الآية [سورة الملك:23].
ويحتمل أن يكون هذا عبارة عن منع الانتفاع بهما الانتفاع الشرعي ولهذا قال: وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم [سورة الأنعام:46] كما قال: أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ [سورة يونس:31] وقال: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24].
وقوله: مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ [سورة الأنعام:46] أي: هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم إذا سلبه الله منكم؟ لا يقدر على ذلك أحد سواه، ولهذا قال: انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ أي: نبينها ونوضحها ونفسرها دالة على أنه لا إله إلا الله، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال.
ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ أي: ثم هم بعد هذا البيان يصدفون: أي يعرضون عن الحق ويصدون الناس عن اتِّباعه.
وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً [سورة الأنعام:47] أي: وأنتم لا تشعرون حتى بغتكم وفاجأكم أَوْ جَهْرَةً أي: ظاهراً عياناً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام:47] أي: إنما كان يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله وينجو الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الأنعام:48] كقوله: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ الآية [سورة الأنعام:82].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ [سورة الأنعام:46] يعني أخبروني.
وقوله: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً [سورة الأنعام:47] فسر البغتة هنا: أي وهم في غفلة لا يشعرون بذلك، أي: يأخذهم أخذاً مفاجئاً لهم، وقد فسره بعض السلف بأن المراد به أن يأخذهم ليلاً، وأن الجهرة أن يأخذهم نهاراً، لكن ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في المعنى هنا أشمل وأتم؛ وذلك أن البغتة هي أخذ الفجأة، يعني من غير مقدمات ومن غير أن تتهيأ نفوسهم لاستقبال العذاب.
والله -تبارك وتعالى- ذكر في القرآن كيف يأخذهم فقال: بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا [سورة يونس:50] فأخْذه بياتاً هو من أخذ الغفلة في الغالب؛ لأنهم في نوم لا يطالعون مقدمات العذاب وأسبابه، وقد يكون الأخذ بالنهار أيضاً بغتة؛ لأن الله ذكر ذلك أيضاً فقال: ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأعراف:98] أي: وهم في حال غفلتهم ينزل بهم العذاب مفاجئاً لهم.
والمقصود أن البغتة هي الأخذ بالعذاب من غير معرفة بمقدماته، فيكون مباغتاً لهم، وأما الجهرة فهي أن يأخذهم العذاب حينما تنعقد أسبابه ويشاهدون ذلك، والله تعالى أعلم.
وقوله: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [سورة الأنعام:48] أي: مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات، ولهذا قال: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ [سورة الأنعام:48] أي: فمن آمن قلبه بما جاءوا به وأصلح عمله باتباعه إياهم فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [سورة الأنعام:48] أي: بالنسبة لما يستقبلونه وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أي بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها، الله وليهم فيما خلفوه وحافظهم فيما تركوه.
ثم قال: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [سورة الأنعام:49] أي: ينالهم العذاب بما كفروا بما جاءت به الرسل وخرجوا عن أوامر الله وطاعته، وارتكبوا من مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته.
قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:50-54].
يقول الله تعالى لرسوله ﷺ: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ [سورة الأنعام:50] أي: لست أملكها ولا أتصرف فيها وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [سورة الأنعام:50] أي: ولا أقول لكم إني أعلم الغيب، إنما ذاك من علم الله ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أي: ولا أدعي أني ملك إنما أنا بشر من البشر يوحى إليَّ من الله شرفني بذلك وأنعم عليَّ به.
يقول تعالى: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [سورة الأنعام:50]: هذه الآية ردٌّ على المقترحين على الله الآيات، وذلك أن هؤلاء تارة يطلبون أن يحول لهم الصفا إلى ذهب، وتارة يطلبون ملكاً ينزل من السماء من أجل أن يكون معه نذيراً، وتارة يتعجبون من صفته كما قال تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [سورة الفرقان:7] إلى غير ذلك، فردَّ عليهم قائلاً: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [سورة الأنعام:50].
وقوله تعالى: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [سورة الأنعام:50] هذا أحد المواضع التي يتكلمون فيها على المفاضلة بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وبين الملائكة أو بين الملائكة وبين صالحي البشر، وهو مبحث لا طائل تحته، والاشتغال فيه لا يُجنى منه فائدة، وإنما هو اشتغال بما لا يعني، والاشتغال بما لا يعني مذموم، ثم إن هذه الآية لا تدل على هذا الأمر إطلاقاً؛ وإنما ذَكَرَت أن هؤلاء القوم أرادوا من النبي ﷺ أن يكون رسولاً ملائكياً وأن يتخلى عن صفات البشرية من الأكل والاكتساب وما أشبه ذلك، فقال لهم: كل ذلك لا يتأتى مني، فأنا لست بملَك ولست بعالم للغيب، وليست خزائن الله بيدي، والله تعالى أعلم.
قوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [سورة الأنعام:50] جاء بصيغة الحصر رداً عليهم، ولا تدل الآية على أن النبي ﷺ قد يقع منه اجتهاد أو لا يقع منه، فهذه الصيغة في الحصر تدل على أنه يتبع ما يوحى إليه في كل شيء، لكن قد جاءت أدلة أخرى تدل على أنه قد يجتهد في بعض الأمور -عليه الصلاة والسلام- ولكن الوحي يؤيده، فإذا وقع اجتهاده على وجه جاء الوحي يقومه أو يقرره، ولهذا يقال: إن كل ما جاء عن النبي ﷺ فهو حق؛ لأنه مؤيد بالوحي، وقد اجتهد النبي ﷺ في أسارى بدر فجاء الوحي وبيّن العمل الذي كان ينبغي أن يكون تجاه هؤلاء الأسارى، قال تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [سورة الأنفال:67].
فهذه الآية وإن كانت في أسلوب الحصر إلا أن مثل هذا يجمع مع غيره لا سيما أن هذه الآية في مقام الرد على المشركين الذين يطالبونه بأشياء من عند نفسه، فهو يقول: أنا أتبع ما يوحى إليَّ، كقوله تعالى: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] فهذه الآية لا تدل على أنه لم تحرم أشياء أخرى لكن هذا في مقام الرد على هؤلاء المفترين على الله الذين حرموا ما أحل الله وحللوا ما حرم الله، فهو ردَّ عليهم بهذه الطريقة، والله أعلم.
هذا الاستفهام في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي مضمن معنى النفي، أي: لا يستوي، والقاعدة أن نفي الاستواء في مثل هذا يحمل على أعم معانيه، أي لا يستوي في عمله وحاله، ولا يستوي في مآله وعاقبته فهذا إلى الجنة وهذا إلى النار.
أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ [سورة الأنعام:50] وهذه كقوله تعالى: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [سورة الرعد:19].
وقوله: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ [سورة الأنعام:51] أي: وأنذر بهذا القرآن يا محمد الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب.
الضمير في قوله تعالى: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ يعود إلى القرآن، وهذا اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وهو الظاهر المتبادر، وقد قال قبله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [سورة الأنعام:50] فأول ما يتبادر أن الذي يوحى إليه هو القرآن وإن كان يوحى إليه أيضاً غير القرآن، لكن وإن كان قوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [سورة الأنعام:50] أعم من القرآن فإن الضمير يمكن أن يرجع إلى غير مذكور قبله؛ لأن ذلك معلوم من السياق، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1] أي: القرآن، ومن ذلك قوله: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ [سورة فاطر:45] يعني الأرض.
وقوله -تبارك وتعالى- عن سليمان ﷺ: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [سورة ص:32] -على التفسير المشهور- أي الشمس غابت، مع أن الشمس لم تذكر قبل وإنما علم أنها مرادة من السياق.
وبعضهم يقول: وَأَنذِرْ بِهِ [سورة الأنعام:51] يعني وأنذر بالله وهذا فيه بعد وليس معهوداً بالقرآن.
وقول من قال: وَأَنذِرْ بِهِ [سورة الأنعام:51] يعني اليوم الآخر، وإن كان أقرب من الذي قبله -أي القول بأنه يعني الله -تبارك وتعالى- إلا أن الظاهر المتبادر أن الضمير يعود إلى القرآن، والله يقول: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [سورة الأنعام:19] فالنذارة تكون بالقرآن، والله أعلم.
يقول: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ [سورة الأنعام:51] والخوف يأتي بإزاء معنيين:
المعنى الأول: الخوف بمعنى العلم، كقول الشاعر:
وإذا ما مت فادفني تحت كرمة | تروي عظامي في الممات عروقها |
ولا تدفنني في الفلاة فإني | أخاف إذا ما مت ألا أذوقها |
فيقول: أخاف ألا أذوقها، وهو يعلم أنه إذا مات لن يشرب الخمر في قبره، فهو يريد أن يُزرع فوق قبره شجرة عنب أو أن يدفن تحت شجرة عنب من شدة حبه للخمر، والحاصل أن قوله: فإني أخاف بمعنى فإني أعلم.
المعنى الثاني: الخوف بمعنى الغم من أمر مستقبل، وهذا هو الاستعمال الشائع الأغلب، والآية هنا تحتمل المعنيين، فقوله: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ [سورة الأنعام:51] يمكن أن يفسر بمعنى العلم أي: يعلمون أنهم يحشرون إلى الله -تبارك وتعالى- فيدخل بهذا أهل الإيمان ويدخل فيه أيضاً من كان مؤمناً بالبعث كأهل الكتاب.
ويفسر الخوف بالمعنى الآخر –أي الخوف بمعناه الشائع الأغلب- فيكون على هذا شاملاً لمن كان من أهل الإيمان ولمن لم يؤمن بالنبي ﷺ لكنه يخاف أن يحشر إلى الله فتكون صفقته خاسرة، أي أنه قد لا يؤمن بالنبي ﷺ لكنه يغتم لتوقعه المكروه في الآخرة، فهو يريد أن يبحث عن مخرج يحصل به خلاصه إن حصل البعث، ومثل هؤلاء قد ينتفعون ويتأثرون بالقرآن، والآية تحتمل المعنيين كما سبق، والله أعلم.
سبق في (لعل) أنها يمكن أن تكون للترجي ويمكن أن تكون للتعليل، فعلى الأول يكون قوله: لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:51] أي على رجائك، وبهذا يكون روعي فيها حال المخاطب، وعلى أنها للتعليل يكون المعنى من أجل أن يتقوا الله أو يتقوا اليوم الآخر.
وقوله تعالى: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [سورة الأنعام:52] أي: لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك بل اجعلهم جلساءك وأخصَّاءك، كقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف:28].
وقوله: يَدْعُونَ رَبَّهُم [سورة الأنعام:52] أي: يعبدونه ويسألونه.
في قوله: يَدْعُونَ رَبَّهُم [سورة الأنعام:52] قال الحافظ: "أي يعبدونه ويسألونه" وهو بهذا جمع بين المعنيين؛ وذلك أن الدعاء نوعان: دعاء المسألة ودعاء العبادة، ولهذا قال بعض السلف: إن المراد بالدعاء في هذه الآية الصلاة مطلقاً، وبعضهم فسره ببعض الصلوات، أي التي تكون بالغداة والعشي، وبعضهم فسره بذكر الله أي أن قوله: يَدْعُونَ رَبَّهُم [سورة الأنعام:52] يعني يذكرونه في أول النهار وفي آخره، والصحيح أن كل ذلك داخل فيه أعني يدخل فيه دعاء المسألة ودعاء العبادة بصلاتهم وذكرهم وقراءتهم وسؤالهم وغير ذلك مما يتقربون به إلى الله -تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [سورة الأنعام:52] دليل على إخلاصهم لله تعالى في عبادتهم.
سبب نزول الآية:
سبب نزول هذه الآية هو ما أخرجه الإمام مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال: إنها نزلت في ستة نفر منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود - وأرضاهم- وذلك أن المشركين من الكبراء يطلبون من النبي ﷺ أن ينحي هؤلاء عنهم لئلا يجترئوا عليهم، بمعنى أن هؤلاء من الضعفة والفقراء وأولئك يأنفون من الجلوس معهم فكرهوا أن يجلسوا إلى النبي ﷺ ومعه هؤلاء خوفاً من أن يجترئوا عليهم فتسقط منزلتهم وهيبتهم في نفوسهم بالمجالسة، فوقع في نفس رسول الله ﷺ ما وقع وحدث نفسه بذلك، فأنزل الله: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهَُ [سورة الأنعام:52][1].
والنبي ﷺ حينما فكر في هذا أو همّ به كان مقصوده هو استصلاح هؤلاء القادة والسادة من كبراء المشركين فيسلم قومهم، فنهاه الله عن ذلك، كما قال تعالى في السورة الأخرى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [سورة عبس:1-6] أي: تتصدى لدعوته ومجالسته واستقباله، فالمقصود أن الله تعالى عاتبه بذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير وهو مخرّج أيضاً في ابن ماجه أن ذلك وقع بسبب أن بعض الكبراء من غير قريش كالأقرع بن حابس وعيينة بن حصن مروا بالنبي ﷺ وعنده بعض الضعفة مثل خباب وبلال وعمار وصهيب فطلبوا من النبي ﷺ أن يطرد هؤلاء من أجل أن يجلسوا معه ويسمعوا منه، وهذه الرواية صححها الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- وهي غريبة[2]؛ لأن هذه السورة مكية، ولهذا قال بعضهم: إن هذه الآية من الآيات المدنية.
والجواب عن هذا -إن صحت الرواية- أنه يمكن أن يقال: إن الآية قد تنزل أكثر من مرة، -كما ذكرنا في مناسبات شتى- ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126] فإنها نزلت في يوم أحد لما مُثِّل بحمزة، والروايات في هذا كثيرة جداً -وإن كانت لا تخلو من ضعف لكن تتقوى بمجموعها- ونزلت كذلك في عام الفتح لما قال سعد بن عبادة -وكان يحمل راية الخزرج: اليوم ذهبت قريش، فبلغ ذلك النبي ﷺ فأخذ الراية منه وأعطاها لابنه قيس، فنزلت الآية.
ومن الأمثلة أيضاً أن المشركين قالوا: صف لنا ربك فنزلت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1] وورد أن اليهود قالوا ذلك أيضاً فنزلت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1].
وكذلك قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [سورة الإسراء:85] ورد أنها نزلت بمكة بسبب سؤال المشركين، وورد أنها نزلت بعد سؤال اليهود في المدينة، وكل ذلك من الأسباب الصحيحة الصريحة، فالآية قد تنزل أكثر من مرة، ولذلك فهذه الآية قد تكون نزلت مرتين -ولا إشكال في هذا- بأن طلب رؤساء المشركين في مكة من النبي ﷺ أن يطرد عنهم هؤلاء الضعفة ووقع أيضاً من غيرهم كالأقرع بن حابس إلى آخره، وإنما نقول ذلك لتباعد الزمان وإلا لو كان متقارباً لقيل لعله حصل هذا وهذا فنزلت الآية بعده.
وأظن أن هذا الذي أشرت إليه آنفاً هو أحسن من الترجيح وأحسن من رد هذه الرواية بالكلية أو القول بأن السورة مكية وأن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن لم يسلما ولم يأتيا النبي ﷺ إلا في المدينة، والمقصود أن هذا الوجه من الجمع لا إشكال فيه.
ومن أوضح ما يدل على أن الآيات قد تنزل أكثر من مرة أن السور المكية التي فيها أوجه من الأحرف لا شك أنها نزلت مرة أخرى في المدينة وهذا أمر لا إشكال فيه إطلاقاً –أعني الأحرف الستة- وبهذا الاعتبار يمكن أن يقال: إن الآية نزلت مرتين، مرة بسبب قول المشركين ومرة بسبب قول اليهود.
وهذه الآية تشبه ما ذكره الله عن نوح ﷺ وما قال له قومه وما أجابهم به حيث طلبوا منه أن يطرد الضعفاء واتهموهم بأنهم ما يأتون إلا لحاجة من الدنيا، فنوح ﷺ قال لهم: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء:114] وقال: وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة هود:29] وهؤلاء كانوا يتهمون جلساء النبي ﷺ الضعفاء أنهم جاءوا من أجل طعام يأكلونه أو شيء من متاع الدنيا، ولهذا قال بعده: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:52] وهناك قال: إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي [سورة الشعراء:113] أي: أنا لست الذي أحاسبهم وإنما الله هو الذي يعلم نيات الخلق ويجازيهم على مقاصدهم وأعمالهم، فنحن ليس لنا إلا الظاهر وهو أن هؤلاء أناس دخلوا في الإيمان ولا يجوز إبعادهم من أجل السادة والكبراء.
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الأنعام:52] قال سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وقتادة: المراد به الصلاة المكتوبة، وهذا كقوله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60] أي: أتقبل منكم.
وقوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [سورة الأنعام:52] أي: يريدون بذلك العمل وجهَ الله الكريم، وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات.
وقوله: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:52] كقول نوح في جواب الذين قالوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [سورة الشعراء:111-113] أي: إنما حسابهم على الله وليس عليَّ من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء.
وقوله: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام:52] أي: إن فعلت هذا والحالة هذه.
وقوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:53] أي: ابتلينا واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض.
يقول: "وقوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:53] أي: ابتلينا واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض" يعني أن الله ابتلى الفقراء بالأغنياء وابتلى الأغنياء بالفقراء، وابتلى الضعفاء بالأقوياء والأقوياء بالضعفاء، فإذا رأى الأقوياءُ الضعفاءَ قد سبقوهم للإيمان استنكفوا واستكبروا وقالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11] والفقراء حينما يرون الأغنياء وما أعطاهم الله من الإمكانات والأموال وما أشبه ذلك قد يفتنون بهذا، فالله ابتلى الناس بعضهم ببعض كما قال في آخر سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [سورة الأنعام:165] ففاوت بين الخلق في الأرزاق والقدر والإمكانات من أجل أن يبتلي بعضهم ببعض، فهؤلاء يبتلون بهؤلاء وهؤلاء يبتلون بهؤلاء، فالغني يأتيه الفقير فيكون قد ابتلي به حيث ينظر الله كيف يرد عليه، والفقير قد ابتلي بالغني يراه يُنَعَّم وهو يتشحط في الفقر لا يجد شيئاً يأكله فينظر الله في صبره ورضاه عنه وثقته بما عنده، وهل يحسن ظنه بربه -تبارك وتعالى- أم لا، وكل هذا من الابتلاء الذي يبتلى به الخلق.
يقول تعالى: فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ [سورة الأنعام:53] وكأن اللام هذه لام العاقبة كقوله -تبارك وتعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [سورة القصص:8] وذلك أنهم ما أخذوه من أجل أن يكون لهم عدواً بل لو علموا بهذا لقتلوه من البداية لكن العاقبة هي التي كانت كذلك.
ومن أمثلة ذلك أن تقول لإنسان: تأخذ هذا معك أو تشتري هذا ليشغلك عما أنت بصدده، فهو ما أخذه ليشغله عما هو بصدده، لكنك تريد أن العاقبة ستكون هكذا.
ومن ذلك قولك: تصحب فلاناً ليقعدك عن معالي الأمور، فهو ما صحبه ليقعده، لكنك تريد أيضاً أن العاقبة ستكون هكذا.
ومن ذلك قوله تعالى: وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:76] فقولهم: لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:76] اللام للعاقبة بمعنى أن تلك المحاجة ستكون في العاقبة.
والخلاصة أن اللام في قوله تعالى: لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا [سورة الأنعام:53] إما أن تكون للعاقبة بمعنى أنهم يقولون ذلك في النهاية، وإما أن تكون للتعليل، والعلم عند الله .
وبهذا يحصل الابتلاء وإلا لو آمن الرؤساء والكبراء من أول الأمر لتبعهم مَن تحت أيديهم وتحت ولايتهم، أما وقد آمن الضعفاء وبقي الكبراء يخافون على رئاساتهم ومراتبهم ومكانتهم وما كانوا يتعاطونه من أخذ أموال الناس بالباطل وما أشبه ذلك فبهذا حصل الابتلاء، ولذلك كان أكثر أهل الجنة من الضعفاء، وأكثر أهل النار من الكبراء، والله المستعان.
والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا [سورة الأنعام:53] أي: ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير -لو كان ما صاروا إليه خيراً- ويدعنا، كقولهم: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11] وكقوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [سورة مريم:73] قال الله تعالى في جواب ذلك: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [سورة مريم:74] وقال في جوابهم حين قالوا: أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا [سورة الأنعام:53]: أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [سورة الأنعام:53] أي: أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [سورة العنكبوت:69].
وفي الحديث الصحيح: إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم[3].
وقوله: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:54] أي: فأكرمهم برد السلام عليهم وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم.
قوله تعالى: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:54] لا يختص بالضعفاء الذين طلب الكبراء طردهم وإنما هذا في عموم أهل الإيمان، يعني ليس المراد: وإذا جاءك هؤلاء الذين نهيتك عن طردهم فقل: سلام عليكم، وإنما ذلك في عموم المؤمنين؛ لأنه لو كان المراد أولئك الضعفاء الذين قال له عنهم: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الأنعام:52] لقال: وإذا جاءوك فقل سلام عليكم، ولكنه قال: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:54] يعنى أن ذلك في عموم أهل الإيمان.
على هذه القراءة -بفتح الهمزة- في قوله أَنَّهُ مَن عَمِلَ [سورة الأنعام:54] تكون هذه الجملة بدلاً من الرحمة هكذا: "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة..." الخ، وقراءة الفتح هي قراءة الثلاثة عاصم وابن عامر ونافع.
وعلى قراءة بقية السبعة -بكسر الهمزة- (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إنَّهُ مَن عَمِلَ) تكون جملة (إنَّهُ مَن عَمِلَ..) الخ جملة استئنافية لكنه استئناف بياني مبين للرحمة هكذا: "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة والمراد بهذه الرحمة إنه من عمل منكم سوءاً بجهالة..." الخ.
وفي قوله: أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54] يقول الحافظ –رحمه الله: "كل من عصى الله فهو جاهل" وهذا أحسن ما تفسر به -والله تعالى أعلم- وذلك أنه لا يصلح أن يكون المقصود به هنا انعدام العلم؛ لأن الجهل بهذا المعنى من أسباب عدم المؤاخذة؛ فالتكليف من شروطه العامة البلوغ والعقل وفهم الخطاب، وإن شئت فقل: العلم، وإن شئت فقل: بلوغ الحجة، فإذا كان الإنسان لم يعلم بذلك فهو غير مؤاخذ ما لم يكن مفرطاً.
وإذا أردنا أن نربط الجهل في الآية بالمعنى المعروف فإنه يأتي بمعنى التعدي كما قال القائل:
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
فقوله: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا أي: لا يتعدى أحد علينا، كما أن مجاوزة حدود الله تُعدُّ من الجهل أيضاً.
وإذا أردنا أن نربط الجهل بالمعنى الأول الذي هو ذهاب العلم فيقال: كل من عصى الله فهو جاهل؛ لأنه لو عرف عظمة الله -تبارك وتعالى- على الحقيقة ما اجترأ على معصيته، ولذلك كان كل من عصاه جاهلاً بهذا الاعتبار.
فقوله: أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54] أي: عصى الله ولو كان يعلم أنها معصية.
وقوله: ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ [سورة الأنعام:54] يقبل منه ذلك؛ لأن التوبة تجبّ ما كان قبلها، أما إذا فعل الإنسان الشيء وهو لا يعلم أنه محرم فهذا لا يحتاج إلى توبة؛ لأن وقوع ذلك منه لا يصيره عاصياً، لأن هناك فرقاً بين فعل المعصية وبين أن يكون الإنسان عاصياً بفعلها، ولذلك فإن في إنكار المنكر إذا شرب الطفل الخمر فإن الذي يُحاسب على ذلك هو وليه ولكن لا يترك الطفل يشربها بحجة أنه غير مكلف بل يؤخذ على يديه ويمنع منها؛ لأن المعصية يُطلب رفعها ودفعها وليس بالضرورة أن تكون تلك المعصية قد صدرت من عاصٍ أو مَن يُحكم عليه بالمعصية أو الفسوق، ومثال ذلك أن يأكل ويشرب في نهار رمضان ناسياً أنه صائم؛ فإنّ فعله هذا منكر لكن فاعله غير عاص، ومع ذلك فإن على من رآه يأكل ويشرب أن يذكره الصيام ولا يتركه بحجة أنه أطعمه الله وسقاه؛ لأن الأكل والشرب في نهار رمضان يعتبر منكراً.
ومن أمثلة ذلك أيضاً أنه لا يصح أن يترك الصبي يسبل ثيابه أو يلبس بنطلون جينز ويظهر في هيئة منكرة بحجة أنه طفل صغير بل يؤمر أن يلبس فوق الكعبين ويمنع من لبس الأشياء التي يتشبه فيها بأعداء الله ؛ لأن وجود هذه الأمور منكر يجب رفعه ولو كان الطفل لا يزال صغيراً، والمحاسب على هذا هو وليه، والله أعلم.
يقول: "أي: رجع عما كان عليه من المعاصي وأقلع وعزم على أن لا يعود" هذه قيود مهمة في التوبة الصادقة؛ وهي من علامات التوبة الصحيحة التي لا يكون فيها تردد.
قوله: "وأصلح العمل في المستقبل" أي أن عليه أن يصلح العمل بعد هذه التوبة، فإذا كان الذنب فيه إفساد متعدٍّ فإنه يصلح ما أفسده، بحيث إذا كان العمل بدعة نشرها أو مجوناً نشره أو ضلل الناس بأي طريق من طرق الشبهات أو الشهوات فعليه أن يصلح ما أفسده.
قوله: فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:54] على هذه القراءة –بالفتح- وهي قراءة ابن عامر وعاصم تكون أن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، ويمكن أن يقدر فيقال: فأمْره أن الله غفور رحيم.
وعلى قراءة الكسر (فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهي قراءة بقية السبعة تكون جملة استئنافية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي وقاص (2413) (ج 4 / ص 1878).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد - باب مجالسة الفقراء (4127) (ج 2 / ص 1382) والطبراني (3694) (ج 4 / ص 75) وابن أبي شيبة (ج 1 / ص 318).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب- باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (2564) (ج 4 / ص 1986).
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب ما جاء في قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27] (3022) (ج 3 / ص 1166) ومسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2751) (ج 4 / ص 2107).