بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير التسهيل لابن جُزي
معاني اللغات (الغريب)
(11- ب) المقدمة الثانية في تفسير معاني اللغات: حرف الهمزة من بدايته إلى أمن
ملحوظة: توجد مراتب الحفاظ التي ذُكرت سابقاً في كتاب متشابه القرآن، لأبي عمرو الداني.
وأما حديث عثمان : أن النبي ﷺ قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)([1])، فأنا قلت: إنه مخرج في الصحيحين، والصحيح أنه أخرجه البخاري فقط.
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: المقدمة الثانية: في تفسير معاني اللغات، نذكر في هذه المقدمة: الكلمات التي يكثر دورها في القرآن، أو تقع فيه في موضعين فأكثر، من الأسماء، والأفعال، والحروف، وإنما جمعناها في هذا الباب؛ لثلاث فوائد:
إحداها: تيسيرها للحفظ، فإنها وقعت في القرآن متفرقة، فجمعها أسهل لحفظها.
والثانية: ليكون هذا الباب كالأصول الجامعة لمعاني التفسير، كما أن تآليف القراءات جُمعت فيها الأصول المطردة، والكثيرة الدور.
والثالثة: الاختصار، فنستغني بذكرها هنا عن ذكرها في مواضعها من القرآن؛ خوف التطويل بتكرارها، وربما نبهنا على بعضها للحاجة إلى ذلك، ورتبناها في هذا الباب على حروف المعجم، فمن لم يجد تفسير كلمة في موضعها من القرآن فلينظرها في هذا الباب، واعتبرنا في هذه الحروف: الحرف الذي يكون فاء الكلمة، وهو الأصلي، دون الحروف الزوائد في أول الكلمات.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فانتهت -ولله الحمد- المقدمة الأولى: في علوم القرآن، وهي بمنزلة رسالة مستقلة في هذا الباب.
وأما ما يتعلق بالمقدمة الثانية فهي في تفسير معاني اللغات، يعني: الغريب، وقد يكون هذا اللفظ، أو الوصف، أو الاسم، قد لا يكون مطابقاً لكل ما يُذكر، أو لكثير مما يُذكر هنا في هذه الألفاظ التي ساقها المؤلف -رحمه الله-، أو ما يذكره المؤلفون في الغريب، فإنهم يذكرون أشياء كثيرة، والواقع أنها ليست من الغريب، وإنما ينبغي أن تكون هذه الكتب متضمنة لما قد يُشكل من الألفاظ من جهة المعنى، أو ما يدل عليه من جهة معناه؛ لغرابته؛ ولقلة استعماله مثلاً، أو نحو ذلك؛ لكونه محتملاً، يتضمن معانيَ متنوعة متعددة، يعني: مما قد يتوقف القارئ عنده مستشكلاً، وهكذا ما يقال في إعراب مُشكل القرآن، ليس كل ما يُذكر في الكتب المؤلفة في إعراب مُشكل القرآن هو من المُشكل، فهم يعربون أشياء أحياناً واضحة؛ ولذلك صارت الكتب المؤلفة في الغريب تحوي أشياء كثيرة جدًّا، ويمكن الاقتصار على قدر من ذلك، لربما لا يجاوز في أقصى أحواله: الثلث، قدر الثلث مما يُذكر على أنه غريب.
فهذه الألفاظ التي يذكرونها في الغريب منها ما يكون من قبيل الحروف، والمقصود بذلك: الأدوات، وليست حروف المباني -حروف التهجي-، فهذه لا تذكر، وليس لها معنى في نفسها، وإنما الحروف التي لها معنى، وكذلك أيضاً الأسماء، مثل: غاسق، والأفعال، مثل: عسعس
فهذه الألفاظ التي يذكرونها في الغريب منها ما يكون من قبيل الحروف، والمقصود بذلك: الأدوات، وليست حروف المباني -حروف التهجي-، فهذه لا تذكر، وليس لها معنى في نفسها، وإنما الحروف التي لها معنى، وكذلك أيضاً الأسماء، مثل: غاسق، والأفعال، مثل: عسعس
.
فهنا يذكر في هذه المقدمة: الألفاظ التي يكثر دورها في القرآن أو تقع فيه في موضعين فأكثر، يعني: هذا الضابط: أنها تكررت، يعني: لم تذكر مرة واحدة، إذن: الألفاظ ولو كانت غريبة إذا كانت ذكرت مرة واحدة فمعنى ذلك أنه لن يوردها هنا، فما اشتملت هذه المقدمة على كل الغريب، إنما ما يتكرر، وقد ذكر الغرض منه، وهو: الحفظ، لكن هذا إذا كانت متكررة، يعني: يحتاج ذلك إلى تتبع الألفاظ الغريبة الأخرى التي لم يذكرها؛ لكونها لم تتكرر.
يقول في العلة الثانية من إيراده: ليكون هذا الباب كالأصول الجامعة لمعاني التفسير، يعني: مثل ما يذكر أصحاب القراءات في أصول القراءات، والأصول هي: الأشياء غير الفَرش التي في موضع واحد، والأصول تكون في جميع المواضع، إلا ما استُثني.
ومن ثم ذكر العلة الثالثة، وهي: الاختصار، ومعنى ذلك أنه سيحيل إلى هذه المقدمة، يقول: هذا بيناه في المقدمة في تفسير معاني اللغات، فنحتاج أن نرجع إلى ذلك.
على كل حال، يحسُن قبل دراسة التفسير عموماً: أن يقرأ طالب العلم كتاباً في الغريب، فالتفسير قد تطول دراسته، وتطول المدة، لكن لا يحسُن بالمسلم أن يقرأ كتاب الله -تبارك وتعالى- وتبقى بعض الألفاظ يكون فيها كالأعجمي، لا يفهم المراد، ما يعرف المعنى أصلاً، لكن لو أنه ختم في أسبوع، أو في عشرة أيام، أو نحو ذلك، ثم يقرأ ما يُشكل عليه وقتها؛ لأن قراءة الغريب سرداً يُنسَى، لكن لو أنه يرجع إلى المواضع التي يحصل فيها إشكال، ففي هذه الحال هذا -إن شاء الله- أدعى للضبط، وثبات هذا المعنى في قلبه.
وكتب الغريب كثيرة جدًّا، من أحسنها وأنفعها كتاب السجستاني، وهذا الكتاب طُبع طبعة أنيقة في قطر، وأيضاً طُبع طبعة قديمة، وهو: مرتب على الحروف، وطُبع طبعة قديمة مرتبة على السور، طبعة في مكة قديمة على السور، هذا الكتاب مختصر جدًّا، ألفه إمام، وقرأه على إمام في اللغة والنحو، قرأه على شيخه ابن الأنباري، وألفه في خمس عشرة سنة، عالم مثل هذا يؤلف مثل هذا الكتاب في الغريب في خمس عشرة سنة!.
والتأليف في الغريب ليس بالشيء السهل، فإنك إذا أردت أن تُعبر عن معنى هذه اللفظة، ونظرت إلى أقوال السلف فيها، تحتاج أن تزن الحرف من أجل أن تُعبر بعبارة تدل على هذه المعاني، وهذا في غاية الصعوبة، ويحتاج إلى دقة، وأكثر الكتب التي أُلفت في الغريب هي لا تذكر الكلمة ومعناها، فلا يسهل حفظها بهذا الاعتبار، وإنما يذكرون المعنى في نحو سطر فأكثر، سطرين أو نحو ذلك، وهذا يصعب معه الحفظ، وإنما يحصل مثل هذا للاستظهار، لكن الكتاب المنسوب لمكي بن أبي طالب، المعروف بالعمدة في غريب القرآن، هذا يذكر الكلمة والمعنى، يكاد أن يُعبر بلفظه، فهذا سهل الحفظ، الكتاب جيد بصرف النظر عن صحة نسبته إلى المؤلف، الكتاب جيد، كثير من هذه الكتب، أو بعض هذه الكتب لربما تكون في الاعتقاد على طريقة المتكلمين، لكن يوجد كتب من كتب الغريب على عقيدة أهل السنة والجماعة.
وأكثر هذه الكتب المؤلفة في الغريب هي مختصرة، وتذكر معنى للفظة، سواء كانت مرتبة على السور، أو على الحروف، حروف التهجي، ولكن الراغب الأصفهاني ذكر في كتابه: المفردات في غريب القرآن، ذكر غريب القرآن، وذكر معاني اللفظة، ومثل لذلك كثيراً في استعمالات اللفظة في القرآن، وما تدل عليه بحسب السياق، فيأتي بمعناها هنا وهنا وهناك، مثل: لفظة "المحصنات"، أو "الإحصان"، ففي كل موضع تكون بحسبه، يكون لها معنى آخر، فهذا تجده في الراغب، إذا أردت أن تتوسع فكتاب الراغب يصلح أن يكون مرجعاً، ترجع إليه؛ لتتبع اللفظة، وما يُراد بها، وهذا يصلح للتوسع، ويصلح للبحث العلمي، لكن الذي يقرأ، ويريد أن يعرف معنى هذه اللفظة فقط، فقد لا يكون من المناسب الرجوع إلى مثل كتاب الراغب، ويُشبهه كثيراً، ويكاد أن يتطابق معه -إلا في مواضع، واستدراكات- كتاب: السمين الحلبي، وهو: عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، هذان أوسع الكتب المؤلفة في غريب القرآن، فهو ضمّنه ما ذكره الراغب، إلا أنه استدرك عليه أشياء قليلة، قال: إنها لم ترد في القرآن، وزاد عليه بعض الألفاظ، والكتاب مطبوع، وهذان أوسع الكتب.
ومن أراد أن ينظر في كتابٍ جمع أربعة من أهم كتب الغريب المختصرة، فهناك كتاب جمعه الأستاذ: عبد العزيز السيروان، جمع فيه أربعة كتب مهمة من كتب الغريب المختصرة، ورتبه على حروف المعجم، وسماه: المعجم الجامع لألفاظ غريب القرآن، أو نحو هذه التسمية، وهذا غير المعجم الجامع في غريب القرآن من رواية علي بن أبي طلحة، الذي جمعه الأستاذ: محمد فؤاد عبد الباقي، وإنما هذا جمع الأستاذ: عبد العزيز السيروان، وطبعته دار العلم للملايين، هذا كتاب مفيد، من وجده وضعه بجانبه وهو يقرأ، فكأنه سيقرأ في أربعة كتب، وضع لكل كتاب رمزاً، يعني: أنت حينما تقرأ تجد عبارات هؤلاء المؤلفين الأربعة، أو الذين يُنسب إليهم، مثل: كتاب العمدة، فإنه ضمنه فيه، وأمام عبارة كل واحد من هؤلاء وضع رمزاً يدل عليه، هذه عبارة فلان، وهذه عبارة فلان، وهذه عبارة فلان.
قال -رحمه الله تعالى-: حرف الهمزة.
آية: لها معنيان: أحدهما: عبرة وبرهان، والثاني: آية من القرآن، وهي كلام متصل إلى الفاصلة، والفواصل هي رءوس الآيات.
الآية هنا ذكر لها معنيين: الأول: أنها تأتي بمعنى العلامة، والثاني: البرهان، قلنا في دلائل النبوة: يقال: براهين، وآيات، يعني: دالة على صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
قال: والثاني: آية من القرآن، وهي: كلام متصل إلى الفاصلة ... إلى آخره، الواقع أن هذ الثاني يرجع إلى الأول.
الآية: تأتي بمعنى العلامة، وهذا المعنى متفق عليه، وهو في غاية الشهرة، والمعنى الثاني المشهور لكنه دونه، وهو مختلف فيه، وهو بمعنى: الجماعة، وهذا المعنى ذكره بعض المتقدمين، كالخليل بن أحمد: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم، ومنه قول بُرج بن مُسهر:
خرجنا من النقبيْن لا حيَّ مثلُنا *** بآيتنا نُجزي اللِّقاحَ المَطافلا
بآيتنا أي: بجماعتنا، هكذا قالوا، فقالوا: الآية تأتي بمعنى: الجماعة، وهذا المعنى ذكره أيضاً ابن فارس في كتابه: مقاييس اللغة، فهذا المعنى معروف، ومشهور، لكنه دون الأول، الأول متفق عليه، وهذا ليس كذلك، فهذان معنيان للآية، وهنا ابن جُزي -رحمه الله- ذكر المعنى الثاني أنه: الآية من القرآن، والواقع: أنه يرجع إلى ما ذُكر.
فإذا أردت أن تربط الآية في القرآن بهذين المعنيين:
إذا نظرنا إلى المعنى الأول للآية، بمعنى: العلامة، فهذه بأي اعتبار؟ باعتبار أنها دليل وعلامة على أنها من عند الله، على صدق من جاء بها، مع أن بعضهم يذكر غير هذا، لكن لا يخلو من ضعف، فبعضهم يرجعها إلى معنى العلامة، لكن يقول: على انقضائها وتميزها على ما قبلها وما بعدها، بهذا الاعتبار، علامة، لكن ليس على صدق من جاء بها، ولكن لتميزها عما قبلها وما بعدها.
وإذا أرجعنا الآية في القرآن إلى معنى الجماعة، باعتبار أنها: مجموعة من الحروف والكلمات، فتمثل وحدة مستقلة متميزة، وهذا كالذي قال: هي كلام متصل إلى الفاصلة، والفواصل هي: رءوس الآيات، هذا الذي ذكروه.
فالآن إذا أردنا أن ننظر إلى ما جاء في القرآن كقوله -تعالى-: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ البقرة: 118، فما الذي قصدوه هنا بقولهم: أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ؟، قصدوا هنا: المعجزة، فهذا أحد النوعين للآيات، كما ذكرنا، منها: معجزات، ومنها: غير معجزات، دلائل صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فهذا هو طلب المعجزات، والتعنت الذي وقع من الكفار مع أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام-، وكقوله: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ البقرة: 211، فهذا كله بمعنى دلائل صدق نبيهم -عليه الصلاة والسلام- أو الأنبياء الذين جاءوهم.
وقال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ البقرة: 248، هذه في غاية الوضوح أنها بمعنى: العلامة، فالآية بمعنى: العلامة، وكقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ آل عمران: 49، والذي مر على قرية قال الله له: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ البقرة: 259يعني: تدل على قدرة الله على إحياء الموتى والبعث، وقال تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ يعني: فرعون لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً يونس: 92يعني: علامة، فهذه ليست بمعنى: المعجزة، لكن بمعنى: العلامة، وقال: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ يونس: 92، وصالح ﷺ قال لقومه: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً هود: 64، وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ يوسف:105، وقال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ الإسراء: 12، آية الليل يعني: علامة الليل، فالقمر لا يكون مشرقاً مضيئاً كالشمس، وإنما جعله الله نوراً، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا يونس: 5، فالضياء إشراق مع حرارة؛ ولذلك قال النبي ﷺ: (والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)([2])، فالضياء معه حرارة، فلما كان الصبر فيه حرارة، وحبس للنفس، قال: (والصبر ضياء)، فالشمس ضياء؛ لأن فيها حرارة، والقمر لا حرارة فيه، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً الإسراء: 12، التي هي: الشمس، وهكذا قوله: قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً مريم: 10يعني: قال زكريا -عليه الصلاة والسلام- رب اجعل لي علامة أعرف بها وقوع الحمل، قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا مريم: 10، وقوله: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى طه: 22، هذه بمعنى: معجزة، فآية: علامة، لكنها من قبيل الخوارق، وقوله: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ الذاريات: 37، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ الأنعام: 37، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا الأنعام: 109، هؤلاء الذين يطلبون خوارق العادات، يطلبون المعجزات، لكن قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف: 146، المتبادر أن المقصود: الآيات المتلوة، ويمكن أن يدخل فيه: الآيات الأخرى، فهم يشاهدونها، ومع ذلك لا ينتفعون بها.
أما شيخ الإسلام -رحمه الله- فخالف في المعنى الثاني للآية الذي هو بمعنى: الجماعة، فأقر المعنى الأول أنها: علامة، وأنكر توجيهه الثاني باعتبار أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها، يقول: هذا ليس بطائل، ورَدّ على هذا، يقول: الآية مفصولة عما قبلها وعما بعدها، وليس معنى كونها آية هو هذا، يقول: كيف وآخر الآيات آية؟، يعني: ما بعدها شيء، مثل: آخر سورة الناس، وكذلك آخر آية من السورة، وليس بعدها شيء، وأول الآيات آية، وليس قبلها شيء، مثل: أول آية من القرآن، ومن السورة، يقول: إذا قُرئت الآية وحدها كانت آية، وليس معها آية، فشيخ الإسلام بحججه يرد الآن على هؤلاء الذين يقولون: هي علامة على انفصالها عما قبلها وما بعدها، يقول: وقد قام النبي ﷺ بآية يرددها حتى أصبح، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ المائدة: 118([3])، يقول: فهي آية في نفسها، لا لكونها منقطعة مما قبلها وما بعدها، يقول: وأيضاً فكونها علامة على هذا الانقطاع قدر مشترك بين جميع الأشياء التي يتميز بعضها عن بعض، ومع ذلك لا تُسمى آيات، هل لاحظتم الحجج؟ إنها قوية، يقول: والسورة متميزة عما قبلها وما بعدها وهي آيات كثيرة يعني: ليست آية، يقول: وأيضاً فالكلام الذي قبلها منقطع، وما قبلها آية، فليست دلالة الثانية على الانقطاع بأولى من دلالة الأولى عليه، يقول: وأيضاً فكيف يكون كونها آية علامة للتمييز بينها وبين غيرها والله سماها آيات، فقال: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ الجاثية:6؟، وما علاقة هذا بالانقطاع والانفصال؟ ثم ذكر ما ترجح عنده: أنها بمعنى: العلامة، علامة من علاماته -تبارك وتعالى-، ودلالة من أدلة الله، وبيان من بيانه، فإن كل آية قد بين فيها من أمره وخبره ما هي دليل عليه، لاحظ وجه كونها آية: ما هي دليل عليه، وعلامة عليه، فهي آية من آياته، وهي أيضاً دالة على كلام الله المُباين لكلام المخلوقين، فهي: دلالة على الله سبحانه، وعلى ما أرسل بها رسله -عليهم الصلاة والسلام-، فهي تدل على ما تضمنته من المعنى، وتدل على أنها كلام الله -تبارك وتعالى-، وما إلى ذلك مما ذكره، وأطال في الكلام على هذا المعنى.
ثم بدأ يناقش قول من قال: إن آية بمعنى: جماعة، جماعة حروف من القرآن، وأورد هذا البيت:
خرجنا من النقبيْن لا حيَّ مثلُنا *** بآيتنا نُجزي اللِّقاحَ المَطافلا
يقول: وهذا فيه نظر، فإن قوله: خرج القوم بآيتهم قد يراد به: العلامة التي تجمعهم، مثل: الراية، واللواء، فإن العادة أن كل قوم لهم أمير يكون له آية يُعرفون بها، فإذا أخرج الأمير آيتهم اجتمعوا إليه، يعني: يرى أن هذا المعنى الذي يقولونه أنه يرجع إلى معنى: العلامة، فقول الشاعر:
خرجنا من النقبيْن لا حيَّ مثلُنا *** بآيتنا .............
ليس بمعناه: بجماعتنا، وإنما: بالراية التي يجتمعون حولها، فهذه آية أي: علامة، فيجتمع حولها الجند، فهذا أمر تابع، ليس هو المعنى الأساس، والمعنى الأصلي، يقول: ولذلك سُمي ذلك علَماً، يعني: الراية يقال لها: علم، من العلامة، فهو يقول: إن هذا يرجع إلى معنى العلامة، يقول: يقال له: راية؛ لأنه يُرى، فخروجهم بآيتهم يعني: بالعَلم والآية التي تجمعهم، فيُستدل بها على خروجهم جميعهم، فإن الأمير المطاع إذا خرج لم يتخلف أحد، يقول: وإلا فلفظ الآية هي: العلامة، وهذا معلوم بالاضطرار، والاشتراك في اللفظ، لا يثبت بأمر محتمل، هذه قاعدة، الاشتراك يعني كونهم يقولون: هذا مشترك، لفظ الآية، يأتي بمعنى: الجماعة، ويأتي بمعنى: العلامة، يقول: الاشتراك في اللفظ لا يكون بأمر محتمل، لا يثبت بالاحتمال، يعني: الأصل: عدم الاشتراك.
ثم ذكر معنى ثالثًا للآية: أنها بمعنى: العَجب، قالوا: إن قارئها يستدل إذا قرأها على مباينتها لكلام المخلوقين، وهذا كما تقول: فلان آية من الآيات، أي: عجب، فلان آية يعني: في غاية العجب، عجب من العجائب، هذا المعنى ذكره ابن الأنباري، وشيخ الإسلام يقول: إن هذا المعنى الذي ذكره داخل في معنى: كونها آية من آيات الله، فإن آيات الله عجيبة، فإنها خارجة عن قدرة البشر، وعما قد يُشبه بها من مقدور البشر، والقرآن كله عجب، والجن قالت: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ الجن: 1 - 2، فإنه كلام خارج عن المعهود من الكلام، وهو كما في الحديث: (لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء...)([4])إلى آخره، ويقول: كل آية لله خرجت عن المعتاد فهي: عجب، أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا الكهف: 9، فيقول: الآيات هي العلامات، والدلالة: منها: مألوف معتاد، ومنها: خارج عن المألوف المعتاد، وآيات القرآن من هذا الباب، فالقرآن عجب، لا لأن مسمى الآية هو مسمى العجب، بل مسمى الآية أعم؛ ولهذا قال: كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، يقول: ولكن لفظ الآية قد يُخص في العرف بما يُحدِثه الله، وأنها غير المعتاد دائماً، كما قال النبي ﷺ: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله)([5])، إلى أن قال: (ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده)، هذا خارج عن المعتاد، الذي هو الخسوف والكسوف، وقال تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً يعني: آية مبصرة، فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]، وحديث أسماء: لما دخلت على عائشة في صلاة الكسوف، فسألتها، فقالت: آية؟ فأشارت برأسها، أي: نعم، وهي تصلي([6])؛ ولهذا يقال لصلاة الكسوف: صلاة الآيات، وهي مشروعة في أحد القولين، يقول شيخ الإسلام: يُصلَّى بها في مذهب أحمد في جميع الآيات التي يحصل بها التخويف، كانتثار الكواكب، والظلمة الشديدة، ويصلى بها للزلزلة، نص عليه أحمد، كما جاء الأثر بذلك، وهذا جاء عن بعض الصحابة ، يعني: صلاة الخسوف والكسوف هذه تصلى لو حصل زلزال، فتُصلى على هذا، لو حصلت مثلاً أشياء مخيفة، كعواصف من الأتربة، والغبار الكثيف، فيمكن أن تصلى، وهكذا.
يقول: فهذه الآيات أخص من مطلق الآيات، يعني: الآية هي: مطلق العلامة، فقد تكون عجيبة، وقد لا تكون كذلك، قد يكون لها نظائر، وقد لا يكون لها نظائر.
إذن: هذا حاصل ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في معنى الآية، خلاصته: أنه يرى أن الآية ترجع إلى معنى: العلامة، والمعنى الآخر المشهور بمعنى: الجماعة يقول: هذا فيه نظر.
فمثل هذا الكلام قد لا تقف عليه في كتب الغريب، ولا في كتب اللغة؛ ولذلك قد أناقش بعض المواضع إذا دعت الحاجة إلى ذلك في الأشياء التي يكون هناك لربما اعتراض قوي عليها، من مثل شيخ الإسلام -رحمه الله-، أمّا ما عدا ذلك فلا نطيل في الأشياء الواضحة، لكن قد تبدو بعض الأشياء أنها واضحة وليست كذلك.
إذن: هنا ذكر للآية معنيين: العبرة والبرهان، والثاني: آية من القرآن، وكل هذا يرجع إلى معنى: العلامة، فإن الآية من القرآن هي: علامة على ما دلت عليه، وعلى صدق من جاء بها، أنها كلام الله -تبارك وتعالى-، لا يشبه كلام البشر.
وأما دلائل النبوة فهذه علامات، فالمعجزات هي دلائل وآيات، فكل ذلك من قبيل البراهين: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً آل عمران: 49يعني يقول: عبرة، ولكن هي: علامة، والله أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-: أتى -بقصر الهمزة- معناه: جاء، ومضارعه: يأتي، ومصدره: إتيان، واسم الفاعل منه: آتٍ، واسم المفعول منه: مأتِيٌّ، ومنه قوله تعالى: وَعْدُهُ مَأْتِيًّا مريم: 61.
يقول: أتى، معناها: جاء، فأصل هذه المادة يدل على مجيء الشيء، وإصحابه، وطاعته، يعني: أنه منقاد؛ ولهذا تقول: يتأتّى، ولم يتأتّ لذلك، يعني: لم يسهُل، ويتيسر، ونحو هذا، يقول الله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ النحل :1، وقال: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى طه: 60، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى طه: 69، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ الشعراء: 89، كل هذا بمعنى: المجيء، لكن ما قد تجده من بعض الاستعمالات -كما قلت- حينما تقول: لم يتأتّ لذلك، يعني: لم يتيسر؛ لأن أصل المادة فيه معنى: المجيء، والانقياد السهل.
قال -رحمه الله تعالى-: وآتَى -بمد الهمزة- معناه: أعطى، ومضارعه: يؤتي، ومصدره: إيتاء، واسم الفاعل: مؤتٍ، واسم المفعول: مؤتَى، ومنه: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ النساء: 162.
طبعاً هذه الجملة: "واسم المفعول مؤتَى"، ليست في الطبعة الأخرى التي هي طبعة البيان الإماراتية، وهذه الطبعة فيما تُخالف فيه تلك الطبعة الغالب أن هذه الطبعة أصوب، والعبارة فيها أصح.
هذه المادة أيضاً: آتَى، تأتي أيضاً المؤاتاة مراداً بها: حسن المطاوعة، الإيتاء بمعنى: الإعطاء، تقول: تأتّى لهذا الأمر، أي: ترفق له، تقول: هات، بمعنى: آت، فدخلت الهاء على الألف، وهكذا تقول: تأتّى لفلان هذا الأمر، يعني: تيسر، والله -تبارك وتعالى- يقول: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا النساء: 54، وقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا البقرة: 269، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا النساء: 53، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ يعني: إعطاء، ذِي الْقُرْبَى النحل: 90، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ الأنبياء: 47، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ لقمان: 12، إلى غير ذلك.
يعني: مثل هذا الآن: "أتى والإيتاء" هذا ليس من الغريب؛ لأنه واضح المعنى.
قال -رحمه الله تعالى-: أبى: يأبى أي: امتنع.
وأيضاً مثل هذا: أَبى، ليس من الغريب، فإن هذه المادة تدور على هذا المعنى في أصلها، فالإباء بمعنى: الامتناع، والله يقول: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ البقرة :34 يعني: عن السجود لآدم ﷺ، ويقول: وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ البقرة: 282 يعني: لا يمتنع، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ التوبة: 32.
قال -رحمه الله تعالى-: أثرُ الشيء: بقيته، وأمارته، وجمعه: آثار، والأثر أيضاً: الحديث، وأثارة من علم: بقية، وأثاروا الأرض: حرثوها، وآثر الرجل الشيء يؤثره: فضَّله.
هذه المادة: "أثر"، ذكر ابن فارس -رحمه الله- لها ثلاثة أصول: تقديم الشيء، هذا الأول، الثاني: ذكر الشيء، الثالث: رسم الشيء الباقي.
فهنا المؤلف قال: "أثرُ الشيء بقيته، وأمارته"، فهذا يوافق المعنى الثالث الذي ذكره ابن فارس، قال: "أثر الشيء بقيته وأمارته، وجمعه آثار"، تقول: هذه آثار الحرب، يعني: مخلفات الحرب، ما أورثته الحرب، وهذه آثار القوم، يعني: ما تركوه، وأبقوه بعدهم في موضعهم، أو منازلهم، أو نحو ذلك.
قال: "والأثر أيضاً: الحديث"، وهذا يوافق الثاني الذي ذكره ابن فارس، وهو: ذكر الشيء، فالحديث يقال عنه: يؤثر، وأَثَر، ومنه: الآثار، والآثار يُطلقها كثيراً أهل الحديث مراداً بها: المرفوع، والموقوف، والمقطوع، يعني: قول النبي ﷺ، وقول الصحابي، ومن دونه -وهو قول التابعي- يقال له: أثر، وهو الاستعمال الشائع لدى الأصوليين والفقهاء، عامة الأصوليين والفقهاء، اللهم إلا ما قلّ، كبعض الشافعية الخُرسانيين، كما يذكر الأصوليون، وأيضًا ذكره جماعة من العلماء في مصنفاتهم في علوم الحديث: أنهم فرقوا بين الخبر والأثر، وجعلوا الخبر للمرفوع، والأثر لقول الصحابي، فالأثر هنا -كما قال- الحديث، ومن ذلك المآثر أي: المكارم؛ لأنها تُروى، ويتحدث الناس بها، قال الله تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ المدثر: 24، يعني: يُتلقى، ويؤخذ، ويروى عنهم.
يقول: "وأثارة من علم: بقية"، وبعضهم فسره بغير هذا، وفيه قراءات، وفيه لغات، فالأثارة هي: بقية من العلم، وبعضهم فسره: بالخط، وما جاء من الحديث: عن النبي ﷺ: (بأن نبياً من الأنبياء كان يخط)([7])، يعني: الخط على الرمل، وهذا إنما فعله ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو مؤيد بالوحي، فيقع على الوجه الصحيح، أما ما يفعله الكاهن، والعراف، وما أشبه ذلك، فهذا من الكهانة، فلا يجوز، فذلك من الأثر، أثر الشيء، خط في الرمل، بهذا الاعتبار، وبهذا التفسير، وبعضهم قال: الأثارة من العلم هي ما يوجد في كتبهم، أو نحو ذلك، فيكون مما يُروى، يعني: بمعنى الأثر.
قال: "وأثاروا الأرض: حرثوها"، يعني: تركوا فيها أثراً.
قال: "وآثر الرجل الشيء يؤثره: فضله"، فالإيثار بمعنى: التفضيل، وهذا يوافق المعنى الأول الذي ذكره ابن فارس، وهو: تقديم الشيء، فيقال: الإيثار، وهو: تقديم الغير على النفس في حظوظها، طبعاً ينبغي أن يُقيد الإيثار المشروع بقولك: في حظوظها الدنيوية، وإلا فالإيثار يقع في الحظوظ الأخروية، لكنه غير محمود؛ لأنه يؤذن بالزهد بما عند الله -تبارك وتعالى-، فهو غير مشروع، واستثنى منه بعض أهل العلم كالنووي وغيره: فيما لو قدم الإمام العادل، أو العالم، أو الوالد في الصف الأول.
والأثرة ليست هي: الإيثار، فالإيثار من: آثر الرجل الشيء يؤثره على نفسه، يعني: فضله، يؤثر على نفسه، قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ الحشر: 9، وليس الأثرة، فالأثرة هي: الاختصاص بالشيء دون غيره، هذه الأثرة، وليس الإيثار، لكن ذاك يقال: استأثر به، بمعنى: أنه استقل به دون غيره، فهنا تقديم الغير على النفس في حظوظها يقال له: الإيثار.
فهذه ثلاثة أصول ذكرها ابن فارس، وهي المعاني التي أشار إليها المؤلف، فـ"أثر" في استعمالاتها تأتي بمعنى: تقديم الشيء، أيضاً: ذكر الشيء بمعنى: الرواية والتحديث به، ورسم الشيء الباقي، فما يبقى يقال له: أثر.
وانظر إلى الاستعمالات في القرآن: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا يوسف: 91بمعنى: فضلك، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ طه: 96بمعنى: البقية، قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى طه: 84، على أثري يكون بمعنى ماذا؟ بمعنى: رسم الشيء والبقية، كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا الروم: 9، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا الروم: 50، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ الصافات: 70، وهكذا في قوله: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ الفتح: 29يعني: رسم الشيء، ما يبقيه من الأثر، ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا الحديد: 27، وهكذا، لكن قوله: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ المدثر: 24يعني: يُروى ويتناقل، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا الأعلى: 16يعني: التفضيل والتقديم، لكن المِئثرة ما هي؟ ما هي المِئثرة؟ المئثرة: حديدة يوضع بها علامة في أسفل خف البعير من أجل أن يُعرف، ويُقص أثره، يقال لها: مِئثرة، توضع علامة في خف البعير، كان خف البعير يُنحت، أو يُحفر بهذه الآلة والحديدة، يسمونها: مِئثرة، من أجل أنه إذا مشى يُعرف أين ذهب، هذا هو بعير فلان، فهي: مِئثرة.
قال -رحمه الله تعالى-: إثم: ذنب، ومنه: آثم وأثيم، أي: مذنب.
الإثم يقول: الذنب، أصل هذه المادة تدل على: البطء والتأخر، كما يقول ابن فارس، في الأصل لها معنى واحد، يدل على: بطء وتأخر؛ ولهذا يقولون: ناقة آثمة، ما المقصود بالناقة الآثمة عندهم؟ يعني: المتأخرة، تأتي بعد الإبل، فهي: آثمة، والإثم يقولون: مشتق من هذا، كما يقول ابن فارس؛ لأن صاحب الإثم: بطيء عن الخير، متأخر عنه، هذا وجه الارتباط، وقد يُطلق الإثم على نوع خاص من الذنوب، وهو الخمر، كما قال الشاعر:
شربتُ الإثمَ حتى ضلَّ عقلي *** كذاك الإثمُ تفعل بالعقولِ
يقصد الخمر، فأُطلق على بعض أنواع الإثم، ويُطلق الإثم أيضاً على ما يترتب على المعصية من المؤاخذة، يقال: من فعل كذا فهو آثم، يأثم، هذا فيه إثم يعني: مؤاخذة، فالإثم يقال للمعصية نفسها، ويقال أيضاً لما يترتب عليها، فتقول: الزنى إثم، وتقول: يترتب عليه الإثم، يأثم من فعل كذا، فلان آثم، والله يقول: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ البقرة: 173، فهنا هل أطلق على المعصية نفسها، أو على المترتب عليها، وهو الجزاء؟ أطلق على الجزاء المترتب عليها، فهو إطلاق صحيح، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ البقرة: 219، أُطلق على ما يترتب عليه، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان: 68]، هذا على الجزاء، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ البقرة: 276أي: مُواقِع للآثام، كثير الآثام، كثير الذنوب والمعاصي، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الشعراء: 222.
قال -رحمه الله تعالى-: أجر: ثواب، وبمعنى: الأُجرة، ومنه: اسْتَأْجِرْهُ القصص: 26، عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي القصص: 27، وأما اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ التوبة: 6، وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ الأحقاف: 31، ولَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ الجن: 22، وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ المؤمنون: 88، فذلك كله من الجوار، بمعنى: التأمين.
هنا إذًا جملة ما ذكره من المعاني ثلاثة: الثواب، والأجرة، والتأمين، ابن فارس -رحمه الله- يُرجع هذه المادة إلى أصلين في المعنى، يقول: ويمكن الجمع بينهما، وانتبهوا للملحظ، أو وجه الجمع بين المعنيين، فهذا مهم، ويُحتاج إليه في معرفة المعاني، الأول: الكراء على العمل، والثاني: جبر العظم الكسير، فـ"أجْر": جبر العظم الكسير، كيف يمكن الجمع بينهما، بين هذين المعنيين؟ وجه الجمع بينهما: أن أجرة العامل كأنها شيء يُجبر به حاله فيما لحقه من كد العمل من النصب والتعب الذي لحقه، فيُجبر بالأجرة، هكذا جمع ابن فارس بين المعنيين، فيكون الأجر بمعنى: الأُجرة، وأما الثواب الذي ذكره المؤلف فهو من هذا المعنى، يؤجر فلان على كذا بمعنى: يُثاب، فالأجر بمعنى: الثواب، وذلك فيما يُعطاه العامل على عمله، فكل ذلك يقال له: أجر.
وأما الاستجارة: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ التوبة: 6، فهذا يقول بمعنى: التأمين، ابن فارس ما ذكر هذا، يمكن أن يقال: إنه يرجع إلى ما ذُكر، فهذا الذي خاف فلجأ إلى غيره من أجل أن يؤمنه، كأنه قد جبره بجواره، والله أعلم.
وقوله: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ العنكبوت: 58يعني: ثواب العاملين، لِيَجْزيكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا القصص: 25بمعنى: الأجرة، فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الطلاق: 6أيضاً بمعنى: الأجرة.
قال -رحمه الله تعالى-: آمن إيماناً: أي: صدّق، والإيمان في اللغة: التصديق مطلقا، وفي الشرع: التصديق بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والمؤمن في الشرع: المصدِّق بهذه الأمور، والمؤمن: اسم الله -تعالى-، أي: المصدِّق لنفسه، وقيل: إنه من الأمن، أي: يؤمِّن أولياءه من عذابه.
هنا فسر الإيمان في اللغة بالتصديق، قال: وفي الشرع: التصديق بالله وملائكته ... إلى آخره، وذكرت لكم في الكلام على عقيدة المؤلف: أن في الكتاب أشياء تستدرك على المؤلف فيما يتعلق بالاعتقاد، منها: هذا الموضع، وفي كل المواضع التي ستأتي في ذكر الإيمان، فهو يفسره بالتصديق، وهذا يقول به، ويفسر به بعض أهل السنة، مع أنهم عند تحرير الكلام على مسألة الإيمان -أعني: أهل السنة- لا يقولون: هو مجرد التصديق، لكنهم يفسرونه بمعنى يقرب، ولكنه غير مطابق ولا مكافئ للفظ المفسَّر، وإلا تجد هذا في كثير من كتب المتقدمين والمتأخرين من أهل السنة، وكأنهم يفعلون ذلك اختصاراً؛ لأنك لو أردت في التفسير عند كل كلمة إيمان تمر أن تقول: من آمن بالله، بمعنى: صدق، وأقر، وأذعن، وانقاد قلبه، وقال بلسانه، وعمل بجوارحه ... إلى آخر الكلام الطويل، وفي كل مرة يُكرر هذا لطال ذلك.
لكن الذي ينبغي أن نفهمه نحن الآن هو: أن الإيمان في اللغة ليس معناه: التصديق، هناك فروقات بين الإيمان والتصديق، فالإيمان يتضمن التصديق، كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-، ذكر هذا في الصارم المسلول، وفي غيره، لكنه ليس مجرد التصديق، وأقرب ما يُفسر به هو: الإقرار، والطمأنينة، يقول شيخ الإسلام: لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق؛ لأن الأمر عندهم إنشاء، والكلام: خبر وإنشاء، فالذي يقع معه التصديق هو: الخبر، لكن الإيمان يقع في الخبر، وفي غيره، فيقول: الأمر ليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله خبر وأمر، فالخبر: يستوجب تصديق المُخبِر، والأمر: يستوجب الانقياد له، والاستسلام، وهو عمل في القلب، جِماعه الخضوع، يعني: أن الإيمان عمل في القلب، جِماعه الخضوع، والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به، فلابد من الانقياد، يقول: فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار، فإن اشتقاقه من الأمن، لاحظوا: فقد ربط بينه وبين تفسير الأمن الذي سيأتي بعدُ، فسنحتاج فيه إلى مثل هذا المعنى، يقول: فإن اشتقاقه من الأمن، الذي هو القرار، والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب، أي: استقر التصديق، والانقياد، وإذا كان كذلك فالسب إهانة، واستخفاف، والانقياد للأمر إكرام، وإعزاز، ومحال أن يهين القلب من انقاد له، وخضع، واستسلم، أو يستخف به، يعني: هذا الإنسان الكافر قد يكون مصدقاً وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ النمل: 14، ولكن هؤلاء في غاية الكفر، والإعراض، يقول شيخ الإسلام: فإذا حصل في القلب استخفاف، واستهانة، امتنع أن يكون فيه انقياد، أو استسلام، فلا يكون فيه إيمان، وهذا هو بعينه كفر إبليس، فإنه سمع أمر الله له، فلم يكذب رسولاً، ولكن لم ينقد للأمر، ولم يخضع له، واستكبر عن الطاعة، فصار كافراً، يقول: وهذا موضوع زاغ فيه خلق من الخلف، تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق، ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب، أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب مؤمناً، يعني: بعضهم، بعض غلاة المرجئة، الجهمية مثلاً، أو كذا، يرون أن إبليس مصدق ومؤمن، ويذكر في مجموع الفتاوى أيضاً في المجلد السابع كلاماً نحو هذا، ويرد على هؤلاء الذين فسروه بالتصديق، ويُخرجون الأعمال من الإيمان، ويحتجون بقوله: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا يوسف: 17، أي: بمصدق لنا، ثم يرد عليهم بردود طويلة، ويذكر أن هاتين المقدمتين غير صحيحتين، يقول: من الذي قال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق؟، وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَايوسف: 17، هو يقول: ليس هذا معناها في الآية، لكن افترض أنه هذا المعنى، فلِم قلت: إنه يوجب الترادف؟ يعني: مطلقاً أن الإيمان يرادف التصديق، ثم يقول في كلام طويل له، لكن هذه أجزاء منه، يقول: ثم يقال: ليس هو مرادفاً له، وذلك من وجوه، هناك فرق بين الإيمان والتصديق فانتبهوا، الأول: أنه يقال للمُخبِر إذا صدّقتَه: صدَّقَه، ولا يقال: آمنه وآمن به، بل يقال: آمن له، لاحظوا التعدية في لفظ: آمن وصدّق، يقال: آمن له، كما قال: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت: 26، وقال: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ يونس: 83، وقَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ الأعراف: 123، وقالوا لنوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ الشعراء: 111، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ التوبة: 61، أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ المؤمنون: 47، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي الدخان: 21.
فإن قيل: فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا، قيل: اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعُف عمله، كاسم الفاعل، ثم ذكر كلاماً مفصلاً في هذا، يقول: وإلا فإن الأصل أن لفظة صدَّق تتعدى بنفسها، تقول: صدقته، وما تقول: صدقت له، لكن تقول: آمنت له، وآمنت به، يقول: وهذا بخلاف لفظ الإيمان، فإنه تعدَّى إلى الضمير باللام دائماً، فلا يقال: آمنته قط، وإنما يقال: آمنت له، كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقًا، ولذلك نحن نقول: الإيمان هو بمعنى الإقرار، والإذعان، والانقياد القلبي، إذا ذكر معه العمل الصالح.
ثم ذكر الوجه الثاني في الفروقات بين الإيمان والتصديق: أنه ليس مرادفاً للفظ التصديق في المعنى، فإن كل مُخبِر عن مشاهدة، أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، فلم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة كقوله: طلعت الشمس، وغربت، أنه يقال: آمناه، كما يقال: صدقناه، فنحن نقول: صدقناه إذا أخبر عن شيء مشاهد، لكن ما يقال: آمناه، ويقول: فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المُخبِر، كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المُخبِر؛ ولهذا لم يوجد قط في القرآن، وغيره لفظ: آمن له إلا في هذا النوع ... إلى أن قال: ولهذا قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت: 26، أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ المؤمنون: 47، آمَنْتُمْ لَهُ طه: 71إلى آخره، فيصدقهم فيما أخبروا به مما غاب عنه، وهو مأمون عنده على ذلك، فاللفظ متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق.
ثم ذكر الفرق الثالث بين الإيمان والتصديق: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يُقابَل بالتكذيب، كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة: أن كل مُخبِر يقال له: صدقت، أو كذبت، ويقال: صدقناه، أو كذبناه، ولا يقال لكل مُخبِر: آمنا له، أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له، أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ: الكفر، يقال: هو: مؤمن، أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، لكن لا أتبعك، بل أعاديك ... إلى آخره، لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، عُلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة، ومعاداة، وامتناعاً -يعني: أنواع الكفر بلا تكذيب- فلابد أن يكون الإيمان تصديقاً مع موافقة، وموالاة، وانقياد، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان، كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر، فيجب أن يكون كل مؤمن مسلماً منقاداً للأمر، وهذا هو العمل.
ثم ذكر الفرق الرابع: أن من الناس من يقول: الإيمان أصله في اللغة من الأمن الذي هو ضد الخوف، فآمن أي: صار داخلاً في الأمن ... إلى آخر ما ذكر.
وبدأ يرد على المقدمة الثانية: أنه إذا فُرض أنه مرادف للتصديق، يقول: فقولهم: إن التصديق لا يكون إلا بالقلب، أو اللسان، عنه جوابان: أحدهما: المنع، بل الأفعال تسمى تصديقاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (العينان تزنيان...)
فقولهم: إن التصديق لا يكون إلا بالقلب، أو اللسان، عنه جوابان: أحدهما: المنع، بل الأفعال تسمى تصديقاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (العينان تزنيان...)
إلى أن قال: (والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)([8])، فالتصديق يكون بالفعل، وليس بمجرد القول، يقول: وكذلك قال أهل اللغة، وطوائف من السلف، والخلف، ونَقل عن الجوهري، فقال: والصدّيق مثال: الفسّيق، الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل، ونَقل عن الحسن البصري القول المشهور: ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال، فالتصديق يكون بالفعل ... إلى آخر ما قال، ذكر هذا في أكثر من موضع في كتبه، في المجلد السابع، في صفحة: [122] على سبيل المثال، وكذلك أيضاً في المجلد السابع في صفحة: [289 إلى 294]، وتجدون هذا في كتاب الإيمان الكبير، فله كلام في غاية الأهمية، الفروقات في اللغة بين الإيمان والتصديق، بينما تجدون العبارات الدارجة في كتب التفسير: الإيمان بمعنى التصديق، آمنا أي: صدقنا، وهذا الكلام فيه إشكال لا يخفى، وسنأخذ أيضاً لفظة واحدة تتعلق بهذا المعنى التي هي: الأمن.
قال -رحمه الله تعالى-: وأمِنَ -بقصر الهمزة، وكسر الميم- أمناً، وأمَنَة، ضده: الخوف، وأمن أيضاً: من الأمانة، وأمّن غيره: من التأمين.
ابن فارس -رحمه الله- في الكلام على الإيمان ذكر كلاماً يشمل هذا أيضاً، وكما قلت لكم بأن ما نذكره في الإيمان سنحتاج إليه في الكلام على الأمن، فهنا ذكر ابن جُزي -رحمه الله-: أنه يأتي بمعنى يقابل الخوف، ومن الأمانة، ومن التأمين، ابن فارس -رحمه الله- يقول: إن هذه المادة لها أصلان: الأول: الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر: التصديق، يقول: والمعنيان متدانيان، أي: متقاربان، شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى: أن الإيمان يجمع بين هذا وهذا، ففيه معنى التصديق، والإقرار، والانقياد، والإذعان، بالإضافة إلى الأمن، أن ذلك لا يقال: الإيمان، إلا فيما يؤتمن عليه المُخبِر؛ ولذلك لا يقال في الأمور الظاهرة، كطلوع الشمس، ونحو ذلك، فيرى أن المعنيين في الإيمان مضمنان، ففيه معنى: الأمن، والطمأنينة، تطمئن إلى هذا الشيء الذي اعتقدته، أو صدقته، أو جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- من عند ربه -تبارك وتعالى-، فهذا كله متحقق فيه.
فالأمن: ضد الخوف، والأمن: من الأمانة، والأمن: من التأمين، ائتمنه عليه، فهذا داخل في موضوع الإيمان، أيضاً: ما يقابل الخوف، فإن الإيمان فيه طمأنينة؛ ولذلك فإن الكفر ريبة، والكذب ريبة، والصدق طمأنينة، والرَّيب: أخص من مطلق الشك، الرَّيب شك فيه قلق، شك مُقلق، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ البقرة: 2، ليس فيه ما يورث الريب من التناقض والتعارض، وهذا النفي فيه يتضمن ثبوت كمال ضده، أنه متضمن لكمال الصدق، إلى غير ذلك مما ذُكر هناك، ويأتي -إن شاء الله تعالى- في موضعه.
يقول الله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ البقرة: 283، الأمانة التي يقابلها الخيانة، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ الأعراف: 99، الأمن هنا الذي يقابل الخوف، أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ يوسف: 107كذلك، وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الأنفال: 27، الأمانة التي تقابل الخيانة، إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ الأحزاب: 72، ما يؤتمن عليه الإنسان، وهذا يشمل التكاليف بأنواعها، وكل ما يؤتمن عليه، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا العنكبوت: 67هنا يقابل: الخوف، فهذه المعاني مترابطة متقاربة: الإيمان والأمن، فإنه شيء يؤتمن عليه، ويُؤمن أيضاً من جاء به، وهو أيضاً يورث الطمأنينة، بخلاف الكذب، فإنه يورث الريبة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
[1] أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، رقم: (5027).
[2] أخرجه البخاري، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم: (223).
[3]- أخرجه النسائي، كتاب الافتتاح، ترديد الآية، رقم: (1010)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل، رقم: (1350)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: (1/ 378)، رقم: (1205).
[4] أخرجه الترمذي، أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل القرآن، رقم: (2906)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته: (ص: 302)، رقم: (2081).
[5] أخرجه البخاري، أبواب الكسوف، باب قول النبي ﷺ: «يخوف الله عباده بالكسوف» قاله أبو موسى عن النبي ﷺ، رقم: (1048)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، رقم: (901).
[6] أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس، رقم: (86)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي ﷺ في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، رقم: (905).
[7] أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، رقم: (121).
[8] أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج، رقم: (6243)، ومسلم، كتاب القدر، باب قُدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره، رقم: (2657).