بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير التسهيل لابن جُزي
معاني اللغات (الغريب)
(13- أ) حرف الهمزة: من قوله: آنية إلى قوله: أو
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين، أما بعد:
فيقول الإمام ابن جُزي الكلبي -رحمه الله تعالى-: آنية: له معنيان: جمع إناء، ومنه: بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ الإنسان: 15، وشديدة الحر، ومنه: مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ الغاشية: 5، ووزن الأول: أفْعِلة، ووزن الثاني: فاعِلة، ومذكره: آن، ومنه: حَمِيمٍ آنٍ الرحمن: 44.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
الآنية: ذكر لها معنيين، وذلك كما سبق أنه يذكر المعنى المباشر في القرآن بحسب الموضع، أو المواضع التي ورد فيها، ولكن نحن نذكر في البداية: الأصل الذي ترجع إليه هذه المعاني إن كان واحداً، أو أكثر، ثم بعد ذلك نُفرع عنها ما يُذكر، فيكون هذا أدعى إلى الضبط، ولمّ المتفرق، وما إلى ذلك.
فابن فارس -رحمه الله- يرى أن هذه المادة: الهمزة والنون وما بعدها من المعتل لها أربعة أصول:
الأول: البطء، وما في معناه من الحِلم، ونحوه، يعني يقال: فلان ذو أناة، ومتأنٍّ، الحلم، والأناة، فهذا الأول.
والثاني: الساعة من الزمان.
والثالث: إدراك الشيء.
والرابع: ظرف من الظروف.
يقول: أما الظرف فالإناء -ممدود- من الآنية، إناء يوضع فيه الطعام والشراب، فهو ظرف من الظروف.
فهنا المعنيان اللذان ذكرهما ابن جُزي هما:
الأول: جمع إناء، بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍالإنسان: 15، فهذا ظرف من الظروف.
والثاني: شديدة الحر، عَيْنٍ آنِيَةٍالغاشية: 5يعني: متناهية في حرها، فهذا يرجع إلى أي معنى من الأصول الأربعة التي ذكرها ابن فارس؟ يرجع إلى إدراك الشيء، ما وجه هذا الإدراك؟ وجه هذا الإدراك بأي اعتبار؟ باعتبار أنه قد تناهى في حره، فأدرك منتهاه؛ ولهذا يقال: للنضج غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُالأحزاب: 53، أي: غير ناظرين نضجه، ينهاهم عن الانتظار للطعام، فيطيلون المكث في مجلس رسول الله ﷺ، فيأتون قبل نضج الطعام بمدة، ثم يجلسون بعد الطعام، فيثقل ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-
غير ناظرين نضجه، ينهاهم عن الانتظار للطعام، فيطيلون المكث في مجلس رسول الله ﷺ، فيأتون قبل نضج الطعام بمدة، ثم يجلسون بعد الطعام، فيثقل ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-
، فهذا كله مما يرجع إلى أصل هذه المادة.
وقوله تعالى: آنَاءَ اللَّيْلالزمر: 9يعني: ساعات الليل، والْآنَالبقرة: 71يعني: اللحظة الحاضرة التي هي فصل بين الزمانين: الماضي والمستقبل، فصل بين الزمانين، فابن جُزي هنا -رحمه الله تعالى- ذكر معنيين فقط.
قال -رحمه الله تعالى-: أحد: له معنيان: واحد، ومنه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌالإخلاص: 1، واسم نفي بمعنى: إنسان.
الأحد: أرجع ابن فارس الهمزة والحاء والدال، فقال: فرع، والأصل: الواو يعني: وحد، أي أن أصله: وحد، وأن همزته ليست أصلية، وسنحتاج إلى هذا بعد قليل في الكلام على الهمزة إذا كانت أصلية أو زائدة، فقال: أصله وحد، تقول: ما استأحدتُ بهذا الأمر، يعني ما انفردتُ به، وما استوحدتُ، يعني: ما انفردت، فأحد بمعنى: واحد، ومنه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌالإخلاص: 1.
قال: واسم نفي بمعنى: إنسان، أحد يُستعمل على ضربين:
الأول: في النفي فقط.
والثاني: في الإثبات.
فأما المختص بالنفي فهذا للاستغراق، استغراق جنس الناطقين -يعني الإنسان-، فيكون نفياً لجنسه يعني: أن ذلك النفي يكون عامًّا، ويتناول القليل والكثير، تقول: ما في الدار أحد، هذا في النفي، ما في الدار أحد يعني: لا يوجد فيها إنسان، يعني: لا يوجد واحد، ولا يوجد اثنان، ولا أكثر، فهو نفي للجنس، لا يوجد أحد لا مجتمعين، ولا متفرقين، لا يوجد أحد، بخلاف ما لو قلت: لا يوجد واحد، أو لا يوجد اثنان، أو لا يوجد رجال، فإذا قلت: لا يوجد اثنان، لا يوجد رجلان، قد يوجد رجل واحد، وإذا قلت: لا يوجد رجل، فقد يوجد رجلان، وهكذا؛ ولهذا يقولون: إنه لم يصح استعماله في الإثبات، يعني: لا نقول: يوجد أحد، لكن لربما نقول ذلك في سياق الاستفهام -بمعنى الاستفهام- يعني: هل يوجد أحد؟، فهذه في النفي.
أما الذي يأتي في الإثبات فهو على ثلاثة أنواع:
الأول منها: ما يكون في الواحد المضموم إلى العشرات، أحد عشر، رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًايوسف: 4، وهكذا أحد وعشرون كما يقال، فهذا في سياق الإثبات.
والثاني: أن يستعمل مضافاً، أو مضافاً إليه، وهو بمعنى الأول، كقوله: أَمَّا أَحَدُكُمَا يوسف: 41، فأحد أُضيف إلى كاف الخطاب، ولم يذكر من غير إضافة، قال: أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا يوسف: 41، وأما يوم الأحد فهو بمعنى: الأول؛ لأن الأحد الأول، والاثنين الثاني، والثلاثاء الثالث، والأربعاء الرابع، وهكذا الخميس، ثم بعد ذلك يكون يوم الاجتماع، اجتماع الخلق، واجتماع خلق آدم، واكتمال الخليقة، فالله ابتدأ الخلق يوم الأحد، فهو الأول؛ ولذلك كانوا يسمونه في الجاهلية: "أول"، هكذا يذكرون، والله تعالى أعلم.
الاستعمال الثالث: أن يستعمل مطلقاً وصفاً، وهذا لا يكون إلا في وصف الله -تبارك وتعالى-، يعني: يُستعمل من غير إضافة في الإثبات، قلنا: في النفي يأتي، ولا إشكال، ويكون ذلك نفياً لجنس الناطقين، لا أحد في الدار، لكن في الإثبات هكذا مطلقاً من غير إضافة، ولا إضافة إلى العدد، ولا تركيب معه، فهذا في صفات الله -تبارك وتعالى-، وأسمائه، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌالإخلاص: 1.
وعرفنا أن أصل الهمزة: الواو، وحد، وهذا قد جاء في كلام العرب: "وحد"، في سياق الإثبات، كقول النابغة في البيت المشهور:
كأنّ رحلي وقد زال النهارُ بنا *** بذي الجليل على مستأنِسٍ وَحَدِ
أي: واحد.
فقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ الإخلاص: 4، هذا في سياق النفي، وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌالبقرة: 102، هذا في سياق النفي، ودخلت عليه مِنْ أيضاً؛ فذلك لزيادة التنصيص في العموم، وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَالأعراف: 80، هذا أيضاً في سياق النفي، هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ التوبة: 127، هذا في سياق الاستفهام.
قال -رحمه الله تعالى-: أيّان: معناه: متى.
أيان: هذه المادة ابن فارس -رحمه الله- يقول فيها: الهمزة والياء والنون تدل على: الإعياء، وذكر في كتابه الآخر: المُجمل: أن الأين: الإعياء، ويدل على قرب الشيء، كقولك: آن لك أن تفعل كذا، آن يئين، أي: قرب لك.
فقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَاالنازعات: 42، المعنى المباشر: متى، كما ذكر ابن جُزي -رحمه الله-: متى تقع؟ وقوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَالنحل: 21يعني: متى يبعثون؟ وقوله: يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ الذاريات: 12، يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِالقيامة: 6، أَيَّانَ مُرْسَاهَاالنازعات: 42، متى تقوم الساعة؟
فهذا كله بمعنى واحد، يعني: متى، وهذا يرجع إلى المعنى الثاني الذي ذكره ابن فارس، ولكن المعنى المباشر كما قلنا: متى، لكن قوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِالحديد: 16، "ألم يأنِ" يعني: ألم يحن؛ ولذلك في قوله -تبارك وتعالى-: غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُالأحزاب: 53يعني: نضجه، ويمكن أن يقال: غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُالأحزاب: 53أي: حين، أو وقت النضج، فيرجع إلى هذا المعنى، وبهذا يتضح وجه الارتباط.
قال -رحمه الله تعالى-: أنّى: بمعنى: كيف، ومتى، وأين.
"أنَّى" هذه فيها المعاني الثلاثة التي ذكرها ابن جُزي -رحمه الله-: كيف ومتى وأين، وكل ذلك للاستفهام.
وابن فارس -رحمه الله-: يُرجعها إلى ما سبق قبل قليل في الكلام على الآنية، فأصل المادة: الهمزة والنون وما يُثلثها من الحرف المعتل، فقلنا: أرجع ذلك إلى البطء، يقال: فلان فيه أناة، أي: الحلم والأناة، وكذلك الساعة من الزمان، وإدراك الشيء، وظرف من الظروف.
فأنّى بمعنى: كيف ومتى وأين، وبعضهم يقول: إنها تأتي لهذه المعاني التي ذكرها ابن جُزي، المعاني الثلاثة مجتمعة، قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ آل عمران: 37، "أنّى لكِ" بمعنى: من أين لكِ؟، قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ آل عمران: 40، هذه ما معناها؟ كيف، "أنّى يكون" أي: كيف يكون لي غلام، قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ آل عمران: 47بمعنى: كيف، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَاآل عمران: 165، من أين أوتينا؟ من أين وقع هذا؟ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَالمائدة: 75، كيف يؤفكون، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌالأنعام: 101، كيف يكون له ولد؟ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ التوبة: 30، بمعنى: كيف، وهكذا: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ الدخان: 13، يمكن أن يكون بمعنى: كيف، وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍسبأ: 52، يعني: كيف.
قال -رحمه الله تعالى-: "إنَّ" المكسورة المشددة: للتأكيد، والمفتوحة المشددة: مصدرية.
على كل حال: هذه الأدوات يُحتاج إلى معرفتها؛ لأنها قد تأتي لمعانٍ متعددة.
"إنَّ" هذه المكسورة المشددة: للتأكيد، فالعرب تؤكد الكلام بحسب حال المُستقبِل، وحال المخاطب، وحال المستمع، فإذا كان يثق بمخاطِبه، فإنهم يأتون بالخبر مجرداً، تقول: جاء زيد، فإذا كان يحتاج إلى شيء من التأكيد، إذا كان عنده شيء من التردد، فيقال: إن زيداً مسافر، كنت أولا تقول: زيد مسافر، ثُمّ قلت: "إنَّ"، فأكدتها، فهي: بمنزلة إعادة الجملة مرتين، كأنك قلت: زيد مسافر، زيد مسافر، فتعيد للتوكيد، واللغة العربية فيها فنون منها ما يُغني عن الإعادة، فهذا مؤكِّد، وهناك مؤكِّدات أخرى، كالقسم، وما إلى ذلك، فهذه للتوكيد: إنَّ.
والمفتوحة المشددة: مصدرية، يعني: يمكن أن تُصاغ مع ما بعدها بمصدر، والمصدر هو ما يأتي ثالثاً في تصريف الفعل، تقول: ذهب يذهب ذهاباً، انظر: ذهب واحد، يذهب اثنين، والثالث: ذهاباً، هذا هو المصدر، كتب يكتب كتابة، وهو ما يأتي ثالثاً في تصريف الفعل، وهو كما قال ابن مالك -رحمه الله-:
المصدرُ اسمُ ما سوى الزمانِ من *** مدلولَي الفِعلِ كأَمْنٍ مِن أَمِن
فقال: اسم ما سوى الزمان؛ لأن الفعل فيه شيئان: مثل: ذهب، فيه: الزمن الماضي، يذهب: الزمن المضارع، اذهب: الزمن المستقبل، فيه: الزمن، وفيه: المعنى، الذي هو الذهاب، فلو أزلنا الزمان من الفعل، فما الذي يكون؟ يكون المصدر، يعني: لو جعلنا المعنى فقط، اعتبرناه، وعبرنا عنه من غير زمان ذهب يذهب اذهب، سنقول: الذهاب، فالذهاب هو: المصدر، فدل على المعنى الذي هو الذهاب، أو الأكل، أو القراءة، أو الكتابة، فهذا هو المصدر.
فالفعل له مدلولان: الزمن والمعنى، أو النسبة، أو نحو ذلك، كما يعبرون عنه، فهذا هو المصدر.
فهذه المفتوحة المشددة: مصدرية.
وإنَّ في القرآن: تأتي لمعانٍ أخرى غير ما ذكر من التوكيد، هي: تأتي للتوكيد، وتأتي أيضاً للتعليل: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ الإسراء: 36، فهذا للتعليل أيضاً مع ما فيها من التوكيد، فهي لا تكاد تنفك عنه، يعني: التوكيد، وكأنه هو المعنى الأصلي لها، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، كأنه يقول: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌالإسراء: 36؛ لأن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا الإسراء: 36، وهكذا، وتأتي بمعانٍ أخرى غير هذا، ولكن التأكيد هو الأصل بين هذه المعاني، وهو الأكثر استعمالاً ووروداً في القرآن، لكن يمكن أن يكون معه معنى آخر، كالتعليل مثلاً، والله أعلم، وقد تأتي بمعنى: نعم، هل يوجد لها أمثلة في القرآن؟ بعضهم يذكر مثالاً لذلك، وهو ليس محل اتفاق، فيذكرون قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ طه: 63، على قراءة الجمهور بتشديد "إنَّ"، فبعضهم قال: إِنَّ هنا بمعنى: نعم؛ ولذلك جاء ما بعدها مرفوعاً، والأصل أن إنَّ تنصب الاسم، وترفع الخبر، والجملة هكذا: مبتدأ وخبر، مثل: زيد قائم، فإن دخلت عليها إِنَّ نصبت الاسم فتكون: إنَّ زيداً قائم؛ ولذلك يقولون: ناسخة؛ لأنه حصل التغيير للمبتدأ، فتحول إلى اسم لها، وصار منصوباً، تقول: إنَّ زيداً قائم، والخبر مرفوع، فهنا: إِنَّ هَذَانِ فجاء اسمها مرفوعاً، وبعضهم ألَّف رسالة مستقلة في هذا الموضع، فأجوبة العلماء عن هذا الموضع كثيرة جدًّا، كيف جاء الاسم مرفوعاً؟ فبعضهم قال: هذا على لغة لبعض العرب، وهذا أقرب هذه الأجوبة، وهو: إلزام المثنى الألف، كقول شاعرهم:
إنَّ أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها
ما قال: غايتيها، فهي: لغة عربية فصيحة، لكن العلماء أجابوا بأجوبة أخرى، منها: أنها بمعنى: نعم، وأما في التوكيد فهذا هو الأكثر: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ الحج: 1، مع أنها هنا يمكن أن تكون بمعنى: التعليل أيضاً: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌالحج: 1، فيمكن أن يكون فيها معنى التعليل؛ لأن زلزلة الساعة شيء عظيم، فاستعدوا لها بالتقوى، وقوله: وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون: 27]، فهي للتوكيد، ويمكن أن يكون أيضاً فيها معنى التعليل، لكنه قد يظهر التعليل أكثر في بعض المواضع، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْالتوبة: 103، هذه للتعليل، وأيضاً فيها معنى التوكيد، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْالتوبة: 103، كأنه يقول: لأن صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ.
وأما "أَنَّ" المشددة، فهي: تفيد التوكيد، ومن أهل العلم من يقولون: إنها فرع عن إنّ المكسورة، فهي تكون مؤكدة، كالمكسورة، وتكون أيضاً بمعنى: لعل، و "أَنَّ" هذه تصاغ ما بعدها بمصدر، تقول: أعجبني أنك مُجد، إذا صُغتها بمصدر، تقول: أعجبني جِدُّك، وعرفنا أن المصدر هو ما يأتي ثالثاً في تصريف الفعل، جَدَّ يَجِدُّ جِدًّا، تقول: أعجبني جدُّك، وتقول: رأيت أنك تلبس البياض، يعني: رأيت لُبسك البياض، رأيت أنك تؤْثر غيرك، رأيت إيثارك، وهكذا، والله أعلم، يقول تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ البقرة: 77، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌالبقرة: 106.
قال -رحمه الله تعالى-: "إنّما" للحصر.
"إنما" يقولون: هي: "إِنَّ" المؤكِّدة دخلت عليها "ما" الكافة، يعني: تكفها عن العمل، بحيث إنها لا تكون ناسخة بهذا الاعتبار، لا تنصب الجزء الأول من الجملة الذي هو المبتدأ، فيكون اسماً لها، وإنما يبقى على حاله؛ ولأجل ذلك فهي لا تعمل في جُزأيها -في جزأي الجملة-، وتستعمل أداة حصر، بمعنى: ما وإلا، إلا أنه يوجد بعض الفروق بينهما، يعني: صيغ الحصر متعددة، أقواها: النفي والإثبات: ما وإلا، فهي تتفاوت في قوتها، وهذا يُحتاج إليه في التفسير، ويُحتاج إليه في أصول الفقه في صيغ الحصر، ومفهوم المخالفة، في أنواع المفاهيم، فهي تتفاوت، فأقوى الصيغ: النفي والإثبات: ما وإلا، لا وإلا، مثل: لا إله إلا الله، هذه أقوى صيغة من صيغ الحصر، بعدها تأتي "إنما" في القوة، فهي المرتبة الثانية.
على كل حال: إذا دخلت "ما" هذه على "إِنَّ" وأخواتها، كفتها عن العمل، مثل: إنما، وكأنما، وما أشبه ذلك، لكن بعض أهل العلم يقولون: إنْ فُهم الحصر فمن سياق الكلام لا منها؛ لأن أصلها "إِنَّ"، و "ما" رُكبت معها، فكفتها عن العمل، يقولون: هي في الأصل مركبة، ولو كانت بدخول "ما" عليها تفيد الحصر بذاتها؛ لأفادته مع أخواتها إذا دخلت عليها "ما"، يعني: "كأنَّما" ليست للحصر، ولا يقول بهذا أحد، فلماذا كانت "إِنَّ" للحصر؟ فيقولون: فُهم ذلك من سياق الكلام، هكذا قال بعض أهل العلم، كأبي حيان، ومن عادة أهل العلم أنهم يذكرون "إنما" هكذا، أي: أنها هي من صيغ الحصر، ولا يقولون: إن ذلك يُفهم من سياق الكلام، هذه عادتهم الغالبة عند الكلام عليها في اللغة، أو في أصول الفقه.
يقول الله -تبارك تعالى-: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَالأنبياء: 108، قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَالبقرة: 11، حصروا أنفسهم في هذا الوصف الذي هو الإصلاح، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُآل عمران: 175، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ آل عمران: 173، هذا التخويف بالمخلوقين، فالجواب: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُآل عمران: 175، يعني: يخوفكم من أوليائه، يخوفكم منهم، فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَآل عمران: 175، إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِالتوبة: 37، وهكذا.
هنا تنبيه: "إنما" لم تُذكر في النسخة الأخرى في الطبعة الإماراتية، لكن على كل حال: هذه الطبعات كما قلت: لم تحقق التحقيق اللائق بالكتاب، لا هذه، ولا تلك، لكن لعلنا نذكر لكم -إن شاء الله تعالى- في الدروس القادمة الفروقات، ويصير الشيخ يقرأ قراءة تُراعَى فيها الفروقات، وبناءً على المقابلة بالنسخ الخطية، فأحد الإخوان يقابل على أربع نسخ خطية، فتُذكر -إن شاء الله تعالى- الفروقات المهمة التي ينبني عليها الخلاف، إن كان هناك شيء من السقط، أو التحريف.
قال -رحمه الله تعالى-: "إِن" المكسورة المخففة أربعة أنواع: شرطية، ونافية، وزائدة، ومخففة من الثقيلة.
"إِنْ" هذه يقول: المكسورة المخففة، ذكر لها أربعة أحوال، وبعضهم يذكر أكثر من هذا:
فأول هذه الأنواع: أن تكون شرطية، يعني: أن تكون حرفاً للشرط؛ لأن "إِنْ" هذه حرف شرط، وهذا هو الأصل فيها، يعني: أحياناً يكون الأداة أو الحرف له عدة معانٍ، ويكون أحد المعاني هو الأصل فيه، مثل ما قلنا في: "إِنَّ" فالأصل أنها للتوكيد، وتأتي بمعانٍ أخرى، فهذه: "إِنْ" هي للشرط، وأدوات الشرط متعددة، ومن أشهرها: "إِنْ"، تقول: إنْ جاء زيد أكرمته، فهنا: "إِنْ" أفادت معنى الشرط.
وتأتي أيضاً: حرف نفي، مثل: ما، ولا، وليس، فهي نافية، وقد فُسر به قوله تعالى: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِطه: 63، فهنا: "إِنْ" نافية، وكما قلت: إنهم أجابوا بأجوبة متعددة في: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِطه: 63، فبعضهم قال: "إِنْ" هذه: نافية.
وتأتي أيضاً: مخففة من الثقيلة، فتكون للتوكيد، كالثقيلة، لكن خُففت، والتشديد زال منها.
وتأتي أيضاً: زائدة بعد "ما" النافية، مثل: ما إنْ رأيته، تقول: ما إنْ رأيته حتى ابتسم، يعني: "إِنْ" هنا في تركيب الكلام تكون زائدة، تقول: ما إنْ رأيته إلا أكرمته، هي: ما رأيته إلا أكرمته، هكذا يقولون، وقد تأتي لغير ذلك، لكن الزائدة -على كل حال- يمكن أن يُمثل لها من القرآن بقوله -تبارك وتعالى-: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ الأحقاف: 26، هكذا قالوا: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِالأحقاف: 26، فهنا: "إِنْ" قالوا: زائدة، يعني: ولقد مكانهم فيما، فهنا: "ما" وقلنا: إنها تزاد بعد "ما"، يعني: فيما مكناكم فيه، فهذه "إِنْ" بعضهم يقول: زائدة.
والكلام في الزيادة في القرآن فيه كلام لأهل العلم من المفسرين، وأهل اللغة، والأصوليين، باعتبار أن إطلاق الزيادة قد لا يكون لائقاً مع كلام الله، لكن هم يقصدون بذلك: زائدة إعراباً، وإلا فإن زيادة المبنى لزيادة المعنى، ولا يوجد شيء في القرآن ليس له معنى؛ ولذلك بعضهم يأتي بعبارة أخرى يقول لك: صلة مثلاً، يتحاشى التعبير بلفظ: زائدة، يتحاشاه، ولكن أيضاً حتى هذا القول في هذه الآية بأن "إِنْ" هنا زائدة، ليس محل اتفاق، ومن كلام العرب الذي قيل بأن "إِنْ" فيه زائدة:
يُرجِّي المرءُ ما إنْ لا يراه *** وتَعرض دون أدناه الخطوبُ
يعني: ما لا يراه، والشواهد على هذا في كلام العرب كثيرة، منها:
بني غُدانةَ ما إنْ أنتمُ ذهبٌ *** ولا صريفٌ ولكنْ أنتمُ الخزفُ
يعني: ما أنتم ذهب، وقول قُتيلة بنت الحارث، في القصة المعروفة في السيرة لما قُتِل أخوها:
أبلِغْ بها ميْتاً بأنّ تحيةً *** ما إنْ تزال بها النجائبُ تخفقُ
يعني: ما تزال بها النجائب تخفق، إلى غير ذلك من الشواهد التي يذكرون، لكن تأمل في قوله -تبارك وتعالى-: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ الأنفال: 19، هذه ما تكون؟ هذه: شرطية، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الأنفال: 38، شرطية، والشرطية تجزم الفعل المضارع، قال: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُالأعراف: 131، هذه أيضاً شرطية، وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ يوسف: 3، هذه مخففة من الثقيلة، إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَاالفرقان: 42، هذه أيضاً مخففة من الثقيلة، إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍالملك: 20، هذه بمعنى النفي، فهي نافية، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى التوبة: 107نافية، يعني: ما أردنا إلا الحسنى، وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌهود: 111، وإِنْ كُلًّا: بالسكون على قراءة ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، هذه مخففة من الثقيلة، والقراءة الأخرى: وإِنَّ كُلاً: بالتشديد، فخُففت: وإِنْ كُلًّا.
قال -رحمه الله تعالى-: "أَن" المفتوحة المخففة أربعة أنواع: مصدرية، وزائدة، ومخففة من الثقيلة، وعبارة عن القول.
"أَنْ" هذه ذكر لها هذه الأنواع الأربعة، وذكر بعضهم أيضاً أنواعاً أخرى، فبعضهم ذكر أنها أيضاً تكون حرف جواب بمعنى: نعم، وذكر بعضهم أنها تكون بمعنى: لعل، تقول: ائتِ السوق أنك تشتري لنا سلعة، يعني: لعلك تشتري لنا سلعة.
فهنا: "أَنْ" في قوله -تبارك وتعالى-: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْالبقرة: 184، هذه: مصدرية، أن تصوموا، وقلنا: المصدرية: تُصاغ مع ما بعدها بمصدر، فأن تصوموا، يعني ماذا يقال؟ يقال: صيامكم خير لكم، وقوله: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْيونس: 2، هذه ما نوعها؟ مصدرية، أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَايونس: 2أي: إيحاؤنا، فأوحينا متعدية بالهمزة، أوحى، وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ العنكبوت: 33، "ولما أنْ جاءت" بعضهم يقول: هذه زائدة للتوكيد "أنْ جاءت"، يعني: ولما جاءت رسلنا لوطاً، أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا طه: 89، "ألَّا" هذه أصلها: أن ولا، لكنها رُسمت "ألَّا"، فهي مخففة من الثقيلة، فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَاالمؤمنون: 27، هذه: عبارة عن القول، يسمونها مفسرة، أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ، تكون بعد ما يدل على القول، مثل: الإيحاء، والوحي، تقول: أشرت إليه أنْ قُم، فتكون تفسيراً للإشارة، وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواص: 6، فهذه تكون بمعنى القول، يعني: مفسرة، والله أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-: "إذا" نوعان: ظرف زمان مستقبل، ومعناها: الشرط، وقد تخلو عن الشرط، وفُجائية.
"إذا" هذه يقولون: إنها ظرف للمستقبل، فإذا: لا تكون إلا للمستقبل، مضمنة معنى الشرط، وهذه تختص بالدخول على الجملة الفعلية، بعكس الفُجائية، ففي قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ الروم: 25، فالأولى: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ، ما نوعها؟ هذه شرطية، ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ، والثانية: إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ، إذا الثانية ما نوعها؟ هذه الفُجائية: إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ، وعامة أهل العلم على أن "إذا" لا تخرج عن معنى الظرفية.
فهنا ابن جُزي يقول: إذا: نوعان: ظرف زمان مستقبل، ومعناها الشرط، وقد تخلو عن الشرط، لكن هل تخلو عن الظرفية؟ الجواب: لا، لا تخرج عن الظرفية، لكن قد تخرج عن الاستقبال، فتأتي للماضي، كما تأتي للمستقبل، قال الله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ التوبة: 92، هذا كان لشيء في الماضي، لكن هذا يُفهم من السياق، وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَاالجمعة:11، هنا القرآن يتحدث عن قضية حصلت وانتهت، الأصل أن ذلك للمستقبل، لكن من السياق فُهم أن هذا يتعلق بشيء مضى.
ويقولون كذلك أيضاً: تأتي للحال بعد القسم، كقوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى الليل: 1يعني: حال غشيانه، يعني: حينما يغشى بظلامه.
ويقولون: إنها قد تخرج عن الشرطية، وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَالشورى: 37، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَالشورى: 39، يقولون: ليست هنا شرطية، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىالليل: 1، هذه التي تكون بعد القسم، وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى النجم: 1، فهذه يقولون: كلها ليست شرطية.
أمّا إذا الفُجائية فيقولون: إنها تختص بالجمل الاسمية، يعني: وتلك الشرطية تختص بالجمل الفعلية، فقوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىالليل: 1بعدها فعل، إذا جاء زيد فأكرمه، بعدها فعل، وهو جاء.
وهذه الفُجائية لا تحتاج إلى جواب، بينما إذا الشرطية تحتاج إلى جواب، إذا جاء زيد فأعطه، هذا هو الجواب، إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ المنافقون: 1، هذا جواب الشرط، وهذه إذا الفُجائية لا تحتاج إلى جواب.
وإذا الفُجائية لا تقع في الابتداء، ليست مثل إذا الشرطية، إذا الشرطية لها الصدارة: إذا جاء زيد فأكرمه، هذه الشرطية، لكن الفُجائية لا تكون في أول الكلام.
ومعنى إذا الفُجائية: الحال، وليس الاستقبال، بخلاف الشرطية، فالأصل أنها للاستقبال.
وبعضهم يعتبر إذا الفُجائية حرفاً، وبعضهم يعتبرها ظرفاً، يعني منهم من يقول: ظرف زمان، ومنهم من يقول: ظرف مكان.
فقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ البقرة: 186، هذه ما نوعها؟ شرطية، فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى طه: 20فُجائية، طيب، لاحظوا الأولى: وَإِذَا سَأَلَكَ هل الذي جاء بعدها فعل أو اسم؟ فعل، هذه دائماً الشرطية، وأما الفُجائية: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى طه: 20، وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا الجمعة: 11، هذه الشرطية، لكن بعض أهل العلم -كما سبق- يقول: إنها خرجت عن معنى الشرط، باعتبار أنها تتحدث عن أمر مضى، وهكذا: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى الليل: 1، وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىالنجم: 1، يقولون: للحال، هذا كله يفهم من السياق.
قال -رحمه الله تعالى-: "إذْ" لها معنيان: ظرف زمان ماضٍ، وسببية للتعليل.
"إذْ" ذكر هذين المعنيين لها: ظرف الزمان الماضي، والسببية للتعليل، وبعض أهل العلم يزيد على هذا، فالآن إذا قلنا: ظرف زمان ماضٍ، فمثاله قوله: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ التوبة: 40، "إذ" هذه: ظرف زمان ماضٍ، وتكون أيضاً للزمان المستقبل: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَاالزلزلة: 4، يَوْمَئِذٍ بهذا التركيب، فهي تتحدث عن زمن مستقبل، هذا على قول بعض أهل العلم، ولكن عامتهم لا يثبت هذا النوع، وإنما يقولون: هذا من قبيل الحديث عن المستقبل بصيغة الماضي؛ لتحقق الوقوع، مثل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُالنحل: 1.
أما التعليل: فكقوله: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَالزخرف:39، إِذْ ظَلَمْتُمْ، هذه للتعليل، يعني: لكونكم أو لأنكم ظلمتم.
ويقولون: تأتي أيضاً بمعنى المفاجأة، وهي التي تقع بعد بين، أو بعد بينما، لكن هذه لم تأتِ في القرآن، لكن جاءت في كلام العرب، كقول الشاعر:
استقدِرِ اللهَ خيراً وارضينّ به *** فبينما العسرُ إذ دارتْ مياسيرُ
إذْ دارت مياسيرُ، فيقولون: هذه للمفاجأة، والله أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-: "أو" العاطفة لها خمسة معانٍ: الشك، والإبهام، والإباحة، والتخيير، والتنويع، والناصبة للفعل بمعنى: إلى أنْ، أو إلا أنْ، أو كي.
هذه العبارة: "والناصبة للفعل بمعنى: إلى أنْ، أو إلا أنْ، أو كي"، ليست في النسخة الأخرى، الطبعة الإماراتية ليست فيها هذه، قال: "الشك والإبهام والإباحة والتخيير والتنويع"، ذكر هذه الخمسة، وبعضهم يذكر أكثر من هذا بكثير.
فأو هذه: حرف عطف؛ لذلك قال: "أو العاطفة لها خمسة معانٍ"، وهي:
بمعنى: الشك، كقوله: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍالكهف: 19، فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ؛ ولذلك بعض الناس يستشكل قوله تعالى، أو يستشكل بعض الأمثلة التي تكون من كلام الله كقوله: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَالصافات: 147، والله يعلم العدد فكيف قال هذا؟ فهذا عنه أجوبة منها: أن هذا خرج مراعًى فيه حال المخاطب، يعني: بحسب نظركم، أي: مَن نظر إليهم منكم يقول: مائة ألف أو يزيدون، وهذا في القرآن كثير روعي فيه حال المخاطب، مثل قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىطه: 44، فالله يعلم أنه لن يتذكر، ولن يخشى، فهذه من الأجوبة التي ذكرها أهل العلم، أنه روعي في هذا حال المخاطب، أنه بحسب نظركم.
وتأتي بمعنى: الإبهام أيضاً: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍسبأ: 24، أبهم هنا الفئة المهتدية، أو الضالة، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ، فهذا يقولون: بمعنى الإبهام.
وبمعنى: الإباحة: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًاالإنسان: 24، يمثلون بهذا المثال، لكن الواقع: أنه إذا دخل عليها "لا الناهية"، كما في الآية امتنع فعل الجميع، يعني: لا يكون ذلك للإباحة، وإنما لا تفعل لا هذا ولا هذا، كما في هذه الآية، لكن يمثلون لها فيقولون مثلاً: جالس العلماء أو الزُّهاد، جالس الحسن أو ابن سيرين، يعني: للإباحة، كُل اللحم أو الفاكهة، للإباحة.
وبمعنى: التخيير فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍالبقرة: 196، هذه فدية الأذى، يكون مخيراً بين هذه الأشياء الثلاثة إذا ارتكب المحظور، وهنا جاءت في حلق الرأس للمحرم إذا احتاج إلى ذلك.
وتأتي بمعنى الجمع كالواو، الجمع المطلق.
وتأتي بمعنى الإضراب مثل: بل، لكن بشروط يذكرونها، فبعضهم يفسر قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَالصافات: 147، يقول: هي بمعنى بل، أي بل يزيدون، وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُالنحل: 77، يقولون: بل هو أقرب، طبعاً هذا أحد الأجوبة في هذه المواضع التي كما قلت: قد يستشكلها البعض، وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُالنحل: 77، الله يعلم حال كونه كلمح البصر أو هو أقرب من لمح البصر، فبعضهم يقول: هذا بحسب نظر المخاطب، روعي فيه نظر المخاطب، وبعضهم يقول: أصلاً هي هنا بمعنى: بل، ولا إشكال.
وتأتي أيضاً بمعنى التقسيم: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواالبقرة: 135، فاليهود ما يقولون: كونوا نصارى، والنصارى ما يقولون: كونوا يهوداً، فهم يكفر بعضهم بعضاً، ولكن هي للتقسيم، يعني اليهود قالوا: كونوا هوداً، والنصارى قالوا: كونوا نصارى
فاليهود ما يقولون: كونوا نصارى، والنصارى ما يقولون: كونوا يهوداً، فهم يكفر بعضهم بعضاً، ولكن هي للتقسيم، يعني اليهود قالوا: كونوا هوداً، والنصارى قالوا: كونوا نصارى
، كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىالبقرة: 135.
وكذلك أيضاً يقولون: تأتي بمعنى إلى، يقول الشاعر:
لأستسهلنّ الصعب أو أُدرك المُنى *** فما انقادت الآمالُ إلا لصابرِ
أو أدرك: يعني إلى أن أُدرك.
وتأتي بمعنى: الشرطية، لأضربنه عاش أو مات، يعني: إنْ عاش وإنْ مات.
وتأتي: للتبعيض، فبعضهم يفسر "أو" في قوله تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىالبقرة: 135، أن هذا للتبعيض على قول الكوفيين.
وبعضهم يقول: أصلاً "أو" موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء، وقد تخرج إلى معنى: بل، وإلى معنى: الواو، وأما بقية المعاني فمستفادة من غيره، يعني: من قوة الكلام، أو من السياق، ونحو ذلك، أي: أن ذلك يُفهم من السياق، وإلا فالأصل أن معناها الأساس أنها موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء، وقد تأتي لمعنى آخر.
فهذه المعاني الخمسة التي ذكرها هو، وذكرتُ بعض الزيادة، وإلا فما يذكره أهل العلم أكثر من هذا، ولكن ترجع إلى ما ذُكر.
فقوله: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍالمؤمنون: 113، هذه ما معناها؟ هذه للشك، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًاالإنسان:24، هل هذه للإباحة؟ قلنا: إذا دخلت عليها لا الناهية فإن ذلك للمنع من جميع المذكورات.
يقول: والناصبة للفعل، بمعنى: إلى أنْ، أو إلا أنْ، أو كي.
تنبيه: الإباحة والتخيير ليس بينهما تداخل، يقولون: إن التخيير أن تفعل أحد الشيئين فقط: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍالبقرة: 196، وأما الإباحة فهي أوسع من ذلك، لك أن تأخذ واحدًا من هذه الأشياء، لكن لو جمعت بينها أيضاً لا مانع، هذا مع فرق يذكره الفقهاء، يعني: قاعدة من قواعد الفقه: أن "أو" التي تكون للتخيير إن كان التخيير يرجع إلى مصلحة المكلف فهو للتشهي، يعني: ينظر الأرفق به، والأنسب لحاله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍالبقرة: 196، وإن كان لا يرجع إلى المكلف، وإنما مصلحة عامة، فهنا يُنظر الأصلح: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْالمائدة: 33، هذا ليس للتشهي، يعني: ليس للإمام أن يفعل ما يحلو له بناء على مزاجه ورغبته مثلاً، وإنما ينظر إلى المصلحة، فإذا كثُر هؤلاء من المحاربين، فيختار العقوبة الأشد ردعاً، فيكون بحسب المصلحة، مصلحة المسلمين، يراعيها في ذلك، وليس للتشهي، التشهي إنما يكون حين يرجع ذلك إلى نظر المكلف، ومصلحته، يعني حينما يقولون مثلا في المثل المشهور عندهم: كُلْ سمكاً أو اشرب لبناً، للتخيير، لكن يقولون: لا تجمع بينهما؛ لأنهم يعتقدون مثلاً أنه يضر، هكذا يقولون، بصرف النظر عن صحة ذلك، فالتخيير: أن تختار واحداً، بخلاف الإباحة، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين، لو جالستهما فهذا أكمل وأفضل، والله أعلم.
وأمّا معنى إلا مع أن فكقولك: لألزمنّك أو تقضي لي حاجتي، يعني: إلا أن تقضي لي حاجتي، لكن هذه قد ترجع إلى معنى العاطفة، والله أعلم.