تفسير التسهيل لابن جُزي
معاني اللغات (الغريب)
(15- ب) حرف الجيم من قوله: جعل إلى قوله: جَنْب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهنا يقول: لقد ذُكر المعنى الثاني الذي ذكره ابن فارس من معنى: التِّبر، وهو: الجوهر ذُكر في السنة عندما صلى النبي ﷺ، ثم ذهب مسرعاً، فعندما سألوه، قال: (كان عندي شيء من تِبر الصدقة، فكرهت أن أبيت وعندي منه شيء)[1]، لكن الكلام في القرآن: أن هذه لم ترد في القرآن.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وبعد.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: حرف الجيم.
جعل: لها أربعة معانٍ: صيّر، وألقى، وخلق، وأنشأ يفعل كذا.
هذه المعاني الأربعة يُحتاج إلى معرفتها، وذلك من أجل أن تُحمل هذه المادة وهذه اللفظة في كل موضع بما يليق به، وبذلك تنزاح إشكالات، وأيضاً يُرد على أهل البدع الذين حملوا بعض المواضع على معانٍ باطلة توافق أهواءهم، ومعتقداتهم.
فابن فارس يقول بأن هذه المادة يعني: لها دلالات، لكنها غير متناسقة، لا يُشبه بعضها بعضاً، وهذا ظاهر فيما ذكره ابن جُزي
ابن فارس يقول بأن هذه المادة يعني: لها دلالات، لكنها غير متناسقة، لا يُشبه بعضها بعضاً، وهذا ظاهر فيما ذكره ابن جُزي
-رحمه الله- من هذه المعاني الأربعة: صيّر، كقوله:وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً المائدة: 13يعني: صيرناها كذلك، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا المائدة: 20صيركم ملوكًا، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا البقرة: 22، فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ العنكبوت: 10، جعلها يعني: صيرها، وكذلك يقول: ألقى، وخلق، وأنشأ يفعل كذا.
فهذه جعل هي: لفظ عام في الأفعال المختلفة، أعم من فَعَل، أو صَنَع، ونحو ذلك مما يُعبَّر به عن الأفعال، فهي: تأتي بمعنى: صار، يعني: من الأفعال التي يسمونها: الصيرورة، أو الأفعال أيضاً التي يسمونها بمجموعها: المقاربة والشروع، ونحو ذلك، كصار وطَفِق، فما كان من هذا الباب فهذا لا يتعدى، غير متعد، تقول: جعل زيد يفعل كذا، فهذا غير متعدٍّ، وتكون بذلك من أفعال الشروع.
وتأتي بمعنى: أوجد، فتتعدى إلى مفعول واحد، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ الأنعام: 1بمعنى: أوجدها وخلقها، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ النحل: 78.
وتأتي بمعنى: إيجاد شيء من شيء، وتكوين شيء من شيء وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا النحل: 72، وهذا قريب من الذي قبله، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا النحل: 81، ويصح هنا أن يكون بمعنى: صيّر، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا الزخرف: 10يعني: الأرض، وهذا يفسره بعضهم أيضاً بصيّر.
وتأتي بمعنى: تصيير الشيء على حالة دون حالة، كقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا البقرة: 22، وكذلك: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا النحل: 81، وبعضهم يفسره بمعنى: أوجد، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا نوح: 16يعني: صير أو أوجد، لكن قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا الزخرف: 3بمعنى: صير.
وتأتي بمعنى: الحكم بالشيء على الشيء، سواء كان حقًّا أم باطلاً، بمعنى: حكم، وشرع، وقرر، ففي قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ القصص: 7، فهنا: حكم له بذلك على هذا التفسير، وهو: حكم بحق، وأما في الباطل، فقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا الأنعام: 136، هل معناها: أوجد هنا؟ لا، وإنما معناها: أنهم حكموا بذلك بأهوائهم، وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ النحل: 57، لا يمكن أن تُفسر هنا بمعنى: أوجد، وإنما معناها: حكموا لله بالبنات، ولهم بالبنين، وقوله: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ الحجر: 91، فهذا وغيره كل ذلك يرجع إلى هذا المعنى، أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ الرعد: 16بمعنى: حكموا، وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا النساء: 5، هذه بمعنى: صير، الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا يعني: صير، أو حكم، يعني: صيرها الله قِواماً لحياتكم، أو حكم بأنكم قُوّام عليها، الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا تقومون عليها.
وأما التي بمعنى: خلق فمثل: جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ غافر: 79يعني: خلق لكم، وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا النمل: 61، يمكن أن يكون بمعنى: خلق وأوجد، ويمكن أن يكون بمعنى: صير.
قال -رحمه الله تعالى-: جناح الطائر: معروف، وجناح الإنسان: إبطه، ومنه: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ القصص: 32، وقوله: لا جُنَاحَ الأحزاب: 55أي: لا إثم، فمعناه: إباحة، وجَنح للشيء: مال إليه.
هذه المادة يُرجعها ابن فارس -رحمه الله- إلى أصل واحد يدل على: الميل والعدوان، لاحظ: الميل والعدوان، ولاحظ الربط هذا بالمعاني التي ذكرها ابن جُزي، فيقال: جنح إلى كذا يعني: مال إليه، والجنوح بمعنى: الميل، ومن هنا سُمي الجناحان: جناحين؛ لميلهما في الشقين، هذا في شق وهذا في شق من الطائر، والجُناح هو: الإثم، سُمي بذلك؛ لميله عن طريق الحق، وهذا هو: الأصل؛ لميله عن طريق الحق، ثم يُشتق منه، فيقال للطائفة من الليل: جُنْح الليل، بأي اعتبار؟ كأنه شُبه بالجناح، وهو: طائفة من جسم الطائر، فهذا جُنح من الليل يعني: طائفة من الليل، جزء من الليل بهذا الاعتبار، باعتبار: أن الجناح جزء من الطائر، بهذا الاعتبار -يعني بهذا التأويل-، والجوانح: الأضلاع، تقول: ما بين جوانحي يعني: أضلاعي، باعتبار: أنها مائلة، لاحظ: فهو بمعنى: الميل، وجنحت الإبل في السير: أسرعت، طيب، أسرعت ما علاقته بالميل؟ يقولون: من الجناح، كأنها أعملت الأجنحة؛ ولهذا تقول للمسرع: تعال طيرانًا يعني: مسرعاً، فهذا كله يرجع إلى معنى: الميل.
فلاحظ هنا: ابن جُزي يقول: جناح الطائر: معروف، إذن: لماذا قيل له ذلك؟ لأنه في أحد شقيه.
يقول: وجناح الإنسان: إبطه، أو يقال للجناح أيضاً -جناح الإنسان-: الجانب، كقوله: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ الإسراء: 24يعني: جناحك الذليل، يعني: الجانب، أو اليد أو العضد، كل هذا فُسر به جناح الإنسان، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ القصص: 32قيل: يعني: اليد أو العضد، قيل: المعنى: أدخلها تحت عضدك، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ، فيحصل له بسبب ذلك طمأنينة إذا لقي فرعون، أو إذا حصل له شيء من الخوف.
يقول: وقوله: لا جُنَاحَالأحزاب: 55أي: لا إثم،فمعناه: إباحة، فنفي الجناح بمعنى: رفع الحرج.
يقول: وجنح للشيء: مال إليه، يقول الله -تبارك وتعالى-: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ الأنعام: 38، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ الإسراء: 24، فالإنسان ليس له جناح طائر، وإنما يمكن أن يُفسر: بالجانب، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ الإسراء: 24، فالجناح هنا: موصوف، والذل: صفة، من باب إضافة الموصوف إلى صفته، يعني: جناحك الذليل، أي: اخفض لهم جانبك، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ البقرة: 235يعني: لا حرج، ولا إثم، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ الأنفال: 61يعني: مالوا إليه.
قال -رحمه الله تعالى-: لا جَرَم أي: لابُدّ.
هذه ترجع إلى معنى واحد عند ابن فارس، فالجِرْم عنده: القطع، وعند الفراء أن هذه الكلمة كانت في الأصل بمنزلة: لا محالة، أي: لا جرم، بهذا التركيب، ولابد، فجرت على ذلك، وكثُرت، حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمعنى: حقًّا، فإذا قيل: بمعنى: لابدّ، فهذا معناه: القطع، وبمعنى: لا محالة، كما يقول الفراء.
فقوله: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ هود: 22، لا جرم يعني: حقًّا، أو نحو ذلك من المعنى، لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ النحل: 23، وإذا قيل: المعنى: لابد، فهذا بمعنى: حقًّا، وهذا الحق هو: الثابت، لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ غافر: 43.
قال -رحمه الله تعالى-: اجتبى: اختار.
هذه أيضاً عند ابن فارس أصل واحد يدل على: جمع الشيء والتجمع، اجتبى، تقول: جبيت المال، وأجبيه، وجباية، وكذا تقول: جبيت الماء في الحوض بمعنى: جمعته، وجبيت المال يعني: جمعته، والتجبية هي: السجود، وهو: التجمع، يعني: يتجمع الإنسان حتى يصير بهذه الهيئة متجمعًا، والله -تبارك وتعالى- يقول: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْء القصص: 57، لاحظ: "يُجبى" يعني: يُجمع، ويُحمل إليه، وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ سبأ: 13، يرجع إلى هذا المعنى، يعني: أوانٍ للطعام كأحواض الماء في السعة، فهي: كبيرة جدًّا، كالجواب، والجابية: التي يُجمع إليها الماء، أو يُجمع فيها الماء.
ويقال: اجتبى الشيء يعني: افتعله، واخترعه، فقوله: قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا الأعراف: 203يعني: اخترعتها، وهذا يمكن أن يرجع إلى أصل هذا المعنى: جمع الشيء، فاجتبيتَها يعني: اختلقتَها، واخترعتها، وكأنه يضم ذلك إلى ما يدعيه عندهم، وقوله: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ القلم: 50، اجتباه: اختاره، فهذا الذي تختاره أنت تجمعه، يعني: بمعنى: كأنك تجمعه، أو تضمه إليك، وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ يوسف: 6يختارك، وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ الأنعام: 87اصطفيناهم واخترناهم، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى طه: 122.
قال -رحمه الله تعالى-: جدال: مخالفة، ومخاصمة، واحتجاج.
هذه المادة: الجدال، عند ابن فارس ترجع إلى أصل واحد، وهو: من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة، ومراجعة الكلام، هذا في الأصل، والجدال بعضهم يقول: أصله من الجِدَالة، وهي: الأرض الصُّلبة؛ ولذلك كان الجدال في الأصل لا يكاد يُذكر في القرآن إلا مذموماً في الغالب، حتى في الدعوة، فلما قال الله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل: 125غاير في الصفة، أو غاير في الاستعمال واللفظ، فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ النحل: 125، والحكمة: اسم، والموعظة: اسم، وقيد الموعظة بالحسنة، لاحظ: الحكمة لم يقيدها بالحسنة؛ لأن الحكمة لا تكون إلا حسنة، وأما الموعظة فقال: الحسنة؛ لأن الموعظة قد تكون بخشونة وشدة، فقال: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.
وأما الجدال فذكر فيه أمرين: جاء بالفعل، فما قال: والمجادلة فعطف الاسم على الأسماء قبله، وإنما جاء بالفعل، فهذا من قبيل عطف الفعل على الاسم وَجَادِلْهُمْ ما قال: والمجادلة، فيكون نظيراً لما سبقه، بل قال: وَجَادِلْهُمْ، والعلماء -رحمهم الله- قالوا: جاء بالفعل هنا باعتبار: أن المجادلة حالة عارضة، ليست هي الأصل في الدعوة، وإنما حيث احتيج إليها، وإلا فليست هي الأصل في الدعوة إلى الله، لكن من عنده نوع شبهة، أو تلكُّؤ، أو لبس، فيحتاج إلى مجادلة، وقيدها هنا: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وما قال: بالحسنة، كما قال في الموعظة، وما أطلقها كما في الحكمة؛ لأن الحكمة لا تكون إلا حسنة، فقال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل: 125؛ لأن المجادلة يكون فيها شدة، ويكون فيها حضور للنفوس، وانتصار لها، وما إلى ذلك مما لا يخفى، فمثل هذا يحتاج إلى شيء من ترويض النفس، وأن يكون بقدر الحاجة أيضاً، فبعضهم يقول: هو من الجِدَالة، وهي: الأرض الصُّلبة.
فعلى كل حال: المجادلة هي: المنازعة في الرأي: وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا الكهف: 54، ويطلق على شدة الخصومة: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا الزخرف: 58يعني: مبالغة في الخصومة، فهذه المجادلة، وهذه المفاعلة تكون بين طرفين فأكثر، لا تكون من طرف واحد، وهذا الأصل فيما كان على هذا الوزن: المفاعلة، أن يكون بين طرفين فأكثر، وليس ذلك في كل المواضع، لكن هو الأصل في المفاعلة، ما كان على وزن المفاعلة، فالمجادلة ما تكون إلا بين طرفين فأكثر، فهي: مجاوبة مع احتجاج.
والمجادلة غير المحاورة، المحاورة أوسع من المجادلة، المحاورة تكون بين طرفين فأكثر، لكن هذا يتحدث وهذا يتحدث من غير احتجاج، يعني: لا يريد أحد من هذه الأطراف أن يثبت قوله، ورأيه، وأن يصوبه، وينتصر على الآخر في المحاورة، فالمحاورة قد تكون مجادلة، وقد لا تكون مجادلة، يعني: الآن أنا لما أتحدث معك هذه محاورة، لكن حينما يكون فيها احتجاج، وكل طرف يحتج على الآخر، هذا هو: الجدال، هذه هي: المجادلة، هذا يورد حجة، وهذا يورد حجة، وهكذا.
فقال هنا: مخالفة، ومخاصمة، واحتجاج، والله يقول: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ البقرة: 197، فهنا: إما أنه نفي بمعنى النهي، يعني: "ولا جدال": لا تجادلوا في الحج، نهي عن المجادلة، وإما أن يكون ذلك بمعنى: لا جدال في أن الحج في وقته، في أنه في شهر ذي الحجة، كما يقوله بعض أهل العلم، والآية فيها قراءتان -على كل حال-: الأولى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، والثانية: المغايرة بين إعراب المتعاطفات، وهو: يدل على تغاير المعنى، فَلا رَفَثٌ وَلا فُسُوقٌ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، فيكون المعنى هنا في الأخير غير المعنى الأول، لكن فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ البقرة: 197، يكون المعنى هنا كما ذكرت، وقوله -تبارك وتعالى-: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا هود: 32، وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ النساء: 107، هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا النساء: 109، حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ الأنعام: 25، إلى غير ذلك من المواضع، فهي بمعنى: الخصومة، والمراجعة في الكلام، والاحتجاج، فكل طرف يحتج على الآخر.
قال -رحمه الله تعالى-: تجأرون: تصيحون بالدعاء.
هو: الجُؤار، بهذا المعنى: رفع الصوت بالدعاء، ويقال: جأر: إذا أفرط في الدعاء والتضرع، يقولون: تشبيهاً بجُؤار الوحشيات، كالظباء، ونحوها، حينما ترفع عقيرتها صائحة بصوت مرتفع، فهذا الأصل في الجُؤار: رفع الصوت بالدعاء: ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ النحل: 53يا رب، يا رب، حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ المؤمنون: 64يرفعون أصواتهم بالدعاء، لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ المؤمنون: 65.
قال -رحمه الله تعالى-: جواري: جمع جارية، وهي: السفينة.
ابن فارس -رحمه الله- يُرجع ذلك إلى أصل واحد -الجيم والراء والياء- وهو: انسياح الشيء، تقول: جرى الماء: انساح، وجرى النهر، وهكذا جرى القول، فقوله: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ الرحمن: 24كالجبال، فهي: تجري، فهذا الجريان في أصله بمعنى: الانسياح، فالجارية هي: السفينة، قال: حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ الحاقة: 11يعني: السفينة، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ الشورى: 32؛ لكونها تجري، وهكذا في النجوم الْجَوَارِ الْكُنَّسِ التكوير: 16، فهي أيضاً: جارية، فهذا كله يدل على انسياح، أي: جريان، وسير للشيء.
قال -رحمه الله تعالى-: أجرم، فهو: مُجرم: له معنيان: الكفر، والعصيان.
هذا يرجع إلى أصل واحد: جَرَم، كما سبق في قول: لا جرم، وأصل ذلك عند ابن فارس أن الجِرْم هو: القطع، فجَرَم بمعنى: كَسَب، وهذا لا يكاد يُستعمل إلا في الاكتساب للمكروه، مُجرم وإجرام، ويقال: جريمة، ونحو ذلك، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ المائدة: 2يعني: لا يحملنكم على أن تقترفوا الاعتداء عليهم، لا يحملنكم البغض على أن تكتسبوا الإثم والعدوان بالعدوان على هؤلاء الذين تبغضونهم، ومن ثَمَّ فإن الكفر هو: من هذا الاجترام، والعصيان هو: من هذا الاجترام الذي هو: الكسب في أصله، الكسب السيئ، فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا الروم: 47، قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا يعني: اكتسبنا، وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ سبأ: 25، إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ المطففين: 29يعني: الكفار هؤلاء الذين صارت أعمالهم، وكسبهم هي: الكفر، والشرك، والظلم،فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ الدخان:22.
قال -رحمه الله تعالى-: جِن: الجنون، وقد جاء بمعنى: الملائكة.
يقول: الجِن بمعنى: الجنون، أو الملائكة، أصل هذه المادة هو: الستر، والتستر، وسيأتي ربط ذلك بوجوه من الاستعمال، كل شيء سُتر عنك فقد جُن عنك، فقولك: جَنَّ عليه، وأَجَنَّه بمعنى: ستره، ويقال لمن حيل بينه وبين عقله، وسُتر عقله، يقال له: مجنون، والجنين: الحمل في البطن؛ لأنه مستور لا يُرى، مستور من كل شيء، والجن عالَم مستتر لا يُرى، فهذا أصل المادة: الستر.
طيب، الحية التي تُسمى بالجان، قالوا: تشبيهاً لها بالواحد من الجن، جان: واحد من الجن، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ الأعراف: 184يعني: الجِنَّة هنا بمعنى: الجنون.
وابن جُزي -رحمه الله- ذكر هذه الثلاث متتابعة، وما سأذكره في هذا المعنى يرتبط بما بعده من ذكر: الجان، والجِنَّة، والجَنَّة، فهذا يرجع إلى معنى: الستر.
لاحظ: في قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ الأعراف: 184"جِنة" أي: جنون، مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ سبأ: 46يعني: جنون، وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا الصافات: 158، هل يقال هنا الجنون؟ الجواب: لا، ما المقصود به؟ لاحظ: كلام ابن جُزي: وقد جاء بمعنى: الملائكة، بعضهم يقول: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا الصافات:158يعني: الملائكة، قالوا: الملائكة، فبعضهم يقول: الملائكة بنات الله -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا-، يقولون: صاهر الجن فجاءت الملائكة، فهم بنات الله، فهذا تفسيره بمعنى: الملائكة، حتى إن بعضهم يقول في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الكهف في خلق إبليس: كَانَ مِنَ الْجِنِّ الكهف: 50، يقولون: من الملائكة؛ لأن هذه الآية الوحيدة الصريحة في أن إبليس من الجن، وإلا فالباقي ليس صريحًا، فإنه لما أمر الملائكة بالسجود سجدوا إلا إبليس، بهذا الاستثناء، فهذا يحتمل أن يكون الاستثناء متصلاً، فيكون إبليس من جملة الملائكة، ويحتمل أن يكون منقطعاً، وهذا هو الراجح، فكان في جملتهم، وليس من جنسهم، فيكون بمعنى: لكن، أي: استثناء منقطع، ويدل على ذلك صراحة آية الكهف، إلا أن آية الكهف قال فيها بعض أهل العلم: إن الجن بمعنى: الملائكة، قالوا: قَبيلٌ من الملائكة، يعني: الذين يقولون: إن إبليس من الملائكة، يجيبون عن هذه الآية، قد يتبادر إلى ذهنك أن هذه الآية صريحة، فماذا يقولون فيها؟ كيف يقولون إنه من الملائكة؟ يقولون: الجن في قوله -تبارك وتعالى-: كَانَ مِنَ الْجِنِّ الكهف: 50، قَبيل من الملائكة، بهذا الاعتبار.
فهنا ابن جُزي يقول بأن الجن قد جاء بمعنى: الملائكة، هذا على هذا التفسير، وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا الصافات: 158يعني: الجن، لكن قوله: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ الكهف:50 يعني: الملائكة، لكن هذا المعنى غير صحيح، انظر إلى المادتين بعده.
قال -رحمه الله تعالى-: جان: له معنيان: الجِنُّ -وفي بقية النسخ: الجنون-، والحية الصغيرة.
وجَنَّة: بالفتح: البستان، وبالكسر: الجُنون، وبالضم: التُرس، وما أشبهه مما يُستتر به، ومنه استُعير: أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً المجادلة: 16.
لاحظ: كل هذا يرجع إلى معنى: الستر، فالجان إذا فُسر بالجن، فهم: مستترون، والجنون بمعنى: الستر، ستر العقل، فيذهب، وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ الأنعام: 100، يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ الأنعام: 128، وهكذا، وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ الأحقاف: 29، هذا كله بمعنى: الجن الذين هم الخلق المستتر المعروف، وكذا: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ الرحمن: 56، هذا أيضاً الجن.
طيب، في قوله -تبارك وتعالى-: فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ النمل: 10، هنا ليس معناها: الجن، ما معنى "جان" هنا: كَأَنَّهَا جَانٌّ؟ يعني: حية، لاحظ: ماذا قال في عصا موسى ﷺ؟ في موضع قال: فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الأعراف: 107، والثعبان هو: الضخم الكبير، وفي هذا الموضع قال: كَأَنَّهَا جَانٌّ النمل: 10، والجان هي: الحية الدقيقة سريعة الحركة، كيف تجمع بين هذا وهذا؟ فقوله: كَأَنَّهَا جَانٌّ أي: صغيرة سريعة الحركة، الصغيرة لا يلزم أنها في العمر، فالحيات أحياناً يكون حجمها صغيرًا ودقيقة، لكنها كبيرة في عمرها وتامة، لكن خلقة الحية هكذا: دقيقة وصغيرة، فهذا مع قوله: فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الأعراف: 107، لا معارضة، فهي: ضخمة جدًّا كالثعبان، وسريعة في الحركة كالجان، ليس هذا هو الشاهد، لكن هذه فائدة عرضاً يعني، ليس هذا الشاهد، الآن تسمية الحية هذه التي بهذه الصفة: بالجان، يقولون: تشبيهًا لها بالواحد من الجن، شُبهت به، فالناس لمّا يرون من يتحرك حركة سريعة، ويتصرف تصرفات غير طبيعية يقولون: جني، فلان جني، أليس كذلك؟، يعني: في تصرفاته، وحذقه، وسرعته، ودهائه، وما إلى ذلك.
لاحظ أيضاً ما ذكره في الجَنَّة، قال: بالفتح: البستان، يقال: للحديقة ذات الشجر: جنة، ويقال لدار النعيم في الآخرة: جنة، باعتبار أنها: تستر من بداخلها بأشجارها الكثيرة، تستر، فهذا يرجع إلى معنى: الستر، فالجنة قيل لها: جنة؛ لكثرة أشجارها.
وكذلك أيضاً يقول: وبالكسر: الجنون: الجِنَّة، وأيضاً يقال للجِنّ: جِنَّة، كما في قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا الصافات: 158، كما سبق، وانظر مثلاً: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ هود: 119، هنا قطعاً المقصود به ماذا؟ المقصود: الجن، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ الناس: 6، الجن قطعاً، فهذه الجِنَّة تقال: للجنون، وتقال أيضاً: للجن.
يقول: وبالضم -يعني الجُنَّة-: التُّرس، وما أشبهه مما يُستتر به، ومنه استعير: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً المنافقون: 2يعني: الأصل أن الجُّنة هي: ما يستتر به المقاتل، يجتن به من ضرب السلاح، أي الذي يحمله بيده بحيث يتقي به ضرب السيوف، ونحو ذلك، فهذا: تُرس، يقال له: جُنة، فيُستعمل في المعاني: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً المنافقون: 2، يعني: مثل التُّرس، فإذا وجهت إليهم تُهمة، وقيل: أنت قلت كذا، أنت فعلت كذا، أنت استهزأت بآيات الله، حلف أنه ما فعل، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً المنافقون: 2، يتقون بها ما يوجه إليهم من التهم، وما يُنسب إليهم من الأقوال القبيحة، ونحو ذلك، فهذا كله يرجع إلى معنى: الستر.
وقوله: وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ النجم: 32، الجنين؛ لأنه مستور، كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ البقرة: 265يعني: بُستان له شجر كثير، ما يقال: جنة لمزرعة برسيم، أو مزرعة بُر، أو نحو ذلك، ما يقال لها: جنة، هذا لا يقال له: جنة، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ الكهف: 35كذلك، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ الإسراء: 91، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا الأنعام: 76، "جن عليه" قلنا: من الاجتنان، وهو: الستر، أي: غطاه بظلامه، ستره الليل بظلامه، وهكذا قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الرعد: 35، وهي: دار النعيم في الآخرة.
قال -رحمه الله تعالى-: جاثية: أي: على ركبهم، لا يستطيعون القيام مما هم فيه، وقوله: حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا مريم: 68جمع جاثٍ.
لاحظوا: هذه المادة: جاثية، الجيم والثاء والواو، والجيم والثاء والألف بعدها "جثا"، مع ما سيذكر بعد ذلك -بعدها بكلمة-: جثم، قال: جاثمين، فنحتاج أن نربط في المعنى بينها.
لاحظ: المادة هنا في الجاثية: الجيم والثاء والواو، الجُثُوّ، وكذلك: الجيم والثاء والألف، جثا يجثو جُثُوًّا، وجثى يجثِي جُثِيًّا، هما بمعنى: إذا جلس على ركبتيه، كل ذلك يقال بهذا المعنى: إذا جلس على ركبتيه، لاحظ الآن: سنحتاج هذا الكلام بعد، ولاحظ: دقة اللغة العربية التي لا يوجد في شيء من اللغات ما يقاربها.
فهنا يقول: جاثية أي: على ركبهم، لا يستطيعون القيام مما هم فيه، فقوله: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً الجاثية: 28يعني: جاثية على الركب لشدة الهول والكرب، فإذا صار الإنسان في حال من الخضوع، وأمامه كرب شديد، يجثو على ركبتيه إذعانًا وخضعاناً، وتجد الإنسان في الحرب إذا أُسقط في يده، ونفد ما عنده من سلاح، أو يأس من النجاة، أو نحو ذلك جثا على ركبتيه، وإذا بلغه خبر يكون مفزعاً لربما لم يستطع أن ينهض، ويقف على قدميه، فيجثو على ركبتيه، وقوله: لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا مريم: 68يعني: على الركب، هم أمام حال لا يمكن أن توصف، وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا مريم: 72، أيضاً كذلك، يعني: هم حول جنهم جثيًّا، وكذلك يكونون فيها، يعني: تصور كيف حالهم في حال الشدة والكرب والعذاب والنار تحرقهم وهم على ركبهم في حال من الخنوع والذل والبؤس الذي لا يقادر قدره!.
إذن: جثا يجثو جُثُوًّا يعني: إذا جلس على ركبتيه، وجثى يجثِي جُثِيًّا أيضاً: إذا جلس على ركبتيه.
قال -رحمه الله تعالى-: الجُرُز: الأرض التي لا نبات فيها.
الأرض التي لا نبات فيها، فهذا عند ابن فارس -رحمه الله- يرجع إلى معنى واحد، وهو: القطع، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا الكهف: 8يعني: لا نبات فيها، والصعيد: الأرض المستوية، بعدما كانت غنّاء تتحول إلى أرض لا نبات فيها، ليس عليها ما يسترها، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ السجدة: 27، الجُرز يعني: التي لا نبات فيها، فهي: مُمْحِلة.
قال -رحمه الله تعالى-: جاثمين: باركين على ركبهم.
لاحظ: هنا قال: باركين على ركبهم، وفي الجاثية قال: أي: على ركبهم، فجعل المعنى واحدًا، مع أن المادة مختلفة، هناك: جَثَوَ، وجَثا، وهنا: جثم، آخره ميم، فهي: مادة أخرى مغايرة، هذه أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد يدل على: تجمع الشيء، جثم، الجُثوم: تجمع الشيء، ويقال: جثم بمعنى: لزم مكانه لاصقاً بالأرض لا يبرح، يقول ابن فارس في كتابه الآخر: المُجمل: والجاثم: اللائط في الأرض، يعني: اللاصق فيها، جاثم، تقول: فلان جاثم في المكان، يعني: ما يتحرك، وما يقوم، يقولون عن الثقيل: إذا جاء جثم، يعني: لا يكاد يقوم، يعني: لائط في الأرض، يقولون عندنا العامة: لُبُّط، يعني: إذا جلس ما قام؛ ولذلك العرب يقولون: رجل جُثَمة وجَثّامة للنئوم، كثير النوم.
فقوله هنا: باركين، هل الجُثوم بمعنى: البروك؟ جثم غير جثا، جثا هناك بمعنى: نزل على الركب، فأكثر المفسرين يفسرون جاثمين بمعنى: ميتين، وصرعى، لا حراك بهم، وسقطوا صرعى، كما يقول ابن جرير: جاثمين: سقوطاً صرعى، لا يتحركون؛ لأنه لا أرواح فيهم، أُهلكوا، فعبارات السلف، وعامة المفسرين يقولون هذا: جاثمين يعني: صرعى على الأرض، لا حراك بهم، وقد هلكوا، ولكن هذا المعنى: البروك قال به أيضاً: جمع من المفسرين، قال به جماعة، من هؤلاء: أبو جعفر بن جرير، كبير المفسرين -رحمه الله-، فإنه أشار إلى هذا المعنى، فقال: والعرب تقول للبارك على الركبة: جاثم، بعدما فسرها بالصرعى، الذي عليه عامة عبارات السلف: هلكى، وميتين، ولا حراك بهم، ونحو ذلك من العبارات، قال: والعرب تقول للبارك على الركبة: جاثم، وقال في موضع آخر: جاثمين على ركبهم موتى، وهالكين، فجمع بين المعنيين، وفسره في مواضع أخرى أيضاً: بالخمود، وبالهلاك، والفراء يقول: أصبحوا رماداً جاثمين، فهذه المواضع يُرجع فيها إلى كتب معاني القرآن، وأبو عبيدة يقول: بعضهم على بعض جُثوم، يقول: والجُثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل، لاحظ: بمنزلة البروك للإبل، وابن قتيبة يقول: الجثوم: البروك على الركب، وقال غيره: كأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال، هنا تصوير البروك على الركب، وهنا تفسير السلف له: بالهلاك، والموت، ونحو ذلك، هذا يقول: ماتوا على هذه الهيئة، موتى على هذه الحال، والزجاج يقول: أصبحوا أجساماً ملقاة في الأرض كالرماد، وبعضهم يقول: بعضهم على بعض، فأنت ترى أحياناً بعض حالات الموت العام تجد الجثث فوق بعضها، يعني: أنهم سقط بعضهم على بعض عند نزول العذاب، والقرطبي يقول: أي: لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم، كما يجثم الطائر، أي: صاروا خامدين من شدة العذاب، وابن كثير يقول: صرعى لا أرواح فيهم، هذه المعاني متقاربة، لكن الكلام كان عن الجُثوم بمعنى: البروك على الركب، هل هذا معنى معروف؟ الجواب: نعم، ذكره هؤلاء، بعض أصحاب المعاني، وذكره أيضاً: بعض كبار المفسرين، من جُثوم الطائر، كيف يجثم الطائر؟ الطائر إذا مات كيف يقع؟ كأنه رابض، ورأسه إلى الأرض يميل إلى الجهة الأمامية المقدمة، هذا يسمى: جثومًا، جثم الطائر، فهؤلاء الذين صاروا بهذه المثابة وبهذه الحال: جاثمين، يعني: قد خروا وسقطوا على وجوههم، كالبارك، فهكذا إذا أردت أن تجمع بين هذه المعاني، والسلف ما كانوا يدققون وينقرون في العبارة؛ ولذلك كانوا يعبرون أحياناً فيقولون: ميتين، لكن ما هي صفة السقوط حينما ماتوا؟ بعضهم يقول: هلكى، صرعى، لا حراك بهم، ونحو ذلك من العبارات، فهذه الآية ليس معناها الجاثم بمعنى: الميت تماماً تطابقه، تبقى المعاني التكميلية، هو: ميت صريع هالك بصفة معينة، يعني: هذا الذي قد سقط على ظهره مثلاً، ومد يديه ورجليه مستلقياً، وقد مات، على هذا لا يقال له: جاثم، وإنما يكون ذلك بصفة معينة: أنه قد خر على وجهه كالبارك، ومن يقول بأن بعضهم على بعض في الجثوم، بمعنى: التجمع، فإن ابن فارس قد أرجع هذه المادة إلى لفظ: التجمع، تجمع هؤلاء على بعضهم كما فسره البعض، أو تجمع الإنسان حينما تجتمع أعضاؤه ويكون بهذه المثابة كالبارك، ويكون وجهه قد سقط إلى الأرض، هذا تجمع، وسقوط بعض هؤلاء على بعض: تجمع، ومن هنا فسره بعضهم: بأنهم سقط بعضهم على بعض؛ مراعاة لمعنى: التجمع، أو اجتمع خلقه كالبارك، وصار ذلك، هكذا نربط المعاني، ومن ثَمَّ هذا يُعين كثيراً على جمع الأقوال في التفسير، وهو من أنفع ما يكون لطالب العلم، إذا وفق لهذا بطريقة علمية صحيحة، فهذا أنفع ما يكون، يجمع الأقوال التي تبدو أنها من قبيل اختلاف التنوع، أو اختلاف التضاد الذي يمكن جمع الأقوال فيه، فيردّ بعضها على بعض ما أمكن، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الأعراف: 78.
قال -رحمه الله تعالى-: جبار: اسم الله تعالى، وله معنيان: قهار، ومتكبر، وقد يكون من الجبر للكسير وشبهه، والجبار أيضاً: الظالم.
هذا مضى الكلام عليه في الكلام على الأسماء الحسنى، على اسم الله: الجبار، وذكرنا المعاني التي ترجع إليها هذه اللفظة، فعند ابن فارس يرجع إلى أصل واحد، وهو: جنس من العظمة، والعلو، والاستقامة.
فالجبر يقال: للقهر، وكذلك أيضاً يقال: لجبر الكسير، جبر بمعنى: إصلاح الكسر، والجبار من الناس: العاتي المتمرد، وقد يُضمن معنى: المتسلط القاهر، يقول الزجاج: إن الجبار من الناس هو: العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد، يعني: بغير حق، يقال له: جبار، وفي أسماء الله -تبارك وتعالى-: فسره الزجاج بأنه الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير، لكن هذا لا يتأتى في كل المواضع، يعني في قوله -تبارك وتعالى-: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الحشر: 23، فذكر: العزيز مع الجبار مع المتكبر، هذه الأسماء الثلاثة، ففي هذا السياق: هل معناه جبر الكسير، وإصلاح المعوج الذي فسره ابن فارس بالاستقامة؟ الجواب: لا، فهنا لما قرنه في هذا الموضع صار بمعنى: الجبروت، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-، وكان النبي ﷺ يقول:(سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة)[2]، لاحظ: الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى- يقول: الجبار: اسم من أسماء التعظيم، كالمتكبر، والملك، والعظيم، والقهار، ويقول ابن عباس -ا-: الجبار المتكبر هو: العظيم، وجبروت الله: عظمته، والجبار: من أسماء الملوك، والجَبْر يقال: للمُلْك، والجبابرة: الملوك، والعرب تسمي الملك: جباراً، تقول له ذلك، يقول الشاعر:
واسلم براووقٍ حُيِيتَ به *** وانعَم صباحاً أيها الجَبْرُ
يعني: المَلِك، ويقول السدي: هو: الذي يُجبِر الناس، ويقهرهم على ما يريد، فيكون بهذا الاعتبار في أسماء الله بمعنى: القهار، وابن الأنباري يقول: الجبار في صفة الله: الذي لا يُنال، انتبهوا لهذه المعاني؛ لأني سأجمعها بعد قليل، ومنه قولهم: نخلة جبارة، إذا فاتت يد المتناول.
فالجبار في صفة الرب -تعالى- ترجع إلى ثلاثة معانٍ: المُلْك، والقهر، والعلو
الجبار في صفة الرب تعالى ترجع إلى ثلاثة معانٍ: المُلْك، والقهر، والعلو
، أما المُلْك فإن العرب تقول للمَلِك: جبار، وأما القهر فهو: الذي يقهرهم على ما يريد، وأما العلو فإن النخلة إذا طالت، وارتفعت، وفاتت الأيدي سُميت: جبارة، عالية، فمجيء هذا الاسم مقترناً بالعزيز، والمتكبر يجعله لا يُحمل على: جبر الكسير، وإعزاز الضعيف، وتقويته، مثل: اللهم اجبر كسرنا، اللهم اجبر فلاناً في مصيبته، واجبر قلوبنا، وهو يجبر القلوب الضعيفة، والقلوب المنكسرة ونحو ذلك، فبهذا الاعتبار: "الجبار المتكبر" كأنهما تفصيل لمعنى اسمه: "العزيز"، فهذا يرجع إلى كمال القدرة، والعزة، والملك.
أما المخلوق فاتصافه بالجبار هذا يكون من قبيل الذم، والنقص، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ غافر: 35، ويقول في حق النبي ﷺ: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ق: 45يعني: مُسلط، تقهرهم، وتُكرههم على الإيمان، وفي الحديث: (يُحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس)[3]، فهذه صفة ذم في المخلوقين بلا شك.
فلاحظ: المعاني التي ذكرها ابن جُزي: قهار، ومتكبر، وقد يكون من قبيل الجبر للكسير، هذه المعاني صحيحة، لكن في آية الحشر لا يُفسر بالأخير الذي هو: جبر الكسير، لا يُفسر بذلك، فيكون من حيث هو، يعني: الاسم، من أسماء الله: الجبار، يكون بمعنى: الملك، القاهر، العظيم، الذي يجبر الكسير، ويقوي الضعيف، وهو: العلي فوق سماواته، مستوٍ على عرشه، بمعنى: العلو أيضاً، فنجمع هذه المعاني جميعاً في حق الله -تبارك وتعالى-، لكن إذا جئنا نفسر ذلك في آية معينة فهنا نحملها على ما يليق بذلك السياق، فقوله: قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ المائدة:22بمعنى: عُتاة مردة، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ هود: 59كذلك، وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ إبراهيم: 15، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ الشعراء: 130شديد البطش الذي يفتك، وفي قول الرجل لموسى ﷺ سواء قيل: إنه القبطي أو الإسرائيلي-: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ القصص: 19، والجبار: الذي يُكثر القتل، وبعضهم يقول: من قتل نفسين فأكثر فهو: جبار، كأنهم أخذوه من هذا، أنه في المرة الثانية لما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ القصص: 19، يعني: يقتل النفوس.
قال -رحمه الله تعالى-: أجداث: قبور.
الأجداث: القبور، هذه المادة: "الجَدَث" ترجع إلى معنى واحد، وهو: ما ذُكر، القبر الذي يُجمع على: الأجداث، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ يس: 51يعني: من القبور، خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ القمر: 7يعني: من قبورهم، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ المعارج: 43، فهذه الآيات توصِّف حالهم في خروجهم من الانتشار، والسرعة، أيضاً والذل: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ.
قال -رحمه الله تعالى-: جزى: له معنيان: من الجزاء بالخير والشر، وبمعنى: أغنى، ومنه: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا البقرة: 48، وأما أجزأ -بالهمز-: فمعناه: كفى.
جزى: الجيم هذه والزاي والياء أرجعها ابن فارس إلى: قيام الشيء مقام غيره، ومكافأته إياه، يعني: ذكر معنيين وإن لم يصرح بذلك، جزى بمعنى: قيام الشيء مقام غيره، أو المكافأة.
ابن جُزي يقول: من الجزاء بالخير والشر، يعني: هذا بمعنى: المكافأة، وبمعنى: أغنى، هذا قيام الشيء مقام غيره، لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا البقرة: 123.
يقول: وأما أجزأ -بالهمز- فمعناه: كفى، وهو يرجع إلى معنى: قيام الشيء، والله تعالى أعلم.
الراغب في كتاب المفردات يقول: لم يجئ في القرآن إلا جزى، دون جازى، بأي اعتبار؟ باعتبار: أن المفاعلة -كما سبق- تكون بين طرفين وأكثر، يعني: المكافأة والمقابلة، فلا يمكن لأحد أن يقابل نعمة الله بنعمة يجزيه بها، ويكافئه، فالله هو الغني.
على كل حال: جزى تقول: جزاه بعمله، أو على عمله، يعني: قابله بما يكافئه، فإذا تعدى إلى مفعولين كان فيه معنى: أعطى، ويأتي جزى بمعنى: القضاء، والكفاية، وهذا الذي يشير إليه ابن فارس بقيام الشيء مقام غيره.
تأمل في هذه الأمثلة: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا الأنعام: 160، "يُجزى" هذا بمعنى: المقابلة والمكافأة على العمل، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى طه: 15، وهكذا: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى الليل: 19، وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا لقمان: 33، هنا هل معنى ذلك المكافأة؟، لا، يعني: لا يقضي ولا يكفي، هذا المعنى الذي ذكره ابن فارس، وهنا ذكره بمعنى: أغنى، وهو بمعنى: الكفاية على كل حال، لا يقضي ولا يكفي: لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وكذا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا البقرة: 48، لا يمكن أن يقضي عنه، ولا يكفي عنه.
طيب، وأما الجزية: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ التوبة: 29، فهي: ترجع إلى هذه المادة: جزى، وهي: ضريبة تفرض على غير المسلمين نظير تأمينهم، وانتفاعهم بما ينتفع به المسلمون، هذه يقال لها: الجزية، يعني: هي في مقابل هذه الحماية التي تُوفَّر لهم، فيقابلون ذلك بمال يدفعونه.
قال -رحمه الله تعالى-: جرح: له معنيان: من الجروح، وبمعنى: الكسب، والعمل، ومنه: مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ الأنعام: 60، وقوله: اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ الجاثية: 21؛ ولذلك سُميت كلاب الصيد: جوارح؛ لأنها كواسب لأهلها.
طيب، جرح هذه: أعادها ابن فارس إلى أصلين:
الأول: الكسب.
والثاني: شق الجلد، جرحه: شق جلده، وهذا معنى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ المائدة: 45، لكن: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ المائدة: 4، هنا بمعنى: الكسب، بمعنى: أنها تكون كاسبة لهم، وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ الأنعام: 60يعني: ما عملتم، واكتسبتم، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ الجاثية: 21يعني: بمعنى: الكسب.
قال -رحمه الله تعالى-: جُنب: له معنيان: من الجنابة، وبمعنى: البُعد، ومنه: عَنْ جُنُبٍ القصص: 11.
هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصلين:
الأول: الناحية.
والآخر: البُعد.
وابن جُزي هنا يقول: من الجنابة، وبمعنى: البُعد، ومنه: عَنْ جُنُبٍ القصص: 11.
فأما البُعد فتقول: جنَّبَ فلان الشيء، وجنِّبْنِي كذا يعني: أبْعِده، اجتنب كذا، (اجتنبوا السبع الموبقات)[4]، بمعنى: الابتعاد.
وأما الناحية والجنب، فهو: الشق، شق الإنسان وغير الإنسان، وهو: ما تحت الإبط إلى الكَشْح، هذا يقال له: جنب، ويُستعار جنب الشيء: للناحية التي تليه، كما يُستعار للأمر، والشأن، يُستعمل في هذا، ولاحظ الآن: الجَنْب، الناحية، هذا لا يمكن أن يُفسر: بالبُعد، لكن وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ إبراهيم: 35، يكون بمعنى: المباعدة.
طيب، في قوله: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ النساء: 43، ما معنى: وَلا جُنُبًا؟ هذا من الجنابة، لماذا قيل لها: جنابة؟ بعضهم يقول: أصل ذلك من البُعد، أنه يرجع إلى معنى: البُعد؛ لأنه إذا أجنب تباعد من مواضع الصلاة، ونحوها، يبتعد فيقال له: جُنب، من معنى: البُعد.
فهذا المعنى الذي ذكره ابن جُزي فقال: من الجنابة، وبمعنى: البُعد، هذا يرجع إلى معنى واحد، بقي المعنى الآخر الذي هو الجنب، وما في معناه، لم يذكره، ولكنه كما سبق يذكر المعنى المباشر، ونحن نذكر أصل المعنى، ونربط به المعاني الأخرى.
ففي قوله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا المائدة: 6، فهذا: الجنابة، وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ النساء: 36، الجار الجُنب يعني: المجاور غير القريب، والصاحب بالجنب: الملازم، الذي يقرب منك، ويكون إلى جنبك، فُسر بالزوجة، وهي: صاحب بالجنب، وفُسر بالرفيق في السفر، كل هذا داخل فيه، وزميلك في الدراسة، وزميلك في العمل، هو صاحب بالجنب، له حق أكثر من الأبعدين في الإحسان إليه، وحُسن المعاشرة، فهذا هل معناه البُعد؟ هنا كما سبق: أن جنب الشيء يقال: للناحية التي تليه، كما يُستعار للأمر، والشأن، فقولنا: للناحية التي تليه، مثل: الصاحب بالجنب، هو: ليس الجنب جنب الإنسان الذي من الإبط إلى الكشح، وإنما يُستعمل ذلك للشيء الذي في ناحيته، فجاره في ناحيته، سواء كان في الدار، أو في العمل، أو في السفر، أو نحو ذلك، هذا صاحب بالجنب، وكذلك أيضاً: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ يونس: 12، هنا: الجنب المعروف، جنب الإنسان، يعني: مضطجعاً، ملقًى لجنبه، أو مستقرًّا لجنبه، مريضًا على جنب دَعَانَا لِجَنْبِهِ يونس: 12، لكن وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ إبراهيم: 35باعِد بيني وبينها، أي: بين عبادتها، طيب فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ القصص: 11يعني: عن بُعد، وَهُم لا يَشْعُرونَ، ويحتمل أن يكون: أنها كانت ليست بعيدة، ولكن نظرت بنظرة مُزْوَرّة متجانفة على جنب، يعني: لم تنجذب إليه، وتنظر إليه مباشرة، وتقبل عليه، فيشك هؤلاء في أمرها وأمره، وإنما كأنها لا تعبأ به، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ القصص: 11يعني: ناحية، وهي مُزْوَرّة، دون أن تصوب وجهها إلى ناحيته، وتُقبل عليه، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ الزمر: 56، بماذا يُفسر هذا؟ هل يُفسر بمعنى البُعد، أو يُفسر بأي معنى؟ الذي عليه عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم: أن ذلك ليس معناه الصفة، وإنما معنى ذلك: في حق الله، وطاعته، وعبادته، يعني: في جهته، وحقه، هكذا قال أهل العلم من السلف والخلف، وذكر هذا خلق من المفسرين، وغيرهم من أهل السنة والجماعة، وذكره بعض المحققين، كشيخ الإسلام، وابن القيم، وردوا على الذين يحتجون بمثل هذا على أهل السنة، ويقولون: أهل السنة لا يقولون بإثبات الجنب لله -تبارك وتعالى-؛ لأن هذه أصلاً ليست من الصفات، ليست من آيات الصفات، وإنما أثبتها: أبو عمر الطلمنكي، ومن المعاصرين أو المتأخرين: صديق حسن خان، في كتابه: قطف الثمر في عقائد أهل الأثر، والذهبي -رحمه الله- رد على الطلمنكي، وإلا فأهل السنة قاطبة قالوا: ليست من آيات الصفات، أما أولئك الذين أثبتوها فقالوا: هي: صفة ذاتية، فردوا عليهم، قالوا: التقصير لا يقع في جنب الصفة، وإنما يكون في الطاعة، والمعصية، تقول: أنا مقصر في جانب فلان، في جنب فلان، ليس معنى ذلك: أنك قصرت في جنبه الذي هو الجنب، الذي هو الصفة، وإنما المقصود: في حقه، فتقصيرهم لا ينال ذات الرب -تبارك وتعالى-، في صفة من صفاته غير المعنوية، اليد، أو الجنب لو أُثبت، أو نحو ذلك، فتقصيرهم إنما هو في عبادته، وطاعته، فالجنب هنا: ليس معناه الجنب الذي يكون معروفاً في أحد المعاني للجنب، الذي يكون عند الإنسان مثلاً؛ لأن ذلك ليس صفة، حتى لو قيل في حق الإنسان: أنا مقصر في جنب فلان، أو جانب فلان، أخطأت في جنب فلان، ليس معناه: أنه أخطأ في هذا الموضع منه، وإنما مقصوده قطعاً: في حق فلان، وليس أخطأ في جنبه، ولا يفهم أحد من العرب ذلك، أن الخطأ متعلق بجنبه، ليس في صدره، ولا في رأسه، هذا غير مراد، وليس ذلك بفهم يستقيم في لغة العرب، قالوا: وليس ذلك من التأويل في شيء، العرب لا تفهم هذا حتى في صفة المخلوق، فإن الجنب الذي هو هذا الموضع من الإنسان هو أحد المعاني التي تدل عليها هذه اللفظة، وليس ذلك من التأويل في شيء، والسلف لم يؤولوا صفة من الصفات، ولهم كلام في هذا، كشيخ الإسلام له كلام في هذا فليُراجع، وابن القيم له في أكثر من موضع، شرحوا هذه الجملة، وبينوا وجه ذلك.
طيب، في قوله -تبارك وتعالى-: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الأعلى: 11هذا بمعنى: المباعدة، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الليل: 17يعني: بمعنى: المباعدة، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ آل عمران: 191الجنب المعروف، يعني: وهو مضطجع على جنبه، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ النساء: 31المُباعدة، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ النحل: 36المباعدة، لكن أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ الإسراء: 68، هل معناه المباعدة؟ لا، هل معناه الجانب أو الجنب من الإنسان مثلاً؟ لا، وإنما الناحية، يقال: وللشق أيضاً؛ لأنه ناحية الإنسان وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ الإسراء: 83، فهو تصوير لما يكون من الصادِّ عن الشيء، حيث يتنحى عنه بجانبه.
فلاحظ: هذه المعاني مع ما ذكره ابن فارس: الناحية، والبُعد، فقوله: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ الزمر: 56يعني: في ناحيته، وفي حقه، وقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ الحج: 30يعني: فابتعدوا عنه، وهكذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
[1] أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من صلى بالناس، فذكر حاجة فتخطاهم، رقم: (851).
[2] أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الركوع والسجود، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، رقم: (873)، والنسائي، كتاب التطبيق، نوع آخر من الذكر في الركوع، رقم: (1049)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود - الأم: (4/ 27)، رقم: (817).
[3] أخرجهالترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، رقم: (2492)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: (2/ 1335)، رقم: (8040).
[4] أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًاالنساء: 10، رقم: (2766)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم: (89).