تفسير التسهيل لابن جُزي
معاني اللغات (الغريب)
(21- ب) حرف الظاء من قوله: ظمِئَ إلى حرف الكاف قوله: كفيل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فقال المصنف -رحمه الله تعالى-: ظمِئَ: عطِش.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، يدل على: ذبول، وقلة، يقال: الظَّمَى، هو يتحدث عن حرف الظاء، والميم، والحرف المعتل الذي هو الألف، الظَّمى، والمهموز: الظمأ، فالظَّمَى من غير همز يقال: لمعنى الضمور، وقلة دمل اللثة، يقال: ظَمَى، العين الظمياء: رقيقة الجفن عندهم، والمهموز: الظمأ، وهو: العطش، وهذا معروف: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً النور: 39، فهذا الذي ورد في القرآن: المهموز، لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ التوبة: 120، يعني: العطش، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا طه: 119، يعني: لا تعطش، فيقال ذلك للعطش، يدل على ذبول، وقلة ماء؛ ولهذا في غير المهموز تجد أنهم يعبرون به عمن كان قليل اللحم مثلاً، أو قليل لحم الساقين، أو نحو هذا، يقال ذلك بمعنى: الضمور، وقلة الماء.
قال -رحمه الله تعالى-: ظِلال: جمع ظِل، وظُلَل: بالضم: جمع ظُلّة، وهي: ما كان من فوق، وظَلّ بالنهار: بمنزلة بات بالليل.
هاتان المادتان، الأولى: الظِّلال، والثانية: ظل، هنا في الطبعة التي هي طبعة دار الضياء جعل ذلك في مادة واحدة، وفي الطبعة الأخرى فرقها، فجعلها في مادتين، والأحسن أن يُضم ذلك، كما في طبعة دار الضياء.
أصل هذه المادة يرجع عند ابن فارس -رحمه الله- إلى أصل واحد، فمعناها يرجع إلى أصل واحد، يدل على: ستر شيء لشيء، هذا الذي يُسمى: الظِّل مثلاً، فالظل، ظل الإنسان، وغيره، الظل هذا يكون بالغداة والعشي، أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الفرقان: 45، الوقت الذي قبل طلوع الشمس، هذا ماذا يُسمى؟ هل هو ليل؟ الغداة قبل طلوع الشمس؟ لا، هذا الوقت يقال له: ظِل، وهكذا: هذا الامتداد الذي تتنقصه الشمس شيئاً فشيئاً، ماذا يقال له؟ يقال له: ظِل، فإذا أتت عليه الشمس إلى منتهاه، إلى ظِل أو فيء الزوال، ثم بعد ذلك إذا زالت الشمس، فيبدأ يمتد من الناحية الأخرى، هذا الذي يقولون له: الفيء، فإن الفيء يدل على معنى: الانتقال، كأن هذا الظل انتقل إلى الناحية الأخرى، فاء بمعنى: رجع، وابن فارس ذكر هذا المعنى، لكنه يقول بأن الظل يكون بالغداة والعشي، يعني: أنه يقال أيضاً لما يكون بعد الظهر أو بعد العصر، يقال له: ظِل، كما يقال ذلك لما يكون في أول النهار، لكن الفيء لا يكون إلا بالعشي، العشي: الذي يكون بعد الزوال، يعني: بعد الظهر، وهكذا: إلى ما قبل غروب الشمس، هذا كله يقال له: العشي، فالظل هناك يقال له: فيء، الذي في الصباح لا يقال له: فيء، إذن: الظل أعم من الفيء.
قوله: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا النساء: 57الظل الظليل يعني: الدائم، الظُلَّة: بعضهم يقيدها بأول سحابة تُظِل، وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ الأعراف: 171، فما أظلك من السحاب يقال له: ظُلة، وهي: لما يُستظل به، وإن كانت في الغالب الظُلَّة تقال لما يُستوخم ويُكره، يعني: فيما يكون من قِبله المكروه، كالعذاب، ونحو ذلك، يعني في الغالب، وإلا فالأصل أنها تكون لما أظلك.
ويُعبر أيضاً بالظِّل عما هو أوسع من هذا، كالكنف، والعزة، والرفاهية، والمنعة، ودفع الأذى ونحو ذلك، تقول: فلان في ظِل فلان، يعني: في كنفه، إذا كان يرعاه، ويكلؤه، ويتفقده، هو في ظل فلان، تقول: نحن في ظِل فلان، وقد تقول: نحن في ظِلال من العيش، يعني: الرفاهية، والرغد، أهل الجنة في ظِلال من العيش، يتنعمون في رفاهية، وحال طيبة كريمة، فهذا كله مما يتوسع فيه في الاستعمال في معنى الظل.
ومن الظِّل قولهم: ظَلَّ فلان يعمل كذا، هذا ما علاقته بالظِّل، ظَل فلان؟ يقولون: هذا في الأصل يقال إذا عمله نهاراً، انتبهوا، انظروا الدقة: إذا عمله نهاراً، يقال: ظل يعمل كذا، ظل يعمل في وقت التَّظَلُّل، الناس يعملون في الظل، يبحثون عن الظل، يجلسون في الظل، ظل فلان يعمل كذا، وإذا عمله ليلاً تقول: بات يعمل كذا، باتوا يدوكون ليلتهم، إذا كان ذلك في الليل، وقد يقال ذلك -أعني: ظل يعمل كذا- للعمل في الليل والنهار؛ ليدل على الاستمرار، ظل يعمل كذا، يعني: سواء كان ذلك ليلاً أم نهاراً، بمعنى: أنه مستمر في هذا العمل، وإلا فالأصل أن ظل يكون للعمل في النهار، وبات للعمل في الليل، ما علاقته بالظل؟ كما سبق أنه في النهار يكون الظل، وإنما يعمل في الظل، وقد تُحذف لام الفعل: ظل، وتُفتح الظاء، وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ طه: 97، أصلها: ظللتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا طه: 97، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ الواقعة: 65يعني: ظللتم، وبعضهم يكسر الظاء، فيقول: ظِلْتَ تعمل كذا، هذا يفعلونه تخفيفاً، لكنه لا يتغير به المعنى، إنما هو لمجرد التخفيف.
فهذا هو الظِّل، والظِّلال، وكذلك: الظُّلول الجمع، وأيضا المفرد، يقول الله: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا النساء: 57، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ الواقعة: 30يعني: ظل النهار، الظل في الدنيا يتقلص، بحسب ارتفاع الشمس، فتأخذ منه، أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَاالرعد: 35؛ لأنه في الجنة لا يضحى، لا يتعرض للشمس، إنما ذلك في الدنيا، أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الفرقان: 45، بعضهم يقول: هذا الذي يكون في أول النهار، في الغداة يكون ممتدًّا، ثم بعد ذلك لما تظهر الشمس، وترتفع تنتقص منه شيئاً فشيئاً، وقوله -تبارك وتعالى-: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا النحل: 81يعني: تستظلون به، من البيوت، ونحو ذلك من الشجر، وما يُستظل به.
فابن جُزي -رحمه الله- يقول هنا: ظَلّ بالنهار: بمنزلة بات بالليل، فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ الشعراء: 4، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ الحجر: 14، فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ الشورى: 33]كله من هذا المعنى، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا النحل: 58فيبقى على هذه الحال.
قال -رحمه الله تعالى-: حرف الكاف.
كافر: له معنيان: من الكفر، وهو: الجحود، وبمعنى: الزرع، ومنه قوله: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ الحديد: 20، أي: الزُّراع، وتكفير الذنوب: غفرانها.
هذه المادة بمعنى: الكافر، قال: وبمعنى: الزرع، لا، هو ليس بمعنى: الزرع، وإنما الزارع، ففيها تصحيف، والصحيح: الزارع.
فهنا هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى معنى واحد، وهو: الستر، والتغطية، فيقال للزارع: كافر، بأي اعتبار؟ باعتبار: أنه يستر البذر، يغطي الحب بتراب الأرض، فيقال له: كافر، وهكذا الكفر الذي يقابل الإيمان قيل له ذلك باعتبار: أنه تغطية للحق، سواء كان ذلك من قبيل الجحود أصلاً، أو كان ذلك بسبب الحسد، أو الكبر، أو الإعراض، أو نحو ذلك، فهذا الذي كفر قد ستر الحق، سواء كان الكفر الأكبر، أم الكفر الذي يكون من قبيل كفر النعمة، بمعنى: أنه لم يشكر عليها، أو جحدها، وسترها.
الكَفِرات والكَفَر هذه تقال: للثنايا من الجبال، بأي اعتبار؟ لتطامنها، يعني: كأنها أمام الجبال، أو بإيزاء الجبال الشامخات طامنة واطئة، فقيل لها ذلك، الواحد منها يقال له: كَفَر، ويحتمل أن يكون قيل ذلك لما نطلقه الآن على إطارات السيارات، والعجلات، ونحو ذلك، يقال لها: كَفَرات؛ لتطامنها، والله أعلم، وهكذا أيضاً: الكَفْر من الأرض ما بعُد من الناس، بحيث لا يكاد يمر به أحد، وبعضهم يقول بأن الكُفُور: القُرى، يقال: كَفْر الشيخ، كفر كذا، هذا موجود في بعض البلاد، كمصر.
فعلى كل حال: هذه المادة ترجع إلى معنى: الستر، والتغطية في كل استعمالاتها في الأصل، فما ذكره ابن جُزي -رحمه الله تعالى- هنا من المعنيين: أنها بمعنى: الجحود، وبمعنى: الزارع، هذا كله يرجع إلى: الستر والتغطية، فهذا الكافر يستر الحق، ويغطيه، بجحد، أو نُكران، أو غير ذلك، وكذلك هذا الزارع يستر الحب بالتراب.
قال: وتكفير الذنوب: غفرانها؛ لأن تكفير الذنوب بمعنى: الستر، فهذه الذنوب تُستر، وتُغفر، ولا يبقى لها أثر بعد ذلك، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ البقرة: 121، لكن لا يصح كما يفعل بعض المفسرين: أنه كلما جاء الإيمان في القرآن: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ البقرة: 3قال: يصدِّقون، الَّذِينَ آمَنُوا البقرة: 25قال: صدّقوا، وإذا ذُكر الكفر قال: جحدوا، هذا ليس بصحيح، وقد ذكرت لكم في الكلام على الإيمان: الفروقات بين الإيمان والتصديق من جهة اللغة، وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه الإيمان الكبير: نحو سبعة فروقات في اللغة فقط بين الإيمان والتصديق، وهذا مضى معنا في الكلام على الإيمان، وكذلك بالنسبة للكفر، فالإيمان هو بمعنى: الإقرار، والإذعان القلبي، والتصديق الانقيادي، وليس معناه: التصديق فقط، وأما الكفر فلا يُفسر بالجحود بمجرده؛ لأن الجحود أحد أنواع الكفر، فالكفر قد لا يكون بالجحود، قد يكون بالإعراض، وقد يكون الكفر بنوع آخر: أن يأتي بشيء يكفر به، وإن لم يكن جاحداً، وهذا معروف، فتفسيره بالجحود وتجدون ذلك في كثير من كتب التفسير، تفسيره بالجحود مطلقًا غير صحيح، يقول: كفروا: جحدوا، وهذا غير صحيح، وإنما هو تفسير له بأحد صوره، أو أنواعه.
وقوله -تبارك وتعالى-: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ الحديد: 20، على معنيين مشهورين، الذي يهمنا هو الأول، وهم: الزُّراع، بأي اعتبار؟، أن الزُّراع هؤلاء هم الذين يزرعونه، ويدءبون في ذلك، ثم هم أيضاً من يميزون جيد الزرع، فيعجبهم ما يكون منه على حال من الكمال، أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي: الزُّراع، فظهر هذا النبات بصورة من الكمال، وحال من التمام، فأعجبهم ذلك؛ لمعاناتهم، واشتغالهم به من جهة، ومن جهة أنهم أهل الميز والمعرفة لمثل هذا، أَعْجَبَ الْكُفَّارَ.
والقول الآخر: أن الكفار هم الكفار، فلما كان هذا من بهجة الدنيا زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ آل عمران: 14، الحرث هو: الزرع، فهم يتعلقون بهذه الأمور، ويُعنَون بها غاية العناية، وهي غاية مطلوبهم، فأعجبهم، واستهواهم، يعني: الكفار بالله تعجبهم زهرة الحياة الدنيا، لكن المعنى الأول أشهر، وهو الأقرب، أن الكفار بمعنى: الزُّراع، وقد مضى الكلام على هذا مفصلاً في الكلام على الأمثال في القرآن، عند الكلام على هذه الآية في صفة أصحاب محمد -صلى الله عليه وآله وسلم.
قال -رحمه الله تعالى-: كافة: جميعاً.
ابن فارس يقول بأن هذه المادة ترجع إلى أصل واحد، يدل على: قبض، وانقباض، تقول: كفّه بمعنى: منعه، هو: كافٌّ، وهي: كافّة، ويقال في الأمر: كُف عن كذا، يعني: امتنع، وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ المائدة: 110يعني: منعتهم من أن يؤذوك، أو أن يصلوا إليك بمكروه، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا النساء: 84، بأن يُضعف قوتهم، فلا يتوصلون إلى شيء مما يؤذونكم به، أو أن يلحقوا بكم الضرر.
والكف يقال: لراحة اليد مع الأصابع، هذه الكف، سُميت بذلك: قيل: لأن الإنسان يكف بها عن وجهه، فإذا فجأه شيء قال بيده هكذا، يكف بذلك عن نفسه، أو عن وجهه.
والكافة تقال: للجميع، بأي اعتبار؟ الأزهري -رحمه الله- في كتابه: تهذيب اللغة، وهو: من أجل كتب اللغة، هذه الكتب مثل: كتاب الأزهري، وكتاب ابن فارس، وأمثال هؤلاء من المتقدمين، كانوا على طريقة السلف، يعني: ما دخل في هذه الكتب لوث من لوث أهل الكلام، بينما تجد في كتب المتأخرين مثل: القاموس، ولسان العرب، وأمثال ذلك، تجد اللوثات الكلامية موجودة، والمعاني المُحدثة، فحينما ترجع إلى كلمة: الاستواء مثلاً، استوى في كتب المتقدمين لا تجد استولى، لكن تجد ذلك في بعض كتب المتأخرين، وإن كان ذلك لا يُعرف في اللغة، لكن اللوثات الكلامية دخلت في اللغة، ودخلت في علوم الحديث، ودخلت في أصول الفقه بكثرة، ودخلت في شروح الحديث، وكتب التفسير، وسائر العلوم للأسف، كالبلاغة، والنحو، وحصل بذلك من المفاسد ما هو معلوم.
فلاحظ: لفظة: كافة، الأزهري نقل عن بعض أهل اللغة في تأصيل هذا المعنى، أو في ربط هذا المعنى بمعنى: المنع، أو الكف، أو نحو ذلك، معنى: كافة، كأنه يكف الشيء في آخره، يقولون: كُفَّة القميص، وهي: حاشيته، يعني: الصَّفطة التي تكون في أسفل الثوب، يقولون: كلُّ مُستطيل فحَرْفُهُ يعني: الطرف، طرف الشيء هو حرفه، كل مستطيل فحَرْفُه كُفَّة، وكل مُستدير كِفّة، مثل: كِفة الميزان، فالميزان مستدير، كِفة الميزان، وكُفة الثوب: الصفطة التي تكون في آخر الثوب، فهذه يقال لها: كُفة، يقولون: سُميت كُفة الثوب بهذا؛ لأنها تمنعه أن ينتشر، تمنعه من الانتشار، باعتبار أن أصل الكف المنع الآن، فهذا لبيان علاقة ذلك بالكُفّة.
فقوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً البقرة: 208، يقولون: المعنى: ابلغوا في السلم حيث تنتهي شرائعه -والسِّلم يعني: الإسلام-، فتكفوا من أن تعدوا شرائعه، يعني: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً البقرة: 208بهذا الاعتبار، إذا قلنا بأن: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً البقرة: 208، أن كَافَّةً يرجع إلى الإسلام، يعني: لا تأخذ بعض الدين، وتترك بعضاً، كأولئك الذين يؤمنون ببعض الدين، إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ الأنعام: 159، فهم يأخذون جزءاً من الدين، هذا يأخذ الجهاد، ويهتم به فقط، ويزدري ما عداه، ويُعرف بذلك، ثم هذا يأخذ جانب الزهد، والرِّقاق، وما إلى ذلك، ويترك ما عداه، ويُعرف به، وهذا يأخذ جانبًا آخر، وهكذا، فتتفرق الأمة، وإنما: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، في كل شرائعه، شرائع الدين، فمعنى ذلك: أنكم حتى تبلغوا مداه، فلا تتركوا منه شيئاً، فهذا معنى: كافة.
وإذا نظرنا إلى المعنى باعتبار: داخلين، ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً البقرة: 208يعني: جميعاً، فيكون: ادخلوا كلكم حتى يُكف عن عدد واحد لم يدخل فيه، يعني: لا يبقى أحد، يمتنع تخلُّف أحد، فهذا فيه معنى المنع، كافة، حتى قال بعضهم في بعث النبي ﷺ، وما وصفه الله -تبارك وتعالى- بذلك، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ سبأ: 28، بعضهم يقول: يكفهم عن الكفر، والضلال، ومن ثَمَّ فإنه يكفهم عن النار، والعذاب؛ لأن هذا ينتج عنه، ويترتب عليه، فهذا يرجع إلى هذا المعنى، والله تعالى أعلم.
ويقول الله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً التوبة: 122يعني: جميعاً، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ سبأ: 28فسره بعضهم بما سبق، وبعضهم فسره "كافة للناس" يعني: لعموم الناس، لجميع الناس.
قال -رحمه الله تعالى-: كرَّة: رجعة.
ابن فارس أرجع ذلك إلى أصل واحد، يدل على: جمع وترديد، من ذلك: كرَّرْت، وكرَرَت، فكرَرْتُ بمعنى: رجعت مرة بعد مرة، كّر فلان على العدو، فلان يكُر، الكر والفر، فالكر: الرجوع مرة بعد مرة، فهذا فيه معنى: الترديد والرجوع.
ابن جُزي يقول: الكرّة بمعنى: رجعة، فهذا هو المراد، كر عن كذا: رجع، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ الملك: 4يعني: ردد النظر هل ترى من عيب في خلق هذه الأجرام العلوية: السموات؟، ذكر المرتين كثير من المفسرين يقولون: المقصود الكثرة، وليس أن ينظر مرتين، لكن العرب تُعبر عن مثل هذا؛ لتدل على التكرار، وليس التثنية هنا بمعنى: أنه ينظر مرتين فقط، وبعضهم يقول: ينظر مرتين لعله في الأولى قد أخطأ في نظره، فيستوثق في النظرة الثانية، لكن المشهور هو الأول، أن ذلك يقال للكثرة والتكرار، وهكذا حينما نقول: كر على الأعداء، بمعنى: حمل عليهم قاصداً التغلب، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ الإسراء: 6، فهذا فيه معنى: الرجوع، يعني: عادوا عليهم بالغلبة، فالحرب سجال، والدهر قُلَّب، والدهر دول، بمعنى أن ذلك يكون متداولاً، تارة تكون الغلبة لهؤلاء، والقوة، وتارة تكون لهؤلاء، فيبتلي الله تارة بالظهور، والغلبة، والنصر، والتمكين، وتارة يبتلي بالشدة؛ لينظر كيف يعملون.
يقول الله -تبارك وتعالى-: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً البقرة: 167يعني: رجوعًا إلى الدنيا؛ من أجل أن نتبرأ منهم، ويقول -تبارك وتعالى- عنهم: فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشعراء: 102يعني: عوداً، ورجوعاً إلى هذه الدار الدنيا، الحياة الدنيا، قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ النازعات: 12بمعنى: رجعة، هذا ما يتعلق بهذه المادة.
قال -رحمه الله تعالى-: كبِر بكسر الباء: من السِّن، يكبَر بالفتح في المضارع، وكَبُر الأمرُ بالضم في المضارع والماضي، وكُبَر بضم بالكاف، وفتح الباء: جمع كُبرى، وكُبَّار بالضم والتشديد: كبير مبالغة، والكِبر: التكبر، وكِبْر الشيء: بكسر الكاف، وضمها: معظمه، والكبرياء: الملك، والعظمة، والمتكبر: اسم الله -تعالى- من الكبرياء، أو بمعنى: العظمة.
هذه المادة: الكاف، والباء، والراء، أرجعها ابن فارس إلى معنى واحد، وهو: خلاف الصِّغَر، يعني: سواء كان هذا في الأمور الحسية، أم في الأمور المعنوية، يقال: هو: كبير، وكُبَار، وكُبَّار، والكِبر والكُبْر: معظم الأمر، قال الله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ النور: 11يعني: معظمه، الذي كان ينشره، ويذيعه، يعني: الإفك، تَوَلَّى كِبْرَهُ.
ويقولون: كِبْر سياسة القوم في المال، بمعنى: أن السائس الذي يسوس الناس من الرعية يستطيع أن يستميلهم بالمال، فيكونوا رهن إشارته، وطوع بنانه كما يقال، وذلك بإغداق المال عليهم، فيرضيهم به، وهذا يقال أيضاً في سياسة عمر بن العزيز -رحمه الله-، فقد كان كما ذكر في سياسته حينما يحجزهم عن شيء من المنكر، والفساد، كان يعطيهم شيئاً من الدنيا في مقابله، فإذا نفروا من هذه التي اعتادوا عليها، ركنوا إلى هذه، وهكذا سياسة الناس عموماً، وسياسة النساء، فكثير من الزواجات والتعدد قد تفشل؛ لأن الرجل قد يكون ممسكاً، أو ليس في يده شيء، فيجد هؤلاء النساء من أسباب النفرة ما لا يجدون معه ما يركنون إليه، يعني: هي قد تنفر من بعض المزاولات، وبعض التصرفات، والمنافسات، فحينما تحتدم النفوس لدى هؤلاء الضرائر، فإذا كان الرجل يبسط يده، ويُعطي، فتنفر من هذه، وتركن لهذه، فتكون الحال على شيء من الاطمئنان، والسكون، والوئام، أما إذا كان الرجل حافّ اليد، أو قابض اليد، لا يَخرج من يده شيء، فلا تجد ما تركن عليه، فيقع الحدام، والصدام، والشقاق، والنزاع، وليس ثمّة ما يُركن إليه؛ ولذلك تجد غالب الذين يبسطون أيديهم، وعندهم مال، تجد هذه الزواجات ناجحة، ومستقرة، وكل واحدة تعيش في رغد من العيش، وبحبوحة، لا تطلب غيرها، ولا ترجِّي أفضل منها، بينما الآخر الذي لا يكاد يجد البُلغة، هو دائما في معاناة، إلا من رحم الله، فكِبْر سياسة القوم في المال، هكذا تقول العرب، يعني: أعظم ذلك، أو أكثر ذلك، أو أكبر ذلك، فكيف إذا كان الرجل هو الذي يأخذ من إحداهن؟!، فهذه هي الطامة الكبرى التي يلقى فيها ما يلقى من النكد، والكبد، وضيق العيش؛ لأن هذه لا يمكن أن تقبل أن تُعكس القضية، فيكون هو الآخذ، ثم بعد ذلك يتزوج عليها.
وهكذا أيضاً: الكِبَر، وهو: الهرم، يقول: أكبرت الشيء: إذا استعظمته، لاحظ: وكذلك أيضاً يقال: أكبر الشيء أيضاً: إذا عده كبيراً، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ يوسف: 31، أكبرت فلاناً يعني: عددته كبيراً، والتكبير يقال للتعظيم، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا الإسراء: 111، والكبيرة هي: الفعلة العظيمة، والمعصية الشنيعة، وكذلك تقال: للشيء العظيم عموماً،وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً التوبة: 121، فهي: تقابل الصغيرة، مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً الكهف: 49، وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ النساء: 31هذه العظائم من الذنوب، والجرائر، والجرائم.
فابن جُزي يقول: كبِر بكسر الباء: من السِّن، كَبِر يكبَر كِبَراً، تقول: كبِرَ الصبي، كبِر الغلام، يكْبَر، كبُر: لا يقال في السِّن، وإنما بمعنى عظُم، ولكن تقول: كبِر: بالكسر، بمعنى: في السن، يكبَر كِبَراً، لكن حينما تقول: كَبُر يكون بمعنى: عظُم، أو ثقُل، كبُر الأمر بالضم في المضارع والماضي، كبُر يكبُر كِبَراً يعني: فهو: كبير، عظُم وثقل كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الشورى: 13يعني: عظُم وشق عليهم ذلك، وكُبَر بضم الكاف، وفتح الباء: جمع كُبرى، وكُبَّار: كبير على سبيل المبالغة، والكِبْر: التكبر، وكُبْر الشيء، وكِبْر الشيء، قال: معظمه، والكبرياء: الملك والعظمة، إلى آخر ما ذكر.
فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ الأنعام: 35كبُر بمعنى: ثقل، أو عظُم، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ يونس: 71يعني: عظُم عليكم، أو شق عليكم، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ غافر: 35بمعنى: عظُم، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ غافر: 56أي: تعاظم وتعالٍ على الحق، وهكذا أيضاً: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ البقرة: 266يعني: في السن، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ آل عمران: 40أيضاً: التقدم في السن، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إبراهيم: 39كذلك، وفي قوله: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا الإسراء: 23التقدم في العمر، إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ المدثر: 35العظائم.
قال -رحمه الله تعالى-: كَفَل يكفُل، أي: ضم الصبي، وحضنه، وقوله: أَكْفِلْنِيهَا ص: 23: اجعلني كافلها.
هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، يدل على: تضمن الشيء للشيء، لاحظ: من ذلك: الكِفْل، فالكِفْل ما هو؟ يقول: كِساء يُدار حول السنام -سنام البعير-، فكأنه قد ضُمِّنَه، كساء يُدار حول السنام، ويقال أيضاً لشيء يوضع في عجز البعير، يكون للرديف في الركوب، فكأنه أيضاً يُضمن بهذا.
وكذلك من الباب: الكفيل، وهو: الضامن، قلنا: هذا المادة ترجع إلى معنى: تضمّن شيء لشيء، فالكفيل هو: الضامن، والكافل هو: الذي يكفل غيره، تقول: فلان يكفل الأيتام، وكفالة اليتيم، بمعنى: يعوله، والكِفْل: الضِّعف، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ الحديد: 28بمعنى: ضِعفين من الأجر، لاحظ: كأنه شيء يحمله حامله على الكِفل الذي يحمله البعير، لاحظ: قلنا: الذي يُشد في عجز البعير يكون عليه الرديف، هذا يقال له: الكِفل، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ، فهذا الرديف راكب آخر، كما قال الله: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ الأنفال: 9]قيل: يُردف بعضهم بعضًا، فهذا الرديف يقال له: كِفْل، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ الحديد: 28ضعفين، ما علاقة الكِفْل بالضِّعْف؟ كأن هذا الراكب رديف لهذا، فهذا المكان، أو هذا الموضع، أو هذا الذي يوضع من خيش، أو غيره في آخر البعير، بحيث يحجز هذا الراكب من السقوط -الرديف وليس الراكب الأصلي- يقال له: كِفل، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ الحديد: 28، لاحظ: الربط الدقيق في المعنى، كِفل بمعنى: ضِعف، وهكذا، والمادة التي بعدها لها تعلق بهذا.
قال -رحمه الله تعالى-: كفيل: نصيب.
هي: ليست "كفيل"، هي في هذه الطبعة مكتوبة: "كفيل" هكذا، لكن في الطبعة الأخرى ليست كذلك، ليست "كفيل" بمعنى: نصيب، وإنما الكِفْل هو النصيب.
لاحظ الآن الآيات في قوله -تبارك وتعالى-: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا آل عمران: 37، الكفيل ما معناه هنا وَكَفَّلَهَا؟ يعني: جعلها في كنفه، تحت رعايته، يرعى شئونها، ونحو ذلك، وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا آل عمران: 37، أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ آل عمران: 44كذلك تكون تحت رعاية وولاية ونظر مَن؟، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ طه: 40كذلك أيضاً، هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ القصص: 12يكون تحت كفالتهم، لكن الكِفل هنا: النصيب، كما في قوله: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ الحديد: 28، وأما قوله: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا النحل: 91، فمعناه: رقيبًا، مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا النساء: 85، كفل بمعنى: نصيب، هذا ما يتعلق بهذه المادة: الكِفل.
طيب، الكفيل: فُسر بالرقيب، فسر بهذا، الكفيل بمعنى: الرقيب، يعني: كأنه مأخوذ من معنى الذي يرعى الشيء، فيكون فيه معنى: الملاحظة، فيرقبه، ونحو ذلك، لكن المعنى القريب المباشر: الكفيل: الرقيب، فُسر بهذا، فهنا الآن ما قلنا: كفيل، قلنا: كِفل بمعنى: نصيب، الكِفل هو النصيب وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا النحل: 91، أي: رقيبًا، وليس النصيب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.