الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(11- ا) الباب الحادي عشر والثاني عشر فضائل القرآن
تاريخ النشر: ٢٩ / ذو الحجة / ١٤٣٥
التحميل: 1500
مرات الإستماع: 1420

"الباب الحادي عشر: في إعجاز القرآن، وإقامة الدَّليل على أنَّه من عند الله ، ويدلّ على ذاك عشرةُ أوجه:

الأوّل: فصاحته التي امتاز بها عن كلام المخلوقين.

الثاني: نظمه العجيب، وأسلوبه الغريب من قواطع آياته، وفواصل كلماته.

الثالث: عجز المخلوقين في زمان نزوله وبعد ذلك إلى الآن عن الإتيان بمثله.

الرابع: ما أخبر فيه من أخبار الأمم السَّالفة، والقرون الماضية، ولم يكن النبي ﷺ تعلم ذلك، ولا قرأه في كتابٍ.

الخامس: ما أخبر فيه من الغيوب المستقبلة، فوقعت على حسب ما قال.

السادس: ما فيه من التَّعريف بالباري ، وذكر صفاته، وأسمائه، وما يجوز عليه، وما يستحيل عليه، ودعوة الخلق إلى عبادته، وتوحيده، وإقامة البراهين القاطعة، والحجج الواضحة، والردّ على أصناف الكفَّار.

وذلك كلّه يُعلم بالضَّرورة أنَّه لا يصل إليه بشرٌ من تلقاء نفسه، بل بوحيٍ من العليم الخبير، ولا يشكّ عاقلٌ في صدق مَن عرف الله تلك المعرفة، وعظم جلاله ذلك التَّعظيم، ودعا عبادَ الله إلى صراطه المستقيم.

السابع: ما شرع فيه من الأحكام، وبيّن من الحلال والحرام، وهدى إليه من مصالح الدنيا والآخرة، وأرشد إليه من مكارم الأخلاق، وذلك غاية الحكمة، وثمرة العلوم.

الثامن: كونه محفوظًا عن الزيادة والنُّقصان، محروسًا عن التَّغيير والتَّبديل على تطاول الأزمان، بخلاف سائر الكتب.

التاسع: تيسيره للحفظ، وذلك معلومٌ بالمعاينة.

العاشر: كونه لا يملّه قارئه ولا سامعه على كثرة الترديد، بخلاف سائر الكلام".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أمَّا بعد: فهذا الباب في إعجاز القرآن.

والإعجاز: طلب العجز. بمعنى: أنَّ هذا القرآن مُعْجِز، والمعجِز هو الذي لا يتأتى لأحدٍ أن يأتي بمثله؛ ولهذا جاء التَّحدي بذلك: بالإتيان بسورةٍ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [البقرة:23]، والإتيان بعشر سورٍ، وكذلك: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور:34]، كلّ ذلك أعجزهم، وكلام أهل العلم معروفٌ في هذا من جهة ما يتحقق به الإعجاز؛ القدر المعجِز من القرآن.

لا شكَّ أنَّ قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ أنَّ هذا يصدُق على أقصر سورةٍ، ولكن العلماء يختلفون فيما يُعادلها، سواء كان ذلك في ثلاث آيات من القرآن، أو كان ذلك فيما يُعادل أقصر سورةٍ، ولو كانت آية واحدة، وقد تكون أطول من هذه السورة: كآية الدَّين، هل هذا أيضًا يُقال: أنَّه من المعجِز، فيقع به التَّحدي، أو لا؟

على كل حالٍ، فهذا الإعجاز؛ التَّعبير بذلك إنما وُجِدَ بعد عصر النبي ﷺ وعصر الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-، وهو اصطلاح، ولا مُشاحةَ في الاصطلاح، والذي يُذْكَر في القرآن فيما يتّصل بالمعجزة إنما يُقال له: الآيات، والبينات، والبراهين، وما شابه ذلك، ولكن هذه التَّسمية، أو هذا الاصطلاح وُجِدَ بعد ذلك، وُجِدَ بعد هذا.

يقولون: مُعجزات الأنبياء، ويقصدون بذلك: خوارق العادات، ما كان خارقًا للعادة؛ لعادة الثَّقلين.

وهذه الخوارق للعادات منها ما يجري على يد الأنبياء -عليهم السلام-، وهذه التي جرى التَّعبير عنها بالمعجزات، وما يجري على يد الأتباع؛ اتباع الأنبياء -عليهم السلام-، وهو الذي أطلقوا عليه كرامات الأولياء، وذلك من بابٍ واحدٍ.

يعني: الكلّ من خوارق العادات، وكلّ ذلك من آيات الأنبياء، كما يُقال أيضًا لذلك: دلائل النبوة. إلا أنَّ آيات الأنبياء ودلائل النبوة تنقسم: فمنها ما يكون من قبيل خوارق العادات، ومنها ما لا يكون من قبيل الخوارق.

هرقل في سُؤالاته لأبي سفيان المعروفة سأله عن أشياء من صفة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وعرف بذلك صدقه، وحقيّة ما جاء به -عليه الصلاة والسلام-، ولم يسأله عن شيءٍ من خوارق العادات، يعني: ما سأله عن المعجزات.

عبدالله بن سلام لما هاجر النبيُّ ﷺ إلى المدينة عرف صدقَه لما نظر إلى وجهه، قال: "عرفتُ أنَّه ليس بوجه كذَّاب"، ثم بعد ذلك بعث إليه بهديةٍ. والخبر في ذلك تعرفونه جميعًا.

الشاهد: أنَّه ما سأله، ما طلب من النبي ﷺ مُعجزةً، وإن كان سأله عن شيءٍ لا يعلمه إلا نبيّ، لكن حينما بعث إليه بهديةٍ، وحينما نظر إلى وجهه، هذا كلّه من دلائل النبوة غير المعجز.

فدلائل النبوة هذه استعملها بعضُ أهل العلم: البيهقي سمَّى كتابه "دلائل النبوة"، ولكن الذي جاء في القرآن وفي السُّنة: آيات الأنبياء، ويُقال لذلك أيضًا: البرهان، وما شابه ذلك.

على كل حالٍ، هذا الذي يكون من قبيل خوارق العادات يُقال له: المعجزة، والمعجزات، وأعظم مُعجزات النبي ﷺ كانت القرآن، وإلا فمُعجزاته ﷺ كثيرة، لكن هنا أُنبّه إلى معنى شائعٍ في الكلام على المعجزة، ربما شاع تدريسه وذكره في مجالس التَّعليم؛ يقولون: أنَّ المعجزة هي أمرٌ خارقٌ للعادة، مقرونٌ بالتَّحدي، مع دعوى النُّبوة.

وهذا تعريف المتكلمين من الأشاعرة ونحوهم، يقولون: أمرٌ خارقٌ للعادة. هذا صحيحٌ، لكن مقرون بالتَّحدي، مع دعوى النبوة. هذا إنما قالوه لأنَّهم لا يُفرّقون في حقيقة الأمر بصورةٍ صحيحةٍ بين مُعجزات الأنبياء -عليهم السلام- والخوارق التي تقع على أيدي السَّحرة، ففرَّقوا بين هذين بهذين الأمرين، قالوا: مقرون بالتَّحدي، مع دعوى النُّبوة.

والواقع أنَّه لا حاجةَ إلى ذلك، والتَّفرقة بين ما يقع على أيدي الأنبياء -عليهم السلام- من الخوارق، وما يقع على أيدي السَّحرة، الفرق ظاهر وواضح من وجوه مُتعددة، وذلك أنَّ ما يقع على يد هؤلاء السَّحرة ليس بخارقٍ لعادة الثَّقلين، ليس بخارقٍ للعادة مُطلقًا، يعني: بإطلاقٍ، وإنما يأتي به مَن عرف السِّحر، وقد يأتي بما هو أعظم من ذلك، فهو لا يخرق عادة السَّحرة مثلًا.

أما ما يقع على يد النبي فلا يستطيع أحدٌ من الخلق أن يأتي بمثله، لا يستطيع؛ لأنَّ ذلك من عند الله -تبارك وتعالى-، أما السحر فيُتعلّم، والسَّحرة جاءوا إلى موسى وهم يتوهمون أنَّ بقُدرتهم -لما قيل: إنَّه ساحر- أن يُبطلوا ما جاء به بسحرهم، فلمَّا كان موسى  يُلقي العصا فتكون حيةً، ألقوا ما عندهم، فامتلأ الوادي بالحيَّات، أرادوا أن يأتوا بجنس ما جاء به موسى بزعمهم.

فالمقصود أنَّ هذا الفرق من الفروق الأساسية بين آيات الأنبياء، وما يقع على أيدي السَّحرة.

إذًا يمكن أن يُقال: أنَّ المعجزة هي ما يُظهره الله على أيدي أنبيائه ورسله -عليهم السلام- من دلائل صدقهم مما يكون خارقًا للعادة. يكفي هذا لتقريب المعنى.

وأما دلائل النبوة: فهي أعمّ من ذلك؛ منها ما هو خوارق، ومنها ما لا يكون من قبيل الخوارق.

ويمكن أن نقول: أنَّ دلائل النبوة هي ما يُظهره الله من دلائل صدق أنبيائه ورسله -عليهم السلام-، سواء كان من قبيل خوارق العادات، أو غير ذلك.

هذا معنى المعجزة عند أهل السُّنة والجماعة، خلافًا للمُتكلمين.

التعريف الذي نحفظه، ونُردده، ويدرسه الطلابُ في المدارس والجامعات غالبًا هو تعريف المتكلمين، والسَّبب أنهم لا يُفرّقون بين المعجزة وخوارق السَّحَرة إلا بهذا التَّفريق الذي لا يصحّ التَّقيد به، وإنما هناك ما هو أظهر منه.

على كل حالٍ، وجوه إعجاز القرآن العلماء تكلّموا في ذلك كثيرًا، وصنّفوا فيه الكتب؛ فمنهم مَن يقتصر على فصاحته وبلاغته التي هي أظهر وجوه الإعجاز، وأشهر وجوه الإعجاز، وهي التي وقع بها التَّحدي، هذه متّفق عليها.

تبقى هناك أمور أخرى؛ منها ما هو صحيحٌ ثابتٌ، مثل: الإخبار عن الغيوب، سواء كان ذلك مما يتّصل بالغيوب الماضية، أو الغيوب المستقبلة، يعني: الغيب النسبي، والغيب المطلق.

ما كان في المستقبل هذا لا يعلمه إلا الله ، وأمَّا الغيوب الماضية فأخبر عن أشياء لا يعلمها إلا نبيّ، هذا بالإضافة إلى مجيء هذه على يد رجلٍ أميّ من أمّةٍ لا عهدَ لها بالكتاب، هذا يُعدّ من المعجزات. فهذا من وجوه الإعجاز بلا شكٍّ.

تبقى هناك جوانب أخرى ذكرها بعضُ أهل العلم، ولم يذكرها آخرون، مثل: ما أشار إليه المؤلفُ هنا على أنَّه من دلائل الإعجاز، هنا ذكرها على أنها دلائل للإعجاز، ما يُسمّى مثلًا: بالإعجاز التَّشريعي.

المقصود أنَّ الثلاثة الأولى التي ذكرها هي ترجع إلى فصاحته وبلاغته. ترجع إلى الفصاحة والبلاغة، وهذا أمرٌ متّفقٌ عليه، وهو أشهر وجوه الإعجاز.

هذا الذي وقع به التَّحدي صراحةً بيننا وبين هؤلاء الذين يُشككون في القرآن، ويطعنون في القرآن من ملل الكفر بأنواعها، هؤلاء الذين يُشككون في الإسلام، ويُشككون في ثوابت الدِّين، وأنَّ هذا الإسلام ليس من عند الله -تبارك وتعالى-، قد لا نحتاج إلى مُناظرةٍ وجدلٍ طويلٍ معهم، نقول لهم: بيننا وبينكم شيء واحدٌ فقط؛ هذا القرآن ائتوا بمثله. سيعجزون، وقد عجزوا على مدى الدُّهور، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24].

هذا الذي بيننا وبينهم، دعك من الجدل الطَّويل، والمناظرات، والدُّخول في التَّفاصيل.

وهكذا لمن يُشكك في ثوابت الدِّين، نقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، ائتوا بمثله، فإن لم تفعلوا فهذا حقٌّ من عند الله -تبارك وتعالى-، فينبغي أن تُؤمنوا بما جاء به.

ومما جاء في هذا القرآن: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، فما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يجب التَّسليم والانقياد له، ولا خيارَ لأحدٍ في ذلك، وإنما يُرجَع إلى ثبوته وصحّته -يعني: ما جاء عن النبي ﷺ- بما يقوله ويُقرره أهلُ العلم بذلك من أئمّة السُّنة، لا من الجهّال الذين يحكمون على ذلك بآرائهم.

فهذا أصلٌ في مُناظرة هؤلاء المنحرفين من الكفَّار، والزنادقة، والملاحدة، وغيرهم عبر العصور، ما استطاع أحدٌ ...، المحاولات التي ظهرت على السَّطح واحدة فقط؛ مُسيلمة الذي إذا ذُكِر ذُكِرَ الكذبُ معه، ومَن شاء فلينظر إلى مُختلقاته في الكتب التي تذكر الإعجاز، يذكرون تلك السُّور التي اختلقها، ويذكرون خبره مع عمرو بن العاص قبل إسلامه؛ لـمّا سأله عمّا أُنزل عليه، فذكر له: الفيل، وما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل، وذيل قصير. وذكر له ربما سورة الوبر؛ الدُّويبة المعروفة، فقال له عمرو بن العاص: والله إنَّك لتعلم أني أعلم أنَّك كاذب[1]. مع شدّة عداوة عمرو بن العاص للنبي ﷺ في ذلك الحين.

وأمَّا غير هذا فما استطاعوا، من الشُّعراء، والأُدباء، وحاولوا ...، بل والفلاسفة، الفيلسوف الكِنْدي قال له تلامذته: نُريدك أن تأتي بشيءٍ مثل القرآن. فاحتبس في بيته لا يخرج أيَّامًا، ثم خرج إليهم، وقال: نظرتُ في السورة التي يُقال لها المائدة، فنظرتُ في أوّلها في سطرين: خاطب، وأمر، وأحلّ، واستثنى، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر، وحكم. يقول: لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بهذا.

هذا فيلسوف مشهور، من كبار الفلاسفة!

فهذه الأشياء التي ذكرها المؤلفُ هنا ذكرها على أنها من دلائل الإعجاز، وهي وجوه في الإعجاز.

الرابع: هو الذي يذكره جمعٌ من أهل العلم، وهو صحيحٌ، ولا إشكالَ فيه، وهو أنَّه من وجوه الإعجاز: الإخبار عن الأمور الغيبية. وكذلك الخامس، يعني: الرابع والخامس يتعلّق بالغيوب.

والأول والثاني والثالث يتعلّق بالفصاحة، والبلاغة، والبيان.

السادس: ذكر صفة المعبود -تبارك وتعالى- ودلائل توحيده.

ثم السابع هو الذي يُسمّونه: الإعجاز التَّشريعي، هذه التَّشريعات بهذه التَّفاصيل تظهر على يد رجلٍ أُمّي في أُمّةٍ أُميّةٍ، هذا لا يتأتى لأحدٍ من البشر.

الثامن: الحفظ على مرّ الأزمان، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

ثم ذكر التاسع والعاشر، هذه من دلائل الإعجاز.

"الباب الثاني عشر: في فضل القرآن.

وإنما نذكر منه ما ورد في الحديث الصَّحيح، فمن ذلك ما ورد عن أبي أُمامة الباهلي قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: اقرؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه"[2].

قوله ﷺ: اقرؤوا القرآنَ؛ فإنَّه ... هذا أمرٌ بالقراءة، كما قال الله : وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:92]، لكن الحديث أصرح من الآية: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف:27]، الحديث أصرح أيضًا من هذا؛ لأنَّ هذه الآيات اختلف العلماءُ -رحمهم الله- في المراد بها، وهي تحتمل، والأقرب أن تُحْمَل على ذلك جميعًا.

فبعض أهل العلم يقولون: إنَّ الأمر بالتلاوة بمعنى: الاتباع، (أتلو): اتَّبِع. ويحتمل أن تكون التلاوةُ بمعنى: القراءة، وكلّ ذلك صحيحٌ تحتمله الآية.

والآية إذا كانت تحتمل معنيين فأكثر، ولا يوجد مانعٌ من حملها على هذه المعاني؛ فإنها تُحْمَل عليها، فهو أمرٌ بالتلاوة، بمعنى: القراءة، وهو أمرٌ بالاتِّباع.

أمَّا مثل هذا الحديث، وهو صريحٌ وواضحٌ في الأمر بالقراءة، فنحن مأمورون بذلك، مُتعبّدون به. واقرؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يوم القيامة ... الفاء هنا تدلّ على التعليل، هذا الذي يُسميه الأصوليون: دلالة الإيماء والتَّنبيه. اقرأوه فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه.

والصُّحبة المراد بها هنا الملازمة، ليست القراءة القليلة المتقطعة، أو القراءة في المناسبات: كرمضان، أو الجمعة، أو نحو ذلك، أو يقرأ في أوقاتٍ قليلة يسيرة، كما إذا دخل المسجد قبيل الإقامة، وإنما يُقال: صاحب كذا؛ لمن كان كثير الملازمة له: "لأصحابه".

فمُلازمة القرآن وكثرة القراءة هي التي تُورث العبد مثل هذه المقامات، والدَّرجات، والأحوال.

"وعن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: قال رسولُ الله ﷺ: الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والذي يقرأه ويتتعتع فيه، وهو عليه شاقّ؛ له أجران"[3].

هذا الحديث مُخرّج في "الصَّحيحين"، وقول النبي ﷺ: الماهر بالقرآن ...، ما المراد به؟ هل المراد: الماهر في التلاوة، في القراءة. أو الماهر في الحفظ؟

يعني: المتقن، هذا جاء في روايةٍ للبخاري بلفظ: مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظٌ له[4]، نفس الحديث.

وجمع الرِّوايات والألفاظ الصَّحيحة للحديث الواحد فيه فوائد لا تخفى، وقد أشرتُ إلى هذا في مُناسبات مُختلفة.

هنا: مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظٌ له، هذا لفظٌ عند البخاري.

إذًا هذا يُفسّر لنا قول النبي ﷺ: الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البَرَرة، هذا يكون للحافظ المتقِن. ومَن هو الحافظ الماهر؟

إذا كانت المهارة في الحفظ، في كتاب "متشابه القرآن" ذكر مراتب الناس في هذا؛ فذكر أنَّ الماهر هو الذي يقرأ ولا يُخطئ، يقرأ عن ظهر قلبٍ، ولا يُخطئ، وإذا وقع له شيءٌ من خطأ أو سهو رجع إليه، وأعاده على وجه الصَّواب.

وذكر بعده المرتبة الثانية: وهو المتمهّر، وهو الذي يحتاج إلى تنبيهٍ وتذكيرٍ أنَّه أخطأ.

وذكر بعده المرتبة الثالثة: الذي سمّاه المتحفّظ، فهذا يحتاج إلى ردِّ الخطأ ببيان وجه الصَّواب.

فجعلهم على مراتب ثلاث.

فهذا الماهر بالقرآن قال: مع السَّفرة الكرام البَرَرة، هؤلاء لـمّا ذكر الله -تبارك وتعالى- الصُّحف التي بأيدي الملائكة قال: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:13-16]، فهؤلاء هم الملائكة، سُفراء بين الله ورسله -عليهم السلام-، فلمَّا كان هؤلاء هم الذين يحملون الوحي إلى الأنبياء -عليهم السلام- كان هذا الحافظُ الماهرُ مُشابهًا لهم في ذلك على ما ذكره جمعٌ من أهل العلم. فهذه مرتبة عالية، يكون مع هؤلاء، وهم من خيار الملائكة.

قال: والذي يقرأه، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاقّ؛ له أجران وهذا أيضًا في الحفظ، له أجران.

وذِكر الأجرين لهذا لا يقتضي أنَّه أفضل من الأول؛ فإنَّ ذكر الأجرين مزيّة، والقاعدة: أنَّ المزيّة لا تقتضي الأفضلية[5].

وهذه القاعدة ذكرها بعضُ أهل العلم، تجدون تفاصيل مُفيدة فيها في كتاب "الفروق" للقرافي: المزيّة لا تقتضي الأفضلية.

عليٌّ قال فيه النبي ﷺ: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنَّه لا نبيَّ بعدي؟[6]، وما قالها في حقِّ أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان ، وزوَّجه ابنتَه فاطمة، فهذه مزايا، وغير ذلك مما جاء في حقِّه ، لكن المزية لا تقتضي الأفضلية، لا تقتضي أنَّه أفضل من هؤلاء ، أعني: أبا بكر، وعمر، وعثمان -رضي الله عن الجميع-.

فهذا له أجران، وذاك مع السَّفرة الكرام البررة، فمرتبته أعلى وأفضل.

وهذا أيضًا –أعني: الذي له أجران- هذه إحدى الصور الدَّاخلة تحت مَن يُؤتَون أجرهم مرتين، ذكر الله أزواج النبي ﷺ: نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب:31]، وذكر ﷺ المملوك الذي أدَّى حقَّ الله، وحقَّ سيده، وكذلك الكتابي الذي آمن بكتابه وبالنبي ﷺ: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص:54]، وهذا مما يكون له أجران، وقال الله في حقِّ هذه الأُمّة: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ [الحديد:28].

هذا الحديث قال فيه: والذي يقرأه، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاقّ؛ له أجران.

رواية البخاري التي أشرتُ إليها قال فيها: ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده، وهو عليه شديد؛ فله أجران[7].

لاحظ: هنا قال: ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده، هذا في الحفظ واضح.

ثم أيضًا قال: وهو يتعاهده، ففرق بين مَن ضعُف حفظُه بسبب الترك، والإهمال، والتَّفريط، وبين مَن كان ذلك لضعف قُدرته: وهو يتعاهده، فهو يبذل وسعه، قال: له أجران.

إذًا الذي يكون الضعفُ من قِبَل تفريطه لا يكون كذلك، فهذان قيدان مُهمّان دلّت عليهما هذه الرِّواية.

الماهر قال: وهو حافظٌ له.

وهنا هذا الذي يتتعتع قال: وهو يتعاهده، وهو عليه شديد. فهذا حافظٌ، ويتعاهد الحفظ.

الحافظ ابن حجر وابن بطَّال والشُّرَّاح فسَّروا هذا الحديث بجودة الحفظ، وجودة التِّلاوة.

جودة التِّلاوة يُراعى فيها التَّجويد، ويُراعى فيها أيضًا الأداء بما هو زيادة على التَّجويد.

التَّجويد من قبيل الأداء، لكن أعني بذلك: أن يأتي بالقراءة من غير ترددٍ، أو توقفٍ، يأتي بالآيات من غير ترددٍ، ولا توقفٍ، يعني: ضعيف الحفظ، يحتاج أن يستذكر، ويتوقف، يُحاول أن يتذكر الآية. لكن هذا يأتي بالآيات من غير حاجةٍ لذلك.

"وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسولُ الله ﷺ: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترجّة؛ ريحها طيّب، وطعمها طيّب"[8].

هنا أيضًا في روايةٍ للبخاري: المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأُترجّة[9]، فهذا قيدٌ مهمٌّ في بيان المراد؛ يقرأ القرآن، ويعمل به، فلا تكون قراءة من غير عملٍ.

ثم قال: والمؤمن الذي لا يقرأ القرآنَ ويعمل به كالتَّمرة.

"ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآنَ مثل التَّمرة؛ لا ريحَ لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآنَ مثل الرّيحانة؛ ريحها طيب، وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة؛ ليس لها ريحٌ، وطعمها مرّ[10]".

والحديث هذا مُخرّج في "الصَّحيحين"، فإذا رُوعي فيه هذه اللَّفظة -هذه الرِّواية-: ويعمل به، فيُمكن أن تكون الأقسامُ أكثر من هذا، فيكون عندنا: مؤمن يقرأ ويعمل، فهذا كالأُترجّة، ومؤمن يعمل ولا يقرأ، ومؤمن لا يقرأ، ولا يعمل، وهكذا.

والأُترجّة معروفة، الترنجة، الفاكهة المعروفة، أليس كذلك؟

العلماء -رحمهم الله- تكلّموا على وجه هذا التَّشبيه، وراجعوا ما ذكره الحافظُ ابن حجر في فوائد الأترجّ، وما ذكر فيه[11].

مُداخلة: .....

لا يُقال: أنَّه يترك العمل مطلقًا، لا بدَّ أنَّ هناك قدرًا من العمل، ما هذا القدر من العمل؟

نعرف الأحاديث الواردة في الباب: أخرجوا من النار مَن كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ من إيمانٍ[12]، أخرجوا أهل الصلاة، ... إلى آخره. كلّ هذه الأحاديث.

فمجموع الأدلة دلَّ على أنَّه لا بدَّ من العمل: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25]، وكذلك أيضًا جاءت الأحاديث الصَّحيحة، ونُقل عليه إجماع الصَّحابة: أنَّ مَن ترك الصَّلاة فقد كفر.

فهنا كما يُقال: أن الإيمان لا بدَّ فيه من تصديق القلب، وإقراره، وانقياده، بمعنى: الإذعان؛ كذلك لا بدَّ من تصديق اللِّسان.

وحديث: لم يعملوا خيرًا قطّ[13] لمن يُخرج من النَّار: لم يعملوا خيرًا قط، (خيرًا) نكرة في سياق النَّفي، فيصدُق هذا على العموم. فهل يُقال: أنَّ هذا دليلٌ على أنَّ ترك الصلاة لا يُخرج من الدِّين، وأنَّه يمكن أن يتحقق الإيمان، ولو كان هذا الإنسانُ فقط اعتقد بقلبه، وقال –أقرّ- بلسانه، ولم يعمل شيئًا وراء ذلك، ولا عمل: لا صلاة، ولا غير صلاة! احتجاجًا بهذا الحديث؟

يمكن أن يُجاب عن هذا فيُقال: إنَّ قوله: (خيرًا) نكرة في سياق النَّفي، فهذا للعموم.

فهذا الإقرار القلبي، هل يُقال: إنَّه عمل خير، أو ليس بخيرٍ؟

فلا بدَّ أن يقول المخالِف: هذا خيرٌ.

إذًا لم يعملوا خيرًا قطّ! فيقول: لا بدَّ من استثناء هذا؛ لأنَّه لا يصدُق الإيمان إلا بهذا، لا بدَّ من عملٍ قلبيٍّ.

الآن: الإقرار والتَّصديق أليس من أعمال القلوب؟ أليس بخيرٍ؟ لم يعملوا خيرًا، فينفيه.

فسيقول المخالِف: هذا لا بدَّ منه، وإلا كيف يكون مؤمنًا؟

تقول له: أيضًا الإقرار باللِّسان، أليس ذلك من الخير؟

فلا بدَّ أن يقول: بلى.

نقول: إنَّ الحديث نفى: لم يعملوا خيرًا قط، فماذا ستقول؟

سيقول: لا بدَّ من الإقرار باللِّسان. بل بعضهم قال: هذا لا يُشترط، قد يكون وُلِدَ لأبوين مُسلمين، وما جاء أحدٌ يمتحنه.

هذه قالها لي عالم، جرى نقاشٌ في هذه المسألة، وكان يحتجّ بمثل هذا الحديث على أنَّ العمل ليس بشرطٍ، فأجبته بهذا الجواب، قلتُ له: أليس التَّصديقُ والإقرارُ من الخير والعمل؟ قال: بلى. قلت: لم يعملوا خيرًا قطّ، فيلزمك أن تنفي هذا؛ لأنَّ هذه نكرة في سياق النَّفي. قال: هذا لا بدَّ منه. قلتُ: والإقرار باللِّسان؟ قال: ما يُشترط، ما جاء أحدٌ يمتحنه.

الشاهد: لما ألزمته بما يتعلّق بالقلب -التي أقرّ بها-، انتهى النِّقاشُ بالغضب، وما خرجنا بنتيجةٍ، قال: لا تحفر لي حُفرًا، وتُوقعني فيها. يعني: لا تستدرجني في النِّقاش حتى أصل إلى هذه النَّتيجة.

على كل حالٍ، إذا قلنا بأنَّ قوله: لم يعملوا خيرًا قطّ لا بدَّ من استثناءٍ فيها حتى يصحّ الإيمان، تستثني ماذا؟ تستثني الإقرار والإذعان القلبي؟

نقول: دلَّت الأدلةُ على أنَّه لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصَّلاة، دلَّت الأدلةُ على هذا، إذًا استثنِ هذا، فلا بدَّ من قدرٍ من العمل زائد على عمل القلب وإقرار اللِّسان. هذا الذي دلَّت عليه عمومُ الأدلة، وما عدا ذلك فهو قول المرجئة، والمرجئة على مراتب وطوائف.

"وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسولُ الله ﷺ: استذكروا القرآنَ، فلهو أشدّ تفصّيًا من صدور الرِّجال من النّعم بعُقُلها"[14].

أشدّ تفصّيًا يعني: تفلُّتًا، استذكروا القرآن هذا أمرٌ بتعاهده، من النّعم بعقلها يعني: المقصود الإبل، فهي تتفلت من عُقلها، ما تُعْقَل به لئلا تنفلت.

"وعن عثمان بن عفان: أنَّ رسول الله ﷺ قال: خيركم مَن تعلّم القرآن، وعلَّمه[15]".

هذا الحديث مُخرّج في "الصحيحين"، ويكفي شرفًا لمعلّم القرآن ومُتعلّميه أنَّ النبي ﷺ قال هكذا بإطلاقٍ: خيركم مَن تعلّم القرآن، وعلّمه.

ولو نظرتم في كلام الشُّرّاح ستجدون أنَّهم يقفون عند هذه الجملة، ويبحثون لها عن التَّأويلات والمخارج؛ حيث إنَّ النبي ﷺ قال ذلك وأطلق: خيركم، قالوا: فأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- هما أفضل الصَّحابة، وما كانا يقومان على تعليم القرآن؛ لانشغالهما مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويوجد مَن يقوم على تعليم القرآن ويشتغل بذلك ممن هو دونهما، فهل هذا الذي يشتغل بالتَّعليم: خيركم مَن تعلّم القرآن، وعلّمه، تعلّم، وعلّم، جمع بين الأمرين؟ هل يكون أفضل من هؤلاء الصَّحابة الكبار الذين لم يحصل لهم هذا التَّعليم مثلًا؟

تجد العلماء يُجيبون بأجوبةٍ، كقول بعضهم: لعلَّ النبي ﷺ خاطب فئةً، مجموعةً –يعني- من أصحابه ليس فيهم أبو بكر وعمر، وأمثال هؤلاء، فقال لهم: خيركم مَن تعلّم القرآن، وعلّمه، هكذا قالوا، أو هكذا قال بعضُهم.

وأقول بعيدًا عن هذه المحامل: يكفي في بيان شرف هذا العمل الذي قد يترفّع منه بعضُ الناس، يكفي في بيان شرفه هذا الحديث، بصرف النَّظر عمَّا يُحمل عليه، هذا لبيان هذه المزيّة، وهذه المنقبة، وهذا الفضل، ولا داعي للاشتغال بتأويلات تُذْهِب ما قصد من إيراده لأجله.

"وعن عمر بن الخطاب: أنَّ رسول الله ﷺ قال: إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين"[16].

هذا الحديث أيضًا أخرجه الإمامُ مسلم: إنَّ الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا، ويضع به آخرين، هذا قاله عمرُ -رضي الله تعالى عنه-، حدَّث بهذا الحديث في المناسبة المعروفة لما قصد مكة، وقبل أن يدخلها استقبله أميرُها، فلمَّا سأله عمَّن أناب مكانه على أهل مكّة، ذكر له مولًى من الموالي، فذكر عمرُ -رضي الله تعالى عنه- هذا الحديث: إنَّ الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا، ويضع به آخرين.

فهذا القرآن عزيزٌ، وكريمٌ، ومَن اشتغل به، وحفظه، وتدبّره، وتلاه كما أُمِر، وعمل به؛ لا شكَّ أنه سيناله من هذه الأوصاف، فإنَّ مثل هذه الملابسة لا شكَّ أنها تُؤثر، هذا الاشتغال لا بدَّ أن يظهر على هذا المشتغِل به، فتكون فيه من العزّة، والأوصاف الكريمة، والبركة، فهذا القرآن مُبارك، كما قال بعضُ أهل العلم: "اشتغلنا بالقرآن، فغمرتنا البركات".

"وعن ابن عباسٍ قال: بينما جبريلُ قاعدٌ عند النبي ﷺ سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسَه، قال: هذا بابٌ من السَّماء فُتِحَ اليوم، لم يُفتح قطّ إلّا اليوم، فنزل منه ملكٌ، فقال: هذا ملكٌ نزل إلى الأرض، لم ينزل قطّ إلّا اليوم، فسلّم، وقال: أبشر بنورين أُوتيتهما، لم يُؤتهما نبيٌّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَه[17]".

"بينما جبريلُ قاعد عند النبي ﷺ سمع نقيضًا" يعني: سمع صوتًا من فوقه، "فرفع رأسه، قال: هذا بابٌ من السَّماء فُتِحَ اليوم، لم يُفتح قطّ إلا اليوم، فنزل منه ملكٌ، فقال: هذا ملكٌ نزل إلى الأرض، لم ينزل قطّ إلّا اليوم، فسلّم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما".

لاحظ: هذه بشارة، وهذا حديث ابن عباسٍ، وكان ذلك في المدينة.

فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، فاتحة الكتاب نزلت بمكّة -كما هو معلومٌ-، وهذا الذي عليه الجماهير، وخواتيم سورة البقرة نزلت في المدينة، فهذه البشارة كانت في المدينة، فهذا الذي حمل بعض أهل العلم على القول بأنَّ الفاتحة نزلت بالمدينة، ولما كان هذا القولُ فيه ما فيه من الإشكال، قال بعضُهم: أنها نزلت مرتين: مرة بمكّة، ومرة بالمدينة، جاء بهذه الـمَلَك -المرة الثانية-.

وبعضهم قال -وهذا قولٌ في غاية الضَّعف والبُعْد-: لعلّها نزل نصفُها في مكّة، ونصفها الآخر في المدينة.

فالحاصل أنَّ هذا الحديث لا يدلّ على هذا، وإنما يتضمّن البُشرى: أبشر بنورين أوتيتهما، فهنا ذكر هذه البُشرى، والبُشرى قد تكون على أمرٍ مضى، ولكنَّه هنا ذكر هذه المزيّة: بنورين أوتيتهما؛ فاتحة الكتاب، وقد يُبشَّر الإنسانُ بالولد بعدما يأتي -كما هو معلومٌ-، فلا يلزم في البُشرى أن تكون على أمرٍ مُستقبلٍ.

فلمَّا نزلت هذه على النبي ﷺ جاء الملكُ يقول: أبشر بنورين أوتيتهما، هذا الأمر الأول الذي أشكل بسبب هذا الحديث.

الأمر الثاني هو: هل نزل بشيءٍ من القرآن غير جبريل ؟

الذي عليه عامّة أهل العلم، ويدلّ عليه القرآن: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء:193]، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل:102]، فهذا كلّه وغيره يدلّ على أنَّ جبريل هو الذي نزل بالقرآن على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، جميع القرآن، ولا يُستثنى من هذا شيءٌ.

طيب، هذا الحديث هل يُفهم منه أنَّ هذا الملك نزل بفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة؟

هو جاء بالبُشرى فقط، ويكفي في بيان هذا أنَّ فاتحة الكتاب لم تنزل مع خواتيم سورة البقرة، فهذا جاء بالبُشرى فقط، لكن تجدون في بعض الكتب لبعض أهل العلم من أهل الفضل، تجدون أحيانًا مثل هذا الاستثناء: كتاب "العقيدة في الله" للدكتور عمر الأشقر -رحمه الله-، ذكر أنَّ من القرآن ما قد ينزل به غير جبريل ، وهذا غير صحيحٍ، وهذا الحديث لا يُفهم منه هذا، هذا وجه الحديث -والله أعلم- واضح؟

وقوله: لن تقرأ بحرفٍ منهما إلا أعطيتَه، إلا أعطيتَه يعني: الأجر والثواب، لا أقول: "الم" حرف الحديث[18].

"وعن أبي مسعودٍ الأنصاري قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه[19]".

مَن قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة -آمَنَ الرَّسُولُ- في ليلةٍ كفتاه، كفتاه من ماذا؟

بعض أهل العلم يقول: كفتاه من سائر الأوراد والأذكار التي تُقال في ليلته.

وبعضهم يقول: كفتاه من الشيطان.

وبعضهم يقول غير ذلك.

والأقرب -والله أعلم- أن يكون ذلك على عمومه وإطلاقه؛ لأنَّه حُذِفَ منه المقتضى، فيُحْمَل على العموم، يعني: ما قال كفتاه الأوراد، أو كفتاه الشيطان، فحذف المقتضى يُحمل على العموم.

المقتضى يعني: المقدّر، فهنا ما ذكر شيئًا مُحددًا، فيكون المعنى -والله تعالى أعلم- "كفتاه" يعني: من غيرهما من الأوراد والأذكار، كفتاه من كل المخاوف والشُّرور والآفات، سواء كان ذلك من شياطين الإنس، أو شياطين الجنّ، وكذلك أيضًا الهوامّ، والدَّواب، والسِّباع، وغير ذلك مما يُحاذره، أو يتخوّفه. يقرأ هاتين الآيتين، ويُكفى في هذه الليلة، وينام قرير العين، ولو نام في غابةٍ، أو فلاةٍ.

"عن أبي أُمامة الباهلي: أنَّ رسول الله ﷺ قال: اقرؤوا سورةَ البقرة، فإنَّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة[20]".

اقرؤوا البقرة، لاحظ أنَّه هناك قال: اقرؤوا القرآن، عموم القرآن، وهنا خصّ سورة البقرة؛ لما فيها من المزايا التي لا توجد في غيرها؛ فهي أطول سورةٍ في كتاب الله -تبارك وتعالى-، وهي مُشتملة على آية الكرسي، والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة: آمَنَ الرَّسُولُ، وكذلك أيضًا فيها من صفات الله وأسمائه ودلائل وحدانيّته، التوحيد بأنواعه الثلاثة، وهي أكثر السور اشتمالًا على دلائل القُدرة على البعث وإحياء الموتى فيما قصّه الله -تبارك وتعالى- وأخبر عنه في هذه السورة، وهذا معلومٌ لا يخفى، وفيها أيضًا من الأحكام وتفاصيلها ما لا يكاد يوجد في غيرها، هذا بالإضافة إلى ما فيها من الأمثال، فهي أكثر السور في القرآن اشتمالًا على الأمثال، وكذلك أيضًا ما فيها من القصص والأخبار المتنوعة، لا سيّما أخبار بني إسرائيل.

المقصود أنَّ هذه السورة اشتملت على كثيرٍ من الهدايات العلمية والعملية، فالنبي ﷺ يقول: اقرؤوا البقرة، وهذا يدلّ على صحّة هذا الإطلاق، يعني: بعض أهل العلم كره أن يُقال: البقرة. وإنما يُقال: سورة البقرة. فهذا الحديث يدلّ على أنَّه يصحّ أن يُقال: البقرة، آل عمران، النِّساء. ولا يلزم أن يُقال: سورة كذا.

اقرؤوا البقرة، فإنَّ أخذها بركة القرآن كلّه مُبارك، ولكنَّه خصَّ هذه السورة بهذا؛ فيدلّ على مزيدٍ من تحقق هذا الوصف فيها، ومَن أراد البركة فليُلازم قراءة القرآن، لا سيّما سورة البقرة.

قال: وتركها حسرة، والبركة معروفة: هي النَّماء والكثرة، نماء الخير: كثرته، ووفرته.

تركها حسرة يعني: لا يكون الإنسانُ سالـمًا بتركها: لا له، ولا عليه، بل إنَّ تركها حسرة.

وهذه الحسرة قد تكون بفوات كثيرٍ من الخير والأجر، فإذا وافى يوم القيامة أدرك ما فاته.

وكذلك ما يحصل للإنسان من الغمِّ، والهمِّ، والحُزن، وما إلى ذلك في الدنيا، فإنَّ هذه السورة تجلوه، وتُصقل القلب.

وكذلك ما يحصل للإنسان من أوصابٍ، وأدواءٍ، وما إلى ذلك، فهذه السورة من أبلغ ما يُعالج به ذلك؛ جميع الأدواء، وما يُعالَج به السِّحر.

معلومٌ أنَّ أول ما يُرقى به المسحور، أو من أول ما يُرقى به هو الآيات التي فيها: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102].

فهنا قال: وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة يعني: السَّحرة؛ ولذلك يأتي في الحديث الذي بعده: أنَّ الشيطان لا يدخل البيتَ الذي تُقرأ فيه سورةُ البقرة.

فهذا الذي يقرأ سورةَ البقرة لا يستطيع السَّحرة أن يُوصِلوا إليه سحرهم وأذاهم، إلا إذا شاء الله -تبارك وتعالى-، لكنَّه في حرزٍ وحصنٍ حصينٍ: لا تستطيعها البطلة.

"وعن أبي هريرة : أنَّ رسول الله ﷺ قال: لا تجعلوا بيوتَكم مقابر، إنَّ الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورةُ البقرة[21]".

لا تجعلوا بيوتَكم مقابر، بعض أهل العلم حمله على معنًى لا يخلو من بُعْدٍ؛ بل هو بعيدٌ، أي: لا تدفنوا موتاكم في بيوتكم، فتصير بذلك مقابر! يدلّ على عدم صحّته أنَّه قال: إنَّ الشيطان ينفر، فـ(إنَّ) هنا تدلّ على التَّدليل والتوكيد: لا تجعلوها مقابر.

ولذلك قال بعضُ أهل العلم: قوله: لا تجعلوا بيوتكم مقابر أنَّ المقابر ليست موضعًا للعبادة، والذكر، وقراءة القرآن، والصلاة؛ ولذلك يُؤمر بالصلاة بالبيوت؛ صلاة النافلة والسُّنن الرَّواتب تُصلَّى في البيوت، وكذلك قراءة القرآن؛ لأنَّ المقبرة لا يُفعل ذلك فيها، ولا تُتحرى العبادة فيها، غير أنها تُزار لتذكِّر بالآخرة، ويُقال حينئذٍ الأذكار المعروفة: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين"، ونحو ذلك، لكن لا يُتحرى الدُّعاء؛ أن يدعو الإنسانُ لنفسه في المقبرة، ولا قراءة القرآن، ولا الصَّدقة، ولا الصَّلاة، ولا غير ذلك.

ومعنى الصَّدقة: أنَّه يتحرى أن يتصدّق في المقبرة؛ لاعتقاد مزيّة في ذلك، هذا ليس موضعًا للتَّقرب والتَّعبّد بمثل هذا، بخلاف ما كان عارضًا، يعني: بعض المقابر إذا دخل ابتدره العاملُ الذي فيها، ووقف أمامه ينتظر أن يُعطيه شيئًا، فلو أعطاه لهذا السَّبب لا يُقال: هذا مكروه، ويُفهم منه أنَّ ما ذكره أهلُ العلم من تحري الصَّدقة في المقبرة أنَّه يدخل فيه هذا، ليس هذا هو المراد.

وكذلك في الحرِّ: الذين يأتون بالماء، ويُعطونه لمن في المقابر، هل يدخل في هذا: أنَّهم يتحرّون، أنَّ هؤلاء تحرّوا الصَّدقة في المقبرة؛ لأجل المقبرة، لأجل هذا الموضع؟ أنَّهم يتقرَّبون إلى الله بالصّدقات، ونحو ذلك.

أو لهذا الأمر الذي دعت الحاجةُ إليه من وقوف الناس في الشمس، بصرف النَّظر عن كونهم في المقبرة، أو في أي مكانٍ آخر، رفقًا بالناس، فهذا لا إشكالَ فيه؛ أن تُوزع المياه على الناس في المقبرة لحاجتهم إلى ذلك، فلا يُقال: هذا مما يدخل فيما ذكره أهلُ العلم -والله أعلم-، فيفرّق بين هذا وهذا.

فرقٌ بين أنَّ الإنسان يتحرَّى ويتقرّب إلى الله في هذه البقعة، وفي هذا المكان، وبين ما يعرض من حاجةٍ ونحوها.

قال: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فالمقابر لا يُقرَأ فيها، ولا تكون محلًّا للعبادة.

وبعضهم يقول: إنَّ المقصود بذلك: لا تجعلوا بيوتكم مقابر أنَّ المقابر لا يكون أهلها ممكنين من العبادة؛ لأنهم قد ارتُهنوا بأعمالهم، وتوقّف العمل، فهم ينتظرون الجزاء. هكذا قال بعضُ أهل العلم: لا تكونوا كالموتى.

ولكن المعنى الأقرب، والذي عليه عامّة أهل العلم: أنَّ المقصود أن تُعمر هذه البيوت بالقراءة، والذكر، والصّلاة؛ لأنَّ المقابر ليست موضعًا لذلك، فلا تجعلوا هذه البيوت بمثابة المقابر.

قال: إنَّ الشيطان يفرّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورةُ البقرة، (يفرّ) ليس فقط يخرج، بل يفرّ؛ لأنَّه لا يطيق ذلك، يكفي أنَّ فيها آية الكرسي، وما اشتملت عليه من الأسماء صراحةً، أو كنايةً –يعني: بالضَّمير-، وظاهره: الشيطان يفرّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة، ظاهره أنَّه يفرّ بوجود ذلك وتحققه، ولو مرة واحدة في العمر تُقرأ في هذا البيت، هذا ظاهره، ولكنَّه جاء تقييد ذلك بثلاثة أيام، والمطلق محمولٌ على المقيّد.

فيُقال: إنَّه يفرّ ثلاثة أيام، وإذا قُرئت مجزّأةً، أو قُرئت متّصلةً فلا إشكال، كلّ ذلك يتحقق فيه هذا، وإذا قرأها في يومه وليلته فذلك أيضًا لا إشكالَ فيه؛ أن يقرأ في اليوم والليلة، يُجزئ في اليوم والليلة، بدأ من غروب الشمس الليلة الماضية إلى ما قبل غروب الشمس اليوم، فهذا قرأها، فيفرّ الشيطان من هذا البيت، ولا يقرب هذه الدار ثلاثة أيام.

هل يتحقق هذا فيما لو وضع جهاز تسجيل؟

هكذا يبدو -والله أعلم-؛ لأنَّه قال هنا: يفرّ من البيت الذي تُقرأ فيه[22]، بُنِيَ للمجهول، فيصدُق على ما كان ذلك بقراءة أهل الدار، وما لو كان بجهاز تسجيل، لكن ينبغي أن نتذكر أنَّ أخذ هذه السورة بركة، وتركها حسرة، والنبي ﷺ قال: اقرؤوا البقرة، فلا يُكتفى عن ذلك بتسجيلٍ، لكن الكلام في هذه القضية: طرد الشيطان، فرار الشيطان، الشيطان لا يُطيق سماعها، فإذا وُجِدَ هذا بجهاز تسجيلٍ، فالذي يظهر أنَّ الشيطان يفرّ من هذا البيت، لكن هل هذا يكفي لأهل الدار؟

الجواب: لا؛ لأنَّ النبي ﷺ أمرهم بقراءتها، وأخبر أنَّ أخذها بركة، وأنَّ تركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة.

"وعن أبي بن كعبٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: يا أبا المنذر، أتدري أيّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، قال: فضرب في صدري، وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر"[23].

النبي ﷺ سأله: أيّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟، أبيّ بن كعب من علماء الصحابة، وهو من العلماء بالقرآن، والقراءة، والتَّفسير: أيّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟.

لاحظ: هذه الآيات الكثيرة، وهذا السؤال: أيّ آيةٍ ... أعظم؟، واستطاع أن يستخرج هذه الآية، هذا يدلّ على فقهٍ عميقٍ، وعلمٍ غزيرٍ، لا يُوفّق إليه ولا يصل إليه إلا مَن شاء الله -تبارك وتعالى- من عباده؛ ولهذا قال النبي ﷺ له: ليهنك العلم أبا المنذر يعني: هنيئًا لك بالعلم، هذا العلم الذي توصل به إلى هذا الاستنتاج، فهذا لا يكون إلا بتدبّره، ومعرفة ما تضمّنه من العلوم والهدايات، فعرف أنَّ هذه الآية أعظم الآيات في القرآن.

"وعن النوّاس بن سمعان قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: يُؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة، وآل عمران، وضرب لهما رسولُ الله ﷺ ثلاثة أمثال ما نسيتُهنَّ بعد، قال: كأنَّهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنَّهما حزقان من طيرٍ صوافّ، تُحاجّان عن صاحبهما[24]".

قوله ﷺ: يُؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، وأهله –لاحظ- الذين كانوا يعملون به، فهذا ينبغي أن يُستصحب مع ما سبق في الحديث الذي قال فيه النبيُّ ﷺ: اقرؤوا القرآن؛ فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، هنا: يُؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله، فإنَّه لا يُقال كما سبق: صاحب كذا، إلا لمن كان كثير الملازمة له. وكذلك هنا: أهل القرآن فإنَّ هذا لا يكون أيضًا إلا لأهل الملازمة له.

وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران وهذا يدلّ على شرف هاتين السورتين.

وضرب لهما رسولُ الله ﷺ ثلاثة أمثال ما نسيتهنَّ بعد، قال: كأنَّهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق -أو شَرَق-.

الغمام: يُقال لنوعٍ من السَّحاب، والظلّة: ما أظلك. ويُقال ذلك أيضًا للسَّحاب الأسود. والأبيض الذي لا مطرَ فيه يُقال له: جهام.

والله -تبارك وتعالى- شبّه الجبل الذي رفع على بني إسرائيل لما أُخِذ عليهم العهد: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف:171]، صار مثل السَّحابة السَّوداء فوقهم.

ظلّتان سوداوان بينهما شَرْقٌ -أو شَرَق-، أو كأنَّهما فرقان من طيرٍ صوافّ، تُحاجّان عن صاحبهما يعني: تُمثَّل له ذلك كما يُمثّل له العمل في قبره، ولا إشكالَ في ذلك.

قال: وضرب لهما رسولُ الله ﷺ ثلاثة أمثال.

أيضًا كذلك قوله: تُحاجّان عن صاحبهما، الصُّحبة هنا: الملازمة، الإكثار من قراءة هاتين السورتين، وكذلك سائر القرآن، وهذا لا يتأتى على حال كثيرٍ منّا، قراءة في أوقات قصيرة، إذا دخل الإنسانُ المسجدَ قرأ وجهًا، أو بعض وجهٍ متى اتَّفق له ذلك، وليس له وردٌ من القرآن!

رسائل يكثر السؤال فيها، تُنشر في مجموعات في (الواتس آب)، يُريدون أن يُنزلوا كل يومٍ وجهًا واحدًا من القرآن من أجل أن يُقرأ، ثم يضع إشارةً كلُّ واحدٍ في المجموعة أنَّه قرأ هذه في هذا اليوم. لماذا تفعلون هذا؟

قالوا: من أجل أن يقرؤوا. وهم لا يقرؤون القرآن؟! وهل الذي يقرؤونه في القرآن هو وجهٌ واحدٌ؟! هذه حال لا تصلح أبدًا، ولا تسوغ مع القرآن، كيف وصلت الحالُ إلى هذا؟!

نحتاج إلى متابعةٍ في قراءة وجهٍ واحدٍ في اليوم! فهل مثل هذا يُقال له: أنَّهما تُحاجّان عن صاحبهما؟ يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه؟ لا يكون هؤلاء ممن يتحقق فيهم هذا الوصف -والله أعلم-.

"وعن أبي الدَّرداء: أنَّ رسول الله ﷺ قال: مَن حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدَّجال"[25].

وجاء أيضًا -صحَّ-: مَن حفظ عشر آيات من آخر سورة الكهف، وصحَّ أيضًا ما هو أقلّ من ذلك، لكن لو أنَّ مَن لم يحفظ سورةَ الكهف كاملةً حفظ عشرًا من أوَّلها، وعشرًا من آخرها؛ فذلك يكون أثبت وأحوط، وإلا فلو قال قائلٌ: أنَّ ذلك يتحقق بهذا وهذا، يعني: لو قرأ عشرًا من أوّلها، حفظ عشرًا من أوّلها، أو حفظ عشرًا من آخرها؛ أنَّ هذا يصدق عليه أنَّه يُعْصَم من الدَّجال، فقد أخبر النبيُّ ﷺ عن هذا وهذا. وكل ذلك قد صحَّ عنه، فتكون هذه مزيّة للعشر الأولى منها، والعشر الأخيرة كذلك.

"وعن أبي الدَّرداء: أنَّ رسول الله ﷺ قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن[26]".

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، وسُمّيت بأوَّلها، ويُقال لها: سورة الإخلاص؛ باعتبار المضمون والمعنى، وإن لم يُوجد فيها هذا اللَّفظ.

تعدل ثلث القرآن العلماء -رحمهم الله- تكلَّموا في وجه هذا، ولا يخفى عليكم ما ذُكِر؛ باعتبار أنَّ القرآن يشتمل على العقائد، والأحكام، والقصص مثلًا، قالوا: هذه فيها صفة المعبود -تبارك وتعالى-، فهي تتضمن القسم الأول.

وهذا لا يخلو من إشكالٍ، يعني: هذا التَّوجيه المشهور لا يخلو من إشكالٍ؛ لأنَّ صفةَ المعبود -تبارك وتعالى- لا تختصّ بهذه السورة، بل آية الكرسي -أعظم آيةٍ في القرآن- هي في صفته -تبارك وتعالى-، وفيها من أسمائه وصفاته –أعني: آية الكرسي- ما ليس في سورة الإخلاص، ولو جُمع القدر المتعلّق بصفات الله -تبارك وتعالى- وتوحيده في القرآن؛ لكان ذلك كثيرًا، فهذه السورة منه، لكن -على كل حالٍ- مثل هذا يُوقَف عنده.

النبي ﷺ ذكر لها هذه المزيّة، وهي في صفة المعبود، وليست مختصّة بذلك –أقصد: بصفة الربّ تبارك وتعالى-، لكن ذكر لها هذه المزيّة: تعدل ثلث القرآن، فليس المقصود أنَّها تعدل الثلث بالمعنى، من جهة المعنى، ولكن ذلك يُحْمَل على الأجر والثواب؛ ولهذا جاء في الأحاديث الأخرى: أيعجز أحدُكم أن يقرأ ثلثَ القرآن في ليلةٍ؟[27]، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

لكن إذا كان يحصل له الأجر بمثل هذا فهل يُساوي مَن قرأ ثلث القرآن؟ أو قرأها ثلاث مرات، هل هذا يُساوي مَن قرأ القرآن كاملًا، وجلس وقتًا طويلًا وهو يقرأ، وحصل له من التَّدبر، والفهم، والفقه، والمعاني، بالإضافة إلى الحروف: لا أقول: (آلم) حرف[28]؟

فرقٌ بين الأجر، وبين العمل. يعني: النبي ﷺ قال ...، أخبر: مَن خرج حتى يأتي هذا المسجد –يعني: مسجد قباء- فيُصلي فيه كان كعدل عمرةٍ[29]، هذا في الأجر، لكن أعمال العُمرة في: السَّفر، والذهاب، والنَّفقة، والمشي، والخطوات، وما إلى ذلك، هذه الأمور قدرٌ زائدٌ.

كذلك بقاء هذا الإنسان الذي جلس يقرأ القرآن كاملًا في هذا الوقت، وما حصل له فيه من التَّدبر والفهم، وقل مثل ذلك في الأحاديث التي جاء فيها: أنَّ الذكر الفلاني مثلًا كان كعتق رقبةٍ، أو أربع رقابٍ، أو عشر رقابٍ، أو نحو ذلك، مَن كان عليه رقبة مثلًا هل يُجزئه أن يقول هذا الذكر؟

الجواب: لا، فذاك في الأجر، ولكن لا يكون هذا في الكفَّارات والجزاءات.

وقل مثل ذلك فيما لو نذر الإنسانُ أن يعتمر، أو يحجّ ويعتمر، مَن حسّن الحديث في الذكر بعد صلاة الفجر: جلس في مُصلاه حتى تطلع الشمس، ثم صلَّى ركعتين؛ كان له كأجر حجّة وعُمرة تامّة، تامّة، تامّة[30]. مَن يُحسّن هذا الحديث، الآن لو كان قد نذر أن يحجّ، أو يعتمر، يكفيه أن يجلس بعد صلاة الصبح؟ بل هل يكفيه أن يكتفي بهذا عن الحجِّ والعمرة، فلا يذهب للحج والعمرة، ولو تطوّعًا؟

الجواب: لا.

"وعن عقبة بن عامر قال: قال رسولُ الله ﷺ: ألم ترَ آيات أُنزلت عليَّ الليلة لم يرَ مثلهنَّ قط؟ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ[31]".

لم يرَ مثلهنَّ قطّ وذكر الفلق، وذكر الناس، هذا يدلّ على أنَّ هذا أعظم ما يُتعوّذ به، وأبلغ ما يُتعوّذ به، وما يحصل به الحفظ والاحتراز مما يكرهه الإنسان ويُحاذره من الشياطين وغيرها -والله أعلم-.

كلّ التَّعويذات التي يقولها الناسُ لا تبلغ هاتين السُّورتين -والله أعلم-.

  1. انظر: "فضائل القرآن" للمُستغفري (1/284).
  2. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، برقم (804).
  3. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر في القرآن، والذي يتتعتع فيه، برقم (798).
  4. أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18]: زمرًا، برقم (4937).
  5. انظر: "حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع" للعطار (2/261).
  6. أخرجه مسلم: كتاب الفضائل، باب من فضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، برقم (2404).
  7. أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18]: زمرًا، برقم (4937).
  8. أخرجه البخاري: كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، برقم (5427).
  9. أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب إثم مَن راءى بقراءة القرآن، أو تأكّل به، أو فخر به، برقم (5059).
  10. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، برقم (5427)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، برقم (797).
  11. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلاني (9/67).
  12. أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، برقم (22).
  13. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم (183).
  14. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول: نسيتُ آيةَ كذا، وجواز قول: أُنسيتُها، برقم (790).
  15. أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب ((خيركم مَن تعلّم القرآن وعلّمه))، برقم (5027).
  16. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل مَن يقوم بالقرآن، ويعلّمه، وفضل مَن تعلّم حكمةً من فقهٍ، أو غيره، فعمل بها وعلّمها، برقم (817).
  17. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، والحثّ على قراءة الآيتين من آخر البقرة، برقم (806).
  18. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب فضائل القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء فيمَن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2137).
  19. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المغازي، برقم (4008)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، والحثّ على قراءة الآيتين من آخر البقرة، برقم (808).
  20. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، برقم (804).
  21. أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، برقم (780).
  22. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، برقم (780).
  23. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي، برقم (810).
  24. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، برقم (805).
  25. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي، برقم (809).
  26. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، برقم (811).
  27. أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، برقم (5015).
  28. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب فضائل القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء فيمَن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2137).
  29. أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (15981)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (6220).
  30. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب السفر، باب ذكر ما يُستحبّ من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، برقم (586)، وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (971).
  31. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة المعوذتين، برقم (814).

مواد ذات صلة