الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
(17- ا) حرف الحاء من قوله حزن إلى قوله حق
تاريخ النشر: ٢٠ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 2362
مرات الإستماع: 1715

تفسير التسهيل لابن جُزي

معاني اللغات (الغريب)

(17- أ) حرف الحاء من قوله: حُزن إلى قوله: حق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي مادة حسِبَ ذكرت أن ابن فارس -رحمه الله- ذكر لها أربعة أصول:

الأول: العد، والثاني: الكفاية، والثالث: الحُسبان، وسألني بعض الإخوان، قالوا: ما هو الرابع؟ وكنت ذكرته ضمن الكلام، لكن ما قلت: إن هذا هو الرابع، وهو لا وجود له في القرآن، وذلك قولهم: الأحسب، وقلنا: إن الأحسب هو ذلك اللون الذي يُشبه البرص، يُخلق عليه الإنسان، فيكون أبيض الشعر، ولون جلده كلون البرص، هذا الرابع.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام ابن جُزي الكلبي -رحمه الله-: حُزن: تأسفٌ على ماضٍ أو حال، والخوف: توقع في المستقبل، ويقال: حزِن بكسر الزاي، وحزَنه غيرُه بفتحها، وأحزنه أيضا.

قوله في تفسير الحُزن بأنه تأسف على ماضٍ، أو حال، قال: والخوف توقع في المستقبل، في النسخة الأخرى: أو لخوفٍ تُوُقِّع في المستقبل، هكذا.

على كل حال: الحُزن من أهل العلم من يفرق بينه وبين الخوف، وأنا سأذكر لكم ما يمكن أن يصح به هذا وهذا، يعني: على الاحتمالين، على النسختين.

من أهل العلم من يفرق بين الحزن والخوف:

فيقولون: الحُزن ما كان على أمر مضى، طبعاً: مضى أو حاضر، كأن حصلت مصيبة، أو حصل شيء، فهو: حزين، حزين على واقع معين حاصل.

وأما الخوف فيقولون: لتوقع المكروه في المستقبل.

فالحُزن يكون لأمر مكروه في الماضي؛ لوقوع مكروه في الماضي، أو الحاضر، والخوف لتوقع مكروه في المستقبل، هكذا يفرق كثير من أهل العلم، فأكثر أهل العلم يفرقون بينهما بهذا التفريق، ولكن من أهل من العلم من يقول: إن الحُزن يكون على أمر فائت وحاضر، وقد يقال بمعنى: الخوف الذي هو: القلق لأمر مستقبل، قد يقال: بمعنى: الخوف، ومما فُسر بذلك في كتاب الله -تبارك وتعالى- وقد مضى هذا في الأعمال القلبية- قول أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ فاطر: 34، على اعتبار أن الحزن الذي قالوه والذي عنوْه هو: الخوف من الآخرة، فهم يعيشون في قلق، وخوف من عذاب الله -تبارك وتعالى-، فسُمي ذلك: بالحزن، بأي اعتبار؟ باعتبار أن المؤمنين إنما يكون الحزن فيما يتصل بهم من جراء الآخرة، فإن هذا هو الحزن المحمود؛ ولذلك نجد بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية حينما يذكر: الحزن، يقول: إنه لا نفع فيه، بل يضر؛ لأنه يُضعف القلب، يُضعف قوى القلب، فلا ينتفع في أموره الدينية، في عباداته، وطاعته، وإقباله على ربه، ولا أموره الدنيوية، يُضعفه إذا تتابع عليه؛ ولذلك لم يؤمر به، إلا أن يكون من جراء الآخرة، أي: الخوف من الدار الآخرة، فهذا قد يقال له: حُزن.

فعبارة ابن جُزي -رحمه الله- هنا بأن الحُزن: تأسف على ماضٍ، أو حال، وعلى النسخة الأخرى: أو لخوفٍ تُوُقِّع في المستقبل، تصح على قول بعض أهل العلم، أنه يُطلق بهذا الاعتبار، أو أنه أراد أن يفرق على المشهور: بين الحزن وبين الخوف، فقال: الخوف: توقع في المستقبل، توقع ماذا؟ توقع المكروه، قلق النفس من أمر تتخوفه في المستقبل، مما تحاذره في المستقبل، لكن لو كان المراد هذا، فيكون الاختصار فيه شيء من الابتسار في العبارة، يعني: لو كانت العبارة هكذا، والخوف: توقع في المستقبل، ليس كل توقع في المستقبل يقال له: خوف، فاستشراف المستقبل، وما إلى ذلك لا يقال له: خوف، وتوقع الخير لا يقال له: خوف، وإنما هو: توقع المكروه، فكان ينبغي أن يُقيد بهذا القيد، فلا يبعد أنه عَنى ما ذكرته أولاً، يعني: ما في النسخة الإماراتية، لا يبعُد، والأمر يسير، وهما قولان معروفان لأهل العلم، منهم من يوسع الحُزن، فيجعله في أمر مضى، أو حاضر، أو مستقبل، لكن إطلاقه على أمر مستقبل قليل، والكثير منهم يجعلونه على ما يكون في أمر مضى، أو في أمر حاضر.

ابن فارس -رحمه الله- يُرجع أصل هذه المادة -الحُزن- إلى أصل واحد، وهو: خشونة الشيء، والشدة فيه، الحُزن والحَزن يقال: للهم والغم؛ ولذلك يقولون: الغم من أمر ماضٍ، ومن أمر حاضر، هذا الحُزن، والخوف: من أمر مستقبل، هذا هو المشهور، فابن فارس أعاده إلى هذا الأصل: خشونة الشيء، والشدة فيه، ويُفسر بالهم والغم، يعني: هذه الناحية، أو هذه الأرض ذات حَزَن، يعني: ذات وَعَر، الحُزونة في الأرض يعني: الوعورة فيها، فهذا أصل هذه المادة.

فقوله: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ فاطر: 34، يحتمل أن يكون المقصود: ما يقع من الأحزان في الدنيا على أمور فائتة، يعني: لمّا ماتوا، كما يقول بعض المفسرين: إنه يقع لهم شيء من الحُزن، إذا كان الإنسان، يعني: في حال الموافاة، يحزن على ما يترك من دنياه، يحزن على أولاده، يحزن على أهله، يقلق عليهم، كيف تكون حالهم، إلى أي شيء يصيرون، يحزن على الفراق، يتألم لذلك، فهذا حُزن، فقد يكون هو المراد، كما قال بعض المفسرين، أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ فاطر: 34، وقد يكون مما يعرض للإنسان في الحياة الدنيا، بحسب ما يقع له من الأمور المؤلمة، أو لمن يحب، فيحزن لذلك، ففي الجنة لا يوجد حزن، فيقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ فاطر: 34، فيذهب عنهم هذا، ويذهب عنهم الغل، وما إلى ذلك من الأمور التي تُعذَّب بها النفوس، وتتألم، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الأحقاف: 13، وقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ آل عمران: 139، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ آل عمران: 153، وهكذا.

يقول ابن جُزي: يقال: حزِن بكسر الزاي، حزِن يعني: يَحْزَن حَزَناً، وحَزَنَه غيرُه بفتحها، حَزَنَه يَحْزُنه، لاحظ: حزِن يقال: يَحْزَن حَزَنَاً، وحَزَنَه يَحْزُنُه حُزْنَاً بالضم، حَزَنه غيرُه يَحْزُنُه حُزْنَاً، فهو: حزين، يعني: أوقعه في الحُزن، والغم، قال تعالى: لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا المجادلة: 10، لاحظ: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ آل عمران: 176، هذا من أين؟ من حزَنه يحزُنه يعني: أوقعه في الحزن، وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ آل عمران: 176يعني: لا يوقعونك في الحُزن، والشيطان أيضاً لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا المجادلة: 10يعني: ليوقع في أنفسهم الحُزن، قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الأنعام: 33يعني: يوقع الحزُنَ في قلبك ذلك القولُ الذي يصدر عنهم، تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ التوبة: 92، "حزَناً"، قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ يوسف: 13ذهابكم به يوقع الحُزن في نفسي، وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ يوسف: 84، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الحجر: 88، لاحظوا في كل هذه الاستعمالات، أو في عامتها، يقال: لأمر مضى، أو لأمر واقع، وغالبه: في أمر مضى، ولا يكاد يُذكر في أمر مستقبل، لكن فُسر بذلك -كما قلت- في مثل قوله -تبارك وتعالى-: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ فاطر: 34، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: حصير: مَحبِس من الحَصر، وأُحصر عن الشيء: حُبس عنه، وحسير بالسين: كليل.

حصير: مَحبِس من الحَصر، وأُحصر عن الشيء: حُبس عنه، وحسير بالسين: كليل.

 

هذه المادة: حسير، هنا في هذه الطبعة: مستقلة، وفي الطبعة الأخرى: هما مادة واحدة، يعني: ضم هذه إلى هذه: حصير وحسير، ولكنْ جعْلُ هذه مادة وهذه مادة أولى؛ لأن المادة تختلف، المادة في الكلمتين تختلف، فنحن سنتحدث عن كل واحدة على حدة.

فالحصير يقول: مَحبِس من الحَصر، وأُحصر عن الشيء: حُبس عنه، ابن فارس يُرجع ذلك إلى أصل واحد، وهو: الجمع، والحبس، والمنع، وهذا متقارب.

فهنا يقول: الحصير: المحبس من الحصر، المحبس: السجن يقال له ذلك أيضاً، أو ما يُنسج أيضاً من النبات، كالبساط، يُجعل كهيئة البساط، وهو: الحصير المعروف، يُنسج من النبات، أعواد متقاربة تُنسج، ويقال له: حصير، وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا الإسراء: 8، ما المقصود به؟ فُسر: بالمحبس، يعني: تكون حبساً لهم، وسجناً لهم، أو بساطاً ومهاداً، لمَّا تجدون في كتب التفسير الخلاف، والأقوال في تفسير الحصير هنا: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا الإسراء: 8، بعضهم يقول: مهاداً، بأي اعتبار؟ باعتبار: أن الحصير في اللغة يأتي بمعنى: البساط المنسوج من النبات، وهو المعروف، فتكون حصيراً، فتُفسر بالآيات الأخرى التي ذُكر فيها: المهاد، والفراش، وكذلك تكون بمعنى: الحبس، والسجن، فحينما نريد أن نجمع بين القولين -ويأتي إن شاء الله تعالى في موضعه- ماذا يمكن أن نقول هنا في هذا الموضع؟ نقول: كل ذلك صحيح، وكل معنى منها دل عليه القرآن أيضاً، والقرآن يُعبَّر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فنقول: جنهم هي حصير بمعنى: أنها محبس لهم، وسجن لهم، وكذلك هي: فراش، كما دل عليه القرآن، واللفظة إذا احتملت معنيين فأكثر، ولم يمنع مانع من حملها على هذه المعاني فإنها تُحمل عليها، لا سيما أن كل معنى قد دل عليه وشهد له القرآن، فهذا من كون القرآن يُعبَّر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

ويقال: حصر يعني: ضاق، أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ النساء: 90يعني: ضاقت صدورهم، وصارت مُحرجة بين هذا وذاك، يتطلع إلى الذهاب في الغزو مع رسول الله ﷺ، ويجد ما يمنعه، ويحجزه عن ذلك، حَصَره يَحْصُرُه حَصْراً: ضيق عليه، وأحاط به وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ التوبة: 5بمعنى: التضييق، ويقال: أَحْصَرَه إِحْصَاراً: منعه، وحال بينه وبين قصده، فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ البقرة: 196، لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا [البقرة: 273]؛ لأنهم لا يستطيعون الانتقال في التجارة والسفر؛ لأنهم على قول بعض المفسرين: أُحصِروا، يعني: لم يَحصُروا أنفسهم هم، كما قال بعض المفسرين بأن المعنى: حبسوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله، وتفرغوا له، وإنما قال: أُحصروا، فبعض المحققين من المفسرين يقولون: هذه المادة تدل على أن المنع وقع عليهم من غيرهم، بمعنى: أنه لو ذهب فإنه يؤخذ من قبل الأعداء، والقبائل التي تطلبه، فلا يستطيع الانتقال كما ينتقل غيره في التجارة، ونحو ذلك، لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ البقرة: 273، فهذا بمعنى: المنع، منعه، وحال بينه وبين قصده.

والحَصور: فُسر: بالذي يمنع نفسه من الشهوات، وَسَيِّدًا وَحَصُورًا آل عمران: 39، وفُسر: بالذي يمتنع من النكاح، لكن هنا في هذا الموضع من غير علة؛ ليكون ذلك كمالاً.

أما ما يتعلق بالحسير فهنا يقول -رحمه الله تعالى-: بالسين: كليل، وابن فارس -رحمه الله- أرجع هذه المادة إلى أصل واحد، قال: وهو: من كشف الشيء، يقال: حسرت عن الذراع يعني: كشفته، حسرت عن ذراعي أي: كشفته، والحاسر: يقال للذي لا درع عليه، الحاسر في القتال: الذي لا درع عليه، ولا مِغْفر، يقال: دخل المعركة حاسراً، ويقال أيضاً لحاسر الرأس الذي ليس عليه عمامة، صلى وهو حاسر يعني: ليس على رأسه شيء.

ومن هذا الباب جعل ابن فارس -رحمه الله- الحسرة، لاحظ: ربط المعاني، وهذا في غاية الأهمية لمن أراد أن ينظر في التفسير، ويكون له بصر فيه، يعني: هذا البناء هو مما يستطيع معه أن ينظر في الأقوال، وأن يجمع، وأن يُرجح، وأن يُنزل هذه الأقوال بطريقة صحيحة.

فالحسرة: التلهف على الشيء الفائت، بأي اعتبار؟ ما علاقتها بأصل المادة هنا الذي هو كشف الشيء؟، ابن فارس -رحمه الله- يُرجع ذلك إلى: انكشاف أمره في حال المصيبة، وقلة صبره، يعني: الناس لا تعرف عقولهم إلا في حالتين -هذا استطراد مني- لا تعرف عقولهم إلا في حالتين: في حال المصيبة، وفي حال الفرح، في حال المناسبات هذه المصائب، والأفراح، ففي المصائب: تجد هذا الإنسان الذي تراه في حال مرضية، وسمت، ووقار، ولربما مروءة ونحو ذلك، إذا وقعت المصيبة قد يضطرب، وينهار، وينسى نفسه، ويصدر منه تصرفات لا تليق بالعقلاء، بل لا تليق بمن يؤمن بالقضاء والقدر، وقد يكون من أهل العلم، فينكشف فيها حال الإنسان، وكذلك في حال الأفراح: تجد ربما يظهر على بعض الناس من الخفة، وقد تغلبهم النساء، ويصدر منهم تصرفات تدل على قلة اتزان، ونوع مباهاة، أو نوع كذا، فلاحظ: الربط بالحسرة، ينكشف بها حاله من قلة صبره مثلاً.

وهكذا أيضاً: حَسَر البصر إذا كَلَّ، قال تعالى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ الملك: 4، بأي اعتبار؟ ما علاقته بالانكشاف؟ ابن فارس يُرجع ذلك إلى: انكشاف حاله في قلة بصره، وضعفه، حسير: يظهر عجزه.

والمُحَسَّر قال: المُحَقَّر، نحن نستعمل هذه العبارة، يقال: فلان حَسَّر بفلان، حَسَّر بغيره، حَسَّر بزيد، يُحَسِّر بنفسه، فالمُحَسَّر هو: بمعنى: المُحَقَّر في اللغة، كأنه حُسِر، يعني: جُعِل ذا حسرة، يعني: حقره حتى صيره صاحب حسرة، صيره في حال حسرة، حسّر به، يقال: حسّر بالدابة، وحسّر بولده، وحسّر بأهله، ونحو ذلك، يعني: جعلهم ذوي حسرة.

والمحسور يعني: في قوله -تبارك وتعالى-: وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا الإسراء: 29، فُسر بالملوم يعني: الناس يلومونك، يلومك من تجب عليك نفقته، أنفقت كل ما بيدك، وقيل: تلومك نفسك، لكن الأقرب ما سبق، فهذا اللوم واقع عليه، "محسورا" يعني: الذي ينفق جميع المال، فلا يبقى له شيء، فيُجهد بذلك نفسه، هذا إذا أردنا ربطها، وإلا فتجدون المفسرين يقولون: المحسور هو: المنقطع، ومنه: الدابة الحسير، يقول الشاعر:

بها جِيفُ الحَسْرى فأمّا عظامُها *** فبيضٌ وأمّا جلدُها فصليبُ

يعني: الدواب التي انقطعت، وكلت من طول السفر، والسير الطويل، فهو يصف هذه الفلاة: بها جيف الحسرى، وهي: الإبل، التي كلت من طول هذه المسافة، فانقطعت، وحرنت، ثم بعد ذلك ماتت، فتفسخت عظامها عن جلودها التي تصلبت، فأما عظامها فبيض، وأما جلدها فصليبُ، لكن هذا المعنى يرجع إلى ما ذُكر، وهو: أن هذه الدواب الحسرى إنما صارت بذلك؛ لأنها قد كلت، فانكشف حالها من الضعف، والعجز، والانقطاع، فهذا المحسور: الذي لا شيء عنده، "محسورًا"، يقول: فيُجهد بذلك نفسه.

وهكذا أيضاً: حَسِر البعير: سار حتى كل، وتعب، وقوله: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ الأنبياء: 19، أي: الملائكة، يعني: لا يستكبرون، فُسر هكذا: ولا يستجيبون للكلال، إذا أردت أن تُعبر بعبارة تربطها مع معنى: الانكشاف الذي يحصل بسبب الضعف، فيحصل الانقطاع، يستحسرون يعني: ممكن أن تُفسر بمعنى مباشر، فيقال: يكلون، ويتعبون، كما قال ابن جُزي: بالسين: كليل، لا يكلون، ولا يتعبون، أو لا ينقطعون، يعني: تفسر بلازمه الذي هو الانقطاع نتيجة التعب، يعني: تفسيره بالانقطاع هو تفسير بماذا؟ تفسير باللازم، وهذا في هذا الموضع: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ الأنبياء: 19يعني: لا يستجيبون للكلال، وفي قوله تعالى: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ الزمر: 56، ويوم القيامة هو يوم الحسرة، هذا -كما سبق- أشد الندم.

وعلى كل حال: الآيات في هذا كثيرة، لعله يكفي ما ذُكر، فالحَسْر، والحَسَر، والحُسُور، كل هذا يرجع إلى: الإعياء، والتعب، والكلال، الحَسْر والحَسَر والحُسُور، فقولك: حَسَرْتُ الدابة يعني: سيّرتها سيراً حتى تكل، وينقطع نشاطها، وقوتها، وينقطع سيرها، فهي: محسورة بهذا الاعتبار، والله تعالى أعلم، فهما مادتان: الحصر، والحسر.

قال -رحمه الله تعالى-: حصيد: هو: ما يُحصد من الزرع، وغيره، واستعير منه: قَائِمٌ وَحَصِيدٌ هود: 100أي: باقٍ، وذاهب.

الحصيد: أصل هذه المادة عند ابن فارس يرجع إلى أصلين، هذه المادة ترجع إلى أصلين:

الأول: قطع الشيء، فقطع الشيء يُقال: حصده، يحْصِدُه ويحْصُدُه -بالكسر، والضم- حَصْداً، يعني: قطعه في إبّان نُضجه، يعني: في وقت أوانه، يعني: إذا استتم، في حال النضج، حصده، كقوله: فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ يوسف: 47، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ الأنعام: 141، هذا الأول.

والآخر: إحكامه، يقول: وهما متقاربان، الأول: قطع الشيء، والثاني: إحكامه، ومنه قولهم: حبل مُحْصَد، أي: مُمد، مفتول.

ففي قوله -تبارك وتعالى-: فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ يونس: 24بمعنى: القطع، والاستئصال هنا، وليس الإحكام، مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ هود: 100بمعنى يرجع إلى القطع، والاستئصال، أن الله استأصلهم وأهلكهم، حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 15]القطع والاستئصال، فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ق: 9يعني: حب ما يُحصد، فهو: من باب إضافة الموصوف إلى صفته، "حب الحصيد"، هذان أصلان.

ابن جُزي -رحمه الله- قال: ما يُحصد من الزرع، وغيره، واسُتعير منه: قَائِمٌ وَحَصِيدٌ هود: 100، يعني: المعنى الذي ذكره واحد، ولكن بمعنى: المُحكم والمُتقن لم يرد في القرآن، فلم يذكره، ونحن هنا في مجلس تعليم، بحيث يبقى طالب العلم مؤصلاً؛ فلذلك أذكر المعنى الآخر، وإلا فإن مما أُخذ على صاحب المفردات مثلاً، وهو الراغب الأصفهاني أنه لربما ذكر ألفاظاً، وهي: قليلة جدًّا، لم ترد في القرآن، ليس لها ورود في القرآن وأوردها، وهذا مما استدركه عليه الحلبي في كتابه المعروف: عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، فهو يكاد يطابق كتاب الراغب، إلا أنه استدرك عليه بعض المواضع مما ليس في القرآن، على قلتها، وزاد عليه بعض المواضع التي فاتته.

قال -رحمه الله تعالى-: حميم: له معنيان: الصديق، والماء الحار.

هذه المادة ابن فارس -رحمه الله- يقول: إنها تتفاوت، وإنها متشعبة الأبواب جدًّا، يقول: فأحد أصوله: الاسوداد، ومنه: اليحمُوم، لاحظوا: اليحمُوم، فهو: الدخان الشديد السواد، على هذا التفسير، ومنه: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ الواقعة: 43، والحُمَم: يقال: للفحم، وكل أسود فهو: حِمْحِم، يقال: أسود حِمْحِم، كما يقال: أسود غِربِيب، يقال: أسود حِمحِم، نسبة إلى ماذا؟ إلى هذا المعنى، يعني: أصله من الحُمَم، ونحو ذلك، ومنه: التحميم المعروف، فاليهود حينما سألهم النبي ﷺ عما يقيمونه على الزاني المحصن؟ فذكروا أنهم يُحمِّمون وجهه، ويجعلونه على حمار منكوساً[1]، يعني: يجعلون وجهه إلى الخلف، ويطوفون به، وهو مُحمَّم الوجه، يعني: في وجهه يضعون سوادًا، يسودون وجهه بالفحم، أو نحو ذلك، فهذا يقال له: التحميم، حمّم وجهه يعني: بالفحم، ونحو ذلك، فهذا أصل، وهو يرجع إلى السواد، والله -تبارك تعالى- يقول: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ الواقعة: 43.

والأصل الثاني: الحرارة، من حَمّ الماءُ يَحَمُّ حمَمَاً يعني: إذا صار ساخناً، واشتدت حرارته.

والأصل الثالث: من الدنو، والحضور، انتبهوا: الدنو والحضور، من قولهم: أحَمّت الحاجة، يعني: حضرت، أحَمّ الأمر، يعني: حضر، لاحظ: الدنو والحضور، أحمت الحاجة: حضرت، طيب، والدنو، والقرب، الصديق الحميم؛ لشدة قربه، فهو: حميم، ما علاقة هذا بالحار؟ هل باعتبار أن العلاقة ساخنة، علاقة حميمة كما يقال، أو باعتبار القرب الشديد؟ فهذه العلاقة الساخنة قد تكون من جهة الغضب، فتكون مؤذنة بالجفوة، لكن العامة يعبرون بعبارات قد لا تكون كما ينبغي، فهذا الحميم يقال ذلك: من جهة القرب، فالحميم في قوله -تبارك وتعالى-: وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ الشعراء: 101يعني: قريب إلى النفس، القريب المشفق يقال له ذلك، يقولون: لأن له في الإشفاق على قريبه حرارة، لاحظ: هذا إذا أردنا أن نربطه بمعنى: الحرارة: لأن له في الإشفاق على قريبه حرارة وحِدَّة، لكن إذا أردنا أن نُرجعه إلى القرب، فنقول: لقربه منه؛ لأنه لصيق به، وإذا أردنا أن نربطه بالحرارة، فنقول: لحرارته، ولما يجد في نفسه من الإشفاق، وكذا، فهو كما يقال: يحترق عليه، ويتألم له.

الأصل الرابع الذي ذكره ابن فارس يقول: جنس من الصوت، منه: حَمْحمة الفرس، أي: صوته عند العلف، هذه الحَمْحمة.

وأصل آخر خامس ذكره: وهو: القصد، من قولهم: حمَمْتُ حَمَّةً، يعني: قَصَدْتُ قَصْدَة، أي: القصد، حمَمْتُ حمَّهُ، قصدتُ قصدهُ، لكن هذا لم يرد في القرآن.

فالآن تأمل في هذه الأمثلة، فنحن نقول ونستعمل بعض الألفاظ، مثل: الاستحمام، فهذا يرجع إلى ماذا؟ الناس يستعملونه بمعنى: الاغتسال، فهذا توسعوا فيه، وإلا فأصل ذلك أنه الاغتسال بالماء الحار؛ لأن أصل ذلك: أنه كان الناس يغتسلون بالمياه الحارة في حمامات معروفة، يُسخن فيها الماء، فيغتسلون بها، فهذه هي التي يذكرها الفقهاء، وحكم دخول الحمام، وكذلك ما يتعلق بالأُجرة، وما يتعلق بغض البصر، وما يتعلق بذهاب المرأة للحمام، والذهاب يوم الجمعة للحمام، إلى غير ذلك، فهي أماكن يُسخن فيها الماء.

كذلك الحُمى؛ لوجود الحرارة، والسخونة، يقال: الحُمى، فهذا يرجع إلى هذا المعنى، إلى الحرارة.

ففي قوله: وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ الشعراء: 101، يكون بمعنى: القريب المشفق، فيمكن أن يُرجع لمعنى: القرب الشديد، أو للحرارة التي يجدها على صديقه، وكذلك مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ غافر: 18، كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ فصلت: 34، لكن في قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ يونس: 4يعني الذي اشتدت حرارته، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ الحج: 19كذلك أيضاً يرجع إلى هذا المعنى، وهذا كثير في القرآن: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ الدخان: 48.

قال -رحمه الله تعالى-: محيص: مهرب.

ابن فارس -رحمه الله- أرجع ذلك إلى أصل واحد، وهو: الميل في جور وتلدّد، هذا المحيص، الميل يقال: حاص عنه، يعني: عدل عنه وحاد، حاص حيصة، هذا يقال في المحسوس، يعني في الراكب، أو الماشي: حاص، ويقال أيضاً في الأمور المعنوية، يقال في اللَّجَج، والجدل، والحِجاج، وما إلى ذلك، يقال: حاص، يقال: الزمخشري حاص عند هذه الآية حيصة، حاد، لم يستطع الجواب عن ذلك، أو حمل ذلك على مذهبه مثلاً؛ ولهذا يقولون: حَيْص بَيْص، هذا في العبارات المشهورة عند العرب، صاروا في حَيْص بَيْص يعني: في شدة، وحاص عن الحق يحيص يعني: حاد عنه إلى شدة ومكروه.

في قوله -تبارك وتعالى-: أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا النساء: 121يعني: محيدًا، وعلى تفسير ابن جُزي يعني: مهرباً، وهو: يرجع إلى نفس المعنى، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ إبراهيم: 21يعني: من مهرب، ولا مفر، يعني: لا محيد، فهم واقعون في النار، وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ فصلت: 48يعني: علموا وتيقنوا ما لهم من محيد، ولا مهرب، ولا مفر، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: حِجر: له أربعة معانٍ: الحرام، والعقل، ومنازل ثمود، وحِجر الكعبة.

ابن فارس -رحمه الله تعالى- أرجع ذلك إلى أصل واحد، وقال: مُطّرد، يعني: أحياناً يذكر أن ذلك يرجع إلى أصل واحد، يقول: المعني الفلاني، وما يقاربه، أو يقول: وله فروع ترجع إليه، وأحياناً يجتهد ويورد بعض الأشياء التي يصعب إرجاعها وربطها بهذا المعنى، ويقول: يعني: سأحاول وسأجتهد فيه، فيذكر بعض التوجيهات.

فهنا يقول: هذا أصل واحد مُطّرد لمعنى الحِجر، يعني: أصل هذه المادة: الحاء والجيم والراء يرجع إلى معنى: المنع، والإحاطة على الشيء، فالحُجرة هي: المكان في الدار المحاط بجدران، أليس كذلك؟ يقال له: حُجرة، والحِجر: حُضن الإنسان، ويقال: اليتيم في حِجر فلان، يعني: في منعته، وحفظه، ويقال: فلان في حِجر فلان، يعني: في منعته، وحفظه، وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ النساء: 23، فيُستعمل بهذا المعنى، لاحظ: ما علاقة هذا الحضن بتفسيره بالمنعة؟ كأن من كان في حضنه فهو في كنفه، وحفظه، وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ النساء: 23، فهي في كنفه، وحفظه، لاحظ: دقة اللغة، والحِجر يقال: للحرام الممنوع، والحِجر يقال: للعقل، الحرام بأي اعتبار؟ باعتبار أنه يُمنع منه، والعقل باعتبار أنه يحجُر صاحبه، ويمنعه مما تدعوه إليه نفسه، فلا يقع فيما يشين، فعقله يحجزه، عقله يمنعه، قال تعالى: لِذِي حِجْرٍ الفجر: 5يعني: لذي عقل، صاحب عقل، ومن خفت عقولهم وضعفت أحلامهم فإن ألسنتهم تسبق نظرهم، وتفكيرهم، وعقلهم، وهذا معروف.

فيُطلق لسانه، وتصدر منه العبارات التي تورده المهالك، والمعاطب؛ لأنه لا عقل له، فإذا خف العقل انطلق اللسان، كما ينطلق اللسان الآخر، وهو القلم، فهذه نتيجة خِفة العقول، فإذا أردت أن تعرف عقول الناس فاقرأ في كتاباتهم، في حساباتهم في تويتر، ولا تحتاج أكثر من هذا إطلاقاً، فإذا تقدم الخاطب يطلب امرأة، أو نحو ذلك، اقرأ في تعليقاته، اقرأ في كلامه، وفي تعليقاته، حتى تعليقاته على كتابات الآخرين، ونحو ذلك، اقرأ، وستعرف كيف يفكر؟ وما حصيلته من الأدب، والتربية، وحصيلته من العلم، وما إلى ذلك، فستجد الأخطاء الإملائية، والأخطاء اللغوية، وتجد العبارات التي تدل على حسرة، لكنه لا يعلم بذلك، وإنما يُبْصره العقلاء، بنظرة يسيرة أحياناً، فلا تحتاج معها إلى سؤال أحد، هل هذا يصلح للتزويج، أو لا يصلح؟ لا يمكن أن يتصنع، ويقال: إنه يرسل تغريدات جميلة، وكذا، لا، لا، ستعرف من المجموع مستوى هذا الإنسان في التفكير، والعلم، والعقل، وحصيلته التربوية، وما إلى ذلك، حتى لو حاول أن يذكر بعض التغريدات، ويُمرر بعض التغريدات الجميلة، أو نحو ذلك، فإن تغريدة واحدة لا تعني شيئاً، وبعض الناس يغترون، ويقولون: فلان له تغريدة جميلة، وينشرونها، ولكن لا يُعرف هذا من موضع واحد.

فالحاصل هنا: الحِجر يقال: للعقل، لاحظ: في قوله -تبارك وتعالى-: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا الفرقان: 22يعني: حراماً ممنوعاً، من عادة العرب أنها تقول ذلك في موضع الاستعاذة، لاحظوا ارتباط المعنى، كان الرجل في الجاهلية يلقى الرجل، وهو يخافه، يلقاه في الشهر الحرام، فيقول له: حِجراً محجورًا يعني: حراماً محرماً عليك، يعني: أن يصلني مكروه، أن توصل إليّ مكروهاً، فلا يبدؤه منه شر، فإذا جاءوا يوم القيامة، ورأوا العذاب، وملائكة العذاب -نسأل الله العافية- قالوا على سجيتهم، وعادتهم، فيما يقولون، على قول بعض المفسرين، إذا رأوا ملائكة العذاب، قالوا: حِجراً محجورًا، كما كانوا يقولون في الدنيا، فتكون هذه العبارة باعتبار أنها صادرة منهم، صادرة عنهم، هم الذين يقولونها، كما كانوا يقولون في الدنيا، وعلى القول بأن ذلك من كلام الملائكة، يقولونه لهم يكون معناه: حرام عليكم، حجراً محجورًا، حرام عليكم البُشرى وما يتبعها من النعيم، أو الجنة، ودخولها، وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا الفرقان: 53، هنا بمعنى: الحاجز، والمانع من أن يُجتاز، لا يستطيعون اجتيازه، لاحظ: في قوله -تبارك وتعالى-: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ الأنعام: 138أي: حرام ممنوعة، يعني: عندهم، كما يقال في القاعدة: الأصل فيها المنع، لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ الأنعام: 138، وكذلك أيضاً هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ الفجر: 5يعني: لصاحب عقل.

إذن: هذا كله يرجع إلى المنع، والإحاطة، الإحاطة كما يقال: في الحُجرة، ويمكن أن يرجع هذا إلى أصل واحد، ابن فارس -رحمه الله- يقول: إلى أصل واحد، فذكر: المنع، والإحاطة، ولكن يمكن أن يرجع إلى المنع وحده، ولا تذكر الإحاطة، بأي اعتبار؟ باعتبار أن ما أحاط به منعه، ومن ثَمَّ فإن الحُجرة مَن يكون بداخلها فهو محجور، لا يوصل إليه، وقد لا يصل هو إلى غيره، وأقلّ ذلك أنه لا يُرى، ولا يَرى غيره، عليه حَجْر، والحَجْر هو المنع، فهذه الحُجرة، والله تعالى أعلم، فيمكن أن يرجع ذلك مطلقاً إلى معنى: المنع، فيُعبر به.

فهذه المعاني التي ذكرها ابن جُزي -رحمه الله- الأربعة: الحرام: حِجْرًا مَحْجُورًا الفرقان: 22، العقل: لِذِي حِجْرٍ الفجر: 5، منازل ثمود: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ الحجر: 80، بأي اعتبار سُميت بذلك؟ نحن قلنا: يرجع ذلك إلى معنى: المنع، وهم يقولون: سُميت بذلك -الحِجر-؛ لأنهم ينحتونها من الجبال، من الحجارة، فهي حِجر، هذا يحتمل، ويحتمل أنها سُميت بذلك بسبب هيئتها، واجتماعها، فمن رآها، وعرفها عرف أنها يحيط بعضها ببعض، فهي سميت بهذا الاعتبار، يعني هم كانوا يسكنون في الصيف في القصور في السهول، قال الله -تبارك وتعالى-: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا الأعراف: 74، هذا في المشتى، فيدخلون في الوادي، وينحتون الجبال بيوتاً، ومن عرف أنواع المساكن فإن تلك المواضع، يعني: التي تكون في الجبال، النحت في الجبال، أو ما بُني من الأحجار، فإنه يكون في الشتاء في غاية الدفء، حتى في الأماكن الباردة، في غاية الدفء، هذا الذي يبنى من الصخور يكون في غاية الدفء ما تحتاج معه إلى شيء آخر، إذا دخلت فيه فما تحتاج إلى إيقاد نار، ونحو ذلك، وهذا معروف، يُجعل في المشتى، فكيف إذا كان ذلك في أصل الجبال؟!، والله أعلم.

قال: وحِجر الكعبة، باعتبار ما ذُكر أيضاً، حِجر الكعبة، فهو: يحجُر، يعني: هو بناء محجور، محجوز، إلى آخره، يمنع من الطواف، أو دخول الطائف فيه، مكان معزول، محجور، عليه حَجْر، فلا يدخله من يطوف، وإنما يطوف من ورائه.

قال -رحمه الله تعالى-: حِمل بكسر الحاء: ما على ظهر الدابة، وغيرها، ويُستعار: للذنوب، وبالفتح: ما في بطن المرأة، وجمعه: أحمال.

هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، يدل على: إقلال الشيء، ما معنى إقلال الشيء؟ يعني: الحَمل، تقول: الأرض وما أقلت يعني: حملت، يقال: حمَلَ الشيء يعني: أقله، ورفعه، الله يقول: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا الأنعام: 146يعني: أقلت، تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ البقرة: 248، كذلك أيضاً: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ النحل: 7، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا الأعراف: 189، فهذا كله بمعنى: إقلال الشيء في أصله، فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مريم: 22يعني: حبلت به، وذلك يرجع إلى معنى: إقلال الشيء، يعني: حملته في بطنها، أقلته في بطنها، رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا البقرة: 286يعني: لا تجعلنا نحمل التكاليف الشاقة، كما كلفت ذلك من قبلنا، سواء كان الحمل الحسي أو المعنوي، ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ الإسراء: 3يعني: أركبنا، أقلتهم السفينة، حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ الحاقة: 11كذلك.

وفي قوله: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ الأعراف: 176يعني: الكلب، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يعني: تكُر عليه، وتهاجمه، وتشد عليه يلهث، فهذا الحمل يرجع إلى هذا المعنى، إلى: إقلال الشيء، لكن قد يكون حسًّا بأن يحمله، أو معنى فيقول: حمَلَ على المقاتل، حمل على المقاتلين، حمل على الرجل، إلى آخره، يعني: كأنه أقل شيئاً، وذلك بحمل نفسه على المواجهة، والمقاتلة، والاستبصار لمجالدتهم، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ الأعراف: 176.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ يوسف: 72، هذا يقال: لما يُحمل؛ لأن البعير يقله، فصار ذلك يقال: للشيء الذي يحمله البعير، وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا طه: 111، لاحظ: هذا في الأشياء المعنوية، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا الحج: 2يعني: حبلها، وهكذا وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ الطلاق: 6.

والحَمولة: ما يُحمل عليه من الدواب، كقوله تعالى: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا الأنعام: 142، حَمُولَةً يعني: ما يُحمل عليها.

فابن جُزي يقول: الحِمل: ما على ظهر الدابة، وغيرها، ويُستعار: للذنوب، يعني: للأمور المعنوية، فأصل الحمل: أن يكون في الأثقال المحسوسة، يقولون: إن أصل ذلك في الأشياء المحسوسة، وهذا يحتاج إلى دليل، يقولون: أما الأشياء الأخرى المعنوية مثل الذنوب، والأوزار فهذا تشبيه لها بالأثقال التي تنوء بها الظهور، وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا طه: 111، فالحِمل -كما سبق- هو الشيء المحمول، حسيًّا كان أو معنويًّا، وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا طه: 101يعني: ما يحملونه، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [فاطر: 18]يعني: الأوزار التي تحملها.

طيب، هنا: ويُستعار للذنوب، في النسخة الإماراتية بدلا منها: ويُستعار للركوب، وهذا خطأ، هو للذنوب، ويُستعار للذنوب، بأي اعتبار؟ على كلام ابن جُزي بأن أصل ذلك يكون في الأشياء المحسوسة، ويُستعار للأشياء المعنوية، كحمل الأوزار، لكن هذا يحتاج إلى دليل، أقصد أنه يُستعار، يعني يقصدون أن ذلك من قبيل المجاز.

قال -رحمه الله تعالى-: إحسان: له ثلاثة معانٍ: فعل الحسنات، والإنعام على الناس، ومراقبة الله تعالى

 

إحسان: له ثلاثة معانٍ: فعل الحسنات، والإنعام على الناس، ومراقبة الله تعالى

 

 المُشار إليها في قوله ﷺ: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)[2].

ابن فارس -رحمه الله- أرجع هذا إلى أصل واحد، فالحُسن: ضد القُبح، والمحاسن من الإنسان وغيره: ضد المساوئ.

أما المعاني التي ذكرها ابن جُزي -رحمه الله- فهي المعاني المباشرة، كما ذكرتُ، فالحُسن هو حالة كما يقولون: حسية، أو معنوية جميلة تدعو إلى قبول الشيء، والرغبة فيه، وذلك يكون في الأقوال، والأفعال، والذوات، والمعاني، فكل ذلك يكون موصوفاً بالحُسن، لاحظ: في قوله -تبارك وتعالى-: وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا النساء: 69، فهذا في الذوات، رفقاء، هذه رفقة حسنة، يعني: إذا أردنا أن نُرجعها إلى أصل المعنى الذي هو الجمال، نقول: يعني جمُلت رفقتهم، وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا الكهف: 31، يعني: موضعاً للارتفاق، جمُلت، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ آل عمران: 14المرجع الجميل، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا البقرة: 83، هذا في القول، في الكلام، الكلام الجميل الذي لا عيب فيه، لا في ألفاظه، ولا في مضامينه، ومعانيه، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ الأحزاب: 52، هنا حُسن الذوات، الجمال، فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ الرحمن: 70يعني: جميلات، وهكذا.

طيب، وأمّا الحسنة فالحسنة تقال: للنعمة التي تُنال من الخير، أو الطاعة، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً البقرة: 201، كالمال، والولد، والزوجة الحسناء، أو غير ذلك مما تتطلع إليه نفسه، وتهفو إليه في هذه الحياة الدنيا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً البقرة: 201أي: الجنة، ونعيم الجنة، وما إلى ذلك، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا النساء: 40، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا الأنعام: 160، هنا الحسنة بمعني: الطاعة، فهي فعل جميل يُحبه الله تعالى، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ الأعراف: 95يعني: الحال التي كانت من الشدة، والكرب، والجدب مثلاً، إلى حال الرفاهية، والنعيم، والغنى بعد الفقر، والخصب بعد الجدب، هذا تبديل مكان السيئة الحسنة.

وأما الحُسنى فهي مؤنث الأحسن، وليس مؤنث الحسنة، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى الحديد: 10، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى الأعراف: 137، وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الأعراف: 180، فقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى الأعراف: 137، وُصفت به الكلمة؛ لما فيها من الوعد بما يحبون، ويستحسنون، فقيل لها ذلك، إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى التوبة: 107يعني: الطريقة الحسنة الخيرة، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى الليل: 6الجنة، بأي اعتبار؟ صدق بما وعد الله من حُسن الجزاء، يعني: تقول: أحسن إحساناً، إذا جاء بالفعل الحسن على وجه الإتقان، والإحكام، وصنع الجميل، تقول: فلان يُحسن، مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ التوبة: 91، ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ الأنعام: 154، على أحد الأقوال في تفسيره: إتماماً للنعمة والكرامة على من أحسن القيام به، كائناً من كان؛ لأن ذلك لا يرجع إلى موسى -عليه الصلاة والسلام- على قول بعض المفسرين، بل على من قام به، فقوله: تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ يعني: إتماماً للنعمة والكرامة على من أحسن القيام به.

فلاحظ: هذه المعاني التي ذكرها ابن جُزي: فعل الحسنات، والإنعام على الناس، ومراقبة الله تعالى المشار إليها في قوله: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)، أي: تلك المرتبة، هذا كله يرجع إلى أصل واحد، وهو: ما يقابل القبح، وأن الحُسن حالة حسية أو معنوية جميلة، تدعو إلى قبول الشيء، والرغبة فيه، سواء كان ذلك من جهة المعاني، أو الذوات، أو غير ذلك.

قال -رحمه الله تعالى-: حق: له أربعة معانٍ: الصدق، والعدل في الحكم، والشيء الثابت، والأمر الواجب، والحق: اسم الله تعالى، أي: الواجب الوجود.

هذه المادة -الحق- سبق التعليق عليها، فهذه مضى الكلام عليها، لكن نحن نقرأ كلامه هنا، فنرجع إلى ما سبق ويرتبط به، فإني قد ذكرت أصول ذلك، فذكرت هذه الوجوه التي ذكرها هنا فيما سبق.

على كل حال: فيما يتعلق باسم الله -تبارك وتعالى- قال: أي: الواجب الوجود، معنى هذا الاسم الكريم أوسع مما ذكر، لكن الكلام على هذا مضى، وأن ابن فارس يُرجع ذلك إلى أصل واحد، يدل على إحكام الشيء وصحته، وأن الحق نقيض الباطل، لكن لاحظ الربط بين تصاريف الاستعمال في هذه المادة، فما ذكرته من قبل عن ابن فارس -رحمه الله-، يقول: ثم يرجع كل فرع إليه، يعني: إلى هذا الأصل، وهو إحكام الشيء، انتبهوا: ثم يرجع كل فرع إليه بجودة الاستخراج، وحسن التلفيق، يعني: يحتاج إلى لطافة ذهن من أجل أن تربطها بهذا، أي: لتُرجِع تلك الوجوه إلى هذا المعنى، والأصل الواحد، فتحتاج إلى جودة الاستخراج، وحُسن التلفيق، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.



[1] أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب الرجم في البلاط، رقم: (6819)، ومسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، رقم: (1700).

[2] أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِلقمان: 34، رقم: (4777)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الإيمان ما هو وبيان خصاله، رقم: (9).

مواد ذات صلة