تفسير التسهيل لابن جُزي
معاني اللغات (الغريب)
(18- أ) حرف الخاء من قوله: خلا إلى قوله: مَخْمصة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين، أما بعد:
فيقول الإمام ابن جُزي الكلبي: خلا: له معنيان: من الخَلوة، وبمعنى: ذهب، وتقدم، ومنه: أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ البقرة: 134.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
خلا: هذه المادة أرجعها ابن فارس -الخاء واللام والحرف المعتل- إلى أصل واحد، يدل على تعري الشيء من الشيء، يقال: هو: خِلوٌ من كذا إذا تعرى منه، إذا كان خليًّا منه، ويقال: الخَلِي لمن كان خليًّا من الغم، والأيام الخالية هي: الماضية، بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ الحاقة: 24، ويقال: خلا لكذا بمعنى: فرغ له، ولم يشتغل بغيره، ومن ذلك قوله -تبارك وتعالى-: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يوسف: 9يعني: تخلص لكم رعايته، وعطفه، واهتمامه، ونحو ذلك مما كان يشارككم فيه يوسف -عليه الصلاة والسلام-، ويأخذ النصيب الأكبر، وهكذا حينما يقال: خلّى سبيله يعني: كف عنه، أو أطلقه، فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ التوبة: 5يعني: لا تتعرضوا لهم بقتال ولا أسر، وهكذا يقال: تخلى عنه بمعنى: تركه، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ الانشقاق: 4.
فهذه المادة كما ترون ترجع إلى هذا الأصل: تعري الشيء من الشيء، وابن جُزي -رحمه الله- ذكر المعنيين قال: من الخلوة، يعني: الانفراد، وهذا يرجع إلى هذا المعنى، كما سبق، وبمعنى: ذهب، وتقدم، ومضى، فهذا مثل الأيام الخالية، ونحو ذلك، فهذه قد عريت عن الحال الحاضرة، وانصرمت، وذهبت، قال: ومنه: أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ البقرة: 134.
إذن: هو يرجع إلى هذا المعنى، فقوله مثلاً: وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ البقرة: 76بمعنى: الانفراد، انفصلوا عن غيرهم، وانفردوا، وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ البقرة: 14يعني: انفردوا، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ آل عمران: 119يعني: انفردوا، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ البقرة: 214يعني: مضوا، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ فاطر: 24يعني: مضى، أُرسل فيها نظير في الزمن الماضي.
قال -رحمه الله تعالى-: خطيئة: ذنب، وجمعه: خطايا، وخطيئات، والفعل منه: خطئ، فهو: خاطئ، وأما الخطأ بغير عمد فالفعل منه: أخطأ
خطيئة: ذنب، وجمعه: خطايا، وخطيئات، والفعل منه: خطئ، فهو: خاطئ، وأما الخطأ بغير عمد فالفعل منه: أخطأ
.
هذا هو المشهور، وابن فارس -رحمه الله- يقول بأن أصل هذه المادة يدل على تعدي الشيء، والذهاب عنه، ثم انظر بعد ذلك كيف تكون المعاني، كيف تتفرع عن هذا: تعدي الشيء والذهاب عنه.
يقال: خَطَوتُ أخطُو خُطوة، والخُطوة يقولون: هي ما بين الرجلين، يعني: في المشي، يقال لها: خُطوة، مقدار خطوة، يعني: أقل من نصف متر، خُطوة.
وأما الخَطْوة فهي: المرة الواحدة من الخَطو، تقول: هذه خَطوة في الطريق، خَطوت خَطوة: المرة الواحدة، وليس هذا محل اتفاق أيضاً في هذا المعنى.
والخَطَاء -بالهمز- يقولون: إنه من هذا، لماذا؟ لأنه مجاوزة حد الصواب، تجاوزه، خَطَا عنه، هذا الخَطَاء، يقال: أخطأ إذا تعدى الصواب، وخطِئ يخطَأ إذا أذنب، يقولون بأي اعتبار؟، لأنه يترك الوجه الذي هو خير.
وهنا ابن جُزي يقول: الخطيئة هي: الذنب، بالاعتبار السابق: أنه تجاوز ما حُد له، وجمعه: خطايا، وخطيئات، والفعل منه: خطِئ، فخطِئ يقال: يخَطأ، بمعنى: انحرف إلى الشر، أو المخالفة قصداً، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ الحاقة: 37، إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَيوسف: 29، ما قالوا: من المُخطئين، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ العلق: 16، الذي ينحرف قصداً يقال له: خاطئ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ العلق: 16أي: خاطئ صاحبها، وهذا هو المقصود، وليس المقصود أنها الناصية بنفسها، كما يقولون إن موضع الكذب هو في هذا المكان، إذن عُبر عنه بهذا الاعتبار، كما يقوله بعض من يتكلم في ما يُسمى بالإعجاز العلمي، فهذا ليس بمراد، والله يقول: فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ الرحمن: 41، فما بال الناصية؟ هذه هي: أساليب العرب في التعبير عن هذه المعاني، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ الحاقة: 9يعني: بالفَعْلَة أو الفِعَال الخاطِئة، أو الخاطِئ أصحابها، وقوله -تبارك تعالى-: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا الإسراء: 31، فالخِطْء بمعنى: المخالفة قصداً، الفَعْلَة التي يؤاخذ الإنسان عليها.
فصار هنا: الخِطْء والخَطَأ، الخِطء: من خطِئَ يَخْطَأ فهو خاطئ، وذاك الخَطَأ: من أَخْطَأ يُخْطِئ فهو مُخطِئ، فقوله: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا النساء: 112، هذه من: خطِئَ، وهكذا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً النساء: 92يعني: من غير قصد، وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ يوسف: 91من الخطيئة، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ الأعراف: 161جمع خطيئة، وهكذا.
على كل حال: في قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا البقرة: 286، هذا ما يقع من غير قصد، فقرنه بالنسيان، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ الأحزاب: 5، فالذي تعمدته القلوب يكون من قبيل الخطيئة.
قال -رحمه الله تعالى-: خاسئين: مطرودين، من قولك: خَسَأتُ الكلب، ومنه: اخْسَئُوا فِيهَا المؤمنون: 108.
هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى معنى واحد، وهو: الإبعاد، تدل على الإبعاد، يقال: خَسَأَه يَخْسَؤه خَسْأً بمعنى: طرده، ويقال: خَسَا يَخْسَى خُسُوءاً، وخَسِئ يَخْسَأ، وانخَسَأ، كل ذلك بمعنى: بعُد، وانزجر، فهو خاسئ، وهم خاسئون، خَسَأ البصر، وخَسِئ بمعنى: تحير، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ الملك: 4متحيراً، لا يجد عيباً في هذا الخلق المحكم، فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ البقرة: 65يعني: بعيدين منزجرين، قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ المؤمنون: 108أي: إبعاد لهم، أي: انزجروا، فهذا هو المعنى، حينما يقال للبعيد ذلك فإن معناه: الإبعاد، والزجر، ونحو هذا، وإن كان من الناس من يستعمل ذلك اليوم في بعض أعرافهم بمعنى: الأمر بالسكوت بغلظة، والزجر عن الكلام، والمعنى أوسع من هذا، والله أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-: خَلْف بفتح الخاء وإسكان اللام: له معنيان: وراء، ومن يَخْلُف -وفي نسخة: ومن خَلَف- سَلَفَه بِشَر، فإذا خلفه بخير قيل بفتح اللام.
هذه خَلْف: بفتح الخاء وإسكان اللام، يقول: له معنيان: وراء، ومن خَلَف سلفه بشر، هذا في الطبعة الإماراتية: من خَلَف سلفه بشر، وفي الطبعة الأخرى: ومن يخلُف سلفه بشر، والمعنى واحد، لكن في طبعة أخرى كثيرة الأخطاء: ومن خلَف خَلْفه بشر، فهذه غير صحيحة.
هذه المادة: الخاء واللام والفاء ابن فارس يُرجعها إلى ثلاثة أصول:
الأول: أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه.
والثاني: خلاف قُدام، يقال: قُدام وخلف، وأمام وخلف.
والثالث: التغير.
فالأول: أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه، يقال: خَلَف فلانٌ فلاناً، يخلُفه، يعني: جاء بعده، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مريم: 59يعني: جاءوا بعدهم، أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ مريم: 59.
ويقال: خلف فلانٌ فلاناً يعني: قام بالأمر بعده، بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي الأعراف: 150يعني: خلفتموني في هذا العمل، أي: في الشرك، وعبادة العجل، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ الزخرف: 60، وفي قول موسى ﷺ لهارون -عليهما الصلاة والسلام-: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الأعراف: 142]يعني: أمره أن يقوم بالأمر من بعده.
والخليفة: من يخلف غيره، ويقوم مقامه، وفي قوله تعالى للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة: 30كلام للمفسرين كثير، ومعروف، والخلاف مشهور، هل يقال: خليفة الله في الأرض، أو أن المقصود: أنهم يخلفون الجن، أو المقصود: أنه يخلف بعضهم بعضًا، وهذا هو الأقرب والله أعلم، ولا يصح على الأرجح أن يقال: خليفة الله، لا يقال للإنسان: خليفة الله في الأرض، ولا يقال: فلان خليفة الله، ونحو ذلك، فالله أجلُّ وأعظم، فهذا الخليفة: إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ص: 26، وهكذا: خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ الأعراف: 69بمعنى: أن الله استخلفهم في الأرض، وجعلهم خلفاء يخلف بعضهم بعضًا، أو أنهم يَخْلفون، جعلهم خلفاً من الذين لم يكونوا على حالهم.
والخالف يقال: للمتأخر الذي يقعد عن القتال، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ التوبة: 83أي: النساء والصبيان الذين يقعدون في المدينة إذا خرج النبي ﷺ وأصحابه إلى القتال.
والخالفة: يُكنى بها عن المرأة؛ لتخلفها في البيت؛ لبقائها في البيت، الذي هو مقرها، وموضعها الأساس، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ الأحزاب: 33، فالمرأة يقال لها: خالفة؛ ولهذا قيل في قوله تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ التوبة: 87، قيل: مع النساء.
ويقال أيضاً: خالفهم إلى كذا يعني: قصدهم وهم مولون عنه، تقول: خالفهم إلى النساء والذرية يعني: خرج الجيش فخالفهم العدو من ناحية أخرى إلى النساء والذرية، خالفهم إلى كذا، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ هود: 88، هو مِن هذا، يعني: أنهاكم عن شيء، ثم بعد ذلك أقصده، وأفعله.
وخالفوا عن كذا: ولوّا عنه، وانصرفوا معرضين، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ النور: 63يعني: ينصرفون عنه، ويعرضون عنه، هذا كله داخل في هذا.
ويقال: أخلف الله عليه: رد عليه ما ذهب عنه، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ سبأ: 39.
وخلّفه يعني: أخره، خلّف أصحابه يعني: أخرهم، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا التوبة: 118، ما المعنى؟ هل المقصود: أنهم تخلفوا عن غزوة تبوك؟ لا، وإنما خُلِّفُوا يعني: أُخِّر أمرهم، ولم تُقبل معذرتهم، فأما الذين جاءوا من المنافقين، وحلفوا للنبي ﷺ فقد قبل منهم، واستغفر لهم، وأما هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا فالنبي ﷺ أرجى أمرهم حتى يُوحَى إليه فيهم، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا التوبة: 118.
أما قوله -تبارك وتعالى-: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ التوبة: 81، يعني: هؤلاء الذين أخرهم كسلهم ونفاقهم، قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ الفتح: 16، أيضاً كذلك.
وهكذا أيضاً يقال: تخلف بمعنى: تأخر، مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ التوبة: 120التأخر عن الغزو معه.
وكذلك الاختلاف، اختلف القوم: ذهب كلٌّ منهم إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ هود: 110، هذا ذهب إلى وِجهة، وهذا ذهب إلى وِجهة.
واختلاف الألسُن، والألوان، والطعوم شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ النحل: 69، كذلك أيضاً بمعنى: تنوع هذه الأشياء، وتفاوتها.
اختلاف الكلام: تناقضه، أو تفاوته، ونحو ذلك، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا النساء: 82أي تضاربًا وتعارضًا، ينقض بعضه بعضًا.
اختلاف الليل والنهار بمعنى: التعاقب، أو الاختلاف في الطول والقِصر، والنور والظلمة، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ البقرة: 164.
وقل مثل ذلك أيضاً في: إخلاف الوعد يعني: عدم الوفاء به، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ إبراهيم: 22، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي طه: 86.
فهذا كله يرجع إلى هذا الأصل الأول الذي قال عنه ابن فارس: أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه.
ومن هذا الأصل الأول: الخَلَف، والخَلْف، أي: ما جاء بعدُ، يقال: هو: خَلَف صدق من أبيه، وخَلَف سوء من أبيه، يعني: بعضهم يُطلقها هكذا، لا يفرق بين الخَلَف والخَلْف، وبعضهم يقول: إن ذلك إذا قُيد، يقال: خَلَف سوء، فيكون المُحرَّك بهذا الاعتبار مقيداً بالسوء، فيصح بهذا الاعتبار، وهذا الذي ذهب إليه ابن فارس -رحمه الله-، وعند الإطلاق يقال للجيد، وللرديء: خَلْف بالسكون، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مريم: 59.
والخلافة: سُميت خلافة؛ لأن الثاني يجيء بعد الأول قائماً مقامه، تقول: قعدت خلاف فلان يعني: بعده.
ومن هذا الباب -على كل حال كما سبق- اختلاف الناس؛ لأن كل واحد منهم يُنحي قول صاحبه، ويقيم نفسه مقام الذي نحاه، يعني: فإذا أردت أن تربط المعاني بهذه الطريقة، فهذه تنحية قول، وهذا يأتي مكان هذا، ونحو ذلك.
أما الأصل الثاني وهو: خلاف معنى: قُدام، فيقال: هذا خلفي، وهذا قُدامي.
وأما الثالث، وهو: التغير، فمن ذلك: خُلوف فم الصائم، بمعنى: التغير، إذا تغير، وابن فارس يجعل من ذلك: إخلاف الوعد، أنه يرجع إلى معنى التغير.
ولا يبعُد -والله تعالى أعلم- أن هذه المعاني الثلاثة متقاربة، وكأنها ترجع إلى شيء واحد، فإن الذي يأتي بعد غيره لا يكون متقدماً عليه، وإنما يكون خلفه، والتغير هي حالة ثانية جاءت بعد الحالة الأولى، وهكذا أيضاً: الخلاف، والاختلاف يرجع إلى هذا.
فهذه الأصول الثلاثة التي ذكرها ابن فارس -رحمه الله- كأنها متقاربة، أو ترجع إلى شيء واحد، فيقال: الخَلْف: القرن بعد القرن، وهكذا، وفي الخَلْف الذي يقابل الأمام: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً يونس: 92، لمن خلفك في مصر آية، وهكذا الخِلفة: ما يخلف الآخر، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً الفرقان: 62يتعاقبان، هذا يخلُف هذا، والمخالفة، والاختلاف: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ المائدة: 33يعني: تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
فهنا ذكر ابن جُزي -رحمه الله- وراء، هذا المعنى الأول، ومَن خَلَف سلفه بشر -يعني: الخَلْف-، فإذا خلفه بخير قيل بفتح اللام، هو يتحدث عن الخَلْف، وما ذكرته -على كل حال- ترجع إليه أنواع الاستعمال، والله تعالى أعلم، ومن هنا تستطيع أن تربط بين المعاني، وأن تُرجع ذلك إلى شيء واحد، أو متقارب، والسياق هو الذي يحدد المعنى المباشر.
قال -رحمه الله تعالى-: خلاف: له معنيان: من المخالفة، وبمعنى: بعد أو دون، ومنه: بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ التوبة: 81.
هذا يرجع إلى ما سبق، وهذه بعض الاستعمالات، والألفاظ المتفرعة من المادة الأصلية، التي هي: الخاء واللام والفاء.
قال -رحمه الله تعالى-: خَوَّل: أعطى.
هذه أيضاً أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، يدل على تعهد الشيء، خوَّلَك الله مالاً يعني: ملّكك إياه، ما علاقته بالتخوّل؟ لأن المال يُتعهد، لاحظ الربط: خوّلك الله مالاً، فالمال يتعهده صاحبه بالتثمير، وإحرازه، وحفظه، ونحو ذلك.
يقول هنا: خوّل بمعنى: أعطى، وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ الأنعام: 94يعني: ما ملكناكم، وما أعطيناكم، ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ الزمر: 8، خوّله يعني: أعطاه نعمة، وهكذا في قوله: ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ الزمر: 49.
قال -رحمه الله تعالى-: خُلّة -بضم الخاء-: مودة، ومنه: الخليل، وجمعه: أخلّاء.
هذه المادة أيضاً يُرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، تتقارب فروعه، لكنه يقول: يرجع إما إلى دقة، أو فُرجة؛ ولذلك اللفظة الثانية تتعلق بهذا، وترجع إلى الأصل، انظر ماذا قال فيها؟
قال -رحمه الله تعالى-: خِلال: له معنيان: وداد، ومنه: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ إبراهيم: 31، وبمعنى: بين، ومنه: خِلالَ الدِّيَارِ الإسراء: 5، وخِلَالَكُمْ التوبة: 47.
هذه المادة أرجعها ابن فارس كما سبق إلى: الدقة، أو الفُرجة، ترجع إلى هذا، أو هذا.
فما يرجع إلى الدقة: الخِلال، ما هي الخِلال؟ هي: واحد الأَخِلّة، يعني يقال: فلان يأكل خِلَلَه وخُلَالَته، وهي: ما يُخرجه الإنسان مما يكون بين الأسنان مما يعلق من الطعام، فهذا يرجع إلى معنى الدقة.
والرجل الخَلّ هو: نحيل الجسم، يقال له: خَلٌّ، فلان خَلٌّ أي: نحيف.
ويقال لابن المخاض: خَلٌّ؛ لأنه دقيق الجسم، ابن المخاض من الإبل يقال له: خَلٌّ، بهذا الاعتبار.
و الخَلّ أيضاً يقولونه للطريق في الرمل، باعتبار أنه يَدِقّ الرمال من هنا وهنا، فيَدِق هذا الطريق، فيقال له: خَلٌّ، وهذا مستعمل إلى اليوم، وإن كان العامة قد يفخمون الخاء.
وكذلك الخَلَال: البلح، ولا زال هذا مستعملا إلى اليوم، وإن كان العامة يفخمون الخاء، الخَلَال لماذا؟ لأنه في أوله يكون مُستدِقًّا قبل أن يتم، ويكتمل.
ومن ذلك أيضاً: الخلخال، وهو: الذي يكون بمنزلة السِّوار، لكنه في ساق المرأة، أسفل الساق؛ لدقته، فهذا ما يرجع إلى الدقة.
أما الفُرجة فهي: الخلل بين الشيئين، فيقال له ذلك.
ومنه: الخَلَّة بمعنى: الفقر، بأي اعتبار قيل للفقر: خَلَّة؟ يقولون: لأنه فُرجة في حاله.
لاحظ: الآن يقال: الخَلَل: المُنفرَج بين الشيئين، ويجمع على: خِلال، فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ الإسراء: 5، هذا يرجع إلى معنى: الدقة، أو الفُرجة؟ الفُرجة، يعني: ما بين البيوت، أي: جالوا بينها، بين الديار، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ الروم: 48، يقولون: ثقوب السحاب، والفُرج بين السحاب، فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا الإسراء: 91، خلال هذه الجنة يعني: فيما بينها، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ التوبة: 47يعني: المنافقين، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ التوبة: 47يعني: لأسرعوا بينكم بالنمائم لإفساد ذات البين، وقالة السوء مما يحصل به تغير القلوب.
والخُلَّة -بالضم- بمعنى: فلان خليل لفلان، يعني: خالص المحبة، كأنها تخللت القلب، وجمعها: خِلال، ويقال: خالَّه مُخالَّة: صادقه على هذا النحو، وصاحبه على هذا النحو، وأحبه على هذا النحو، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ إبراهيم: 31، يمكن أن يكون مصدراً لخالَّه خِلالاً، أو جمع خُلَّة، وَلا خِلالٌ يعني: لا يوجد خُلة، والخليل هو: الصاحب المخلص في محبته، الذي تخللت محبته القلب، يعني: أصفى المودة، وأصح ذلك، الذي لا يخالطه شوب يقال له: خُلَّة، تخللت القلب، كأنها دخلت في خِلاله؛ ولذلك نحن نقول: من خلال كذا.
ففي قوله -تبارك وتعالى-: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ إبراهيم: 31، يحتمل المعنيين، كما سبق: الخُلّة، ويحتمل أن يكون ذلك: مصدراً لخالَّه خِلالًا، وقوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا النساء: 125، هذه مرتبة عالية في المحبة، من أعلى مراتب المحبة، فالمحبة على مراتب، منها: المودة، ومن أعلاها: الخُلَّة، ومنها: التَّيْم، يقال: فلان مُتيَّم، ومنها: العشق، ونحو ذلك، أوصلها بعضهم إلى: عشر مراتب، فالخوف مراتب، والكراهية مراتبة، وكل مرتبة لها اسم، والمحبة على مراتب أيضاً، وقوله: وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا الإسراء: 73، كذلك أيضاً في قوله: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ الزخرف: 67، فهذا كله على هذا النحو، وقوله: أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا النمل: 61يعني: بين جبالها، وفي أوديتها، ونحو ذلك.
قال -رحمه الله تعالى-: خَرّ: يخِرُّ: سقط على وجهه.
خَرّ: هذه المادة ترجع عند ابن فارس إلى أصل واحد وهو: اضطراب، وسقوط مع صوت، فالخرير: صوت الماء حينما يسقط من أعلى، وعين خرارة كذلك، ويقال للرجل إذا اضطرب بطنه: قد تخرخر، إذا اضطرب البطن وكان له صوت، هذا الصوت يقال له: خرخرة.
فالخُرور هو: السقوط من علو، تقول: خر على وجهه، فقوله: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا الفرقان: 73يعني: لم ينكبوا عليها، وغير متدبرين لها، وقوله: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ النحل: 26سقط، وهكذا: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ الحج: 31يعني: سقط من السماء، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ سبأ: 14يعني: خر سليمان -عليه الصلاة والسلام-، سقط تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ سبأ: 14، فهذا هو: السقوط، لكنه لا يلزم أن يكون السقوط على الوجه، فقد يكون كذلك بحسب السياق، لكن لا يلزم كما في خرير الماء، وما أشبه ذلك، لكن في السجود، ونحو ذلك، كقوله: وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ص: 24يعني: ساجداً، فالسجود يقال عنه: ركوع، يعني: خر على وجهه، سجد، لكن ليس كل خُرور يكون مقيداً بالوجه، وهكذا.
قال -رحمه الله تعالى-: خامدون: هالكون، وأصله: من خمود النار.
هذه المادة أرجعها ابن فارس -رحمه الله تعالى- إلى أصل واحد يدل على سكون الحركة، والسقوط، خمد: سكون حركة، وسقوط، يقال: خمدت النار يعني: سكن لهيبها، خمدت: سكن لهيبها، خمد فلان: مات، أو أُغمي عليه، لاحظ: سكون، وسقوط، ويقال ذلك في معنى أوسع: إذا سكت فلم يتكلم، أو إذا كان يزاول أعمالاً، ونحو ذلك، ثم تركها، فلم يكن له عمل يُذكر، فيقال: خمد، مثل النار التي كانت تُتوقع، ثم بعد ذلك حصل لها هذا الخمود.
فقوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29]أي موتى لا حراك بهم، سقطوا موتى، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ الأنبياء: 15أي: موتى، سقطوا موتى.
هنا في هذه المادة قال: خامدون: هالكون، وأصله: من خمود النار، وفي الطبعة الثانية الإماراتية قال: خامدون: هالكين، وأصله: من خَمْد النار، لكن الصحيح: خامدون: هالكون، ولا يقال: هالكين؛ لأنه لا يوجد ناصب لها.
قال -رحمه الله تعالى-: خطْب: خبر، والخطْب أيضا: الأمر العظيم، وخِطبة النساء بالكسر، وخُطبة الخطيب بالضم.
هذه المادة -الخاء والطاء والباء- يُرجعها ابن فارس إلى أصلين:
الأول: الكلام بين اثنين، يقال: خاطبه خطاباً، يعني: كلَّمَه، فالمخاطبة: مفاعلة بين طرفين، وهي: مكالمة، والخُطبة من ذلك، فهي تقال: للكلام المخطوب به، يقال: خُطْبة بالضم، والخِطْبة: بالكسر: الكلام الذي يُقال في طلب النكاح، في طلب المرأة، فهو كلام أيضاً يقال له: خِطبة، في طلب التزويج، والخُطْبة: ما يُلقى من كلام يُخطب به، والخَطْب، ما هو الخطب؟ ما خطب فلان؟ الخطْب هو: الأمر يقع، ما علاقته بهذا الأصل الذي هو الكلام؟ يقولون: لأنه يقع فيه التخاطب، والمراجعة، فتحصل مراجعة بين الناس فيه، فالأمر يقع ويتراجع الناس فيه، فهو خطب له شأن، وأهمية، فلا يفوت هكذا، وإنما تحصل فيه مراجعة بين الناس، تحصل مخاطبة بينهم بهذا الاعتبار.
فهذا كله يرجع إلى هذا المعنى: الكلام بين اثنين، خاطبه يعني: تكلم معه، قال الله -تبارك تعالى-: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ الفرقان: 63كلموهم، قَالُوا سَلامًا، وقال: وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ هود: 37لا تكلمني فيهم، لا تطلب الغفر لهم، وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ص: 23يعني: في المخاطبة، تكلم بنوع علو، وترفع، وقوة، وَعَزَّنِي، يقال: مَن عزَّ بزَّ، فيتكلم بنوع من الفوقية، فهذا كله يرجع إلى هذا المعنى.
الأصل الثاني وهو: اختلاف لونين كما يقول، من ذلك يقولون: الخَطْبَاء، ما هي الخطباء؟ يقولون: الأتان، أنثى الحمار التي على ظهرها خط أسود، لاحظ: اللون يختلف، يعني: اللون على الظهر يختلف عن بقية لونها، وهكذا أيضاً: الخُطْبَان، وهو الحنظل، وهو معروف، هو نبت في الصحراء بحجم التفاحة، أو نحو ذلك، إذا كانت ألوانه متغيرة، يعني: أحياناً يكون فيه مثل الخطوط، لونها أغمق من باقي اللون، اللون فاتح يميل إلى الصفرة، وهذه تكون الخطوط متميزة بلونها، فيقال لهذا النوع، يقال له: الخُطْبان، فصار هذا يرجع إلى تغير اللون.
أما في كتاب الله -تبارك وتعالى- فجاء ذلك بالمعنى الأول -الأصل الأول-: الكلام بين اثنين، ونحو ذلك، فيدخل فيه الأمر العظيم الذي ذكره ابن جُزي؛ لأن الناس يتخاطبون به، ويتراجعون، وخِطبة النساء؛ لأنه يتكلم في طلب التزوج، والخطيب: يُلقي كلاماً، يُخاطبهم فيه، والخُطبة: بهذا الاعتبار هي كلامه الذي يقوله، فقوله: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ البقرة: 235بهذا الاعتبار، يعني: ما تقولونه تعريضاً في أمر التزوج من هذه المعتدة، وقوله: قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ يوسف: 51يعني: ما شأنكن؟، لاحظ: هذا الخَطْب يتراجع فيه الناس؛ ولهذا يوسف -عليه الصلاة والسلام- حينما طُلب منه أن يخرج من السجن: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ يوسف: 50، هذا الخَطْب، قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ يوسف: 51، فتحصل فيه مراجعة، وقول موسى ﷺ للمرأتين في مدين عند الماء: مَا خَطْبُكُمَا القصص: 23ما شأنكما؟، ما أمركما؟، قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ الذاريات: 31يعني: ما شأنكم؟، ما الأمر الذي جئتم من أجله؟، فهذا لمّا كان الناس يتراجعون فيه قيل له ذلك، والله تعالى أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-: خرّاصون: كذابون، ومنه: يَخْرُصُونَ الزخرف: 20، والخَرْص أيضًا: التقدير، وقيل: إنّ يخرصون منه، أي: يقولون بالظن من غير تحقيق.
هذه المادة -الخاء والراء والصاد- يرى ابن فارس أنها ترجع إلى أصول متباينة، غاية التباين، فذكر ثلاثة أصول:
الأول: الخَرْص، وهو: حَزْر الشيء، يقولون: خرصتُ النخل، يعني: حزرتُ الثمر، أي: الخرْص المعروف في الفقه، أي: يُرسَل من له خبرة ودراية، فيقول: إن هذا الثمر الذي على رءوس النخل يُقدر بكذا وكذا، يعني: إذا جف من التمر، هذا يقال له: خَرْص، إذا حزرتَ الثمر تكون قد خرصتَه، ويقال: الخَرّاص: للكذاب، لماذا؟ لأنه لا يتكلم بعلم، وإنما يتكلم بما لا يعلم، ولا يُحقِّق، يقال: خرّاص.
الأصل الثاني الذي ذكره ابن فارس يقول: يقال للحلقة من الذهب: خُرْص، تلبسه المرأة، وهو معروف، ومستعمل هذا إلى اليوم، يقال له: خُرْص، هذا لا علاقة له بالأصل، أو المعنى الأول.
الثالث الذي ذكره يقول: كل ذي شُعبة من الشيء ذي الشُّعب يقال له ذلك، فالخريص من البحر: الخليج منه، شُعبة من البحر، يقال له: خريص، والخَرْص: كل قضيب من شجرة هو فرع عنها، يقال له: خَرْص.
وذكر أيضاً معنى آخر، وهو الخَرَص، يقول: هو صفة الجائع المقرور، الخَرَص، لكن هذا ما جاء في القرآن، إنما الذي جاء يرجع إلى المعنى الأول الذي عبر عنه ابن فارس بحَزْر الشيء، يقال: خَرَص الثمر أي: حَزَر الثمر، وكذلك العنب من أجل أن يُعرف: كم يكون من الزبيب، وكم يُقدر، وهكذا الذي يتكلم بالتخمين، والظنون، يقال: يتخرص، تشبيهاً بفعل الخارص.
ويستعمل في الكذب الأصلع الواضح الذي لا شبهة فيه، كل ذلك يقال لصاحبه: يتخرص، يعني: يكذب، أو يتكلم بلا تحقيق، ولا علم، لو قيل له: هات البرهان على ما تقول، قال: سمعت، وقرأت رسالة في الواتس آب، ثم يتكلم في القضايا الكبار.
فهنا ابن جُزي قال: خرّاصون: كذابون، ومنه: يَخْرُصُونَ الزخرف: 20، وقال: الخَرْص: التقدير، وقيل: إنّ يخرصون منه، لاحظ: يقول: يحتمل أنه يرجع إليه، إلى المعنى الأول؛ لأنهم يقولون بالظن، أما ابن فارس فجعل هذا يرجع إلى أصل واحد، فقوله: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الذاريات: 10أي: الكذابون، وقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ الأنعام: 116يتبعون الأوهام والظنون من غير تحقيق، مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ الزخرف: 20، فلاحظ: الاستعمالات ترجع إلى معنى الأصل الأول الذي ذكره ابن فارس، والله أعلم.
طيب، هنا ناحية أو منطقة يقال لها: خريص، ربما ترجع إلى ما ذكره ابن فارس، الذي هو شُعبة من ذي شُعب.
قال -رحمه الله تعالى-: خَبال: شر.
في الطبعة الأخرى قال: سوء، وعلى كل حال: السوء والشر متقاربان.
وابن فارس أرجع ذلك إلى أصل واحد، قال: هذا يرجع إلى معنى يدل على فساد الأعضاء، والخَبَل من هنا يقال: للجنون، تقول: أصابه خَبَل في عقله أي: جنون، فلان به خَبَل أي: جنون، ويقال: خُبلت يده إذا قُطعت، وأُفسدت، والله -تبارك وتعالى- يقول: لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا آل عمران: 118فالخبال يقال: للنقصان، والفساد الذي يورث الاضطراب، على ما ذكره ابن فارس في أصل المعنى، فهو يدل على فساد الأعضاء، فيُعبر بذلك عما يوقع في الفساد أيضاً في المجتمع، ونحو ذلك بنشر قالة السوء، وتفكيك أواصر الأمة، ونحو ذلك، لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا آل عمران: 118يعني: لا يدخرون وسعاً في فسادكم، أو لا يقصرون في إفسادكم، لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا آل عمران: 118، هم يريدون الخبال، وهو النقصان، والفساد الذي يورث الاضطراب، هم يريدون التفكيك والتفرق، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا التوبة: 47يعني: إلا فساداً، بإثارة الفتن، والشرور بين الناس.
قال -رحمه الله تعالى-: خوَّان: كثير الخيانة.
هذه المادة ترجع عند ابن فارس إلى أصل واحد، وهو: التنقص، ما علاقة هذا بالخيانة؟ باعتبار: أنها نقصان الوفاء، لاحظ: نقصان الوفاء، يقال: تَخوَّنني حقي يعني: تَنقَّصني حقي، فالخيانة هي الإخلال بما اؤتمن عليه، كأنه قصُر ونقص عن مقام الوفاء، والخائنة اسم فاعل من خان، أو مصدر جاء على وزن فاعلة، مثل: العاقبة، وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ المائدة: 13يحتمل أن يكون اسم فاعل، بمعنى: تطلع على خائن منهم، أو يكون مصدراً، يعني: خيانة، بمعنى: تطلع على خيانة منهم، أو على نفس خائنة، أو على طائفة خائنة منهم، مجموعة خائنة، وقوله: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ غافر: 19يعني: خيانة، فخائنة هنا بمعنى: المصدر، بمعنى: خيانة الأعين، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ الحج: 38كثير الخيانة، الذي لا يفي بالعهد، وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ النساء: 107، يختان يعني: يخون نفسه بالتخلف عن الصدق، والوفاء، والأمانة، فيواقع الرِّيَب، ونحو ذلك.
قال -رحمه الله تعالى-: مُختال: من الخُيلاء.
هذه المادة -الخاء والياء واللام- هي: ترجع إلى هذا، الخاء والياء واللام أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد يدل على حركة في تلون، انتبهوا: حركة في تلون، ومن ذلك الخَيَال، يقولون: هذا الشخص ذو خيال، وأصله: ما يتخيله الإنسان في منامه، هكذا يقولون، وأهل المنطق يقولون: التخيل: حركة الذهن في المحسوسات، يعني: يتخيل، وحركته في المعقولات: التفكير، هذا الفرق بين التخيل والتفكير، التخيل: حركة في المحسوسات، يتخيل أن أحداً جاء إليه، ويتخيل أن فلاناً يكلمه، وحركته في المعقولات يقال لها: تفكير، فهذا الذي يتخيله يقولون: قيل له ذلك؛ لأنه يتشبه، ويتلون، ومن هنا سُميت الخيل بذلك؛ لاختيالها؛ لأن المُختال في مشيته يتلون في حركته ألواناً، يمشي بطريقة معينة، والخيل تعرفونها: تتعطّف، وتلتفت هكذا بطريقة معينة، وبحركة غير متحدة، فمشي الخيل ليس كمشي الحمار، وليس كمشي الشاة، وهذا معروف، يقولون: قيل لها ذلك؛ لاختيالها، باعتبار أن المختال يتلون في مشيته، يمشي بمشية معينة، ويلتفت بطريقة معينة، ونحو ذلك، وهكذا ما يقولونه: تخيلت السماءُ إذا تهيأت للمطر، وهذا يكون عند تغير اللون؛ ولذلك لا زال العامة إلى الآن يعبرون بهذا، يقولون: السماء عليها خيال، هكذا هم يقولون، يقولون: خيال، وهذا معنى صحيح، باعتبار أنها تتغير بالسحاب، يعني: يتوقعون مجيء المطر، فهذا الاستعمال عندهم صحيح، وهكذا إذا نظرنا إلى سائر الألفاظ التي تتعلق بهذا المعنى.
وبالمناسبة: الخيل اسم جمع، لا واحد له من لفظه، وهي في الأصل: اسم للأفراس والفرسان معاً في آنٍ واحد، الأفراس والفرسان معاً
الخيل اسم جمع، لا واحد له من لفظه، وهي في الأصل: اسم للأفراس والفرسان معاً في آنٍ واحد، الأفراس والفرسان معاً
، يعني: الخيل إذا كان راكبًا عليه الفارس، فهذا يقال: خيل، وقد يُستعمل في كل منهما منفرداً، فيقال للفارس: خيل، والناس يقولون: خيّال كذلك، يعني: كثير الركوب للخيل، ويقال كذلك للفرس: خيل بانفراده، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ آل عمران: 14، فالخيل: اسم جمع، وليس بمفرد.
وأما قوله -تبارك وتعالى-: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ الأنفال: 60، فهنا فسره بعض أهل العلم: بجماعة الفرسان، قلنا: الخيل تقال: للفرسان، فبعض أهل العلم قال: المراد الفرسان، أي: الناس المدربون على القتال، وركوب الخيل؛ لأنها أقوى أداة في ذلك الحين للقتال، بخلاف الخروف، فهو ما يتخايل في مشيته، يمشي بسكينة؛ ولذلك ذكر النبي ﷺ: أن السكينة في الغنم[1]، والعلماء حينما يتحدثون عن الأخلاق المكتسبة، يذكرون ويقولون: الذين يتعاطون الزراعة والحرث، يقولون: فيهم الذل، والذين يرعون الغنم، ويربون الأغنام فيهم السكينة، والذين يتبعون أذناب الإبل فيهم الجفاء، والغلظة، والذين يعافسون الخيل، ويركبونها، ونحو ذلك تجد فيهم العزة.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ الإسراء: 64يعني: الشيطان، بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ الإسراء: 64، بخيلك هنا فُسر بجماعة الفرسان؛ ولهذا قالوا: كل راكب، وليس المقصود الفرس، وإنما الراكب عمومًا، كل راكب في نشر الباطل، والدعوة إلى الانحراف، والضلال، والفساد، فهو من خيل الشيطان، هو من جملة خيله، كل راكب عمومًا، حتى قالوا: كل راكب في معصية الله -تبارك وتعالى-، ومحادّته فهو من خيله، وكل ماشٍ في ذلك على قدميه فهو من رَجِله، الركبان هم من خيله، والمشاة من رَجِله.
وعلى كل حال: الناس يتوسعون في الاستعمالات، يعني: مثل الخَيَال، وهو الشيء المُتخيل، ونحو ذلك، فصار يقال في كل أمر متصوَّر، حتى صار يقال هذا في الشخص الدقيق النحيل جدًّا الذي يشبه الخيال، تجدون هذا في كلام العرب، يعني: كأنه يشبه الخيال؛ لدقته، كأنه لا جِرم له.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى طه: 66، يُخَيَّلُ يعني: يُشبَّه، ويصوَّر، كأنها أشياء حقيقية يراها، وهي لا حقيقة لها.
والخُيلاء تقال: للكبر، والغرور، والازدهاء، يقال: اختال: تبختر في المشية، كبراً، وزهواً، يعني بما يراه في نفسه من فضيلة، ومنقبة، أو نحو ذلك، ثم استُعمل في كل كبر، وزهو في المشي، أو في غيره، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ لقمان: 18يعني: من يتمايل، من يتلون في حركته، ومشيته، ونحو ذلك، الله لا يحب كل مختال فخور.
قال -رحمه الله تعالى-:ختّار: غدّار، من خَتْر العهد.
هذه المادة عند ابن فارس ترجع إلى أصل واحد يدل على توانٍ، وفتور، يقال: تختّر الرجل في مشيته إذا مشى مشية الكسلان، ومن هذا يقال: الخَتْر يعني: الغدر، بأي اعتبار الغدر؟، يقولون: إنه إذا خَتَر فقد قعد عن الوفاء، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ لقمان: 32أي: غدّار، من قولهم: خَتَر بالعهد إذا لم يفِ به، فهذا أصله، فحينما يرجعه ابن فارس إلى التواني والفتور فالغدر يرتبط به بهذا الاعتبار: أنه قعود عن الوفاء.
قال -رحمه الله تعالى-:مَخْمصة: من الخَمْص، وهو: الجوع.
هذه أرجعها أيضاً ابن فارس إلى أصل واحد يدل على الضُّمْر والتطامن، الضُّمْر: ضمور يعني، والتطامن، فالخميص هو: الضامر البطن، وامرأة خُمصانة يعني: دقيقة الخصر، خُمصانة؛ ولهذا يقال لباطن القدم: أخمص، لماذا؟ لأنه ضامر بالنسبة لمقدم القدم ومؤخرها، أخمص القدم، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ المائدة: 3، مخمصة يعني: الجوع؛ لأن البطن يكون في حال من الضمور، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ التوبة: 120أي: جوع.
[1] أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، رقم: (3301)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه، رقم: (52).