الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
[8] من قول الله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} الآية 66 إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} الآية 73.
تاريخ النشر: ٠٩ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 3588
مرات الإستماع: 2310

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

روى البخاري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [سورة الأنعام:65] يَلْبِسَكُمْ يخلطكم من الالتباس، يُلْبَسوا: يُخلَطوا شيعاً فرقاً[1].

عن جابر بن عبد الله -ا- قال: لما نزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ [سورة الأنعام:65] قال رسول الله ﷺ: أعوذ بوجهك أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [سورة الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ قال رسول الله ﷺ: هذه أهون أو أيسر وهكذا رواه أيضاً في كتاب التوحيد ورواه النسائي أيضاً في التفسير[2].

حديث آخر:

روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه طويلاً ثم قال: سألت ربي ثلاثاً: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها انفرد بإخراجه مسلم فرواه في كتاب الفتن[3].

حديث آخر:

روى الإمام أحمد عن خباب بن الأرت مولى بني زهرة، وكان قد شهد بدراً مع رسول الله ﷺ أنه قال: وافيت رسول الله ﷺ في ليلة صلاها كلها حتى كان مع الفجر فسلم رسول الله ﷺ من صلاته فقلت: يا رسول الله، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها؟! فقال رسول الله ﷺ: أجل إنها صلاة رغب ورهب، سألت ربي فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يلبسنا شيعاً فمنعنيها ورواه النسائي وابن حبان في صحيحه والترمذي في الفتن وقال: حسن صحيح[4].

وقوله: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [سورة الأنعام:65] يعني يجعلكم ملتبسين شيعاً فرقاً متخالفين.

وقال الوالبي عن ابن عباس -ا: يعني الأهواء، وكذا قال مجاهد وغير واحد.

وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه ﷺ أنه قال: وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة[5].

وقوله تعالى: وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ [سورة الأنعام:65] قال ابن عباس -ا- وغير واحد: يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل.

وقوله تعالى: انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [سورة الأنعام:65] أي نبينها ونوضحها مرة ونفسرها.

لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ أي: يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه.

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ۝ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ۝ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:66-69].

يقول تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ أي: بالقرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

 تصريف الشيء يعني أن يؤتى به في صور شتى، وقال في قوله -تبارك وتعالى: انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [سورة الأنعام:65] ":] أي نبينها ونوضحها" أي أن الله -تبارك وتعالى- يبيّن لهم ما يحتاجون إليه تارة بذكر العبر والعظات بالقصص، وتارة بذكر أحوال الآخرة، وتارة بإبطال شبهات الكافرين، وتارة بضرب الأمثال وما إلى ذلك مما صرفه الله في هذا القرآن، وذلك كله من أجل حصول الفقه الذي هو بمعنى الفهم، وهو معرفة ما دق من العلم مما يحتاج إلى لطافة ذهن واستنباط.

يقول: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [سورة الأنعام:66] قال الحافظ: "يعني القرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان" وهذا هو الظاهر، والله تعالى أعلم.

ومن أهل العلم من قال: إن الضمير يعود إلى العذاب، أي: كذب قومك بالعذاب؛ وهذا مبني على أن الله قال في الآية التي قبل هذه: قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [سورة الأنعام:63] ثم قال: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ..َ [سورة الأنعام:65] ثم قال: وَكَذَّبَ بِهِ [سورة الأنعام:66] يعني بالمذكور قبله وهو العذاب، لكن لعل حمله على القرآن أقرب، والله تعالى أعلم.

قَوْمُكَ يعني قريشاً وَهُوَ الْحَقُّ [سورة الأنعام:66] أي: الذي ليس وراءه حق.

قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ [سورة الأنعام:66] أي: لست عليكم بوكيل ولست بموكل بكم، كقوله: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف:29] أي: إنما عليَّ البلاغ وعليكم السمع والطاعة، فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة، ومن خالفني فقد شقي في الدنيا والآخرة.

قوله تعالى: قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ [سورة الأنعام:66] قال بعض أهل العلم: إن هذه من جملة الآيات التي نسخت بآية السيف، وقالوا: إنه أمر بغير ذلك في آخر الأمر في الآية الخامسة من سورة براءة إذ قال: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [سورة التوبة:5] وقالوا: إن هذه الآية نسخت مائة وأربعة وعشرين آية، لكن الأقرب أن هذه لم تنسخ والله أعلم.

ولهذا قال: لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ [سورة الأنعام:67] قال ابن عباس -ا- وغير واحد: أي لكل نبإٍ حقيقة أي: لكل خبر وقوع ولو بعد حين كما قال: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [سورة ص:88] وقال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [سورة الرعد:38] وهذا تهديد ووعيد أكيد ولهذا قال بعده: وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:67].

النبأ في الأصل يطلق على الخبر الذي له شأن، وبعضهم يقول: إن النبي مأخوذ من هذا؛ لأنه منبأٌ من الله أو لأنه يأتي بالنبأ من الله، فكل خبر له خطب وشأن يقال له: نبأ، ولا يقال للخبر الحقير أو الذي لا شأن له: نبأ، فلا يقال: جاءنا نبأ حمار الحجَّام -كما يقال- وإنما يقال: جاءنا نبأ المعركة، أو جاءنا نبأ الجيوش، وما أشبه هذا.

وقوله تعالى: لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ [سورة الأنعام:67] قال ابن عباس –ا- وغيره: "أي لكل نبإٍ حقيقة أي: لكل خبر وقوع ولو بعد حين" والمعنى أن له قرار يستقر عنده ونهاية ينتهي إليها -كما يقول كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- والمعنى أن ل لكل نبإ مستقر يستقر إليه ويصير إليه فيتبيّن حقه صدقه من كذبه وباطله، ومن ذلك الأنباء التي جاء بها القرآن من الوعيد الذي قبل هذه الآية حيث إن الله -تبارك وتعالى- توعدهم بقوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [سورة الأنعام:65]. 

وقد وقع بعض ما توعدهم الله به مما أراد إيقاعه بهؤلاء المكذبين، كما حصل لهم في يوم بدر، وكما حصل لهم قبل ذلك في مكة من الجوع لما دعا عليهم النبي ﷺ وغير ذلك مما توعد الله به المكذبين وأراد إيقاعه بهم، وكذلك ما أخبر الله به من أمر فإنه واقع لا محالة في وقته المحدد فنبأ الآخرة هو من أعظم النبأ وقد أخبر الله عن وقوعها وعما يجري فيها من الأهوال والأوجال وما يحصل فيها من العذاب والنعيم، وكل ذلك سيكون له حقيقة واقعة في الوقت والحين الذي قضى الله أن يكون فيه، ولهذا قال: وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:67] أي: سترون ذلك وتعرفون حقِّيَّته، والله أعلم.

وقوله: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا [سورة الأنعام:68] أي: بالتكذيب والاستهزاء فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [سورة الأنعام:68] أي: حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من التكذيب.

يقول تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا [سورة الأنعام:68] بعضهم يقول: أصله من الخوض في الماء، يعني في المحسوس، ثم استعمل في المعاني للتخليط والدخول في غمرات الأشياء التي لا يحسنها الإنسان ولا ينبغي له أن يدخل فيها سواء كان ذلك من ألوان الأباطيل أو الشبهات أو الأمور التي هي من قبيل المجاهل.

فقوله: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا [سورة الأنعام:68] بمعنى يخلطون ويستهزئون بآياته ويكفرون بها، فالله نهى عن مجالسة الذين يستهزؤون بآياته ويكفرون بها كما قال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا [سورة النساء:140] فهذا معنى الخوض الذي في قوله: يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا [سورة الأنعام:68] يعني يستهزؤون ويكفرون ويدخل فيه كل لون من ألوان الاستهزاء والكفر والتكذيب، فلذلك قال: فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [سورة النساء:140].

وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ [سورة الأنعام:68] والمراد بذلك كل فرد من آحاد الأمة ألا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها فإن جلس أحد معهم ناسياً فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى [سورة الأنعام:68] بعد التذكر مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام:68] ولهذا ورد في الحديث: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه[6].

وهذه الآية هي المشار إليها في قوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ الآية [سورة النساء:140] أي: إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك فقد ساويتموهم فيما هم فيه.

وقوله: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:69] أي: إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد برؤوا من عهدتهم وتخلصوا من إثمهم.

يقول تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ قال ابن كثير: "أي: إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد برؤوا من عهدتهم وتخلصوا من إثمهم" كأنه يقول: وما على الذين يتقون الله من تبعة ووزر يحملونه من أوزار هؤلاء الخائضين إذا اتقوهم بالإعراض عنهم وعدم مجالستهم في هذا الخوض.

ومن أهل العلم من قال: إن المراد: وما على الذين يتقون مجالستهم عند الخوض، لكن ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- أحسن من هذا.

ومن أهل العلم من قال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أي: يتقون الخوض، يعني يجلسون معهم لكن لا يدخلون معهم في هذا الخوض ولا يرتضونه ولا يشاركونهم فيه، وهذا معنى بعيد؛ لأن الله نهى عن مجالسة هؤلاء الخائضين فقال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [سورة النساء:140] ومقتضى إنكار المنكر بالقلب أن نفارقهم، فالإنسان ينكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ولا يكون منكراً بقلبه وهو جالس مع المنكر كما قال تعالى: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [سورة النساء:140] فهو مشارك لهم بحضوره في مثل هذا المجلس.

والعجيب أن ابن جرير -رحمه الله- حمل قوله تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] على هذا المعنى الأخير، أي: يتقون الخوض معهم والمشاركة، بمعنى أنهم إذا حضروا فليس عليهم من وزرهم شيء، ثم قال ابن جرير: ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى لأمر الله لعلهم يتقون، أي: لو جلسوا معهم وتجنبوا هذا الخوض ما شاركوهم فيه، فليس عليهم من وزرهم شيء لكن ليفارقونهم لعل ذلك يحرك في نفوسهم شيئاً فيتركون ما هم فيه من الباطل والخوض، وهذا المعنى بعيد؛ فلا يجوز الجلوس مع الخائضين ومن جلس معهم فهو في حكمهم إلا أن يكون مكرهاً لا حيلة له، والله أعلم.

وبعضهم يقول: إن هذه الآية وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] منسوخة بالآية الأخرى وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [سورة النساء:140] وقالوا: هذا كان في أول الإسلام حيث كان المسلمون ضعفاء ويحتاجون إلى مجالسة الكفار فكانوا يشتركون معهم في المجالس بل ربما يكونون معهم في بيوتهم؛ لأنهم من قراباتهم وما أشبه ذلك فخفف الله عنهم وقال: أنتم لا تحملون من أوزارهم إذا لم تشاركونهم في هذا الخوض وقوموا عنهم ليتذكروا فقط وإلا فإن جلوسكم ليس فيه تبعة عليكم ما لم تشاركوا، قالوا: ثم نسخ هذا الحكم بقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [سورة النساء:140] لكن نقول: إن النسخ لا يثبت بالاحتمال والأصل عدم النسخ، وإذا أمكن توجيه الآيات والجمع بينها عمل بذلك، ولا معارضة بين الآيات هنا فلا يقال: إنها منسوخة.

وكأن الذي حمل ابن جرير -رحمه الله- ومن قال بقوله: إنها منسوخة أن الله تعالى قال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:69] فقالوا: إذا كانوا منهيون عن مجالستهم أصلاً فقد صار هذا معلوماً ولا يحتاج أن ينبه عليه فيقال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:69] لكن ما ذكره ابن كثير هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] أي: ولكن أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيراً لهم عما هم فيه لعلهم يتقون ذلك ولا يعودون إليه.

وبعضهم يقول: إن قوله: وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني لا يحملون تبعة حتى وإن قيل: إنه يرخص لهم بالمجالسة إذا جالسوهم لكن عليهم أن يذكروهم وأن يعظوهم أو ينهونهم عن ذلك لعلهم يتقون.

وبعضهم يقول: إن قوله: وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] يعني ولكن هذه ذكرى من أجل أن يتقوا ذلك.

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة الأنعام:70].

يقول تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أي: دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلاً فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم.

وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [سورة الأنعام:70] منسوخة بآية السيف التي تقول: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ [سورة التوبة:5] يعني لا تتركهم، لكن الأقرب أنها غير منسوخة، وذلك أن قوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [سورة الأنعام:70] فيها معنى الوعيد كالذي في قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [سورة المدثر:11] وقوله تعالى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8] وقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] وما أشبه ذلك من الآيات، والمعنى أي: فلا تغتم بسبب كفرهم.

وابن جرير –رحمه الله- لا يقول –فيما أعلم- بأن آية السيف نسخت مائة وأربعة وعشرين آية –كما قال بعض أهل العلم- لكنه يقول: إنها نسخت بعض المواضع ومنها هذه الآية: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [سورة الأنعام:70]، ويقول: إن هذه الآية معناها اتركهم وذكرهم وآية السيف أمر بمجاهدتهم.

ولهذا قال: وَذَكِّرْ بِهِ [سورة الأنعام:70] أي: ذكر الناس بهذا القرآن، حذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة.

الضمير في قوله: وَذَكِّرْ بِهِ يرجع إلى القرآن، وهذا هو المتبادر، وهو الذي تدل عليه الآيات الأخرى، إلا أن من أهل العلم من يقول: إن الضمير يرجع إلى الحساب.

وقوله تعالى: أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الأنعام:70] أي: لئلا تبسل.

يقول: أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الأنعام:70] أي: لئلا تبسل" أي: كراهة أن تبسل، فهذا فيه نفي معلوم من السياق.

قال الضحاك عن ابن عباس -ا- ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي: تُبْسَلَ تسلم، وقال الوالبي عن ابن عباس -ا: تُفتَضح، وقال قتادة: تحبس، وقال مرة وابن زيد: تؤاخذ، وقال الكلبي: تجزى، وكل هذه الأقوال والعبارات متقاربة في المعنى وحاصلها الإسلام للهلكة.

قوله: "وحاصلها الإسلام للهلكة" أي يسلمه للهلكة، يعني وذكِّر به لئلا تسلم تلك النفوس للهلكة بتفريطها وإضاعة حظها من الله وترك العمل الصالح؛ لأن الآخرة لا تصلح للمفاليس، ولهذا يقال فيمن سُلِّم أو رهن في دم: إنه أبسل، بمعنى أنه قدِّم لهلكة، بمعنى أنه إذا لم يؤتى بالجاني فإن هؤلاء سيقتلون الذي في أيديهم، وهكذا كانت العرب تقول: أبسل يعني سلِّم للهلاك.

وحاصلها الإسلام للهلكة، والحبس عن الخير والارتهان عن درك المطلوب.

يرتهن يعني يحبس، فالرهن بمعنى الحبس، وكل هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد، ولذلك من مزايا هذا التفسير -تفسير الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أنه يجمع بين المعاني بخلاف بعض التفاسير التي تشقق المعاني وتذكر خمسة معان أو ستة أو أكثر من غير طائل سوى تكثير للأقوال، فالقارئ الذي لا يميز يتحير، بينما هذا الاختلاف الذي أورده ابن كثير هو من اختلاف التنوع، فتبسل وترتهن وتحبس وتسلم كل ذلك يرجع إلى شيء واحد فهي ألفاظ متقاربة، ولذلك يقال: أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الأنعام:70] أي: أن تسلم لهلكتها وترتهن بجريرتها وتحبس بذنوبها وأعمالها السيئة.

والحبس عن الخير والارتهان عن درك المطلوب كقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۝ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [سورة المدثر:38-39]، وقوله: لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ [سورة الأنعام:70] وقوله: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70] أي: ولو بذلت كل مبذول ما قبل منها.

قوله: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70] يعني وإن تقدم كل فدية لا يقبل منها.

أي ولو بذلت كل مبذول ما قبل منها، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا الآية [سورة آل عمران:91] وكذا قال هاهنا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة الأنعام:70].

قوله: أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ أي: سلموا للهلاك، وقوله: لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ [سورة الأنعام:70] الحميم هو الحار الشديد الحرارة كقوله: وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [سورة محمد:15] وكقوله: شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة الأنعام:70].

قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۝ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سورة الأنعام:71-73].

قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فأنزل الله : قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا أي: في الكفر بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول: مثلكم إن كفرتم بعد إيمانكم كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد ﷺ ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام. [رواه ابن جرير].

قوله: قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ يعني أنرجع القهقرى وننكص إلى الكفر والشرك بالله بعدما عرفنا الإيمان والتوحيد وبطلان هذه المعبودات من دون الله -تبارك وتعالى؟ هذا لا يكون، وإنما هذا هو حال الإنسان المتذبذب الذي سمع داعي الله ودعته الشياطين إلى الكفر والإشراك فهذا حاله كحال ذلك الإنسان الذي صور الله حاله لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا [سورة الأنعام:71] والشياطين تدعوه إلى الكفر والشرك، فهو في حيرة لا يعرف كيف يتصرف.

وبالنسبة للكلام الذي نقله عن السدي، أعني قوله: "فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض" هذا أيضاً هو كلام ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة، ورواية علي بن أبي طلحة من جهة الثبوت والإسناد هي جيدة -إن شاء الله- فهي من أحسن الطرق المروية عن ابن عباس.

وقوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجدِّه.

في قوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ [سورة الأنعام:71] الكاف يمكن أن تكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره: أي نرد على أعقابنا رداً كالذي استهوته الشياطين. يمكن أن تكون أيضاً في محل نصب على الحال من فاعل نرد، أي: نرد حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين.

وقوله: اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ [سورة الأنعام:71] السين والتاء للطلب، وهوى: تأتي بمعنى أسرع إلى الشيء، وبعضهم يقول: هذا يرجع إلى كلمة الهوى التي هي هوى النفس بمعنى زين له الشيطان هواه.

وفي هذه الآية قراءة لحمزة: (كالذي استهواه) وفي قراءات غير متواترة من قراءات الصحابة كقراءة ابن مسعود وأبي بن كعب وهي قراءة الحسن البصري أيضاً: (كالذي استهواه الشيطان).

وقوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجدِّه فيتبعها وهو يرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في هلكة وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشاً، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله [رواه ابن جرير].

ولهذا قال: قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ [سورة الأنعام:71] كما قال: وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ [سورة الزمر:37] وقال: إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة النحل:37].

قوله: "هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجدِّه فيتبعها وهو يرى أنه في شيء" هذا من كلام ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة، والمعنى أن هذا تمثيل وتصوير لحال الإنسان الذي وصف الله حاله بأنه لما لم يستقر على الإيمان ويقبل على طاعة الله وتوحيده وعبادته فهو كإنسان يمشي في البرية فتغولت الغيلان له لتضله عن الطريق كما قال ابن عباس، وقد كانت العرب تعتقد أن الغيلان تضل الناس في أسفارهم.

والمقصود بالغيلان جمع غول وهم الجن والشياطين حيث يتشكلون ويتصورون بصور شتى ويضلون المسافرين وذلك بأن يدعون الشخص باسمه أو يظهرون له بصورة إنسان يرشده إلى طريق آخر أو نحو ذلك.

وجاء في الغيلان آثار وأحاديث منها ما هو ضعيف ومنها ما هو صحيح، وفي حديث العدوى يقول –عليه الصلاة والسلام: ولا غول[7] فبعض أهل العلم يقولون: هذا نفي للغول وبيان أنه لا أصل ولا حقيقة له وإنما هو من خيال الناس ومن دعاواهم، وهي من مختلقات العرب كاختلاقهم العنقاء كما في المراقي:

وما سواه مثل عنقا مُغرب في كل قطر من نواحي المغرب

يعني أن العنقاء تذكر ولا وجود لها وكذلك غير مذهب الإمام مالك في أقطار المغرب يُذكر ولا وجود له.

وبعضهم يقول: إن قول النبي ﷺ: ولا غول ليس نفياً لها، وإنما هي كقوله في نفس الحديث: لا عدوى[8] فهذا ليس نفياً لأصل العدوى وإنما هو نفي لما كانوا يعتقدونه من تشكلها وتصورها بصور مختلفة.

وصح عن النبي ﷺ أنه قال: إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان[9] والمقصود أنه توجد بعض الآثار الصحيحة وتوجد فيها أشياء لا تصح، وهنا يقول ابن عباس -ا: إن هذا المثل الذي في قوله تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ [سورة الأنعام:71] مثل الله تعالى حال هذا الشخص بحال إنسان مسافر فتغولت الغيلان وجعلت تضله عن الطريق ليصل إلى مكان لا يستطيع الخروج منه فيتلف ويهلك وينقطع في سفره، وربما قتلته أو أكلته أو غير ذلك، هكذا قال ابن عباس.

ويمكن أن يقال كما قال كثير من المفسرين: إن قوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ [سورة الأنعام:71] أي: في باب الضلال، بمعنى أنرجع بعد هدانا الله فنكون في حال نشبه فيها حال أولئك الذين هذه صفتهم في الحيرة حيث وجد من يدعوهم إلى الهدى ووجد من يدعوهم إلى الضلال من الشياطين فبقوا متحيرين لا يدرون كيف يتصرفون؟

هذه حال بائسة لا نكون عليها، وإنما نبقى على الحق الذي عرفناه ونلزمه ولا نبقى متحيرين بسبب هذه الشبهات والضلالات ودعاء الكافرين لنا بموافقتهم والرجوع إلى ديننا الذي كنا عليه من الإشراك بالله وعبادة الأوثان، والله المستعان.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. صحيح البخاري (ج 4 / ص 1693).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة الأنعام (4352) (ج 4 / ص 1694) وفي كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص:88] (6971) (ج 6 / ص 2694) وأخرجه النسائي في السنن الكبرى – كتاب التفسير – باب تفسير سورة الأنعام (11164) (ج 6 / ص 340).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (2890) (ج 4 / ص 2216).
  4. أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار - باب إحياء الليل (1638) (ج 3 / ص 216) وأحمد (21091) (ج 5 / ص 108) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
  5. أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن - باب افتراق الأمم (3993) (ج 2 / ص 1322) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2042).
  6. أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق - باب طلاق المكره والناسي (2043) (ج 1 / ص 659) وصححه الألباني في مختصر الإرواء برقم (2566).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الطب- باب الجذام (5380) (ج 5 / ص 2158) ومسلم في كتاب السلام - باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح (2220) (ج 4 / ص 1742).
  8. الحديث السابق نفه الذي أخرجه البخاري في كتاب الطب- باب الجذام (5380) (ج 5 / ص 2158) ومسلم في كتاب السلام - باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح (2220) (ج 4 / ص 1742).
  9. أخرجه النسائي في السنن الكبرى – كتاب عمل اليوم والليلة - الأمر بالأذان إذا تغولت الغيلان (10791) (ج 6 / ص 236) وأحمد (14316) (ج 3 / ص 305) وقال حسين سليم أسد: رجاله رجال الصحيح.

مواد ذات صلة